نقود ولاة مصر أثناء الصراع بين الأمين والمأمون

أوصى الخليفة العباسي هارون الرشيد (170 - 193هـ/ 786 - 808م) بولاية العهد لأبنائه الثلاثة: الأمين، والمأمون، والمؤتمن، وأدَّت هذه الوصيَّة إلى قيام الحرب بين الأمين والمأمون، التي انتهتْ بمقتل الأمين وانفراد المأمون بالخلافة، وأدَّت تلك الأحداث إلى قيام العديد من الولاة والقادة بالاستقلال عن الخلافة العباسية، وكانت مصر من الأقاليم التي تأثَّرت بهذا الصراع، فقد تنازَع القادةُ حكمَها؛ فتارة يحكمون بأمر الأمين، وتارة بأمر المأمون، وأخرى بإجماع الجند، ومن الولاة الذين تناوَبُوا على حكم مصر خلال تلك الفترة: عباد بن محمد البلخي، والمطَّلب بن عبدالله الخزاعي، والسري بن الحكم، وولداه محمد وعبيدالله.

عباد بن محمد البلخي (196 - 198هـ، 812 - 813م):
عندما بدأ الصراع بين الأمين والمأمون على الخلافة كان والي مصر هو جابر بن الأشعث بن يحيى الطائي، الذي ولاَّه الأمين على مصر في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 195هـ مارس 811م، فأرسل المأمون إلى عبَّاد بن محمد البلخي رسالة يأمره فيها بإعلان خلع الأمين من الخلافة، فأعلن عباد خلع الأمين وأخذ البيعة للمأمون في جمادى الآخرة سنة 196هـ، مارس 812م، وفي شهر رجب من السنة نفسها عيَّن المأمون عباد بن محمد البلخي واليًا على مصر، واستمرَّ في الحكم حتى عزله المأمون في صفر سنة 198 أكتوبر 813م[1].
ضرب عباد بن محمد البلخي النقود بمصر خلال فترة حكمه، ومنها دينار ضرْب سنة 196 بدار الكتب المصرية بالقاهرة[2]، ودينار آخر ضرْب سنة 197 بمتحف قطر الوطني بالدوحة[3] نصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
عباد
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: للخليفة
محمد
رسول
الله
المأمون
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر سنة سبع وتسعين ومئة.

وبذلك نقش عباد بن محمد البلخي اسم المأمون على نقوده منذ سنة 196هـ/ 812م، على الرغم من أن الأمين كان هو الخليفة الشرعي حتى مقتله سنة 198هـ/ 813م، وكسب المأمون جولة في الصراع بينه وبين الأمين، وكان المأمون قد أعلن نفسه خليفة منذ سنة 195هـ/ 811م عندما أسقط الأمين اسمه من الخطبة، وخلعه من ولاية العهد وعين ابنه موسى بدلاً منه، وضرب المأمون النقود بوصفه خليفةً وأميرًا للمؤمنين قبل مقتل أخيه الأمين[4]، ومنها دينار ضرْب سنة 196 بمتحف قطر الوطني بالدوحة[5] نصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: للخليفة
محمد 
رسول 
الله
الإمام
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر سنة ست وتسعين ومئة.

المطَّلب بن عبدالله الخزاعي (198هـ/ 813م، 198 - 200هـ/ 814 - 816م):
تولَّى المطَّلب بن عبدالله الخزاعي حكم مصر مرتين: الأولى بعهد من الخليفة المأمون، والثانية بمبايعة الجند، فقد عيَّنه الخليفة المأمون بعد عزل عباد بن محمد البلخي وكان المطَّلب مقيمًا بمكة المكرمة، فوصل إلى مصر في ربيع الأول سنة 198هـ/ نوفمبر 813 م، وظلَّ واليًا عليها حتى عزله الخليفة المأمون في شوال من السنة نفسها، وعيَّن المأمون بدلاً منه العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، فأرسل ابنه عبدالله نائبًا عنه لكن الجند قتلوه وبايعوا المطَّلب الذي لم يتمكَّن خلال تلك الفترة من الاستقلال بحكم مصر بعد أن نافَسَه عليها عبدالعزيز بن الوزير الجروي الذي كان يسيطِر على الوجه البحري والإسكندرية، بينما سيطَر المطَّلب على الفسطاط والصعيد، واستمرَّت المنافسة بين الرجلين حتى استطاع عبدالعزيز بن الوزير الجروي التحالف مع السري بن الحكم وتمكَّنا من طرد المطَّلب من مصر في سنة 200هـ/ 816م[6].

