معاني صيغة استفعل عند المفسرين

ملخص الرسالة

معاني صيغة استفعل عند المفسّرين

المقدمة:

أمّا بعد حمد الله على آلائه، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه، فهذا بحث قصدت به إلى إثبات أهمّيّة المعنى الصرفي وأثره في التفريق بين الألفاظ التي يُظنّ ترادفها، متخذًا معاني صيغة استفعل وسيلة إلى ذلك.

ولاشكّ في أن دراسة معاني هذه الصيغة في القرآن الكريم أفضل وأصحّ من دراستها في غيره؛ لأنّ القرآن الكريم كلام الله تعالى الخبير العليم الحكيم، بخلاف الشعر كلام الانسان الجاهل الناقص القاصر العاجز الذي يقوده عجزه أحيانًا إلى إفساد المعنى من أجل إقامة الايقاع (الوزن والقافية).

ومن هنا رأيت دراسة معاني هذه الصيغة عند المفسرين؛ لأنّهم اقتصروا - إلاّ قليلًا - على دراسة ما ورد في القرآن الكريم. وكان القصد من هذه الدراسة إثبات أنَّ آراء المفسرين في تحديد معاني هذه الصيغة قد اختلفت وتباينت، وأنّها تأثّرت كثيرًا بآراء اللغويين والصرفيين.

ومن هنا كان لابدّ من إثبات اعتماد المفسرين على اللغويين والصرفيين وتأثّرهم بطرائقهم في التفسير.

ومن أجل هذا وغيره قسمت البحث على ثلاثة فصول يسبقها تمهيد ويتلوها ملحق فخاتمة:

التمهيد - تكلمت فيه على المعنى الصرفي، وصيغة استفعل، ومفهوم المفسّر.

الفصل الأول - مصادر المفسرين في صيغة استفعل وقد تضمّن ثلاثة مباحث:

المبحث الأول - المصادر اللغوية.

المبحث الثاني - المصادر الصرفية.

المبحث الثالث - المصادر التفسيرية.

الفصل الثاني - طرائق المفسرين في صيغة استفعل وقد تضمّن ثلاثة مباحث:

المبحث الأول - تفسير اللفظ المفرد بللفظ المفرد.

المبحث الثاني - تفسير اللفظ المفرد بللفظ المركب.

المبحث الثالث - خصائص التفسير الدقيق.

الفصل الثالث - آراء المفسرين في صيغة استفعل، وقد تضمن ثلاثة مباحث:

المبحث الأول - مصطلحات المفسرين في معاني صيغة استفعل.

المبحث الثاني - آراء المفسرين في معاني صيغة استفعل الواردة في القرآن الكريم.

المبحث الثالث - آراء المفسرين في الفروق الدلالية بين صيغة استفعل والصيغ الأخرى.

ملحق - آراء الباحث في معاني صيغة استفعل الواردة في القرآن الكريم.

الخاتمة - تكلمت فيها على ضوابط تحديد المعاني الصرفية لصيغة استفعل.

ولابدّ من الاشارة هنا إلى أنني قصدًا إلى الايجاز والاختصار والاقتصار على الأهمّ فالمهمّ تركت بعض ما هو مألوف في الرسائل والبحوث:

1. تركت ذكر مكان الطبع ودار الطبع ورقم الطبعة وسنة الطبع في الهامش؛ لأنَّ مصادر البحث ومراجعه زادت على المئتين، فلو ذكرت ما تركت، لزاد البحث نحو عشر صفحات. واكتفيت بذكر هذه الأمور في ثبت المصادر والمراجع مهتديًا برأي الاستاذ العلاّمة المرحوم د. علي جواد الطاهر في كتابه (منهج البحث الأدبي) الذي بيّن أن لا داعي إلى ذكرها في الهامش ما دام الباحث قد خصّص ثبتًا بالمصادر والمراجع يذكر فيها هذه الأمور. ولاشكّ في أنّ ذكرها في الثبت أفضل بكثير من ذكرها في الهامش؛ لأنَّ مواضعها في الثبت واضحة مرتبة على وفق الترتيب الهجائيّ، بخلاف مواضعها في الهوامش، فهي متفرقة. ثمّ إنَّ ذكرها في الهامش ربّما أدّى إلى اختلاط أرقام الأجزاء والصفحات بأرقام الطبعات والسنوات، وإلى إثقال الهامش بالكلمات، ولاسيما في مثل هذا البحث الذي تكثر فيه الهوامش في كل صفحة، وتكثر فيه المصادر في الهامش الواحد.

