الوهم في نسبة الآراء النحوية إلى الكوفيين في ضوء كتب الخلاف النحوي

ملخص الرسالة

الوَهْم في نسبة الآراء النحوية إلى الكوفيين

في ضوء كتب الخلاف النحوي

المقدمة:

الحمد لله على ما عرفنا من نفسه، وألهمنا من شكره، وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيته، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا مُحمَّد المُنَزَّل عليه: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف:2]، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين.

أمّا بَعْدُ:

فقد كنتُ في السّنة التحضيرية، كثيرة البحث والمتابعة عن موضوع يستحق بذل الوقت والجهد، إلاّ أنني لم أجد ضالتي المنشودة، إلى أن ذكر أمامي أستاذي المشرف الدكتور علي عبد الله العنبكي موضوع الوهم في اللغة والنحو، فرأيت أنّه موضوع يستحق الجهد والعناء.

وبعد أنْ اطلعت على المصادر وقرأتُ الكثير من كتب اللغة والنحو، وجدته موضوعًا واسعًا يستحق أنْ يكون أطروحة دكتوراه، لذا قرّرت أنْ أحصر الموضوع في كُتبِ الخلافِ النحوي، لأنّها تعتمدُ على ذكرِ الآراء، وبعد اطلاعي على كتبِ الخلاف التي بين يدي، فضلت أنْ أدرس الآراء النحويّة المنسوبة إلى الكوفيين فقط، تاركة المجال لغيري من الزملاء لدراسة الوهم في الآراء المنسوبة إلى البصريين، وذلك لسعةِ الموضوع وتشعبهِ كما ذكرت.

وقَدْ دفعني إلى التمسك بهذا الموضوع، أنّه لم يفرَد لهُ بحث يخصّهُ وإنّما كانَ يُشارُ إليه بينَ طَيّاتِ الكتب والرّسائل التي قامت على دراسة الخلاف النّحويّ.

ولا عجَب أنْ يكون اسم (الإنصاف) ومؤلفه، الأكثر ترددًا بين صفحات رسالتي، نظرًا إلى مكانة هذا الكتابِ بينَ كُتُبِ الخلافِ الأُخرى، فهوَ أوّلُ كتاب يصل إلينا منفردًا في الخلاف بين البصريينَ والكوفيين، كما أنّه أطول تلك الكتب بالنسبة إلى مناقشة المسائل، فضلًا عن ذلك، فإنّ غيره من كتب الخلاف التي جاءت بعده، كانت متأثرة به ومعتمدة عليه في طريقة البحث وعرض المسائل.

وقد حاولت أنْ أجعل رسالتي بعيدة عن الأشياء التي قد تخرجها عن موضعها الأصلي، فلم أكتب في نشأة النّحو الكوفيّ، ولم أتوسع في الكتابة عن نشأة الخلاف النحوي، بلْ حاولتُ الاختصار قدر الإمكان إلا في حدود ما ستوجبه عرض الموضوع، لذا قمتُ بتقسيم رسالتي على تمهيدٍ بعنوان (كتب الخلاف النحوي في وصفٍ عام) ذكرت فيه الكتب المطبوعة، وغير المطبوعة، وثلاثة فصول كانت على النحو الآتي:

الأول: تحدّثتُ فيه عن علاقة الوهم بالخلاف النحوي، وأشكال الوهم وأسبابه، وقد جعلته في ثلاثة مباحث، الأول بعنوان (الوهم وعلاقته بالخلاف النحوي)، ذكرْتُ فيه معنى الوهم في اللغة والاصطلاح، والفرق بينه وبين مصطلح التوهم النحوي، وعلاقته بالخلاف، وتطوّره، إلى أنْ انْطَفَأت جذوته.

أمّا المبحث الثاني، فجاء بعنوان (الوهم المتعمد وأسبابه)، وقَدْ كانت لي وجهة نظر في هذا الموضوع، إذْ جمعْتُ تحتَه ما رأيتُ أنّهُ أسبابٌ دعت إلى الوهم المتعمد، وقَد عرضْتُ تلك الأسباب، وأتيتُ بشواهد عليها من كتب الخلاف النحوي، ولا سيما كتاب الإنصاف.

وأمّا المبحث الثالث، فقد سمّيته (الوهم غير المتعمد وأسبابه)، جمعْتُ تحته أسبابًا أعتقد أنّها كانت وراء الوهم غير المتعمد الذي وقع فيه مؤلفو كتب الخلاف، وقد رتبتها على النّحو الذي اعتقدته مناسبًا.