ضرب المطَّلب بن عبدالله الخزاعي النقود أثناء حكمه لمصر، ويمكن تقسيم دنانيره إلى طرازين: الأول عندما تولى حكم مصر بأمر من الخليفة المأمون، والثاني عندما تولى حكم مصر بمبايعة الجند.

الطراز الأول: ويمثِّله دينار ضرْب سنة 198م محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة[7]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
المطَّلب
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: الإمام
محمد
رسول
الله
المأمون
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر سنة ثمان وتسعين ومئة.

وهناك نماذج عديدة من الدنانير تنتمي لهذا الطراز محفوظة في المتحف العراقي[8]، ودار الكتب المصرية[9]، والمكتبة الأهلية بباريس[10]، وإحدى المجموعات الخاصة[11]، ونلاحظ على دنانير هذا الطراز أن المطَّلب قد نقش اسمه بالسطر الأخير من مركز الوجه، بينما سجل اسم الخليفة المأمون بالسطر الأول والأخير بمركز الظهر (الإمام - المأمون)، والإمام هو أحد الألقاب التي تلقَّب بها المأمون، وظهر اللقب على النقود منذ سنة 195[12]، وكان المأمون قد انفرد بالخلافة بعد مقتل أخيه الأمين في الرابع والعشرين من صفر سنة 198هـ/ أكتوبر 813م[13].

الطراز الثاني: ويمثِّله دينار ضرْب سنة 199هـ محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة[14]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
المطَّلب
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: ذو الرياستين
محمد
رسول
الله
الفضل
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر بمصر سنة تسع وتسعين ومئة.

وتوجد عِدَّة دنانير تُشبِه هذا الدينار وهي محفوظة في المتحف البريطاني[15]، والمتحف العراقي[16]، ومتحف الفن الإسلامي بالقاهرة[17]، ومتحف الآثار بإسطنبول[18]، وإحدى المجموعات الخاصة[19]، ومتحف العملة بمؤسسة النقد العربي السعودي بالرياض[20].

واستمرَّ ضَرْبُ هذه الدنانير التي أسقط منها المطَّلب اسم الخليفة المأمون حتى سنة 200هـ، ومنها دينار محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة، تشبه نصوص كتاباته نصوص كتابات الدنانير المضروبة في سنة 199هـ، وتختلف عنها فقط في تاريخ الضرب: (بسم الله ضرب هذا الدينر بمصر في سنة مئتين)[21].

وبهذا يتَّضح أن المطَّلب لم يسجِّل اسم الخليفة المأمون على نقوده خلال ولايته الثانية لمصر التي امتدَّت من سنة 199هـ إلى سنة 200هـ؛ لأنه تولَّى حكم مصر خلال تلك الفترة بمبايعة الجند، ونقش بدلاً من ذلك اسم ولقب وزير المأمون الفضل بن سهل (ذو الرياستين - الفضل)، وربما كان المطَّلب يحاول بذلك التقرُّب من الرجل القوي في دولة المأمون، الذي أقدم هو الآخر على ضرب نقود أسقط منها اسم الخليفة المأمون، ومنها دينار ضرْب سنة 199هـ نصوص كتاباته كما يلي[22]:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
العراق
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: لله
محمد
رسول
الله
ذو الرياستين
هامش: بسم الله الرحمن الرحيم ضرب هذا الدينر سنة تسع وتسعين ومئة.

واستمرَّ الفضل بن سهل في ضرب النقود ولم يذكر عليها اسم الخليفة المأمون حتى سنة 200هـ[23].