2. تركت ترجمة الأعلام الواردة في هذا البحث؛ لأنني لو اقتصرت على ترجمة من تجب ترجمتهم، لزاد البحث نحو ست عشرة صفحة أو أكثر.

3. تركت ذكر أنساب المؤلفين وكناهم وألقابهم في ثبت المصادر والمراجع واكتفيت بذكر المؤلف بما اشتهر به مع ذكر سنة وفاته؛ لأنني لو ذكرت ما تركت لزاد البحث نحو ست صفحات.

أمّا مصادر هذا البحث ومراجعه فهي كثيرة، منها ما قلّ اعتمادي عليها، ومنها ما كثر، وكان اعتمادي على كتب التفسير أكثر وأوضح؛ لأنَّها هي المقصودة بالبحث.

ولابدّ من الإشارة إلى أن كثرة الاعتماد على بعض كتب التفسير دون غيرها لم تأت اختيارًا وقصدًا، وإنمّا جاءت بسبب من اشتمالها على أكثر ما يتعلق بموضوعات البحث، أو بسبب من ذكرها آراء انفردت بها دون غيرها من كتب التفسير، ومن هنا كثرت الإشارات إلى تفسيرين عظيمين كثرة واضحة هما:

(روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) للامام شهاب الدين الآلوسيّ، و (تفسير التحرير والتنوير) للامام محمد الطاهر ابن عاشور التونسيّ.

وإذ اعتذر من زلَّة قلم أو شرود ذهن أو قصور في الفهم أو التعبير أدعو الله العليَّ القدير أن يوفّق الشيخين الوقورين الأستاذين الجليلين اللذين لم يبخلا عني بنقد مفيد، وتوجيه سديد: الأستاذ الدكتور المشرف علي محسن مال الله، والدكتور عبد المحسن خلوصيّ الناصريّ، أطال الله في عمريهما صحيحين سليمين، إنَّه نعم المولى ونعم النصير.

الخاتمة:

لعلّ قراءةً واعيةً متأمّلةً لموضوعات هذا البحث كفيلةٌ بأن تضع القارئ إزاء نتيجة مهمّة تستمدّ صحّتها من صحّة مقدّماتها. فآراء المفسّرين في تحديد معاني صيغة استفعل الواردة في القرآن الكريم هي محض اجتهادات. وهي اجتهادات أطلق بعضها نفر من المفسرين غير معتمدين على آراء مَنْ سواهم من الدارسين، واجتهادات أطلقها بعض المفسرين معتمدين فيها على آراء بعض اللغويين أو الصرفيين أو المفسرين المتقدّمين. فآراء الدارسين جميعًا من لغويين وصرفيين ومفسرين في تحديد معاني صيغة استفعل هي محض اجتهادات؛ لأنَّ المفسّر إمّا أن يعتمد على اجتهاده أو على اجتهاد من سواه، واللغويّ إمّا أن يعتمد على اجتهاده أو على اجتهاد من سواه، والصرفيّ إمّا أن يعتمد على اجتهاده أو اجتهاد من سواه، فيكون منتهى الآراء جميعًا هو الاجتهاد.

