• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات   بحوث ودراسات   كتب   برنامج نور على الدرب   قالوا عن الشيخ زيد الفياض   مواد مترجمة   عروض الكتب  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    إقليم سدير في التاريخ (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    نظرات في الشريعة (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    قاهر الصليبيين: صلاح الدين الأيوبي (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    القاضي إياس بن معاوية (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    نصائح العلماء للسلاطين والأمراء (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    في سبيل الإسلام (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    حقيقة الدروز (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    فصول في الدين والأدب والاجتماع (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    مؤتفكات متصوف (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    قضية فلسطين (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    من كل صوب (PDF)
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
  •  
    عرض كتاب " العلم والعلماء " للعلامة زيد الفياض
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    عرض كتاب: دفاع عن معاوية للدكتور زيد عبدالعزيز ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    آثار العلامة الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض رحمه ...
    دار الألوكة للنشر
  •  
    واجب المسلمين في نشر الإسلام.. الطبعة الثالثة ...
    الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري / تفسير القرآن العظيم
علامة باركود

تفسير سورة الفاتحة (23)

الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 4/5/2011 ميلادي - 30/5/1432 هجري

الزيارات: 17977

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير سورة الفاتحة (23)

 

وحدة المؤمنين في السير إلى الهدف:

وهنا مباحث مفيدة نختم بها بلالتنا من تفسير هذه السورة المباركة:

أولها: سر تقدم الضمير على الفعلين في قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ فقد ذكروا له وجوهاً سبق ذكرها، وهي الدلالة على الحصر والاختصاص، فمعناها: لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك، هو حقيقي، والمقصود منه البراءة في الشرك والتعريض بالمشركين، وتقديم ما هو مقدم في الوجود، فإنه سبحانه وتعالى مقدم على العابد والعبادة ذاتاً، فلذلك جرى تقديمه في وضع الخطاب؛ ليوافق الوضع حقيقة الحال. وفيه - أيضا ً- تنبيه للعابد - بادئ ذي بدء - على أن المعبود هو الله الحق - سبحانه - ، فلا يتكاسل في تعظيمه وإسلام الوجه إليه، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، والاهتمام بذكره حال العبادة، فإن ذكره - تعالى - مطردة للشيطان وفيه التصريح من أول وهلة بأن العبادة له - سبحانه - فهو أبلغ في التوحيد، وأبعد عن احتمال الشرك، فإنه لو أخر الضمير على الفعلين احتمل أن تكون العبادة لغيره، وفي ذلك التقديم أيضاً إشارة إلى حال العارف، وأنه ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً بالذات، ثم إلى العبادة؛ لكونها موصلةً له ومطية إليه، فيبقى مشغوفاً بمشاهدة أنوار جلاله.

 

ثانيها: سر قول (نعبد) دون (أعبد) وذلك لعدة أسباب:

أحدهما: الإشعار بوحدة عباد الله المؤمنين وأن الفرد منهم مطالب بذكر صيغة الجمع إعلاماً بالرابطة الدينية، فقد أكثر القرآن الكريم إطلاق النفس بصيغة الجمع تنبيهاً منه على أن رابطة الإسلام تجعل المسلم أخَ المسلم، كنفسه وذلك في مثل قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ [البقرة: 84] ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29]، ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11] إلى غير ذلك مما مر توضيحه في الوجه الخامس عشر بعد المائة من تفسيري المختصر هذا، والوجه الستين بعد المائة من تفسيري الطويل.

ثانيهما: احتقار العبد نفسه أن يتخذ بمخاطبة الحق – سبحانه – وهو لا بد له من التقصير في العبودية؛ فلذا خلط عبادته بعبادة غيره من المسلمين العابدين؛ لاتحادهم معه في هدف السير إلى رب العالمين، فما أجمل تعليم الله له بذلك!!

ثالثها: تقديم العبادة على الاستعانة؛ لأن العبادة مما يتقرب بها إلى الله، والاستعانة ليست كذلك.

رابعها: أن العبادة وسيلة فتقدم على الحاجة؛ ليكون هذا أقرب للإجابة.

خامسها: أن العبادة مطلوب الله من العباد، والاستعانة به مطلوب منه، فتقديمهم لمطلوب مولاهم منهم أدل على صدق عبوديتهم من تقديمهم مطلوبهم على مطلوب مولاهم.

سادسها: أن العبادة واجبة حتماً لا مناص منه، حتى جعلت كالعلة أو كالسبب لخلق الجن والإنس فكانت أحق بالتقديم.

سابعها: أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والاستعانة أقوى التئاماً بطلب الهداية.

ثامنها: أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك، فالتخصيص بالاستعانة لا يصح إلا بعد الرسوخ.

تاسعها: أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رءوس الآي وتحسين نظمها.

عاشرها: أن أحدهما إذا كان مرتبطاً بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير.