ضرب المطَّلب بن عبدالله الخزاعي الدراهم ومنها:
درهم ضرب مصر سنة 199هـ لم يسجِّل عليه اسم الخليفة المأمون، بل نقش   عليه اسم ولقب الفضل بن سهل؛ لأنه ضرب خلال ولايته الثانية على مصر التي تمَّت بمبايعة الجند، والدرهم محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة[24]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
لمطلب
هامش: بسم الله ضرب هذا الدرهم بمصر سنة تسع وتسعين ومئة.

الظهر: مركز: ذو الرياستين
محمد
رسول
الله
الفضل
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

ومن الجدير بالذكر أن اسم المطَّلب قد سجل على العديد من النقود بدون حرف الألف.

السري بن الحكم (200 - 201هـ/ 816م - 210 - 215هـ/ 816 - 820م):
السري بن الحكم بن يوسف، أصله من بلخ ودخل مصر مع جنود والي مصر الليث ابن الفضل (182 - 187هـ/ 798 - 802م)، وارتفع شأنه عندما اندلع الصراع على الخلافة بين الأمين والمأمون، واستمرَّ يشارك في الأحداث السياسية أثناء حكم كلٍّ من: عباد بن محمد البلخي، والمطَّلب بن عبدالله الخزاعي، واستطاع في سنة 200هـ/816م طرْد المطَّلب من مصر بالتحالف مع عبدالعزيز بن الوزير الجروي، وتولى الحكم بمبايعة الجند في رمضان سنة 200هـ، أبريل 816م واستمرَّ واليًا على مصر حتى ربيع الأول سنة 201هـ سبتمبر 816م عندما ثار عليه أعيان الخراسانيين بمصر وادَّعوا أن كتابًا جاءهم من طاهر بن الحسين أحد قادة المأمون بتعيين سليمان بن غالب بن جبريل البجلي واليًا على مصر، فقبض سليمان على السري وسجنه في الصعيد وتولى حكم مصر، ولكن الخراسانيين ما لبثوا أن ثاروا على سليمان وعزلوه وولوا بدلاً منه علي بن حمزة في أوَّل شعبان سنة 201هـ/ يناير 817م.

وفي الثالث عشر من الشهر نفسه جاء أمر الخليفة المأمون بتعيين السري بن الحكم واليًا على مصر، ولكنه لم يستطع الانفراد بالحكم؛ فقد خرج عليه حليفه السابق عبدالعزيز بن الوزير الجروي الذي استولى على الإسكندرية والوجه البحري وترك للسري الفسطاط والصعيد، وظلَّ الحليفان السابقان في صراع مستمر حتى وفاة عبدالعزيز في صفر سنة 205هـ أغسطس 820م، ولم يمكث السري بعد وفاة خصمه طويلاً؛ إذ ما لبث أن وافَتْه المنية في جمادى الأولى من السنة نفسها[25].

ضرب السري بن الحكم النقود أثناء فترتي حكمه لمصر ولم يسجِّل على الدنانير اسم الخليفة المأمون سواء عندما بايَعَه الجند في رمضان سنة 200هـ، أو عندما ولاَّه المأمون في شعبان سنة 201هـ، واكتفى بنقش اسم ولقب كل من:
أ- الفضل بن سهل: ومن أمثلة الدنانير التي ضربها السري بن الحكم ونقش عليها اسم الفضل بن سهل ولقبه دينار ضرْب سنة 202هـ محفوظ في متحف الفن الإسلامي بالقاهرة[26]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
المغرب
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الوجه: مركز: لله الفضل
محمد
رسول
الله
ذو الرياستين
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر سنة اثنتين ومئتين السري.

وهناك عِدَّة دنانير تُماثِل هذا الدينار في المتحف البريطاني بلندن[27]، ودار الكتب المصرية[28]، والمتحف العراقي[29]، وإحدى المجموعات الخاصة[30].

نقش السري بن الحكم على بعض نقوده كلمة "المغرب" وربما أراد السري بذلك الإشارة إلى أن سلطته لم تقتصر على مصر فقط، بل تمتدُّ إلى المغرب، ومنذ عهد عمرو بن العاص كان لوالي مصر الإشراف على إقليم برقة وما يليها غربًا، ويروي المؤرخون أن الخليفة العباسي موسى الهادي (169 - 170هـ/ 785 - 786م) قال يومًا لأحد جلسائه عندما أطال الحديث عن مصر: "دع عنك ذكر المغرب".

