عدم الوفاء بالنذر بسبب المشقة

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فإنَّ مَن يَنْظُر في رسالتك - أيتها الابنة الكريمة - يُدرك شيئًا مِن حكمة الشريعة في النَّهْيِ عن النَّذْر والزَّجْر عنه؛ إذ إنَّ النذرَ إلزامٌ للنفس بما لا يلزمها، وقد يَطرأ العجزُ أو التكاسُل، وفي الصحيح عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النَّذْر، وقال: ((إنه لا يأتي بخيرٍ، وإنما يُستخرج به مِن البخيل))، وعن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تنذروا؛ فإنَّ النذرَ لا يُغني مِن القدَر شيئًا، وإنما يُستخرج به مِن البخيل))، وفي رواية عنه: ((إنَّ النذر لا يُقرِّب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قَدَّرَه له، ولكن النذر يُوافق القدَر، فيُخرج بذلك مِن البخيل ما لم يكن البخيلُ يُريد أن يُخْرِج))؛ رواهما مسلم.

فبَيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ النذرَ لا يَجلِب في العاجل نفعًا، ولا يصرِف ضرًّا، ولا يردُّ شيئًا قضاه الله، فلا يُدرَك بالنذر شيءٌ لم يُقَدِّرْه الله، ومِن ثَمَّ ذهَب كثيرٌ مِن أهل العلم إلى تحريم النَّذْر، وهو ما مال إليه شيخُ الإسلام ابن تيميَّة.

وهل يظن أحدٌ أن يستفيدَ بشيءٍ مِن النذر بعدما قال مَن لا ينطق عن الهوى: ((إنه لا يأتي بخير))، اللهم إلا المشقَّة على النفس، وإلزامها ما هي في عافية عنه، وكلُّ مَن تَصَدَّى للجواب عن أسئلة الناس تَيَقَّنَ مِن حكمة نَهْي رسول الله عن النذر؛ فكلُّ مَن علَّق نذرَه على حصول شيءٍ بعدما يحصل ما أراد، يُشرِّق ويُغرِّب؛ لعله يجد خلاصًا مِن نذره.

وإذ قد ظَهَر لك هذا أيتها الابنة الكريمة، فنصيحتي لك ألَّا تعودي للنذر ثانيةً؛ عملًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ألَمَّ بك شيءٌ، فعليكِ الدعاءَ، فهو يَرُدُّ القضاءَ بإذن الله، لكن النذر لا يَرُدُّ القضاء، ولا يأتي بالخير، والدعاء عبادةٌ عاجلةٌ، ويَظهر به توجُّه العبد إلى الله، والتضرُّع له والخضوع، بخلاف النذر؛ فإنَّ فيه تأخيرَ العبادة إلى حين الحصول، وترك العمل إلى حين الضرورة.

أمَّا الوفاء بالنذر فهو واجبٌ إذا تحقَّق ما علِّق عليه النذر؛ وقد أثنى اللهُ على عباده الذين يُوفُون بالنذر؛ فقال سبحانه: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان:7]، وقال: ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ [الحج:29]، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن نذر أن يُطيعَ الله فلْيُطعه))؛ رواه البخاريُّ.

والذي يظهر مِن حالك أنك عاجزة عن الوفاء بنَذْرِك، فيسقط عنك الوفاء بالنذر للعجز، ويجب عليك كفَّارة يمين؛ فتُطعمين عشَرة مساكين، لكلِّ مسكين كيلو مِن الأرز، ولو استطعتِ أن يكونَ معه ما يُؤدِمه به، فبها ونِعْمَتْ، فإن لم تستطيعي، فصومي ثلاثة أيام؛ فعن عقبةَ بنِ عامر، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كَفَّارة النذر كفارةُ اليَمين))؛ رواه مسلم، وعن ابن عبَّاس مرفوعًا: ((مَن نَذَرَ نذرًا ولم يُسَمِّه، فكفَّارتُه كفَّارةُ يَمين، ومَن نَذَر نذرًا لم يُطقْه، فكَفَّارته كفَّارة يَمين))؛ رواه أبو داود وابن ماجه.

قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده صحيح، ورُجِّح وقفُه.

وفَّقكِ الله للعمل بالكتاب والسنَّة