بلاغة الإطناب في سور المفصل

ملخص الرسالة

بلاغة الإطناب في سور المفصَّل

المقدمة:

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن أولى ما أُعمِلت فيه القرائح، وعَلِقت به الأفكار اللواقح: الفحصُ عن أسرار التنزيل، والكشفُ عن حقائق التأويل، الذي تقوم به المعالم، وتثبت به الدعائم؛ فهو العصمة الواقية، والنعمة الباقية، وهو الكلام الجزل، وهو الفصل الذي ليس بالهزل، بهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مَقُول، وتقارَن في الحسن مطالعُه ومقاطعه، وحوت كلَّ البيان جوامعُه وبدائعه، قد أحكم الحكيم صيغته ومبناه، وقسَّم لفظه ومعناه، فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب، وصرَّفه بأبدع معنى وأغرب أسلوب.. فالسعيد من صرَف همته إليه، ووقف فكره وعزمه عليه، والموفَّق من وفقه الله لتدبره، واصطفاه للتذكير به وتذكُّرِه)[1].

لقد كانت خصائص القرآن الكريم - وما زالت - مثار الإعجاب ومصدره، من عصر النزول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن تلك الخصائص: بلاغة ذلك الكتاب التي كانت محط اهتمام علماء المسلمين وغيرهم.

وحين كتب أهل البلاغة العربية وغيرُهم من العلماء كتاﺑﺎتهم منذ أواخر القرن الثاني، كان من أكبر مراميهم الكشفُ عن وجوه النظم في القرآن، وبيان مكامن الإعجاز.

وقد أحببت أن يكون موضوع بحثي لنيل درجة الماجستير حول دراسة أسلوب من أساليب العربية في القرآن، أو في بعض أجزائه، وبعد تأمُّل متصل واستشارة واسعة استقر الأمر على أن يكون الموضوع: (بلاغة الإطناب في سور المفصَّل).

وثمت أسباب جعلتني أوثر هذا الموضوع:

أولها: أن أسلوب الإطناب أحد الأساليب العربية الثرَّة الحافلة بالأسرار والنكات، وكثرة الاعتبارات وتوارد المعاني، حتى جعله العلويُّ واديًا من أودية البلاغة[2].

الثاني: لفت نظري أثناء دراستي للبلاغة في المرحلتين الجامعية والعليا كثرةُ إشارة العلماء للإيجاز كمزية للأسلوب العربي، بينما لم يحظَ الإطناب منهم بمثل ما حظي به الإيجاز، وفي ذلك جَور على أسلوب الإطناب، وإعراض عن مزاياه وخصائصه البلاغية.

الثالث: مِن عيوب كتب البلاغة القديمة والحديثة افتقارُها إلى التجديد في الشواهد، وخاصة الشواهد القرآنية، فمن تتبَّع هذه الكتب وجد الخلف ينقل عن السلف الأمثلة نفسها دون أن يكلِّف نفسه عناء البحث عن أمثلة جديدة، وكأن القرآن الكريم خِلْوٌ إلا من هذه الشواهد، فأردت استخراج شواهدَ قرآنية جديدة على أسلوب الإطناب غير المذكورة في كتب البلاغة.

الرابع: وكان وراء اختيار سور المفصَّل الأمور الآتية:

أ. ما ورد من الفضل فيه، على ما سيأتي في التمهيد بيانه.

ب. وفرة أنواع الإطناب في هذه السور التي هي في أكثرها مكية، وخاصة أسلوب التكرار وما يشبهه في التأكيد؛ كالإظهار في موضع الإضمار، والتذييل؛ لأن السور المكية تستهدف إرساء عقيدة التوحيد، والدعوة إلى نبذ الأوثان، والإيمان بالرسل وباليوم الآخر وما فيه من مشاهد، كل ذلك كان سببًا في وفرة هذه الأساليب.

ج. شاع عند بعضهم أن المفسرين لا يُوَفُّون الأجزاء الأخيرة من القرآن حقها، وبخاصة الجوانب البيانية فيها، بحجة ما أصابهم من الإعياء، ولأن جلَّ المسائل تقدَّم بحثها في نظائر لها... هكذا شاع عند بعضهم، وحين طالعت طائفة من كتب التفسير في أجزائها الأخيرة وجدت ما يناقض تلك الفكرة، فأحببت الكتابة في هذا الموضوع، رغبة في الإسهام في تبرئة ساحة المفسرين مما نُسب إليهم[3].

أما عن الصعوبات التي واجهتها في هذا البحث، فتكمن في الآتي:

أ. تفرُّق مسائل البحث في كتب التفسير وعلوم القرآن، وكتب علوم البلاغة، وكتب اللغة والنحو والأدب، مما يتطلب جهدًا كبيرًا ووقتًا لجمع شتاتها.

ب. كثرة مواضع الإطناب في سور المفصَّل، فقد تزيد على مائتي موضع.

ج. تداخل بعض صور الإطناب في بعض، واختلاف البلاغيين في ذلك اختلافًا كثيرًا، مما يوقع الباحث في حيرة عند تصنيف بعض المواضع.

د. عامة المفسرين لا ينصُّون على نوع الإطناب، أو حتى ذكر مسمى الإطناب، وبعضهم - كالزمخشري مثلًا - يذكر نوع الإطناب ويضرب صفحًا عن ذكر الغرض البلاغي من هذا النوع، مما احتاج الباحث معه إلى دقة لاستخراج تلك المواضع.

وأما المنهج الذي سلكته في كتابة البحث فيتمثَّل فيما يلي:

أولًا: أجمع الآيات التي فيها نوع من الإطناب تحت مبحث واحدٍ مرتبة حسب المصحف.

