كلام ابن الصلاح على كتاب الصحاح

كلام ابن الصلاح على كتاب الصحاح

قال ابن الصلاح (ت643) عند الحديث على كلمة "سائر" في أول كتابه شرح مشكل الوسيط (1/ 108-السلام): (ولا التفات إلى قول الجوهري صاحب كتاب صحاح اللغة: سائر الناس: جميعهم. فإنَّه ممن لا يقبل ما ينفردُ به". انتهى كلام ابن الصلاح رحمه الله رحمة واسعة، وهو كلام غريب لا يعلم من سبقه به، وإنما يقتصر بعض العلماء على نقلِه عنه دون ذكر سالف له[1].

وظاهر كلام جمال الدين ابن هشام (ت 761) في المسائل السفرية (ص35-الرسالة) موافقة ابن الصلاح وإقراره، بل أشار ابن هشام أيضا إلى أن الجوهري ليس من أئمة اللغة المعتمد عليهم. ويظهر للمتتبع حرص ابن هشام في كتبه عامة على تعقب الجوهري (كما اشتهر ذلك عنه مع أبي حيان)، بل نجد في بعضها تعقب الجوهري في أكثر مواضع ذكره وكتابه فيها؛ كما في "مغني اللبيب" و"شذور الذهب"؛ فإن غالب ذكره فيهما للتعقب والتوهيم.

وقد علل ابن هشام في المسائل السفرية كلام ابن الصلاح بقوله: (وكان علة ذلك ما ذكره في أول كتابه من أنه ينقل عن العرب الذين سمع منهم؛ فإنَّ زمانَه كانت اللغة فيه فسدت)؛ كذا قال ابن هشام، وتقدمة الجوهري صحاحَه ليس فيها هذا ولا ما يفيده، بل قال فيها (الصحاح 1/ 33): (أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة...، بعد تحصيلها بالعراق رواية وإتقانها دراية، ومشافهتي بها العرب العاربة في ديارهم بالبادية)؛ فتأمله على مهل.

وأبو عمرو ابن الصلاح - رحمه الله - ليس ممن يقبل تفرده أو سبقه ذم كتاب الصحاح، بل أين الجوهري من أبي عمرو؟! ويعارضه تلقي أهل الفن وغيرهم كتاب الصحاح بالقبول، وابن الصلاح على علمه وفضله له أخطاء مشهورة[2]، بل هو فيما اشتهر فيه من التأليف في علوم الحديث ليس من فرسانه ومحققيه[3]، وابن هشام - رحمه الله - وإن كان مقدمًا في النحو، لكنه ليس من أئمة اللغة كالجوهري، وحسبك أنه هنا قد اعتمد في تنقص الجوهري على نقل كلام ابن الصلاح، ولو كان لديه غيره وأولى منه لأتى به.

وقد رد النووي في التهذيب (3/ 132) والعيني في البناية (1/ 320) وابن حجر في اللسان وغيرهم على القول بانفراد الجوهري هنا في مثالنا نفسه (شرح كلمة سائر)، حتى أبو محمد ابن بري (ت 582) لم يخطئ الجوهري هنا، بل ذكر ما يستدل به لصحة كلامه هنا؛ وهو بيت لمضرس بن ربعي.

ومن كلام العلماء في تزكية صحاح أبي نصر الجوهري: قول أبي سهل الهروي (ت 433): "تلقت الأمة كتابه بالقبول"[4]، وقال ابن حجر (ت 852) في لسان الميزان (2/ 116): "وقد تلقى العلماء كتابه بالقبول...، ولو كان من يهم من المصنفين يترك لما سلم أحد". وقال ياقوت الحموي (ت 626) في معجم الأدباء، (2/ 657): عليه اعتماد الناس اليوم... مع تصحيف فيه في موضع عدة، أخذها عليه المحققون، ومن ذا الذي ما ساء قط؟! ومن له الحسنى فقط؟!... وقال صلاح الدين الصفدي (ت 764) في مقدمة كتابه المختص ببيان أوهام الجوهري: "نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم" (ص42- البشائر)[5]: "إن صحاح الجوهري... قهر ما سواه من التصانيف، حتى خرق العادة"! وأشار الصفدي في كتابه ألحان السواجع (1/ 122) إلى أن صحاح الجوهري مضرب المثل من كتب اللغة في الافتخار[6]، وقد أثنى السيوطي(ت 911) في كتابه المزهر على صحاح الجوهري ونقل ثناء العلماء عليه، وقال فيه (1/ 101): (هو في كتب اللغة نظير صحيح البخاري في كتب الحديث)[7] ، وأشار والده كمال الدين السيوطي[8] إلى أن المحكم والصحاح والتهذيب أساس للبحث اللغوي، حتى في النفي، إذا لم توجد مادة ما فيها[9]، وقال عبدالقادر الحسيني (ت 1207) في فلك القاموس (ص31 – 32 - دار الجيل): (الصحاح أصح كتاب في اللغة...، اعتمد صحاحه أئمة اللغة).