وفي الفصل الثاني، وثّقتُ الآراء النحويّة في المسائل التي وقع فيها الوهم والالتباس في الأسماء وتوابعها وما يتصل بها- محاولةٌ- بعد الاستعانة بالله أنْ أُصحّح ما وقع فيه الخطأ والسّهو من تلك المسائل، وأُعالجها من خلال مصادرها الأصلية بالعودة إلى كتُب الكوفيين المتوافرة بين يدي، وقد جعلتُ هذا الفصل في مبحثين:

الأول: كانَ في الأسماء المعربة، وتتضمن المرفوعات، والمنصوبات، والمجرورات، والثاني: كان في الأسماء المبنيّة.

أمّا الفصل الثالث: فقد كان في توثيق الآراء التي وقع فيها الوهم في الأفعال والأدوات.

ثُمّ ختمتُ البحث بخاتمة أجملتُ فيها ما توصلْتُ إليه من نتائج هذه الدراسة.

وأودُّ أن أبيّنَ هنا أنَّ هذا الموضوع مُتشابكُ الأطراف تداخَلَتْ مكوناته فيما بينها بشكلٍ ملحوظ، لاسيَّما في المبحثين الثاني والثالث من الفصل الأول، ولذلك عانيْتُ منهُ الكثير، واحْتجْتُ فضلًا عن كتُب الخلاف النحوي - إلى اللجوء إلى كثير من المصادر والمراجع، وربّما قَدْ غابَتْ عنّي مصادرَ أخْرى لم أتمكّن من الحصول عليها، لا سيما المصادر الكوفيّة.

ولا تفوتني الإشارة إلى أنَّ بعضَ الأجلاّء قد سبقوني إلى الكتابة في الموضوع، مثل الدكتور محيي الدين توفيق إبراهيم، الذي تناول المسائل التي وقع فيها الوهم في كتاب الإنصاف في كتابه (ابن الأنباري في كتابه الإنصاف في مسائل الخلاف)، والدكتور محمّد خير الحلواني الذي درس كتاب الإنصاف أيضًا في رسالته الموسومة بـ (كتاب الإنصاف والخلاف النّحوي بين المذهبين)، وقد تطرّقَ إلى المسائل الخلافيّة الني نسب الأنباري فيها القول إلى الكوفيين وهمًا، وأنا أُقرّ بفضلِ مَنْ سبقَني إلى البحث في هذا الموضوع.

ولا يفوتني أنْ أقدم شكري وامتناني إلى منْ قَدَّمَ لي يد العون، وأخصُّ بالذكر منهم الأستاذ الفاضل كريم سلمان الحمد- رحمه الله تعالى- الذي كانَ كرمه بلا حدود، فقد قَدّمَ إلىّ كثيرًا من المصادر لا سيّما القديمة منها، ولا أنسى زملائي وزميلاتي الذين كانَ لهُم فضلُ توفير المصادر والمراجع و إيصالها إليَّ، فجزاهم الله عني - جميعًا - خير جزاءِ المحسنين.

وأخيرًا، فإنّي ألتمسُ من أساتذتي الكرام، أنْ يقوّموا ما وَقع في هذا العمل من أخطاء، وأنْ يرتقوا بها إلى درجةِ القبول والرِّضا، ولا أقولُ إلى درجة الكمال، فالكمالُ للهِ تعالى وَحدَهُ.

وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين.

الخاتمة ونتائج البحث:

كَثُرَتِ البُحوثُ والمصنّفاتُ النّحويّة التي تناولت بالشّرح والتّحليل أصول النّحو الكوفيّ وخصائصه فأفاضت في ذلك، غير أنَّ كثيرًا من تلك الدراسات لم تُفْلِح في إزالة الغموض الذي يعتري كثيرًا ممّا ينسب إلى الكوفيين، لأنّها في معظم الأحيان تستقي مادتها من مصادر البصريين، أو من مصادر متأخرة، و هكذا ينقل بعض عن بعض بعيدًا عن التّحقيق والتدقيق، لذا باتت الشّكوك تعتورنا بإزاء قسم كبيرٍ من المسائل المنسوبة إلى الكوفيين، لأنّها في معظم الأحيان تستقي مادتها من مصادر البصريين، أو من مصادر متأخرة، و هكذا ينقل بعض عن بعض بعيدًا عن التّحقيق والتدقيق، لذا باتت الشّكوك تعتورنا بإزاء قسمٍ كبيرٍ من المسائل المنسوبة إلى الكوفيين، وقدْ حاولْتُ في هذا البحث وفي ضوء ثلاثة من كتب الخلاف النّحوي التي وصلت إلينا، أنْ أعمل جاهدةً لتقصّي الحقائق وإزالة الوَهَم والغُمُوض عن قسمٍ من تلك المسائل، وذلك بتتّبع جذور المسائل التي نُسِبَتْ وَهْمًا إلى الكوفيين، بالرجوع إلى مصادرِهم التي وَصَلَتْ إلينا، وعليه فقدْ توصلتُ إلى جملةِ نتائجَ كانَ أبرزها:

1- إنَّ مصطلحَ الوَهَم أشملُ وأعَمُّ من مصطلح التّوهم، فالوَهَمُ قدْ يقع في مختلف أنواع العلوم، في حين أنَّ التّوهم مصطلحٌ خاصٌّ باللّغة العربيّة وحدها دونَ غيرها من العلوم الأخرى.

2- أظْهَرَ البَحْثُ أثر الخلاف النحوي في حصول الوهم والخطأ الذي أصابَ عددًا لا يُسْتَهَانُ به من المسائل النّحويّة.

فعندمَا كانَ الخِلافُ في بدْئِهِ يتّسمُ بالهدوء، وكذلكَ عندما خفّتْ حِدّته، كانَ الوهمُ غير متعمد، وحصوله قد يكون إمّا بسبب التّصحيف و التّحريف، أو الخطأ في النّقل والعزو، أو عدم الاستقصاء في نسبةِ الرّأي، أو اعتماد الرَّأي الجزئي، أو رأي المتأخرين، أو قد يكون بسبب ضياع التّراث الكوفي، والجهل بآراء الكوفيين وأدلّتهم، أو اضطراب المَصَادر الكوفيّة، أو قدْ يكونُ نتيجةً طبيعيةً لسوءِ فَهْمِ العَبَاراتِ والمصطلحات الكوفيّة، ممّا أدّى إلى ترجمةِ تلك المصطلحات بألفاظ البصريين ومصطلحاتهم، الأمر الذي سهّلَ وقوع الوَهَم في عددٍ كبيرٍ مِنَ المسائل.

أمّا عندما كانَ الخلافُ على أشدّهُ بين المدرستين لا سيّما في القرن الثّالث الهجري، فقدْ أصبحَ الوهم متعمّدًا، وظهرَ هذا التعمّد واضحًا جليًّا من خلال الإفراط في التّعليل والتّأويل، وتوليد الحجج، والجمع بينَ الأخذ والتَّوليد، وجعل الآراء البصريّة كوفيّة، وكذلك تبنّي الأصول البصريَّة كمَا حصلَ في الإنصاف، فقد تبنّى أبو البركات تلك الأصول، وعمل على تغيير صورةِ المذهب الكوفيّ، فكانَتْ نبرة تعمّد الخطأ والوَهَم باديةً بوضوح في الإنصاف، وفي كُتُبِ الخلاف الأخرى الّتي سارَتْ على نهجهِ.

3- أحصى البحثُ المسائل الّتي وقعَ فيها الوَهَمُ ونُسِبَ القَوْلُ فيها إلى الكوفيين، فبلغَ عددها اثنتين وثلاثينَ مسألةً: موزّعةً على النّحو الآتي:

أ‌. تسعَ عشرةَ مسألةً منها في الأسماء المُعْرَبة والمبيّنة وتوابعها وما يتصلُ بها.

ب‌. وأربعُ مسائلَ تخصُّ الأفعال.

ج. وتسعٌ منها تخصُّ الأدوات والحروف.

وقد نوقشت تلك المسائل بالعودة إلى مصادر الكوفيين التي بين أيدينا، وثبت لنا- من خلال ما حصلنا عليه من الأدلة- إنَّ الوَهَمَ والخطأ قد أصابها، وحاولَ البحث القيام بتصحيح تلك الأخطاء والأوهام على قدرِ المُسْتَطاع.

4- ويوصي البحثُ بدراسةٍ شاملةٍ موسومة بـ(الوَهَم في نسبةِ الآراء النّحويّة إلى البصريين في كتب الخلاف النّحوي)، يثبت فيه أنَّ الوَهَمَ لم يَكُنْ مقتصرًا على نسبة الآراء إلى الكوفيين فَحَسب، وإنّما شَمَلَ الآراء المنسوبة إلى البصريين أيضًا.

ووجدنا في كتاب ((ابن الأنباري في كتابه الإنصاف في مسائل الخلاف)) أمثلةً كثيرةً من مسائل نسب القولُ فيها إلى البصريينَ وَهْمًا، يمكن أنْ يعتمدها مَنْ يريدُ البحث في هذا الموضوع.

وأخيرًا...

إذا كُنّا قَدْ وقفنا على بعض آراء العلماء القُدَامى وتعقّبنا تُراثهُم، فهذا لا ينقصُ مِنْ قَدْرِهم، ولا من علوّ مكانتهم، فهم علماؤنا الأماجد الذين خلّفوا لنا هذا التّراث العربيّ الضّخم الذي يدلُّ على عبقريّةِ العربِ والعربيَّة، فجزاهم اللهُ عنّا خَيْرَ الجَزَاء.

وآخِرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

فهرس المحتويات: