تخريج الأحاديث والآثار الواردة في رفع اليدين في تكبيرات صلاة الجنازة

تخريج الأحاديث والآثار الواردة

في رفع اليدين في تكبيرات صلاة الجنازة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

فقد «أجمع أهل العلم على أن المصلي على الجنائز يرفع يديه في أول تكبيرة يكبرها»، قاله ابن قدامة في «المغني» (2/ 366)، وحكاه ابن المنذر في «الأوسط» (5/ 426).

ثُمَّ اختلفوا فيما سوى تكبيرة الإحرام، فذهب الإمام الشافعي في «الأم» (1/ 309)، والإمام أحمد رضي الله عنه إلى أن يرفع المصلِّي يديه في كلِّ تكبيرةٍ من تكبيرات صلاة الجنازة.

واختلف قول مالكٍ رحمه الله -كما في «المدوَّنة» (1/ 253)-، قال ابن القاسم: «كان مالك لا يرى رفع الأيدي في الصلاة على الجنازة إلا في أول مرة»، وقال ابن وهبٍ: «إنه ليعجبني أن يرفع يديه في التكبيرات الأربع».

قال الترمذي في «الجامع» (3/ 380): «رأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: أن يرفع الرجل يديه في كل تكبيرة على الجنازة»، وقال البهوتي في «كشاف القناع» (4/ 140 ط. العدل): «رواه الشافعي عن ابن عمر، وسعيدٌ عن ابن عباس، والأثرم عن عمر وزيد بن ثابت»، فهؤلاء أربعة من الصحابة، ويضاف إليهم: أنس بن مالك، رضي الله عنهم أجمعين، وبه قال أكثر من (15) عالمًا من علماء التابعين، فمن بعدهم[1].

وكان الإمام أحمد رحمه الله يفعله، ويفتي به، ويحتج بالأثر الوارد فيه: قال أبو داود السجستاني «المسائل» (1021): «رأيت أحمد يرفع يديه مع كل تكبيرة على الجنازة إلى حذاء أذنيه»، وفي «مسائل ابن هانئ» (931): «وفي كلِّ ذلك يرفع يديه مع كل تكبيرة»، وقال عبد اللَّه بن الإمام أحمد في «مسائله لأبيه» (518): سألت أبي عن الصلاة على الجنازة، قلت لأبي: يرفع يديه مع كل تكبيرة؟ قال: «نعم، روي ذلك عن ابن عمر»، وكذا احتجَّ الشافعي بفعل ابن عمر رضي الله عنه، وأخرجه في «الأم» (1/ 309).

وهذا أوان الشروع في تخريج ما ورد في المسألة من الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة، نتبعها بخلاصة موجزة - بإذن الله-.

فصلٌ: في تخريج الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

أولًا: حديث ابن عمر رضي الله عنه:

أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» (ح 8417) من طريق عبَّادٍ، عن عبد الله بن محرَّر، عن نافع، عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند التكبير في كل صلاة، وعلى الجنائز».

وذكره الدارقطني في «العلل» -تعليقًا- (ح 2776) من طريق عمر بن شبَّة، عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، به مرفوعًا، بلفظ: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا كبَّر على الجنازة رفع يديه».

فهاتان روايتان عن نافع في ذكر «رفع اليدين في الجنائز» مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:

أمَّا رواية ابن محرَّرٍ: فقال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن نافع: «وعلى الجنائز»، إلا عبد الله بن محرر، تفرد به عبَّاد بن صهيب»، قال ابن حجر في «التلخيص»: «يَرِدُ على إطلاقه ما رواه الدارقطني...»، فذكر رواية الدارقطني، ثم نقل إعلاله لها.

فزيادة هذه اللفظة «على الجنائز» ضمن المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر: زيادة منكرة، أشار الطبراني إلى تفرُّد عباد بن صهيب وشيخه بها عن نافع، وهما «متروكان» كما في التقريب، والحديث ضعفه ابن حجر في «الفتح» (3/ 190).

وأما رواية ابن شبَّة: فهي وإن كان رجالها ثقات، إلا أن «ابن شبَّة» قد خالف من هم أوثق منه وأكثر عددًا، ومخالفته من وجهين:

أولهما: مخالفته للثقات الذين رووا الموقوف من فعل ابن عمر رضي الله عنه –كما سيأتي في تخريج الأثر عن ابن عمر-، قال الدارقطني في «العلل» مبيِّنًا هذه المخالفة: «وغيره يرويه: عن يزيد بن هارون، عن يحيى موقوفًا، وكذلك رواه أبو حمزة السكري، وعياش بن عباس، عن يحيى بن سعيد موقوفًا، وكذلك رواه عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر -من فعله- موقوفًا، وهو الصواب».