حادي عشرها: أن مقام السالكين ينتهي عند قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ وبعده يطلبون من الله تمكينهم من تحقيقه، فإن العبد إذا أثنى على ربه وتعلق بذكره زكت نفسه وصفا قلبه، فإذا استنار بأنوار العبادة وتلذذ بطاعة رب العالمين، خشي من الانقطاع عنه، فسأله الإعانة كي يستقيم قلبه، فهذه درجات العارفين أجملها الله في سورة الفاتحة، والله ولي التوفيق.

 

تتمة على بعض فضائل سورة الفاتحة:

ومما صح في فضلها من الآثار ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد ابن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي فقال: ((ألم يقل الله: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ﴾))، ثم قال لي: ((لأعلمنك سورة هي أفضل السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد)) ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت: يا رسول الله، ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أفضل سورة في القرآن؟ قال: ((الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني الذي أوتيته))[1]. وروى الإمام أحمد والترمذي بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة نحوه، غير أن القصة مع أُبي بن كعب وفي آخره: ((والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها،إنها السبع المثاني))[2].

فيجمع بين الحدثين أنه صلى الله عليه وسلم علم أبا سعيد بن المعلى في وقت ما، ثم علم أُبي بن كعب في وقت آخر، فلا تعارض بينهما قطعاً.

وقد استدلوا بهذين الحديثين وأمثالهما على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض، وهو المحكي عن كثير من العلماء.

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنا في مسير لنا فنزلنا حياً، فقالت امرأة: إن سيد الحي سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راقٍ؟ فقام رجل منا ما كنا نأبه برقيه، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن الرقية؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، فقلنا: لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ونسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((وما يدريك أنها رقية؟! اقسموا واضربوا لي بسهم))[3] وهكذا رواه الإمام مسلم وأبو داود.

 

وروى مسلم والنسائي عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب في السماء فتح اليوم لم يفتح إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال، هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته))[4].

 

وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج غير تمام)) قيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ قال مجدني عبدي – وقال مرة -: فوض إليّ عبدي، وإذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل))[5].

ولنقتصر على ذلك وأي فضل أعظم منه؟! وبالله التوفيق.

 

قوة العزم والتصميم:

المسلمون الذين يكررون عهدهم مع الله سبحانه وتعالى بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ يجب أن تكون عندهم الغاية القصوى من غليان النفس وعمق الشعور الصادق، ما يجعلهم يفتحون أنفسهم، ويسبرون أغوارها ودخائلها قبل فتح الأرض، ويحكمون ذواتهم ويسيطرون على شهواتهم ويملكون إرادتهم قبل أن يحكموا الأمم ويسيطروا عليها، وهم مؤمنون غاية الإيمان ومقتنعون غاية الاقتناع برسالتهم السماوية التي اصطفاهم الله لحملها من بين الأمم، ومستيقنون بأن كل إصلاح أو تقدم لحياتهم ليس منبثقاً من عقيدتهم ومندفعاً من بضاعتهم السماوية، فإنه ليس تقدماً ولا إصلاحاً بالمعنى الصحيح، وإنما هو تعلل بشيء سطحي صغير بسيط، تنخدع به دهماؤهم كنجاح موهم يعجز عن توحيدهم ورفعهم إلى المستوى الذي ناله أجدادهم السلف، الذين غلبت الروح على مجتمعاتهم دون المادة، وغلب الجوهر على المظهر، والذي كانت به حياتهم صدى للصوت السماوي الذي سمعوه بواسطة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ذلك الوحي المبارك الذي هو روح يقوي أخلاقهم كلما لانت، ويحفز نفوسهم كلما طفت على السطح؛ لأن الله العليم الحكيم جعل في رسالته للأمة المحمدية تكامل شخصيتها ونضجها وإشعاعها حتى تصل إلى درجة التأثير والتوجيه وإثارة الإعجاب، فتكون جديرة باستلام القيادة العالمية؛ لأن تلك الرسالة أخرجتها من نطاق المادة والأنانية، وارتفعت بها إلى مستواها اللائق بها بين الأمم من كونها مرشدة وقائدة للإنسانية.

 

إن رسالتهم ليست نظرية ولا أماني، وإنما هي فعلية يجب أن ينطبع بها كل فرد وينفعل بها، وتتحقق صورتها وحقيقتها فيه كما تتحقق البطولة في الأبطال – في كل من يتمنى البطولة – وعلى هذا فمن واجب الأمة الإسلامية التي تكرر العهد مع ربها بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ألا تتنازل عن مرتبتها ومكانتها الأصلية التي اصطفاها الله لها، بل تصر كل الإصرار على أنها هي هي مهما اجتاحتها الظروف، وعضتها النوائب نتيجة تقصيرها في جنب الله، إنها إذا انحرفت عن الرسالة المحمدية، وتلاشت عزيمتها عن تحقيق خيريتها بين الأمم فإنما ذاك لمرض في قلوبها يجب عليها علاجه، أو يزيدها الله مرضاً ويسلط عليها أخس أعدائها.