والاجتهاد عبارة عن بذل المجتهد جهدًا في استنباط رأي من موضوع البحث بالاعتماد على أسس ما. وقد يكون الاجتهاد صحيحًا إذا استطاع المجتهد النظر بدقّة في هذه الأسس، وقد يكون سقيمًا إذا أخل ببعضها أو بكلّها.

وقد تبيّن للباحث أنَّ بعض المجتهدين من المفسرين أو ممن اعتمد المفسرون على آرائهم ونقلوها في كتبهم لم يراعوا أسس الاجتهاد فكانت آراؤهم غير صحيحة قطعًا، في حين أنّ بعضهم تدبّروا هذه الأسس، فخرجوا بآراء صحيحة دقيقة.

والأسس التي ينبغي للمجتهد في هذا الموضوع أن يتدبّرها هي: النظر في دلالة المادة (الأصل اللغويّ)، والنظر في دلالة الصيغة، والنظر في دلالة السياق. ومن هنا كانت تفسيرات المفسرين للفظ المفرد بلفظ مفرد غير دقيقة؛ لأنّها إمّا أن تغفل دلالة المادّة، نحو: تفسير (استنبأ) بـ(استخبر)، أو تغفل دلالة الصيغة، نحو: تفسير (استوقد) بـ(أوقد)، أو تغفل دلالة المادة ودلالة الصيغة، نحو: تفسير (استوقد) بـ(أشعل). ومن هنا أيضًا كانت تفسيرات المفسرين للفظ المفرد بلفظ مركب لا يشتمل على معنى الصيغة أو لايشتمل على ذكر المادة أو لايشتمل على معنى الصيغة ولا ذكر المادة تفسيرات غير دقيقة، نحو: تفسير (استبشر) بـ(السرور الحاصل بالبشارة)، وتفسير (استفتح) بـ(طلب النصر)، وتفسير (استأنس) بـ(خلاف استوحش).

وبسبب من إغفال دلالة المادة، ودلالة الصيغة، ودلالة السياق أخطأ بعض المفسرين في تحديد المعنى الصرفيّ لأفعال صيغة استفعل الواردة في القرآن الكريم. وللسياق أثر كبير في تحديد معنى أي لفظ سواء أكان المعنى لغويًا أو صوتيًا أو صرفيًا أو نحويًا أو حقيقيًا أو مجازيًا أو كنائيًا … ومن هنا اختلفت الآراء في تحديد المعاني الصرفية لبعض أفعال صيغة استفعل بسبب من إغفال دلالة السياق.

وقد كان ينبغي للمفسرين أن يستنبطوا من دلالة المادة ودلالة الصيغة ودلالة السياق ضوابط لتحديد المعاني الصرفية تطّرد اطّرادًا تامًّا، بحيث يصحّ القياس.

وقد وفقني الله تعالى الى استنباط بعض هذه الضوابط:

أولًا- معنى الطلب القلبيّ (الإرادة): يكون الفعل لازمًا في الجملة، ويكون مفعولُ الطلب في التفسير الصرفيّ هو مادّة الفعل، نحو: استكبر إبليس، فالفعل هنا لازم، تفسيره: طلب الكِبْرَ، فالكِبْر مفعول الطلب.

ثانيًا- معنى الطلب القوليّ (السؤال، الأمر، الدعاء، الالتماس): يكون الفعل متعديًا في الجملة، ويكون مفعولُ الجملة هو المطلوب منه، ويكون مفعول الطلب في التفسير الصرفيّ هو مادّة الفعل، نحو: استطعم زيدٌ خالدًا، فالفعل هنا متعدّ، تفسيره: طلب زيدٌ الطعامَ من خالدٍ، فالطعام مفعول الطلب، وخالد هو المطلوب منه.

ثالثًا- معنى (الوجدان): يكون الفعل متعديًا في الجملة، ويكون مفعول الجملة هو مفعول الوجدان في التفسير الصرفي، مع ذكر مادة الفعل في موقع الحال، نحو: استخفَّ زيدٌ الخيمةَ، أي وجد زيدٌ الخيمةَ خفيفةً. ولابدَّ في هذا المعنى من أن يكون المفعول به شيئًا حسّيًّا.

