مخيمات النور

بين الأقليات والجاليات

مخيمات النور

مخيمات النور:

تعرضنا في المقال السابق لنماذج من مخيمات يفوح منها البؤس، ويخيم عليها الشقاء، وتبرز ناحية من النفس البشرية التي سيطر عليها الشيطان، واتخذ منه مطية يحقق عليها رغباته، ويحقق من خلالها قسمه الذي أخذه على نفسه؛ ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83].

بعد هذا كله نريد أن نقف على نموذج فريد من المخيمات، هذا النموذج يشع منه النور، وترفرف عليه الملائكة بأجنحتها، فقيه قوم يذكرون الله، فيذكرهم الله فيمن عنده، وفيه فتية آمنوا بربهم فزادهم الله هدى، تلكم المخيمات التي تصقل المواهب وتنير الطريق لكثيرين ممن اختاروا الخير وبحثوا عنه، يديرها رجال مخلصون يبحثون عن رضا الله فيما يعملون، ويرجون فيه وجهه.

لو زرت واحدًا من هذه المخيمات التي تنتشر اليوم في كل مكان، لوقر في صدرك أن "الدنيا لا تزال بخير"، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق فيما قاله كله، وأن طائفة من أتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - لا تزال على الحق منصورة، يأتي ذلك في وقت بدأ اليأس يدب فيه إلى نفوس الكثيرين، مع أن اليأس لا يصل إلى قلب المؤمنين، ويأتي ذلك في وقت بدأ فيها الشباب يغلبون جانب المتعة لما يحيط بهم من مغيرات لها كثيرة، كلها تتفق على أسلوب واحد فيه صد للشباب من عمل الخير، وفيه دعوة دائبة لهم للانخراط في خدمة الشيطان.

تأتي هذه المخيمات لتنزع الشباب من الهاوية، وتدلهم على الحق، وتدعوهم إلى اتباعه في معسكر للشبيبة، تتمثل فيه أعمال الخير قدوة للشباب من قِبَل إخوتهم الذين يتقدمونهم سنًّا.

والذين يجهلون مثل هذه المخيمات لا بد أن يقفوا منها مواقف سلبية؛ لأنهم لا يعلمون ما يدور فيها، بل إن البعض يعتقد أن هذه المخيمات أسلوب من أساليب إشاعة الفتنة في المجتمع من خلال عزل فئات من الشباب عن "الجو العام" الذي يعيشه المجتمع.

فالجو العام في أمريكا وغرب أوروبا - مثلًا - قائم على المتعة والمصلحة الشخصية بين الشباب، ويكفي أن تناقش شابًّا غير منتمٍ لتجد مصداق ما يذكر هنا، فالقوم قد فقدوا جل مقومات الاعتدال، وصاروا يعيشون على المتعة والمصلحة الشخصية، ولا أرى أن هناك من ينازع في هذا، ومثل ذلك ينطبق على الكثير من المجتمعات التي فقدت مقومات النبل والكرامة التي تمليها عليهم تعاليم ربانية لم ترسمها يدُ ذي مصلحة أو حاجة، بل خطتها حكمة إلهية صنعت هذا الكون، وجعل الإنسان فيه خليفة، وحملته أمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فأبت أن تحملها وأشفقت منها، فحملها الإنسان، ووسط هذه المجتمعات تقام مثل هذه المخيمات التي تحاول أن تحمل الأمانة، وتحملها سواعد الشباب وحكمة العلماء وحماس المخلصين ونزاهة الرجال وبراءة المقصد، فلا غرو أن يشع من هذه المخيمات النور، ولا غرابة أن تصل فيها أذهان الشباب، ولا عجب أن توجد نماذج حية تحمل الخير بين ظهرانيها وتنشره على الباطل فتدمغه.

إن فكرة مخيمات الشباب المسلم تقوم على زرع الرجولة في الرجال؛ فهي بهذا معسكرات تربوية وتثقيفية وتعليمية في آن واحد، فالعبرة في النظر إلى برامج المخيم شاملة، وليس في جلوس الشباب أمام عالم يحاضر أو ندوة تطرح فيها قضية للنقاش، بل إن هذا المخيم يبدأ مع أذان الفجر؛ حيث يؤدي الشباب صلاة الفجر جماعة - رغم ما يعلو بعض الوجوه من عيون غشاها النوم - ثم تبدأ البرامج المختلفة من تمارين رياضية ومسابقات ثقافية وأنشطة بين الأسر، ويتخلل ذلك المحاضرات والندوات، ولا تخلو من جانب التسلية والترفيه، ومخيمات تدار بهذا الأسلوب لا بد لها أن تخرج الرجال العمالقة الذين يحملون الأمة على أكتافهم.

في بعض مجتمعات المسلمين تنظم مثل هذه المخيمات للفتية الذين يمرون بمرحلة خطرة في حياتهم، فتعمل هذه المخيمات على توجيه الرغبات، وكبح جماح الاندفاع، والحد من الغلو في الدين، أو التفريط فيه، أو الإفراط فيه، وهذه المخيمات التي تكتنف مثل هذه الفئة من عباد الله لها أسلوب خاص في إدارتها، يقوم على المعاملة الكريمة لشباب يمرون بمثل هذه الفترة من حياتهم، وهذه الفئة من الشباب تواجه عادة عدم فهم لما يقومون به في مثل هذه المخيمات، سوء الفهم هذا نابع من الوالدين الذين لم يعتادوا على مثل هذه الأساليب في حياتهم الغابرة، ولا يجيزون أن يخرج الفتى وهو بهذه السن لينفق الأيام والليالي بعيدًا عنهم، في وقت يعتقدون فيه أنهم خير من يفهم ظروف ابنهم ورغباته وميوله وأحاسيسه، بل وأفكاره، يضاف إلى ذلك نزعة الأبوة والأمومة الكامنتين فيهم ورغبتهم في أن يزووا أبناءهم بينهم، هذه تؤدي بهم إلى أن يقفوا مواقف غير مريحة تجاه انخراط أبنائهم في مثل هذه الأنشطة، خاصة إذا كانت تتخلل أيام الدراسة المنهجية التي تتأثر بذهاب الأبناء في مخيمات بعيدة عن المدرسة، ولا يلام الآباء الذين لم يعتادوا على مثل هذا، وهم بحاجة إلى التوعية والتذكير بأهمية مثل هذه المخيمات وتأثيرها المباشر والبعيد، وكثيرًا ما يقتنع الآباء وتقتنع الأمهات حينما يضعهم الشاب أمام الأمر الواقع، ويبرز لهم البديل الذي يمكن أن ينهجه كل شاب لم يوفق في ارتياد المخيمات والمساهمة فيها والانضمام إليها.

مخيمات النور هذه تملأ الأرض شرقًا وغربًا، هي - ولله الحمد - لا تقتصر على بلاد المسلمين فحسب، بل تعدتها إلى بلاد فيها أقليات مسلمة؛ فالمخيمات التي تعقد في البرازيل تعقد مثلها مخيمات في هونج كونج واليابان، بل وفي الصين، وتجلب لها مجموعات العلماء والمفكرين المسلمين من كل مكان، وهي ظاهرة صحية أثبتت جدواها بدليل الإصرار على القيام بها، وبدليل ازدياد أعدادها وأعداد من ينضمون إليها.

وكثيرون ممن يرتادون المخيمات اليوم كانوا قبل ذلك ممن لا يتوقعون أن يمروا عليها مرورًا؛ وذلك لأنهم لم يعلموا ما يدور بها، وعندما شاركوا فيها بتأثير صديق أو زميل مرة واحدة ورأوا المجموعات من الشباب منتظمة يحترم بعضهم بعضًا، ويتفانَوْن في خدمة بعضهم بعضًا - عندما رأوا ذلك رأي العين، وعندما صفت الآلاف من الشباب في بلاد خيم عليها الظلام صفًّا جميعًا خلف إمام واحد يصلون الفجر، اقتنع هؤلاء بهذه الفكرة، وأضحوا من دعاتها والحاثين عليها والجالبين إليها أصدقاءهم وزملاءهم الآخرين، خاصة أن هذه المخيمات ربما أقيمت في فترات العطلات الرسمية التي يحتفل فيها أهل البلد من غير المسلمين بمناسبة من المناسبات الدينية التي تقرع لها الأجراس ويدار فيها البخور نهارًا وتقام فيها المآتم ليلًا، في مثل هذا الجو تقام مخيمات النور فتستيقظ قلوب وقلوب، وتتأمل أذهان وأذهان، وتتفكر عقول وعقول بحكمة الله في خلقه، وعندها يدرك الكثيرون أن هذه المخيمات إنما أقيمت وتقام لتساهم في إنقاذ جيل الأمة المسلمة من ضياع وانحراف وتدهور يهدد شباب العالم، وتخطط له أياد خفية تعمل ليل نهار في نشر الرذيلة في مجتمعات العالم بما فيها مجتمعات المسلمين، وقد صرح أحد رجالات هذه الأيادي الخفية أن إسرائيل لن تقوم لها قائمة ما دامت فلول شباب المسلمين تتزاحم في المساجد حول خطيب الجمعة في مدينة زادت فيها المآذن على الألف، وضاقت المساجد فيها بمرتاديها من الرجال والشباب.