وثانيهما: مخالفة جماعة الرواة عن نافع الذين رووا رفع اليدين في تكبيرات الصلاة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا لفظ «الجنازة»، كرواية مالك في «الموطأ» (1/ 77)، ورواية عبيد الله العمري، وأيوب السختياني، وموسى بن عقبة عند البخاري في «الصحيح» (ح 739) وغيرهم.

ثانيًا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

أخرج الترمذي في «الجامع» (ح1077)، وأبو يعلى في «المسند» (ح5858)، والدارقطني في «السنن» (ح1831)، والبيهقي في «السنن الكبير» (4/ 62)، من طرقٍ عن يحيى بن يعلى، عن يزيد بن سنان، عن زيد بن أبي أنيسة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى على الجنازة رفع يديه في أول تكبيرة، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى».

وهذا الحديث ضعفه الأئمة، قال الترمذي: «حديث غريب» يشير إلى تضعيفه، وقال الدارقطني في «العلل» (ح 1685): «ليس ذلك بمحفوظ، والحديث غير ثابت»، وضعفه النووي في «المجموع» (5/ 232)، وابن حجر في «التلخيص الحبير» (2/ 290).

وذلكأن مدار إسناده على «يحيى بن يعلى» وهو ضعيف –كما في «التقريب»-، قال الترمذي: «لا نعرفه إلا من هذا الوجه».

ولو قيل: إن يحيى قد حفظه، فله علة أخرى، قال البيهقي في «الكبير»: «فإن كان حفظه [أي: يحيى] فهو مما تفرد به يزيد بن سنان»، وقال في «السنن الصغير» (2/ 20): «وهو مما تفرَّد به يزيد بن سنان»، أي عن زيد بن أبي أنيسة، ويزيد «ضعيف» أيضًا –كما في «التقريب»-.

ثالثًا: حديث ابن عباس رضي الله عنه

أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (5/ 86)، والدارقطني في «السنن» (ح1832)، من طريق حجاج بن نصير، عن الفضل بن السكن الكوفي، عن هشام بن يوسف، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ثم لا يعود».

وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (3/ 470) –ومن طريقه العقيلي في «الضعفاء» (5/ 86 ط. السرساوي). وأخرجه العقيلي -أيضًا- من طريق إبراهيم بن موسى الفرَّاء، عن هشام بن يوسف. كلاهما (عبد الرزاق وهشام) عن معمر، عن بعض أصحابه: «أن ابن عبَّاسٍ كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يرفع بعد»، فذكراه موقوفًا.

والحديث المرفوع: ضعَّفه العقيلي، فإنه أخرجه في ترجمة الفضل، وقال عنه: «لا يضبط الحديث، وهو مع ذلك مجهول»، والدارقطني في «السنن»، فإنه قال على إثر الحديث: «الفضلُ: ضعيف»، وهذا النصُّ ممَّا وصل إلينا في جزء ابن زُريق «من تكلم فيه الدارقطني في كتاب السنن من الضعفاء والمتروكين والمجهولين» (ترجمة 312)، وليس في المطبوع من «السنن»، وقال الذهبي في «الميزان» (3/ 352): «ضعَّفه الدارقطني»، وقال الذهبي في «الميزان» وفي «الضعفاء» (ص319): «لا يُعرف»، وقد ذكره البخاري في «التاريخ» (7/ 119) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.

وقال ابن حجر في «لسان الميزان» (6/ 341) في ترجمة الفضل بن السكين: «وهو الذي روى عن هشام بن يوسف، فالثلاثة واحدٌ»، وابن السكين قال عنه ابن معين (في رواية ابن الجنيد ص416): «لعن الله من يكتب عنه من صغير أو كبير، إلا أن يكون لا يعرفه»، وذكر في ترجمته هذا الحديث، ثم ضعفه أيضًا: في «التلخيص الحبير» (2/ 291).

ثم إنَّ «الفضل» على ضعفه ووهنه قد خالف «إبراهيم بن موسى الفرَّاء» -وهو «ثقة حافظ»، كما في «التقريب»- عن شيخهما «هشام بن يوسف»، والفرَّاء أيضًا قد توبع متابعة قاصرة، وذلك من رواية عبد الرزاق، عن معمر به –كما تقدَّم-.

ومخالفة «الفضل» لهما في موضعين:

• أنه جوَّده وبيَّن المبهم، ثمَّ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما هما فأبهما الواسطة، ووقفاه على ابن عبَّاس رضي الله عنه (والكلام على الموقوف: مذكور في الفصل الآتي).

• وفي إسناده أيضًا: حجَّاج بن نصير وهو «ضعيف» –كما في «التقريب»-.

• خلاصة القول في الأحاديث المرفوعة:

قال ابن حجر رحمه الله في «التلخيص الحبير» (2/ 291): «ولا يصح فيه شيءٌ» أي: مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهرٌ في استدلال الأئمة –كالشافعي، وأحمد، وابن المنذر، والبيهقي، وغيرهم-، فإنهم إنما أقاموا الباب على الموقوفات، دون المرفوعات، والله أعلم.

فصلٌ في تخريج ما روي عن الصحابة رضي الله عنهم في الباب

أولًا: ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه

علَّقه البخاري في «الصحيح» (2/ 87) جازمًا به: «كان ابن عمر... يرفع يديه».

وقد أخرجه الشافعي في «الأمِّ» (1/ 309) -ومن طريقه البيهقي في «المعرفة» (5/ 301)-، من طريق عبد الله بن عمر بن حفص -العمري-.

وابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 490)، والبخاري في «جزء رفع اليدين» (ح106)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 426)، والبيهقي في الكبير (4/ 72)، من طريق عبيد الله
-العمري-.

وابن أبي شيبة -أيضًا- في «المصنف» (2/ 491)، والبخاري في «جزء رفع اليدين» (ح107) من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري.

والبخاري في «جزء رفع اليدين» (ح105)، من طريق جرير بن حازم.

أربعتهم: عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه -موقوفًا عليه- أنه: «كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة».

وهذا أثرٌ صحيحٌ، بعض أسانيده على رسم الصحيح، وقد احتجَّ الإمام أحمد في «مسائل ابنه عبد الله» بهذا الأثر، واحتجَّ به الشافعي في «الأمِّ»، وصححه ابن حجر في «التلخيص الحبير» (2/ 290)، و«الدراية» (1/ 236).

ثانيًا: ما جاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنه

قال ابن حجر رحمه الله في «التلخيص» (2/ 291): «صح عن ابن عبَّاسٍ: أنه كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة، رواه سعيد بن منصور»، وتقدَّم أن البهوتي رحمه الله في «كشاف القناع» (4/ 140 ط. العدل) عزاه إلى «سنن سعيدٍ بن منصور»، ولم أقف على إسناده.

وجاء عنه رضي الله عنه خلاف ذلك: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (3/ 470) -ومن طريقه العقيلي في «الضعفاء» (5/ 86 ط. السرساوي)-.

وأخرجه العقيلي –أيضًا- من طريق إبراهيم بن موسى الفرَّاء، عن هشام بن يوسف.

كلاهما (عبد الرزاق وهشام) عن معمر، عن بعض أصحابه: «أن ابن عبَّاسٍ كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يرفع بعد».

وفي هذا الإسناد جهالةٌ ظاهرة.

ثالثًا: ما روي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه:

أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (ح2172)، من طريق إسحاق بن عيسى، والبيهقي في «السنن الكبير» (3/ 412) -تعليقًا- عن الوليد بن مسلم.

والبيهقي في «السنن الكبير» (3/ 412)، من طريق بشر بن موسى، عن أبي زكريا.

ثلاثتهم (إسحاق، الوليد، أبو زكريا) عن ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، واختلفوا:

فقال إسحاق والوليد: عن أبي زرعة اللخمي، قال: كان عمر بن الخطاب يرفع يديه في كل تكبيرة من الصلاة على الجنازة، وفي الفطر والأضحى.

ولم يذكر الوليد بن مسلم لفظ: «على الجنازة».

وأسقط أبو زكريا –عند البيهقي- ذكر «أبي زرعة اللخمي».

ولذا قال البيهقي عن روايته: «هذا منقطع»، ثم أشار إلى مخالفة الوليد بن مسلم في متنه.

وعلى كلٍّ فمدار الرواية على ابن لهيعةَ، قال الذهبيُّ في «الكاشف» (1/ 590): «قلت: العمل على تضعيف حديثه»، وقد تفرَّد به، وظاهرٌ من السياق المتقدم للرواية: اضطرابه في هذا الحديث.

وتقدَّم نقل كلام البهوتي في أول الباب، وعزوه أثر عمر رضي الله عنه إلى الأثرم، ولم أقف على إسناده.

وهذا الحديث بيَّض لتخريجه النووي في «المجموع» (5/ 229).

رابعًا: ما روي عن أنسٍ رضي الله عنه

أخرجه الشافعي (في «القديم»، فيماعزاه إليه البيهقي في «المعرفة» (5/ 301)، وابن الأثير في «الشافي شرح مسند الشافعي» (2/ 412)، وابن حجر في «التلخيص» (2/ 290) عمَّن سمِع سلمة بن وردان، يذكر عن أنس: أنه كان يرفع يديه كلما كبَّر على الجنازة.

وسلمة بن وردان: «ضعيف» -كما في «التقريب»-، وقد سمِع من أنس رضي الله عنه، لكن في الإسناد جهالةٌ ظاهرة.

خامسًا: ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه

أخرجه عبد الرزاق في «المصنَّف» (3/ 470) عن معمرٍ، قال: بلغه عن ابن مسعود مثل ذلك (أي: مثل ما تقدَّم عن ابن عباس في الرواية الثانية عنه: لا يرفع في بقيَّة التكبيرات).

وهذا إسنادٌ لا تخفى عليك علَّته.

خاتمةٌ، في خلاصة ما ورد في الباب