ويبدو أن ارتباط مصر بالمغرب قد استمرَّ طوال العصر العباسي؛ فعندما عيَّن الخليفة العباسي المتوكل ابنه وولي عهده المنتصر سنة 235هـ/ 849م مسؤولاً عن مصر والمغرب جاء في صيغة التعيين: "... إفريقية والمغرب كله من عريش مصر إلى حيث بلغ سلطانه من المغرب..."[31].

ب- طاهر بن الحسين: أحد كبار قادة المأمون، وظهر اسمه على الدنانير التي ضربها السري بن الحكم من سنة 200هـ إلى سنة 204هـ، ومنها دينار ضرْب سنة 200هـ محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة[32]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
السري
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: لله طاهر
محمد
رسول
الله
ذو اليمينين
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر بمصر في سنة مئتين.

ومن الدنانير التي نقش عليها السري اسمه بجانب اسم ولقب طاهر بن الحسين عدَّة دنانير ضرْب سنة 200هـ محفوظة في المتحف البريطاني[33]، ودار الكتب المصرية[34]، والمتحف العراقي[35]، والمكتبة الأهلية بباريس[36]، وإحدى المجموعات الخاصة[37]، كما توجد عدَّة دنانير نقش عليها السري اسم ولقب طاهر بن الحسين من ضرْب سنة 201هـ وسنة 204هـ محفوظة في متحف الآثار بإسطنبول[38]، وضرْب سنة 203هـ، وسنة 204هـ في المكتبة الأهلية بباريس[39].

وطاهر بن الحسين الذي نقش السري بن الحكم اسمه على الدنانير هو أحد كبار قادة جيوش الخليفة المأمون، وكان له دور حاسم في القضاء على الجيش الذي أرسله الخليفة الأمين للقبض على المأمون، فاستطاع طاهر بن الحسين هزيمته سنة 195هـ/ 810م، وبعد هذا الانتصار أعلن المأمون نفسه خليفة، وكان طاهر بن الحسين أوَّل مَن خاطَبَه بأمير المؤمنين، وبعد انتصاره في تلك المعركة أنعم عليه الخليفة المأمون بلقب ذي اليمينين وظهر هذا اللقب على النقود لأول مرة سنة 198هـ[40]، ولم تقف جهود طاهر بن الحسين عند هذا الحد بل قاد جيوش المأمون التي حاصرت بغداد، وتمكَّنت من قتل الخليفة الأمين سنة 198هـ/813م.

وضرب السري بن الحكم دنانير نقش عليها اسم طاهر بن الحسين فقط دون لقبه، ومنها دينار ضرب مصر سنة 205هـ محفوظ في إحدى المجموعات الخاصة[41]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
المغرب
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: لله طاهر
محمد
رسول
الله
السري
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر بمصر سنة خمس ومئتين.

وهناك العديد من الدنانير التي تُشبِه هذا الدينار، ومنها دينار ضرْب سنة 203هـ بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة[42]، وآخر ضرب السنة نفسها بمتحف قطر الوطني بالدوحة[43]، وثلاثة دنانير ضرْب سنة 204هـ، الأول بالمتحف العراقي[44]، والآخران بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة[45]، ودينار ضرْب سنة 205هـ بمتحف قطر الوطني بالدوحة[46].

كما ضرب السري بن الحكم الدراهم، ويمكن تقسيمها إلى فئتين: الأولى سجل عليها اسمه إلى جانب اسم ولقب طاهر بن الحسين، ومنها درهم ضرْب فسطاط مصر سنة 202هـ محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة[47]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
السري
لا شريك له
هامش: بسم الله ضرب هذا الدرهم بفسطاط مصر سنة اثنتين ومئتين.