 

ففكرة الرسالة والإيمان الصادق بها تقودان الأمة حتماً إلى تكوين نظرة عميقة للماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل، بخلاف المذاهب الأرضية المعاصرة، فإنها تتنكر للماضي وتشوه تاريخه بالزور والبهتان، كما أنها نظريات تحصر كل شعب بمكانه وتجعله يتغنى بكيانه دون غيره من الأمة أو شعوبها الآخرين، فتفكيراته ضيقة في حدود مصطنعة من أساليب الكفرة الغزاة الفجرة، ويحصر جلب النفع عليها دون مبالاة بغيرها.

وهذه أشنع عودة إلى الجاهليات الأولى، أما رسالتها السماوية الخالدة فقد حققت لهم وحدة إسلامية أكبر مما ينشدونه من وحدة عربية مئات المرات، حيث انصهرت فيها جميع العناصر والأمم والشعوب، وانطبعوا بطابع الإسلام عن حب ورغبة.

 

إن رسالة الله للمسلمين تجعلهم مرتبطين بالسماء، حاملين بضاعة السماء، ليملكوا الأرض ويورثها الله إياهم، وكلما تنكبوا عن بضاعة السماء وتعلقوا بالبضائع الأرضية الملتقطة من المزابل اليهودية خسروا من الأرض بقدر ما أضاعوه من بضاعة السماء؛ ولا يعود لهم ما خسروه إلا بعودتهم لحمل بضاعة السماء وتشوقهم إلى رب السماء لينالوا وعده في الدنيا والآخرة ﴿ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ [الحج: 47] إنهم كلما اقتصروا على طلب الأرض خسروها وخسروا السماء.

 

فعلى المجتمع الإسلامي أن يجاهد نفسه ويغالبها ويراغم شهوتها وشياطينها، ليحقق شخصيته التي يوجب الله عليه أن تكون أهلاً للجهاد الخارجي والزحف المقدس، وأن يدفع الثمن الذي طلب الله منه في آية شرائه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، ذلك الثمن الغالي الذي يتحقق ببذله ما هو أغلى منه وأعلى في الدنيا والآخرة.

إن المجتمع الإسلامي يعيش في مستوى هابط من الروح قد سبب فتوراً وخمولاً يجب أن يعالج بإطلاقة إيمانية روحية عميقة، تحدث حرارة لا هبة تطهر النفوس وتفتح المواهب، وتفجر الطاقات والبطولات، حرارة جمرة الإيمان الصحيحة المشتعلة من حب الله وتعظيمه، والغيرة لدينه، والغضب لحرماته.

 

فيجب على كل مسلم مؤمن أن يغوص في أعماق نفسه، ويحاسبها على ما فرطت في جنب الله، فيستأنف حياته من جديد بالعودة الصحيحة إلى الله شامخاً برأسه إلى بضاعة السماء، رافضاً كل بضاعة أرضية ومترفعاً عنها، إذ أن المسلمين ما داموا غافلين عن الله فهم ناسون أنفسهم أو جاهلون بها كلياً؛ لأن من عرف نفسه معرفة حقيقية؛ عرف قيمتها العظيمة التي لا تعدلها الدنيا جميعها ثمناً، فلم يسترخصها باللهو واللعب، ولم يبعها بثمن من لذائذ الدنيا وزينتها، بحيث يكون تابعاً لدجال أو طاغوت، أو عبداً لأي مخلوق مثله.

وليس شيء يُعرِّف الإنسان بنفسه سوى صدق الإيمان الذي يلهب الروح، ويفتح الفكر، ويقوي المشاعر، ويهز الخلق ويقومه، ويحصل من جرائه معرفة الحق والإخلاص له، والصدق في تحقيقه بالعمل الدائب والتضحية الصحيحة، التي بسببها يكون لوجود صاحبه معنى صحيح حق في الحياة، فإن كل تساهل وانحراف في حمل الرسالة وتطبيق الشريعة يهدد الأمة بالتجزئة والتناثر، ويعطي أعداء الله سلاحاً عليهم.

 

ذلك أن رسالة الدين رحمة من الله ترفع الظلم والفساد عن أهل الأرض، وتحررهم من كل استعباد يريده لهم الدجاجلة والطواغيت، فعندما فسد علماء اليهود والنصارى، وأحدثوا في دين الله ما أحدثوه؛ صارت مجتمعاتهم في حالة سيئة من الظلم والفساد؛ لأنهم يضفون أثواب القداسة على الظلمة والانتهازيين، وكل من فسد من علماء المسلمين ففيه شبه من أولئك إلا أنه ممقوت مفضوح.

 

ولهذا كان من مميزات المسلمين فضيحة الفاسد، وإباحة غيبته، ووجوب عزله عن كل المنصب، بخلاف أولئك، فالإسلام يحرم السلبية من كل ناحية، ويأمر بمزجها بالإيجاب في كل ناحية من نواحي الحياة؛ لأن ذلك هو سنة الله الكونية، وفساد العلماء والعباد في الدين اليهودي والنصراني المفترى على الله هو سبب ثورة أهل (أوروبا) على الدين المكذوب المفترى على الله، لما فيه من تعطيل العقل وحرمان العلم والنور، ومقاومة الإبداع والاختراع، وتشجيع الظلم والاستعباد.

 

فعلى المسلمين أن يصدقوا في عهدهم الذي يكررونه مع الله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ بتطبيق حكم الله فيما أنزل، بأن يطبقوه على أنفسهم أولاً، ثم على سائر مجتمعاتهم، طالبين رضا الله في ذلك؛ لتحفهم حصانة الله إذا زحفوا به على غيرهم كما أوجب الله ذلك عليهم، وتوعدهم بأشد العقوبات الدنيوية والأخروية إن هم تخلفوا عن هذا الواجب المقدس.

 

ولا يشك عاقل صريح في أن معيار الإنسان في صدقه وإخلاصه هو عمله وليست أقواله أو كتاباته المعيار لذلك، بل يستطيع أن يزعم بلسانه أو بكتابته أنه مؤمن مخلص، وأن الإيمان بالقلب، أو أن الإيمان هو الحب، ولكن أفعاله وجهاده هي المعبرة الصادقة عما في ضميره من صدق وإخلاص أو دجل ورياء، فمن فضل مراد الله على مراد نفسه وفدى الرسالة المحمدية بروحه وماله فقد برهنت أعماله على ما في ضميره من صدق مع الله وإخلاص له ومحبة صحيحة لله ولرسوله، ومن عكس الأمر فقد كشفت لنا أعماله عما في قلبه من دجل ونفاق، وأنه ليس من الموقنين بعهد الله، عياذاً بالله من ذلك.

 

خلاصة عامة:

تحقيق عبودية الله وحصر الارتباط والتعلق به دونما سواه، يحصل به راحة البشرية وأمنها، وسلامتها من القلق والاضطراب الموجب للثورات التي صار منها في كثير من البلدان حمامات للدم، وفتك وبطش وإهدار للكرامة بشتى التهم الكاذبة، والأغراض الانتهازية، حتى من إخوانهم وأبنائهم!! بسبب عدم التربية الدينية التي ينطبعون فيها بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾.

 

فإن حاجة الإنسانية إلى ذلك أشد من الطعام والشراب والدواء الحسي؛ لأنها هي الغذاء المعنوي والدواء الروحي، والواقي من جميع الشرور والمآسي، وهي التي تربي الروح وتنميها أعظم من تنمية الجسم والعقل بالطعام الحسي، والعلم المادي، فلا تتهذب الطباع وتنصقل الأرواح وتكتمل إلا بما اختاره الله لها من معرفته، والأُنس بحبه، ولذة طاعته وذكره، ورجاء ما عنده سبحانه وتعالى، فتسلم من جميع الشرور والأزمات.

 

الصادق مع الله بتحقيق ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ لا يضره كيد الكائدين، ولا مكر الماكرين، ولا يقدر أن يفرط عليه أي جبار عنيد أو يطغى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحيطه بمهابة تلجم أفواه الطغاة وتزلزل قلوبهم، فلا يقدرون أبداً على تنفيذ ما يتوعدون به، أو يهمون به، من نيل عباد الله بأي سوء، مهما أوتوا من البطش والعظمة والقوة، ينسيهم الله استعمالها، ويفتت معنويتهم، ويفقدهم قوة التنفيذ، بل يخسرهم على الأمر به ويحبط مكرهم، مهما بلغوا من الكيد والتفكير.

 

ولذا قص الله على عباده في كتابه الكريم - بعدما وجههم لحسن السير إليه بهذه الأمة في عدة سور منه - قصص عدد من المؤمنين، الذين انهارت قوة الطغاة أمامهم، وهم أفراد ضعفاء إلا من الإيمان، كالنبي هود عليه السلام أمام قومه (عاد) الذين قالوا: ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15] فتحداهم وهو فرد، مع زعمهم أن أصنامهم التي يعبدونها قد أصابته بسوء، وقال: ﴿ أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾ [هود: 55،54] لا تمهلوني ولا لحظة واحدة، هاتوا ما عندكم من الكيد والعقوبة بكل سرعة، فإني لا أبالي بكم جميعاً أنتم وآلهتكم.

 

فانظر أيها القارئ والسامع إلى ما وهبه الله عباده الصادقين الصالحين من القوة المعنوية، وما أحاطهم به من الحصانة الخفية، التي لا يغلبها غالب، كيف وقف هذا العبد الفرد بين الأمة العظيمة القوية هذا الموقف الذي أشهد به الله أولاً على براءته من دينهم، ومما هم عليه، وجاهرهم بمخالفته لهم وبالبراءة من آلهتهم التي يعادون عليها، ويوالون ويتفانون في نصرتها، ثم أعلن استهانته بهم واحتقاره لهم وازدراءه، وتحداهم أن يجتمعوا كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه بكل عجلة دون إمهال، وهو ثابت وحده بلا جزع ولا فزع من قوة ثقته بالله، وجزمه بنصره.

 

فموقفه يتضمن إعلانه بقوته عليهم، وأنهم أعجز وأضعف من أن ينالوا منه شيئاً،ثم يقرر دعوته أوضح تقرير وأحسنه مبيناً لهم أن الله ربه وربهم، وأنه متوكل عليه فقط، لا على غيره، وأن نواصيهم ونواصي جميع الخلائق بيده، فيقول: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56] فالذي هو آخذ بنواصي العباد قادر على نصر أوليائه، وأهل طاعته، مهما ضعفوا ضعفاً حسياً يجبرهم بقوة معنوية، وحصانة سماوية، ويشل حركة أعدائه، ويكفهم عن عباده الصادقين، ويجعلهم لا ينتفعون بقوتهم مهما كثرت وعظمت.

وكونه على صراط مستقيم يقتضي انتقامه ممن خرج عنه، وعمل بخلافه، ونصرة من سلك نهجه، ولو كان فرداً واحداً على أكبر عدد وأقواه، وقد ينتقم ممن يزعم الإسلام وهو مخالف له بمن هو كافر، ليطهر دينه من المنافقين، ويمحص بذلك قلوب المؤمنين، وينشئ لدينه من ينصره، فيديل دولة الكفر به حسب حكمته في كونه، وقد أجراه كثيراً في عدة عصور، والله غالب على أمره.

 

وقد نصر الله إبراهيم أعظم نصر لم يعرف له التاريخ مثيلاً، وكرر الله علينا قصة موسى مع فرعون، لما فيها من عظيم العبرة، فموسى الذي خرج من فرعون هارباً يترقب، يرجع إليه رسولاً نذيرا يخاطبه بقوله: ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102] يدخل عليه مع هارون بسلطان من الله الذي قال له: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46] ﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ [القصص: 35] فيصمدان أمام طغيانه، ويبارزانه بالقوة المعنوية من رب العالمين، وكذلك مؤمن آل فرعون الذي خاطبه بدون مبالاة.

 

وقد أرانا الله من نصرة المؤمنين بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم في زمنه وبعد زمنه ما هو عبرة للناظرين، وتأييده سبحانه لأهل بدر ومن على شاكلتهم من هذا النوع، وخذلانه لمن خرج عن طاعته أو فضل الدنيا على الآخرة تأديباً.

فالله سبحانه وتعالى أرشد بني الإنسان إلى ما يحييهم حياة طيبة سعيدة من تحقيق عبادته، ويقيهم بها من شرور شياطين الجن والإنس، حفظاً ونصراً، وإلى الصدق في حصر الاستعانة به، والتوكل عليه، مع الأخذ بالأسباب التي هي من كمال التوكل والعبادة؛ لأن ذلك هو طريق تسديده وتأييده ونصره، الذي لا يقدر أحد على مجابهته.

 

فأهل ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ أهل القوة والمنعة والعزة والزحف الذي لا يوقف في وجهه، وهم أهل التكبير الصادق المرجف لقلوب الأعداء، والمزلزل لحصونهم، وهم الذين يتحدون غيرهم ولا يقدر غيرهم على تحديهم مهما قلوا.

ولم تستعمل الدول المادية في هذه الأزمنة إلا على الذين يتولون بعضهم ويعتمدون عليها، هذا يعتمد على الدولة الفلانية، وهذا على الدولة الأخرى، وفريق يعتمد على القبر الفلاني، وفريق على مجاورة فلان، أو على سكنى البلد المقدس عنده، أو على جوار حرم الله، وهو متلبس بمعاصيه غير محقق لعبوديته على الوجه المطلوب، بل هو مشابه للذين قالوا: ﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [المائدة: 18].

 

أما في وقت يقيض الله به قوماً يحبهم ويحبونه بالمعنى الصحيح، ويعبدونه بالمعنى الصحيح، ويجاهدون في سبيله لا يخافون لومة لائم، ويأخذون بالأسباب غير متعلقين بها، ولا معتمدين عليها، بل هم معتمدون على الله متعلقون به، جازمون أن الله مولاهم، قاصرون ولايتهم عليه، فهو نعم المولى ونعم النصير، لا يستنصرون بغيره أبداً، فإنه يتحقق لهم ما قلناه، من التأييد والنصر والتمكين، كما وعدهم به الله ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122].

 

إن القرآن الكريم يشمخ برءوسنا في عالم السياسة إلى أسمى مدارج الكمال، وهو وحده الذي يرفع رءوس أهله ويهيب بهم، ألا يستعينوا بغيرهم في دفع أي عادية، أو ردع أي عدو، أو قمع أي ظالم، أو إخراج أي متعصب، بل يعتمدون على الله،ثم على أنفسهم بعد الأخذ بالأسباب، وإعداد القوة الموجبة عليهم في قتال كل باغٍ وظالم، مستعينين بالله وحده بنية خالصة، وألسنة صادقة لإعلاء كلمته، وبجوارح طاهرة من معصيته، وقلوب محشوة بمحبته وتعظيمه، سليمة من محبة ما يبغضه، وموالاة من يعاديه.

 

وبذلك ينالون مدده وحصانته ونصره على أعدائهم مهما كانوا، كما أجرى سنته بذلك، حيث قال في أوليائه: ﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 23،22].

 

بتحقيق عبودية الله وفق مدلول هذه الآية يتحقق كيان المسلمين بين الأمم، ويكون لهم هدف صحيح ناجح نصب أعينهم، يفرضونه على من سواهم، وتكون حركاتهم منوطة به، وإنفاقهم المال في سبيل نصرته، والزحف به لوجه الله، ولا ريب أن من ليس له هدف في الحياة يفقد كيانه بين الأمم، ويكون عولاً عليهم أو على بعضهم.

ولذا أرشد الله عباده المؤمنين إلى هذا الهدف السامي الذي يبرزون فيه بين الأمم، ويتفوقون عليهم، ويتميزون منهم بالطموح والشموخ عن كل خوف أو تقليد؛ لأن الله العليم الحكيم خط لهم الخطة الروحية بصراطه المستقيم بين سائر أهل الأرض من الماديين عباد الأشخاص، وعباد الشهوات، وعباد الهوى، والدرهم والدينار.

 

حياة المسلم بين جهادين:

تكرار الضراعة من المؤمن الصادق مع الله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فيه تصميم جازم على القيام بالجهاد النفسي، الذي يحصل بتحقيقه الصلاح والفلاح، لا للفرد فقط بل لسائر المجتمع الإسلامي، إذ بالتغلب على شهوات النفس ونزواتها وكبح جماحها، وإيقافها عند حدود الله في كل شيء، وتسييرها وتصييرها على طاعته وأقداره، والتزام عبادته في جميع نواحي الحياة، يسلم الفرد والمجتمع من شرور الأنانية وجماح الشهوات، وغوائل الحقد، وسورة الأطماع؛ فيصبح كل واحد منهم نقياً، محباً لأخيه المسلم، مثلما يحبه لنفسه، ويغار على عرض أخيه كما يغار على عرضه، فيعيشون عيشة الإيثار، لا عيشة الأثرة، فلا تجد الماسونية اليهودية فيهم مدخلاً باسم الشيوعية ولا غيرها.

 

وبهذه الحالة لا يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، بل يسترخصون الحياة في سبيل الشهادة، ويحبون الموت كما يحب غيرهم الحياة، ذلك أن الله جعل حياة المسلم دائماً في جهادين، وفي صراعين: جهاد وصراع داخلي باطني، وجهاد وصراع خارجي، جهاد نفسي وصراع داخلي، مع شهوات النفس وأنانيتها ووساوس شياطينها، وهمزات قرنائها من الجن والإنس وجهاد وصراع خارجي مع شياطين الإنس المتمردين على وحي الله، والمتطاولين على سلطانه في الأرض، وكل من نجح في الامتحان النفسي وانتصر في الجهاد الداخلي العظيم، فإنه ينتصر في الجهاد الخارجي على أعداء الله وأعدائه بإذن الله ومدده وتوفيقه، والعكس بالعكس.

 

أما من هزمته نفسه وصرعته أهواؤه وشهواته فإنه ينصرع في الجهاد الخارجي، وينهزم أمام أعدائه مهما كانت خستهم، كما انهزم العصريون في هذا الزمان أمام اليهود الذين لم يكتب لهم نصر ولا عز إلا على أمثال هؤلاء، وقد أخبرنا الله عما امتحن به قوماً غيرنا في سورة البقرة بنوع واحد من الجهاد النفسي، انصرع به أكثرهم وغلبته نفسه، فانهارت معنوياتهم، ونكصوا على أعقابهم حينما شاهدوا عدوهم من بعيد، ولم يقابله إلا القلة التي نجحت في الامتحان، وصبرت على أمر الله، ووقفت عند حدوده، فكانت هي الغالبة في الجهاد الخارجي.

 

ها هم قوم طالوت الذين سألوا نبيهم بكل إلحاح أن يبعث لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله، فلما بعث الله لهم طالوت وأيده بما يطمئنهم على قبول رئاسته – كما سيأتي توضيحه في محله إن شاء الله – ساروا إلى عدوهم بغرورهم وخيلائهم، وأمانيهم العريضة، كأن العدو لقمة سائغة يبتلعونها، ولكن الله جلت قدرته أراد امتحانهم بشيء من الجهاد النفسي؛ ليميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، فاسأل عليهم نهراً بارداً عذباً، وقال لهم: لا تشربوا!! ما هذا الامتحان؟ يا له من امتحان!! قوم سفر شعث غبر، طال بهم السفر على الجمال، وتحملوا المشقة والآلام يعترضهم مثل هذا النهر، فيمنعون من شربه، إنه اختبار واحد بنوع واحد من الجهاد النفسي فقط، فكيف لو اختبروا بكثير؟ إنه نوع واحد رسب أكثرهم فيه وسقط، قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ [البقرة: 249] ماذا كان حال القوم؟ أكثرهم خارت عزيمته وانهارت معنوياته، وصرعته شهوته وغلبته نفسه، قال الله سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 249] ثم ماذا كانت عاقبة هذه الأكثرية التي انهزمت في الجهاد النفسي؟ يخبرنا الله عنهم أنهم لما جاوزوا النهر سائرين إلى عدوهم واقتربوا منه: ﴿ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ [البقرة: 249].

