رجوع الكبار وتوقفهم

رجوع الكبار وتوقفهم

بسم الله وله الحمد، وبعد:

ليس من العيب أن يخطئ صاحب علم في مسألة ما، لكن العيب كله ألا يرجع إلى الصواب عند بيانه، أو عدم الاكتراث بتصحيحات إخوانه من أهل العلم والصلاح، أو أنه يجرؤ على القول فيما توقف فيه من هم أكبر منه علماً وسناً.

وهذا على عكس ما عليه الكبار سلفاً وخلفاً.

وسوف أضع في هذا المقال أمثلة من رجوع الكبار عن أقوال كانوا يعتقدونها ويعملون بها، أو توقفهم عن القول عند عدم تبين الحق:

أولاً: رجوع سيد الناس وأفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه في أكثر من مسألة إلى رأي غيره، ومن ذلك:

• رجوعه إلى رأي الحباب بن المنذر في غزوة بدر الكبرى عندما قال له:" فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم..."، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم وفداه نفسي وأبي وأمي.

• رجوعه إلى رأي زوجته أم سلمة في صلح الحديبية بأن يبدأ هو بحلق شعر رأسه، ففعل صلى الله عليه وسلم، فكان الخير في رأي الزوجة.

ثانياً: طاف ابن عباس مع معاوية بالبيت، فجعل معاوية يستلم جميع أركان الكعبة، فبين له ابن عباس أن النبي صلى الله عليه لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقط، فرجع معاوية إلى كلامه وعمل به. أخرجه أحمد في مسنده 1/ 217.

ثالثاً: أنصح بقراءة رسالة دكتوراه بعنوان: " المسائل الفقهية التي حكي فيها رجوع الصحابة رضي الله عنهم" للدكتور/ خالد بن أحمد بابطين؛ لكي يعرف ورع القوم.

رابعاً: قال أبو المعالي عند مرضه:" اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة...". ذكره الذهبي في السير 18/ 474.

خامساً: رجوع الأئمة الأربعة عن بعض الأقوال التي كانوا يقولون بها.

سادساً: رجوع علمائنا المعاصرين عن بعض أقوالهم، كرجوع ابن باز، وابن عثيمين، والألباني، وغيرهم.

سابعاً: في يوم السبت ١٤٣٨/٩/١٥ وفي درس بعد الفجر في المسجد النبوي، رجع معالي شيخنا محمد بن محمد المختار الشنقيطي عن مسألتين كان يقول بهما من قرابة 30 سنة:

• حيث رجع عن قوله بأن مضاعفة الصلاة بمائة ألف في جميع مكة إلى أن المضاعفة خاصة بالمسجد الحرام فقط دون غيره.

• ورجع عن قوله بعدم رفع اليدين في التكبيرات على الجنازة إلى القول بمشروعية رفع اليدين.

أيها الفضلاء: ما ذكرته هو مختصر للتذكير، وليس للحصر، فرجوع الكبار سلفاً وخلفاً أكثر من أن يحصر.

والسبب في رجوعهم عن بعض أقوالهم يعود إلى أمور منها:

1- شدة الخوف من الله عند تبين الحق، حيث لا يسعهم إلا الرجوع إليه.

2- كثرة مراجعتهم للأقوال والأدلة، والاستفادة من كلام المخالف وأدلته.

3- عدم تزكيتهم لأنفسهم، وتواضعهم بأخذ الفائدة، ولو كانت من المخالف لهم.

4- الإخلاص لله، والتجرد عن حظوظ النفس، كالخوف من زوال مكانة عند سلطان، أو وجاهة في مجتمع، او نقصان مكانة عند محب.

5- عدم التمسك المفرط بالرأي إلى درجة معاداة المخالفين، مع إنزالهم الناس منازلهم العلمية والشرعية والعقلية.

6- التربي على أيدي العلماء، وطول الصحبة لهم، والسير على طريقهم، والشرب من معينهم.

7- عدم الاستعجال في الظهور، مع رجوعهم إلى كبارهم، ومذاكرتهم لأقرانهم، والنظر إلى عواقب الكلمة، ومراعاتهم لأعراف الناس، وبغضهم للخوض في غرائب الأمور.