الظهر: مركز: لله طاهر
محمد
رسول
الله
ذو اليمينين
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

أمَّا الفئة الثانية من الدراهم التي ضربها السري بن الحكم فقد سجَّل عليها اسم الخليفة المأمون، وتُعَدُّ هذه الدراهم هي الوحيدة من نقود السري بن الحكم التي ضربها أثناء فترتي حكمه لمصر وسجَّل عليها اسم الخليفة المأمون، ومنها درهم ضرْب فسطاط مصر سنة 204هـ محفوظ في إحدى المجموعات الخاصة[48]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
السري
لا شريك له
المغرب[49]
هامش: بسم الله ضرب هذا الدرهم بفسطاط مصر سنة أربع ومئتين.

الظهر: مركز: لله
محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الخليفة المأمون
طاهر
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

وقبل الانتهاء من ذكْر نقود السري بن الحكم لا بُدَّ من الإشارة إلى نقدين ضُرِبا خلال فترتي حكمه:
الأول: دينار ضرب مصر سنة 200هـ، وهو محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة[50]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
سليمن
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: لله طاهر
محمد
رسول 
الله 
ذو اليمينين
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر بمصر في سنة مئتين.

وتحتفظ المكتبة الأهلية بباريس بدينار يشبه تمامًا هذا الدينار[51]، وأعتقد أن سليمان الذي نُقِش اسمه بالسطر الأخير في مركز الوجه هو سليمان بن غالب بن جبريل البجلي، الذي أجمع المؤرخون[52] على أنه بُويِع واليًا على مصر في ربيع الأول سنة 201هـ/ سبتمبر 816م، واستمرَّ في الحكم حتى شعبان من السنة نفسها؛ ولذا فإني أرجِّح أن يكون سليمان بن غالب بن جبريل البجلي قد تولَّى حكم مصر سنة 200هـ اعتمادًا على كتابات هذا الدينار الذي يُعَدُّ وثيقة تاريخية لا يرقى إليها الشك وليس كما ذكر المؤرخون.

الثاني: فلس من النحاس محفوظ في متحف الفن الإسلامي بالقاهرة[53]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: مما أمر به
الأمير السر
بجانب الحكم
هامش: لا إله إلا (الله وحده) لا شريك له.

الظهر: مركز: على يدي
عبدالعزيز
(بن) الوزير الجر
وي

ويتَّضح من قراءة كتابات هذا الفلس أن عبدالعزيز بن الوزير الجروي قد عمل تحت إمرة السري بن الحكم، ويدلُّ على ذلك كتابة اسمه مسبوقًا بعبارة "على يدي"؛ أي: تحت إشراف؛ ممَّا يؤكِّد أن هذا الفلس قد ضُرِب بأمر السري بن الحكم، وكان عبدالعزيز بن الوزير الجروي هو المشرف على السك، وقد جمعت الأحداث بين السري وعبدالعزيز في ولاية المطَّلب بن عبدالله الخزاعي الثانية (199 - 200هـ/ 814 - 815م)، فقد كان عبدالعزيز بن الوزير الجروي مقيمًا في تنيس بشمال مصر، فطلب منه القدوم إلى الفسطاط، فرفض عبدالعزيز وطرد الوالي الذي عينه المطَّلب على تنيس، فأرسل المطَّلب السري بن الحكم على رأس جيش لمحاربة عبدالعزيز الذي تمكَّن من هزيمة السري وأسره في جمادى الأولى سنة 199هـ/ ديسمبر 814م، وبعد أن تأكَّد عبدالعزيز أن المطَّلب جادٌّ في القضاء عليه أطلق السري من سجنه، واتَّفقا سويًّا على أن يذهب السري إلى الفسطاط، ويدَّعي أن كتابًا جاءه من المأمون بتعيينه واليًا على مصر[54].

ونجحت الخطة ووصَل السري ابن الحكم إلى منصب الوالي، ويبدو أن التعاون بين الرجلين كان في الفترة الأولى من ولاية السري بن الحكم التي من المرجَّح أن يكون قد ضرب خلالها هذا الفلس؛ لأن الأحداث السياسية تُشِير فيما بعد إلى أن عبدالعزيز قد تمكَّن من الاستقلال بحكم الوجه البحري والإسكندرية، ودخل الطرفان في حروب عديدة ومعارك متواصلة استمرَّت حتى وفاة عبدالعزيز في صفر سنة 205هـ/ يونيو 820م[55].