وقد عبر الخفاجي (ت 1069) في حاشيته على البيضاوي بنقيض عبارة ابن الصلاح - وكأنه قصد ذلك -؛ فإنه قال (7/ 255): (عكسه الجوهري لكنه يقبل ما تفرد به).

واعتماد العلماء على صحاح الجوهري ظاهر مشتهر، ومواضع نقلهم عنه أكثر من أن تحصر، ومن اللطائف أن مفهرس كتاب ابن الطيب الفاسي (شيخ صاحب تاج العروس): تحرير الرواية في تقرير الكفاية - تحقيق علي البواب - نبه في فهرس الأعلام، (ص 529) إلى أنه لن يضع أرقام مواضع ذكر الجوهري في الكتاب؛ لكثرتها. مع أنه ذكر أرقام مواضع ذكر أئمة اللغة الآخرين كأبي منصور الأزهري (ت370) وغيره.

وجل ما في كتاب التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح لابن بري (ت 582) - وهو أشهر متعقبي صحاح الجوهري - ليس توهيما وتخطئة، بل إضافات[10]، وكثير منها إضافات غير لغوية، كتسمية قائل شاهد شعري (ذكر الجوهري البيت دون تسمية قائله فيسميه ابن بري)، أو إتمام بيت اقتصر الجوهري على محل الشاهد منه، أو استشهاد للفظة بشاهد شعري لم يذكره الجوهري (وليس ذكر شواهد ألفاظه من شرطه في صحاحه أصلا)[11].

وأخيرًا ينبغي التنبيه إلى الفرق بين اعتماد الكتاب في الأصل مع الإقرار بعدم خلوه من الأوهام، والقول بعدم اعتماد الكتاب، وبين ما يُدعى انفراد الجوهري به دعوى مجردة أو متعجلة، وما يجزم بانفراده به بعد تحقيق، وبين ما ينفرد به فينكر، وما ينفرد به ولا يعرف له منكر معتبر[12]. وكثير مما يُدعى فيه وهم الجوهري يقع من غيره من ناقديه أو المعتبرين عندهم مثله أو أكثر، وبعض ذلك إما نقل خاطئ عن نسخة صحاح الجوهري أو هو محل اجتهاد وخلاف، وليس قول المنتقِد الموهِّم دائما أولى من قول الجوهري فيها[13]، وربما توزع الخطأ بينهما؛ يخطئ الجوهري في بعض كلامه المنتقَد، ويخطئ مخطّئه في بعض ما انتقده في الموضع نفسه؛ فيكون كل منهما مصيبًا في بعض مخطئًا في البعض الآخر في الموضع نفسه[14]، وربما انتُقد الجوهري في شيء اشترك معه في ذكره بعض منتقديه كابن هشام[15]. وبعض توهيماتهم إياه فيها جزم بسالبة كلية وإطلاقات يعسر إثباتها، بل قد نجد ما يفيد عكسها[16]، والله أعلم.

نعم إذا فُتش عن المادة تفتيشًا معتبرًا محققًا فلم توجد إلا في صحاح الجوهري فإن هذا لا شك يوقع في النفس شيئًا من تفرده بها، ولكن هذا لا يكفي للمبادرة بتخطئتها ما لم نجد منكرًا لها أو ظهور مخالفتها أصلا ما؛ لأن الجوهري في الأصل أدرى من المخطّئ المتأخر الذي هو دونه في الاطلاع والمعرفة، وعلم اللغة في الأصل علم جمع واستيعاب للمادة، ومدخل الاجتهاد فيه أضيق من مدخله في بعض علوم العربية الأخرى كالنحو، واحتمال فوت شيء على المخطّئ وقد أدركه الجوهري وارد جدًّا. والفرق ظاهر بين أن يكون في النفس شيء بعد هذه الحال المشروحة كلها وانتقاص الجوهري وكتابه أصلا، ونفي اعتماده جملة، والله أعلم.