هذا فيما يتعلق بالرجوع بعد القول أو الفعل.

• وأما فيما يتعلق بالتوقف عن القول عند عدم بيان الحكم بالدليل، فهذا شيء عجيب، ولعلي أكتفي بخمسة أمثلة:

الأول: توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة على كثير من الأسئلة حتى ينزل عليه الوحي ببيان الحكم، ومن ذلك توقفه عن إجابة سؤال المحرم المتطيب اللابس للجبة الذي سأله في الجعرانة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى أوحي إليه، فقال أين السائل عن العمرة؟ ثم أجابه. والحديث في الصحيحين.

الثاني: توقف ابن مسعود رضي الله عنه في إجابة السائل عن امرأة توفي زوجها ولما يدخل بها، ولم يفرض لها صداقا، فما لها وما عليها؟ حيث توقف شهرا كاملا ينظر في المسألة، ثم أجابه.

الثالث: توقف الإمام مالك عن إجابة ثلاثين مسألة في مجلس واحد، عندما سأله رجل عن أربعين مسألة، فما أجابه إلا على عشر منها.

الرابع: توقف الإمام أحمد في ثمانين مسألة لم ينقل عنه فيها غير التوقف، وهناك رسالة ماجستير بهذا العنوان.

والإمام أحمد يحفظ مليون حديث.

الخامس: توقف الإمام ابن باز، والعلامة ابن عثيمين، والمحدث الألباني في مسائل عدة، ومنها:

• أن ابن باز سئل: هل يتيمم عند النوم حتى ينام طاهراً، فقال ما أعرف، إلا إذا كان عاجزاً.

وقد جمع بعض طلابه المسائل التي توقف فيها رحمه الله.

• أن الألباني سئل: لماذا تزوج النبي صلى الله عليه مارية القبطية، ولماذا لم يعتقها، فقال: لا أدري.

وقد جمع بعض طلابه المسائل التي توقف فيها رحمه الله.

• وأما ابن عثيمين رحمه فقد جمع بعض طلابه المسائل التي توقف فيها وأوصلها الى قرابة ستين مسألة.

قلت: وبعد هذا العرض المختصر، فأي سماء تظلنا، وأي أرض تقلنا إن قال الواحد منا في دين الله ما لا علم له به.

قال الله: "وما شهدنا إلا بما علمنا".

وإني أخوف نفسي وإخواني بالله العظيم من الجرأة على الفتيا، أو التهور في استنباطات بدعوى الفهم، أو عدم الانتباه والتفطن للآثار المترتبة على مخالفة ما عليه عرف الناس، أو الاستعجال في مناقشة مسائل أحجم عنها الكبار مهما كانت مبررات المستعجل.

• من كلام الكبار:

1- قال ابن عباس رضي الله عنهما:" إذا ترك العالم " لا أدري" أصيبت مقاتله".

2- قال ابن عمر رضي الله عنهما:" العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري".

3- قال الشعبي رحمه الله:" لا أدري نصف العلم".

أيها الفضلاء: لا يخلو زمن من فتن، وعند وجود الفتن نحن مطالبون بالرجوع إلى أهل العلم الكبار الذين لهم تاريخ علمي، وينبغي على الناس أن لا يلتفتوا عند مفترق الطرق، وتمييز الأمور المتشابهة إلا إلى كلام أهل العلم الراسخين فيه.

وإني - والحمد لله - رأيت حرصاً من أغلب المجتمع على الأخذ بالأدلة، والوقوف على كلام الأئمة، وهذا دليل وعي عند غالبية المجتمع باختلاف شرائحه.

اللهم إني اسألك الهداية لي ولكل مسلم.

ملحوظة: لا مانع من نشر هذا المقال ممن يرى فيه فائدة، وإني أعتذر عن النقص والتقصير، فإني أكتب على الجهاز مباشرة، وأعترف باستفادتي الكبيرة من إخواني المشايخ وطلاب العلم.