رابعًا- معنى (الاعتقاد): يكون الفعل متعديًا في الجملة، ويكون مفعول الجملة هو مفعول الاعتقاد في التفسير الصرفيّ، مع ذكر المادة في موقع المفعول الثاني، نحو: استضعف زيدٌ خالدًا، أي اعتقد زيدٌ خالدًا ضعيفًا.

خامسًا- معنى (الاتخاذ): يكون الفعل متعديًا في الجملة، ويكون مفعول الجملة هو مفعول الاتخاذ في التفسير الصرفيّ، مع ذكر المادة في موقع المفعول الثاني، نحو: استأجر زيدٌ خالدًا، أي اتخذ زيدٌ خالدًا أجيرًا. ولابدّ من أن يكون الفعل هنا مقصودًا من أجل الفاعل.

سادسًا- معنى (الجعل): يكون الفعل متعديًا في الجملة، ويكون مفعول الجملة هو مفعول الجعل في التفسير الصرفيّ، مع ذكر المادة في موقع المفعول الثاني، نحو: استخلفَ اللهُ المؤمنين، أي: جعل الله المؤمنين خلفاء.

والفرق بين الاتخاذ والجعل أنَّ الاتخاذ يكون من أجل الفاعل بخلاف الجعل، فلو قيل: استأجر زيدٌ خالدًا لسعيد، لم يكن اتخاذًا، بل جعلًا، أي: جعل زيدٌ خالدًا أجيرًا لسعيد.

سابعًا- معنى (الصيرورة): يكون الفعل لازمًا ومتعديًا، نحو: (استحجر الطين، واستقبل العارض الوادي) فـ(استحجر) لازم، والمعنى: صار الطين حجرًا، و(استقبل) متعدّ، والمعنى: صار العارض مقابلًا الوادي، أو قبالة الوادي.

ثامنًا- معنى (المطاوعة): يكون الفعل لازمًا؛ لأنّه ينقص عن الفعل الذي يطاوعه (الفعل المطاوَع) مفعولًا، نحو: استكان خالدٌ، فهو مطاوِع (كان يكين)، نحو: كان زيدٌ خالدًا فاستكان خالدٌ. ولا يكون متعديًا إلا إذا كان الفعل المطاوَع متعديًا إلى أكثر من مفعول.

تاسعًا- معنى (الأخذ): يكون لازمًا ومتعديًا، فاللازم نحو: (استقسم زيدٌ) إذا أخذ القِسْم، والمتعدي نحو: (استبدل زيدٌ زوجًا مكان زوج).

عاشرًا- معنى (المبالغة): يكون فعل المبالغة موافقًا للفعل الذي هو دونه في التعدي واللزوم، فـ(استبان) لازم و(بان) لازم، و(استخرج) متعدّ و(أخرج) متعدّ.

ولو أردنا أن نكشف عن فائدة مثل هذه الضوابط فإننا نذكر أن المفسرين اختلفوا في المعنى الصرفي للفعل (استرضع) فقيل: الطلب، أي طلب المرضعة، وقيل: الاتخاذ، أي اتخاذ المرضعة، وقيل الإطالة، أي إطالة مدة الرضاعة، وهذا من معاني المبالغة، وهو الصواب؛ لأنَّه على تقدير الطلب يكون معنى (استرضع الرجلُ ولده): طلب الرجل المرضعة من ولده، وهذا المعنى فاسد قطعًا. وعلى تقدير الاتخاذ يكون معنى الجملة: اتخذ الرجل ولده مرضعة، وهذا باطل أيضًا. ولا يصحّ إلا على تقدير المبالغة، فيكون موافقًا لـ(أرضع) مع الدلالة على العناية والمبالغة والتأكيد والكثرة ونحو ذلك.

فهرس المحتويات