ثانيًا: أحدِّد موضع الشاهد من الآية مع ذكر من نصَّ على هذا النوع في هذه الآية، وإن وجد رأي آخر في تحديد نوع الإطناب في الآية فإني أنظر أقربهما مطابقة لِما في الآية بناءً على تعريف البلاغيين لنوع الإطناب.

ثالثًا: إذا احتوت الآية على شاهدين لنوعين من الإطناب مختلفين فإني أذكر كلَّ شاهد في مبحثه على حِدَة.

رابعًا: بعد ذكر موضع الإطناب في الآية ونوعه أذكر الأغراض البلاغية من هذا الإطناب، فإن كان للعلماء آراء متباينة لا يمكن الجمع بينها رجَّحت الرأيَ الذي أستصوبه بناءً على ما جاء في قواعد الترجيح عند المفسرين، وكَثُر هذا في الفصل الأول.

خامسًا: عند ذكر الأغراض البلاغية لا أُغفِل الأثر الجمالي في اللفظ والمعنى لهذا النوع من الإطناب.

سادسًا: اقتصرتُ في الآيات المدروسة على أنواع الإطناب دون تَعَرُّضٍ للأساليب البلاغية الأخرى، حتى لا أخرج عن موضوع هذا البحث، إلا ما كان نادرًا جدًّا وسببه نكتة بلاغية استحسنت ذكرها لعظيم جمالها، أو لصلتها بالإطناب.

سابعًا: عُنيت بتخريج ما أورده من آياتٍ قرآنيةٍ وأحاديثَ نبويةٍ وأبياتٍ شعريةٍ.

هذا، وقد مضيت في كتابة البحث وفق خطة جاءت في تمهيد وستة فصول، تناولت في التمهيد أمرين:

الأول: الإطناب في البلاغة العربية: مفهومه، وآراء علماء البلاغة فيه، وأنواعه، وأسبابه.

الثاني: القول في تحديد المفصَّل، وما ورد فيه من الفضل.

أما الفصول الستة فقد كنت أُمهِّد للنوع البلاغي المراد دراسته بذكر تعريفه، ومنزلته في البلاغة، وأنواعه، وصوره، وأغراضه البلاغية، وجاءت هذه الفصول كالآتي:

الفصل الأول: بلاغة التكرار في سور المفصَّل، وفيه مبحثان:

أ. تكرار الكلمة.

ب. تكرار الجملة.

الفصل الثاني: بلاغة التذييل في سور المفصَّل.

وفيه مبحثان:

أ. التذييل الجاري مجرى المثل.

ب. التذييل الجاري غير مجرى المثل.

الفصل الثالث: بلاغة الإظهار في موضع الإضمار في سور المفصَّل.

وفيه مبحثان:

أ. الإظهار في موضع الإضمار في الجملة الواحدة.

ب. الإظهار في موضع الإضمار في جملتين.

الفصل الرابع: بلاغة الاعتراض في سور المفصَّل.

وفيه مبحثان:

أ. الاعتراض بجملة أو بجزء منها.

ب. الاعتراض بأكثر من جملة.

الفصل الخامس: بلاغة التفصيل بعد الإجمال في سور المفصَّل.

وفيه مبحثان:

أ. الإيضاح بعد الإبهام.

ب. عطف الخاص على العام.

الفصل السادس: بلاغة الاحتراس والتتميم في سور المفصَّل.

وفيه مبحثان:

أ. الاحتراس.

ب. التتميم.

ثم ختمت البحث بخاتمة، ذكرت فيها - بإيجاز - النتائج المستفادة من البحث.

ثم أتبعت ذلك بفهارس فنية تشمل ما يلي:

• ثبت المصادر والمراجع.

• فهرس الآيات القرآنية.

• فهرس الأحاديث النبوية.

• فهرس آثار الصحابة.

• فهرس الأشعار.

• فهرس الموضوعات.

وبعد هذا الجهد الذي أصفه بلا تردد أنه جهد المقل، الذي لن يخلو من خطأ لا محالة، فإني أشكر الله عز وجل أولًا وآخرًا على توفيقه وتيسيره لإتمام هذا البحث، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعله بادرة خيرٍ لي في دراسة كتابه الكريم، ثم إني أشكر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ممثلةً في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي في كلية اللغة العربية على إتاحة الفرصة لي في مواصلة الدراسة.

كما أتوجه بالشكر الجزيل إلى الشيخ الجليل عبدالعزيز بن عبدالرحمن الشعلان الأستاذ المشارك في الكلية، والمشرف على الرسالة، على قراءته رسالتي حرفًا حرفًا، أدركت ذلك من خلال تعليقاته وتصويباته على الرسالة، وهو مع ذلك غيرُ مُستبِدٍّ برأيه، ولا مُسْتَعْلٍ بوجهة نظره، فأجزل الله مثوبته، وضاعف أجره يوم أن عامل تلميذه معاملة الزميل له.

والشكر مزجى للأستاذين المناقشين على تفضلهما بقبول مناقشة هذه الرسالة.

كما أشكر كل مَن ساهم في إنجاز هذا العمل بجهد قلَّ أو كَثُر، سائلًا المولى أن يجعل ذلك في موازين حسناتهم.

وفي ختام هذه المقدمة ألتمس ممن يقف على هذه الرسالة المعذرة مما قد يوجد فيها من عثرات أو تقصير؛ فابن آدم مجبول على ذلك، والكمال لله وحده،كيف وقد اجتمع مع ذلك بضاعة مزجاة، وخاطر مكدود، وجسم عليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الباحث

راشد بن حمد الكعبي

1 /8 /1426هـ

فهرس الموضوعات