ويوجد في متحف مؤسسة النقد العربي السعودي بالرياض فلس مشابه للفلس السابق، إلا أنه يمتاز بنقش تاريخ الضرب وهو سنة 201هـ[56]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: (أمر) به
(الأ) مير السر
(ي) بن الحكم
هامش: سنة أحد (ومائتين).

الظهر: علي يدي
عبدالعزيز
(ابن الوزير) الجر
(وي)
هامش: بسم الله محمد...

محمد بن السري بن الحكم (205 - 206هـ / 820 - 821م):
بعد وفاة السري بن الحكم في جمادى الآخرة سنة 205هـ/ نوفمبر 820م بايَع الجند ابنه محمدًا واليًا على مصر، ومكث محمد في الحكم حتى وفاته في شعبان سنة 206هـ/ 821م[57].

ضرب محمد بن السري النقود أثناء ولايته على مصر، ولم يسجِّل اسم الخليفة المأمون على النقود التي ضربها في سنة 205هـ، بينما ظهر اسم الخليفة على النقود التي ضربها في سنة 206هـ، ومن النقود التي نقش عليها محمد بن السري اسمه واسم طاهر ابن الحسين دينار ضرْب سنة 205هـ محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة[58]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
المغرب
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: لله طاهر
محمد
رسول
الله
محمد بن السري
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر سنة خمس ومئتين.

وهناك عدَّة نماذج من هذه الدنانير محفوظة في دار الكتب المصرية[59]، والمتحف البريطاني[60]، والمكتبة الأهلية بباريس[61].

وفي سنة 206هـ أقدم محمد بن السري على نقش اسم الخليفة المأمون على النقود رغم أنه تولَّى   حكم مصر بمبايعة الجند ولم تُشِر المصادر التاريخية إلى أنه تلقَّى من الخليفة تقليدًا بحكم مصر، وقد يكون دافعه في ذلك هو محاولة إضفاء الشرعية على حكمه أو تقرُّبًا من الخليفة المأمون، ومن النقود التي ضربها محمد بن السري ونقش عليها اسم الخليفة المأمون دينار ضرب مصر سنة 206هـ، وهو محفوظ في متحف الفن الإسلامي بالقاهرة[62]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
محمد بن السري
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: للخليفة
محمد
رسول 
الله
المأمون
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر سنة ست ومئتين.

عبيدالله بن السري (206 - 211/ 821 - 826م):  
بُويِع عبيدالله واليًا على مصر بعد وفاة أخيه محمد في شعبان سنة 206هـ/ يناير 822م ولم يعترف الخليفة المأمون بولايته، فأرسل واليًا آخر هو خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني سنة 207هـ/ 822م لكن عبيدالله تمكَّن من طرْدِه فاضطرَّ الخليفة المأمون للاعتراف بسلطة عبيدالله وتثبيته واليًا على مصر، واستمرَّ في الحكم حتى صفر سنة 211هـ/ مايو 826م عندما أرسل الخليفة المأمون جيشًا بقيادة عبدالله بن طاهر فدخل مصر وعزل عبيدالله عن ولايتها، ورغم أن الخليفة المأمون لم يعترف بعبيدالله واليًا على مصر إلا بعد سنة 207هـ فقد سجَّل عبيدالله اسم الخليفة المأمون على النقود التي ضربها بمصر منذ بداية حكمه سنة 206هـ، ومن نقود عبيدالله بن السري دينار ضرْب سنة 206هـ محفوظ في متحف قطر الوطني بالدوحة[63]، ونصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
لا شريك له
عبيدالله بن السري
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

الظهر: مركز: للخليفة 
محمد
رسول 
الله
المأمون
هامش: بسم الله ضرب هذا الدينر سنة ست ومئتين.

وضرب عبيدالله بن السري سلسلة من الدنانير منذ بداية حكمه في سنة 206هـ وحتى عزله في سنة 211هـ، وتوجد دنانيره في العديد من المتاحف مثل: متحف الآثار بإسطنبول، والمتحف البريطاني، والمتحف العراقي، ومتحف الفن الإسلامي بالقاهرة، ومتحف قطر الوطني بالدوحة[64]، كما نقش عبيدالله اسم الخليفة المأمون على الدراهم ومنها: درهم محفوظ في إحدى المجموعات الخاصة[65] نصوص كتاباته كما يلي:
الوجه: مركز: لا إله إلا
الله وحده
عبيدالله بن السري
لا شريك له
المغرب
هامش: بسم الله ضرب هذا الدرهم بمصر سنة عشر ومائتين.

الظهر: مركز: للخليفة 
محمد 
رسول 
الله 
المأمون  
هامش: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

ويحتفظ متحف الفن الإسلامي بالقاهرة بدرهم تتشابه نصوص كتاباته مع كتابات هذا الدرهم[66].

وبهذا نرى كيف تسبَّب الصراع على الخلافة بين الأمين والمأمون في خروج مصر من سلطة الخلافة العباسية، وإذا كان نقش اسم الخليفة على النقود من أبسط شارات السلطة، فإن ولاة مصر في تلك الفترة المضطربة قد سلبوا هذا الحق من الخلفاء العباسيين، وتحكَّم الجند والقادة في زمام الأمور وبقي في أيديهم الحل والعقد فصاروا يعزلون ويولُّون كما يشاؤون دون الرجوع إلى الخليفة، واستمرَّ هذا الحال حتى تمكَّن عبدالله بن طاهر من إعادة مصر تحت سلطة الخلافة العباسية سنة 211هـ/ 826م.

المصادر والمراجع:
أولاً: المصادر والمراجع العربية:
1- ابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبدالكريم بن عبدالواحد الشيباني، الكامل في التاريخ، ط، بيروت، 1403هـ/ 1983م.
2- د. حسن الباشا الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار، القاهرة، 1975م.
3- ابن تغري بردي، جمال الدين أبو المحاسن يوسف، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، القاهرة 1383/ 1963م.
4- زامباور، معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي؛ ترجمة د. زكي محمد حسن وآخرين، بيروت، 1980م.
5- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، 1399هـ / 1979م.
6- د. عبدالرحمن فهمي محمد، موسوعة النقود العربية وعلم النميات - فجر السكة العربية، القاهرة، 1964م.
7- د. فرج الله أحمد يوسف، نقود الخارجين على الخلافة العباسية في شرق العالم الإسلامي، (مخطوط رسالة ماجستير، كلية الآثار، جامعة القاهرة، 1412هـ/ 1991م).
8- الكندي، أبو عمر محمد بن يوسف، الولاة والقضاة؛ تحقيق رفن كست، بيروت، 1908م.
9- مؤسسة النقد العربي السعودي، متحف العملات، الرياض، 1416هـ.
10- د. محمد أبو الفرج العش، النقود العربية الإسلامية المحفوظة في متحف قطر الوطني، الدوحة، 1404هـ/ 1984م.
11- المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي، مروج الذهب ومعادن الجوهر؛ تحقيق محمد محيى الدين عبدالحميد، بيروت، 1403هـ/1983م.
12- المقريزي، تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، بيروت - بدون تاريخ.
13- ناصر النقشبندي، الدينار الإسلامي في المتحف العراقي، الجزء الأول الدينار الأموي والعباسي، بغداد، 1372هـ / 1953م.
14- وليم قازان، المسكوكات الإسلامية، مجموعة خاصة، بيروت، 1404هـ/ 1983م.

ثانيًا: المراجع الأجنبية:
1- Artuk  ، I  ، G.
Istanbul Arkedoji Muzeleri Teshirdeki Islami Sikkeler Katalogu. (Istanbul 1971)
2- Bacharach، j and Awad، H:
Rare Early Egyptian Islamic Coins Weights  : the Awad Collection. (P.51-56 JARCEXVIII 1981)
3- Lane-Poole، S:
a-Catalogue of the Oriental Coins in the British   Museum. The Coins of the Eastern Khaleeffhs.(London 1875)
b-Catalogue of   the collection of Arabic Coins preserved in Khedivial Library in Cairo.(Cairo 1984)
4- Lavoix.H  : 
Catalogue des Monnaies Musulmanes de la Bibliotque National. Khlifes Orientaux.(Paris 1891)