هذه عاقبة الهزيمة الداخلية النفسية، انهزام قبيح وشرود فاضح في الجهاد الخارجي، وإلا فهم لم يخرجوا إلا طالبين جهاد عدوهم، ومتعطشين إليه، ولم يكن أمره خافياً عليهم، ولكن الهزيمة النفسية هذه بعض عواقبها السيئة، أما الفئة القليلة – وكثيراً ما يكتب الله الخير في القليل - الفئة القليلة التي صبرت على طاعة الله، وصبَّرت نفسها على قضائه، ووقفت عند حدوده، فلم تشرب سوى غرفة ماء واحدة، فإنها هي التي ثبتت للقتال قائلة: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ... ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 249-250].

 

فليتصور المسلم هذا الامتحان الذي هو يسير وعظيم، وليعتبر به من جهاد نفسي سقط فيه الكثرة الكثيرة، ونجحت فيه قلة فازت بالنصر والظفر على عدوهم المتفوق عليها كثيراً، كل هذا سببه تحقيق الجهاد النفسي الداخلي؛ ليعتبر المسلم فيمن عصى الله بشربة ماء، وغلبته نفسه فلم يصبر على ما حده الله له، كيف انهارت نفسه في الجهاد الخارجي، ولم يثبت للقاء عدوه لحظة واحدة.

 

فإذا كانت هذه حالة العاصي بأخف شيء، فكيف بمن عصى الله بشرب الخمور واقتراف كبائر الذنوب والفواحش؟ كيف بمن حاد الله ورسوله ونازع الله في ألوهيته وسلطانه برفضه تشريعاته وجعله لنفسه حق التشريع والتقنين؟ كيف بمن يزعم الإسلام وينطق بالشهادتين تلفظاً لا يجاوز حناجرهم، وهم لم يصدقوا الله في أن صراطه مستقيم فيسلكوه ولم يجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم قدوتهم فيتبعوه، بل جعلوا صراط الغربيين والبلاشفة هو المستقيم فاتبعوه وعضوا عليه بالنواجذ، وأرغموا شعوبهم على اتباعه؟

 

كيف بمن انصرف عن وحي الله وصرف الناس عنه بما يبثه عليهم من لهو الحديث المتنوع غناءً ماجناً، وصوراً خليعة، وأقاصيص وتماثيل فاجرة، ينفذ في كل هذا خطة الكفرة الفجرة الذين قالوا: ﴿ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ ﴾ [فصلت: 26] أي: أشغلوا الناس عنه؟ كيف يرجى ثبات أهل هذه الأصناف أمام أعدائهم من اليهود ونحوهم، فضلاً عن انتصارهم عليهم؟ حقَّا، إن هزائمهم أمام اليهود سببها انصراع نفوسهم بالشهوات، فهم صرعى الأطماع والأنانية، وحب الرئاسة، وهم صرعى اللَّهو والشبهات، وهم صرعى الأهواء المسعورة، التي جعلتهم – دائماً – في سكر معنوي أفظع من كل سكر حسي ومن كل صرع شيطاني، فالله أرشد عباده لما يحميهم من الصرع المعنوي الجالب للّهزيمة النفسية المسبب للهزيمة الخارجية، وتسلط الأعداء من شياطين الجن والإنس، أرشدهم إلى الصدق معه، والإخلاص له، والاستقامة على عبادته دونما سواه؛ ليحققوا حصرهم الضراعة إليه بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فيلتزموا عبادته وطاعته في جميع شئونهم السياسية، وذلك بحصر المحبة والولاء لوجهه الكريم، والبغض والمعاداة من أجله – سبحانه – فقط، فيحب ما أحبه الله من الأعمال والأشخاص مهما كانت جنسيته، ويوالي المسلمين ويساندهم ولا يجعل أحداً منهم عرضة للنوائب، ولا يسلمه أو يخذله أبداً، ويبغض ما يبغضه الله من الأعمال والأشخاص ولو كان أقرب قريب، ويعاديه، بل يعادي كل من أبغض المسلمين أو شمت فيهم، أو سخر منهم أو آذاهم، فكيف بمن حاربهم؟!

 

والتزام عبادة الله في الشئون الثقافية، وذلك بحصر التلقي من مشكاة النبوة الذي هو وحي الله، ليحصر مورده على ما أراده الله لشفاء صدره من مرضي الشبهات والشهوات، ولا يمزج بضاعة السماء بالبضائع الأرضية التي هي من غش اليهود، ويلتزم عبادة الله في الشئون الاقتصادية فيحصر اكتسابه للمال من الطرق المشروعة، مجتنباً ما حرمه الله من أكل الربا والسحت، ويحصر إنفاقه للمال على الحقوق المشروعة، مبتعداً عن البذخ والإسراف، وتبديد هذه الطاقة العظيمة فيما لا يدفع بالرسالة؛ ولا ينفع العقيدة، بل هو إسالة المال إلى الأعداء كما هو شأن العصريين المتشدقين بخلاف ما يعملون.

 

ويلتزم عبادة الله في الشئون الاجتماعية، فيراقب الله في جميعها بتحليل الحلال وتحريم الحرام، لا يحاول تحريم شيء مما أحله الله، أو إباحة شيء مما حرم الله فيكون مفترياً على الله، ولا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون فاقد الحب لله، أو عديم الغيرة لله، لا يغضب لدينه ولا يغار لحرماته، بل يكون وقافاً عند حدود الله، محاذراً جميع معاصيه، مجتنباً ومطهراً مجتمعه من جميع دواعي الزنا والمغريات عليه من السفور والتبرج وإظهار الزينة والمفاتن، والتصاوير والتمثيليات والأفلام والمسارح، والبلاجات التي يحصل منها ما يثير الغرائز ويقضي على الحياء والحشمة، ومجتنباً ومطهراً مجتمعه من جميع المسكرات والمفترات التي فيها جناية على العقل والروح المعنوية، وجميع ما فيه ذريعة إلى فساد الأخلاق كاختلاط الجنسين والرقص، ومسابقة الجمال ونحو ذلك، مما يحرص الكفرة أعداء الله على شيوعه في المجتمعات الإسلامية لإفسادها وانحلالها.

وبمراقبة المسلم لله في جميع شئون حياته السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية يكون قد قام بالجهاد النفسي الداخلي، فإن هو استقام وثابر وصبر وصابر مخلصاً نيته لله من كل شائبة؛ أعانه الله على تحقيقه؛ لأن الله يهدي إليه من أناب ﴿ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13].

 

فعلى المسلم أن يتدبر مدلول ضراعته إلى الله بـ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ التي أرشده الله إلى تكرارها عشرات المرات في صلوات الليل والنهار، ليخلص لله ويصدق معه في تحقيقها؛ لينجح في الجهاد النفسي نجاحاً يؤهله للجهاد الخارجي تأهيلاً يجعله لا ينهزم، ولا يقهر.

وإلا فما قيمة حياته إذا توالت عليه الهزائم من أعدائه، كما توالت على العرب المعاصرين هزائم من أخس أعدائهم، لاعتمادهم في شئون حياتهم السياسية والتربوية ونحوها على ما خططه أولئك الأعداء، وشرودهم عما خط الله لهم في وحيه المبارك نسأل الله أن يهدي الضال ويرجع بالشارد فإنه لا منجى ولا ملجأ إلا إليه ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف: 67].

 

انتهى تفسير سورة الفاتحة بحمد الله تعالى

 


[1] أخرجه البخاري في صحيحه (4474).

[2] أخرجه الترمذي رقم (3125), والنسائي (2/ 139) وأحمد (5/ 114) وعبد بن حميد (165) من طرق عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً به.

وأخرجه البيهقي في سننه (2/ 375) من طريق مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز مرسلاً.

وكذلك الحاكم فقد أخرجه في المستدرك (1/ 744) من طريق عبد الحميد به. ثم قال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقد اختلف على العلاء ابن عبد الرحمن فيه. اهـ. وذكر رواية مالك السابقة.

والعلاء بن عبد الرحمن قال فيه يحيى: ليس حديثه بحجة, مضطرب الحديث.

[3] أخرجه البخاري في صحيحه (5736)، ومسلم (2210) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[4] أخرجه مسلم في صحيحه (806)، والنسائي في سننه (2/ 138)، وأبو يعلى في مسنده (4/371) رقم (2488) وغيرهم من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.

[5] تقدم.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة الفاتحة (1)
  • تفسير سورة الفاتحة (2)
  • تفسير سورة الفاتحة (3)
  • تفسير سورة الفاتحة (4)
  • تفسير سورة الفاتحة (5)
  • تفسير سورة الفاتحة (6)
  • تفسير سورة الفاتحة (7)
  • تفسير سورة الفاتحة (8)
  • تفسير سورة الفاتحة (9)
  • تفسير سورة الفاتحة (10)
  • تفسير سورة الفاتحة (11)
  • تفسير سورة الفاتحة (12)
  • تفسير سورة الفاتحة (13)
  • تفسير سورة الفاتحة (14)
  • تفسير سورة الفاتحة (15)
  • تفسير سورة الفاتحة (16)
  • تفسير سورة الفاتحة (17)
  • تفسير سورة الفاتحة (18)
  • تفسير سورة الفاتحة (19)
  • تفسير سورة الفاتحة (20)
  • تفسير سورة الفاتحة (21)
  • تفسير سورة الفاتحة (22)
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات (1 : 16)
  • التبيان من تفسير كلام الرحمن - الفاتحة
  • تفسير سورة الفاتحة

مختارات من الشبكة

  • غرائب وعجائب التأليف في علوم القرآن (13)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (102 - 134) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (65 - 101) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (1 - 40) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (40 - 64) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مفسر وتفسير: ناصر الدين ابن المنير وتفسيره البحر الكبير في بحث التفسير (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • شرح كتاب المنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي (المحاضرة الثالثة: علاقة التفسير التحليلي بأنواع التفسير الأخرى)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • فوائد مختارة من تفسير ابن كثير (1) سورة الفاتحة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سور المفصَّل ( 10 ) تفسير الآيتين من سورة الفاتحة ﴿ مالك يوم الدين - إياك نعبد وإياك نستعين ﴾(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)

 


تعليقات الزوار
1- سلا
وداد - اامغرب 12-12-2011 08:18 PM

أشكركم على هذه المعلومات

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب