• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الاستشراق والقرآنيون
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    نبذة في التاريخ الإسلامي للأطفال
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    عقيدة التوحيد، وعمل شياطين الشرك
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    الفلسفة الاقتصادية للاستخلاف في منظور الاقتصاد ...
    د. عبدالله محمد قادر جبرائيل
  •  
    منهج شياطين الإنس في الشرك
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    سيناء الأرض المباركة
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

الهجرات البشرية وأثرها في نشر الإسلام في السودان

الهجرات البشرية وأثرها في نشر الإسلام في السودان
أ. د. يوسف فضل حسن

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 24/10/2015 ميلادي - 10/1/1437 هجري

الزيارات: 23645

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الهجرات البشرية وأثرها في نشر الإسلام في السودان


تمهيد:

ساعد على نشر الإسلام في سودان وادي النيل هجرتان رئيسيتان، الأولى هجرة أو هجرات عربية دخلت السودان عبر مسالك ثلاثة: عبر البحر الأحمر وعن طريق مصر، ومن شمالي إفريقيا والمغرب - وكان الطريقان الأولان امتدادًا لهجرة عربية ظلت تشق طريقها من بلاد العرب إلى تلك المنطقة منذ أزمان بعيدة، ولكنها ازدادت أهمية بظهور الإسلام الذي أعطاها السند الروحي والدعم السياسي، وقد أخذت الهجرات العربية بعد ظهور الإسلام صورًا متعددة، بعضها يقصد التجارة أو التعدين، أو طلبًا للمرعى، أو هروبًا من ضغط الحكومات القائمة على أمر مصر، وقد أدت تلك الهجرات التي استمرت بضعة قرون إلى دخول العرب في أعداد كبيرة إلى سودان وادي النيل، فلما غلبت الثقافة العربية والدين الإسلامي على أجزاء كبيرة من البلاد بدأت هجرة ثانية، قوامها جيل من النوبة المستعربين وبعض أفراد المجموعة الجعلية، إلى المناطق التي لم يبلغها النفوذ الإسلامي بعد، أو مستها الهجرات العربية مسًّا خفيفًا.

 

وقد اقترن انتشار الإسلام بمرحلتين أساسيتين، أولاهما كان دور المهاجرين العرب، وجلُّهم من البدو والتجار، وكانت تلك الفترة بمثابة مرحلة إعدادية سبقت قيام السلطنات الإسلامية، إلا أن انتشار العقيدة الإسلامية في هذه المرحلة كان اسميًّا في كثير من المظاهر، وفي المرحلة الثانية قام جماعة من السودانيين من النوبة المستعربين وأمثالهم الذين نهلوا من هدي الإسلام، وتمثلوا تعاليمه تمثلًا كامًلا؛ قاموا بنشر العقيدة الإسلامية بطريقة أعمق وأشمل، وقد ساعدهم في ذلك نفر من العلماء الوافدين من الحجاز ومصر وبلاد المغرب، وكانت عملية التحول هذه من مجتمع وثني أو مسيحي إلى مجتمع مسلم تغلِب عليه الثقافة العربية عمليةً بطيئة يغلِب عليها السلم.

 

وبكلمات أخرى، فبالرغم من قرب سودان وادي النيل من الحجاز ومصر وتعدد الروافد التي تسربت منها المؤثرات الإسلامية بدءًا بالعقد الثالث الهجري، فإن تحول السودان إلى "دار إسلام" كان بطيئًا، أما كيف تحقق ذلك فهو ما سنورده في الصفحات التالية - عند ظهور الإسلام في مطلع القرن السابع الميلادي كان سودان وادي النيل (الجزء الشرقي من بلاد السودان) يتكون من ثلاث ممالك مسيحية، هي المريس والمقرة (وتعرفان بعد اتحادهما بالنوبة) وعلوة، وكانت هذه الممالك تسيطر على وادي النيل من مدينة أسوان حتى خط عرض 11 شمالًا، ويشمل سودان وادي النيل أيضًا بلاد البجة الواقعة على سواحل البحر الأحمر ومنطقتي كردفان ودارفور، وقد تأثرت بلاد النوبة والبجة ببعض الهجرات العربية التي خرجت من جزيرة العرب بسبب قلة مواردها الغذائية والرعوية بحثًا عن مناخ معاشي أفضل، أو ممارسة للتجارة قبل ظهور الإسلام، إلا أن أثر هذه الهجرات كان ضئيلًا؛ إذ لم تترك بصماتها واضحة على التكوين البشري لسكان تلك المناطق، أما الأجزاء الوسطى والجنوبية فقد ظل يعمرها خليط من الزنوج ومن الشعوب الناطقة باللغة الحامية، وقد تأثرت الممالك المسيحية الثلاث وأجزاء من بلاد البجة بالديانة المسيحية، خاصة من أتباع المذهبين الملكاني واليعقوبي اللذين اهتم دعاتهما الأوائل بتنصير الملوك والأعيان، ولكن المسيحية تمكنت تدريجيًّا من كسب كثير من أتباع المعتقدات الوطنية، حتى صارت المعتقد الرئيسي في البلاد، وكانت الكنيسة النوبية على صلة وثيقة بكنيسة الإسكندرية، ولعل الصلة الحميمة بين الكنيستين تفسر تعاطف النوبيين مع أقباط مصر عندما هزمتهم الجيوش الإسلامية سنة 641م، وتمثل هذا التعاون أحيانًا في شكل هجمات من جانب النوبة على صعيد مصر، وقد اتخذ المسلمون من أسوان ثغرًا لصد الهجمات التي اعتاد النوبة والبجة شنها على مصر كلما أحسوا ضعفًا في حكومتها، ودرءًا لتحرشات النوبيين وجَّه الخليفةُ عمر بن الخطاب واليه على مصر لوضع حد لتلك الهجمات.

 

"وامتثالًا لأمر الخليفة عمر خرجت سرايا المسلمين لإسكات اعتداءات النوبة، وتتفق المصادر العربية أن حملتين رئيسيتين قد دخلتا أرض النوبة: أولاها في ولاية عمرو بن العاص سنة 21 /641، والثانية في عهد عبدالله بن سعد بن أبي سرح عام 31/ 651 - 652، وقد لقيت الحملة الأولى مقاومة شديدة من النوبيين الذين أثخنوا المسلمين بوابل من السهام التي كانوا يجيدون رميها، حتى سماهم العرب رماة الحدق، وقد وصفهم بعض من اشترك في تلك الحرب بقوله: "ما لهؤلاء خير من الصلح؛ إن سلَبَهم لقليل، وإن نكايتهم لشديدة"، واستمرت سرايا المسلمين تتردد على بلاد النوبة حتى خرجت الحملة الثانية سنة 31/ 651 - 652، وكان قوامها خمسة آلاف مقاتل، وعند مدينة دنقلا حاضرة مملكة النوبة المتحدة، التحم الجيشان، ولكن وقفة النوبة الصلبة اضطرت المسلمين إلى ضرب كنيسة دنقلا بالمنجنيق الذي أدخل الرعب في نفوس النوبيين وقادهم إلى طلب الصلح، ومع أن المسلمين قد أملَوْا صلحًا على النوبة إلا أن تفاصيل ذلك الاتفاق توحي بأن انتصار المسلمين لم يكن حاسمًا، بل يرجح بعض الباحثين أنهم لاقوا مقاومة شديدة وهم بعيدون عن ديارهم، ولم يكن العرب قد استهدفوا فتحًا توسعيًّا، بل كانوا يحاولون وضع حد لاعتداءات النوبة على صعيد مصر، فقد رحبوا بعقد الصلح معهم، وكانت نتيجة ذلك الغزو أن دوخ المسلمون مملكة النوبة المسيحية، ولكن دون أن يقضوا على سلطانها قضاءً تامًّا.

 

وقد عقد عبدالله مع ملكهم معاهدة نظمت العلاقات بين العرب والنوبة في شؤون السلم والتجارة، وقد عرفت المعاهدة بعهد النوبة، أو معاهدة القبط، وتختلف طبيعة هذا الاتفاق عن الإطار العام الذي ألِفَه المسلمون في التعامل مع أعدائهم.

 

فالعالم في عُرْف الفقهاء المسلمين ينقسم إلى قسمين "دار إسلام" يسيطر عليها المسلمون، و"دار حرب" يعيش فيها سواهم، ومعنى هذا التقسيم أن دار الإسلام تسعى لنشر دينها ونفوذها في الدار الأخرى؛ تطبيقًا لمبدأ عمومية الدعوة الإسلامية ورد الاعتداء عنها، وكان أمام أعداء المسلمين ثلاثة خيارات: إما أن يجيبوا داعي الإسلام، أو أن يدفعوا الجزية، أو أن يُقتَلوا، وفي صدر الاسم الأول عرفت الدولة الإسلامية نوعين من المعاهدات؛ الأولى: عبارة عن عهد أو صلح لإحلال السلم بين الطرفين، وذلك مثل العهد الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة ولم تفرض فيه جزية، وكان المراد منه إحلال السلام ما حافَظَ اليهودُ على العهد.

 

والثانية: ما عُقد لأهل الذمة الذين عاشوا في كنف الدولة الإسلامية وقبلوا دفع الجزية؛ فأَمِنوا على أنفسهم وأموالهم.

 

ولكن ما حدث في صلح النوبة يختلف عن هذين النمطين من المعاهدات، كما أنه يجعل من بلاد النوبة دار معاهدة، وهي مرحلة وسطى بين دار الإسلام ودار الحرب.

 

ولعل أقدم نص لهذا العهد ما أورده ابن عبدالحكم نقلًا عن يزيد بن أبي حبيب النوبي (ت 128/ 746): "أن عبدالله بن سعد بن أبي سرح صالحهم على هدنة بينهم، على أنهم لا يغزونهم، ولا يغزو النوبة المسلمين، وأن النوبة يؤدون كل سنة إلى المسلمين كذا رأسًا من السبي، وأن المسلمين يؤدون لهم من القمح كذا وكذا"، ويضيف يزيد بن أبي حبيب: "وليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق، إنما هي هدنة أمان بعضنا مع بعض".

 

أما رواية الطبري عن ابن أبي حبيب فتقول: "إن عبدالله صالَحَ على هدية رؤوس يؤدونهم إلى المسلمين كل سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كل سنة طعامًا وكسوة من نحو ذلك"، وتمثل رواية يزيد بن أبي حبيب الأصل لكل الروايات المفصلة التي تلتها، خاصة نص المقريزي الذي يمثل آخر تطور لهذه المعاهدة، ويضيف إليها بعض النصوص التي تقنن بعض الممارسات التي نتجت عن تطور العلائق التجارية بين العرب والنوبة.

 

ويتضح من نصوص المعاهدة التزام النوبيين بمد المسلمين بثلاثمائة وستين شخصًا من أواسط رقيقهم مقابل مؤن وثياب يتلقاها النوبيون، وتعهد النوبيون بالمحافظة على المسجد الذي ابتناه المسلمون، وكفلت المعاهدة حق الترحال لرعايا كل من البلدين مجتازين غير مقيمين، ونجد أن هذا الحق قد ساق التجار المسلمين إلى نقل الإسلام إلى أعماق بلاد النوبة وما وراءها، ومع أن هذه الفئة كانت منصرفة إلى الأعمال التجارية في المقام الأول إلا أنها كانت رائدة في نشر العقيدة الإسلامية بين الوطنيين، واستطاع أولئك التجار - بما اكتسبوا من معرفة لأحوال البلاد، ونقلهم تلك المعرفة لمواطنهم - تمهيد الطريق لهجرة القبائل العربية في أعداد كبيرة.

 

وقد ظلت هذه المعاهدة تمثل الركن الأساسي في العلاقات بين دار الإسلام وبلاد النوبة لفترة تقارب الستة قرون، وفي فترة سريان هذه المعاهدة التي تضع بلاد النوبة كدار معاهدة في مرحلة وسطى بين دار الإسلام ودار الحرب، تسربت المؤثرات الإسلامية في هدوء أدى في نهاية الأمر إلى تغيير مسارها السياسي والاجتماعي والديني.

 

فخلافًا لما نص عليه عهد النوبة من عدم السماح للمسلمين بالاستقرار في الأراضي النوبية، وبالرغم من تكرار احتجاجات ملك النوبة، فقد أخذت بعض العشائر العربية في شراء الأرض من النوبيين في منطقة المريس والاستيطان فيها منذ أوائل القرن التاسع، وهناك صاهروا النوبيين، وإلى هذه الفئة يرجع الفضل في نشر الدين الإسلامي في تلك الربوع، وكان لبني الكنز، وهم فرع من ربيعة، النصيب الأوفر في توطيد نفوذ الإسلام في تلك المنطقة بعد أن صاهروا النوبيين الذين يسود بينهم نظام الوراثة عن طريق الأم، وبعد أن وطدوا نفوذهم السياسي في منطقة المريس نجحوا في مصاهرة الأسرة الحاكمة في دنقلا، ممهدين لأنفسهم باعتلاء عرش النوبة، وكانت النتيجة الحتمية لهذا الاختلاط السلمي بين العرب والنوبيين أن اعتنق المولدون الدين الإسلامي، وتمثلوا كثيرًا من مظاهر الثقافة العربية، وتكررت هذه التجربة في مواضع كثيرة من سودان وادي النيل.

 

ومما يدل على ازدياد نفوذ المسلمين في بلاد النوبة امتناعهم من دفع أي جُعل مقابل ما يأخذون من رقيق من تلك البلاد كما نصت معاهدة القبط، وسعى النوبيون من جهتهم إلى الفكاك من الالتزامات التي فرضها المسلمون عليهم، ونتج عن ذلك محاولة غزوهم لصعيد مصر، كما تكررت شكواهم من عدم مقدرتهم على إرسال الرقيق، وكانت النتيجة أن خفض ما يرسلونه من رقيق، وساعدت هذه التطورات في توغل المهاجرين العرب من التجار وغيرهم في أعداد متزايدة، مما مهد تدريجيًّا لغلبة التيار الإسلامي، وإضعاف السياج المسيحي.

 

بلاد البجة:

بدأت صلة العرب بالساحل الغربي للبحر الأحمر منذ السنوات الأولى لظهور الإسلام، وكانت بلاد البجة تعتبر امتدادًا طبيعيًّا، بل جزءًا مكملًا، لبلاد الحبشة التي أنزلها المسلمون منزلة طيبة؛ نتيجة للرعاية الكريمة التي أولاها النجاشي للمهاجرين الأوائل، واتسمت علاقات العرب بالسواحل العربية بالسلم في معظم الأوقات، وازدهرت صلات العرب التجارية في العصور الإسلامية، وأنشؤوا مراكز تجارية، وعن طريق ميناء باضع وميناء عيذاب ودهلك (مصوع) ثم سواكن تسربت المؤثرات العربية الإسلامية إلى أرض البجة، وعن طريق هذه الموانئ مارس التجار العرب نشاطهم التقليدي في كنف الدولة الإسلامية.

 

يفيدنا الطبري أن الصحابي الجليل أبا محجن الثقفي قد غُرب إلى ميناء باضع الواقعة بالقرب من عقيق سنة 16هـ/ 637، ونفى أبو بكر الصديق جماعة من الأعراب إلى منطقة عيذاب، واتخذ الأمويون والعباسيون من بعدهم من دهلك منفى للعناصر العربية غير المرغوب فيها، وكان من بينهم بعض الشعراء، وتؤكد هذه الأخبار ما بين الحجاز وبلاد البجة من صلات وثيقة.

 

ومع أن ابن حوقل يروي أن عبدالله بن سعد بن أبي سرح قد أخضع البجة المجاورين لأسوان، وأسلم بعضهم إسلام تكليف، فإن أول اتصال فاعل حدث في نهاية القرن الهجري الأول عندما اصطدم بهم عبيدالله بن الحبحاب أمين بيت المال في مصر، وفرض عليهم معاهدة بعد أن هزمهم، ووضعت هذه المعاهدة حدًّا لتحرشات البجة على صعيد مصر، وساعدت في نفس الوقت على فتح تلك المنطقة لدخول المؤثرات الإسلامية، وخاصة الوافدة عبر البحر الأحمر.

 

وفي عهد الخليفة المعتصم كرر البجة اعتداءهم على مصر؛ فحاربهم عبدالله بن الجهم، وفرض على قائدهم كنون بن عبدالعزيز معاهدة ثانية تؤكد الالتزام السابق، ويضيف العهد الجديد أن يحافظ البجة على المساجد التي شيدها المسلمون، وأن يسمحوا لعمال بيت المال بجمع الصدقة.

 

وإبان تلك الحملة اكتشف العرب الذهب والزمرد في أرض المعادن ببلاد البجة؛ فتدفق الناس في أعداد كبيرة زهدًا عن الحياة في مصر، ورغبة في الثراء، ولكن البجة قاوموا ذلك الزحف، وطردوا العرب، وامتنعوا عن دفع الجزية، وللمرة الثالثة تمكن المسلمون بقيادة محمد بن عبدالله القمي من هزيمة البجة؛ فتدفق العرب في أعداد كبيرة جدًّا من مصر ومن نجد، فجاءت قبائل من مصر ومن ربيعة بن حنيفة وسكنت وادي العلاقي، ولعل خير مثال للهجرة العربية في أرض المعدن نشاط عبدالله بن عبدالحميد العمري الذي اشتغل بالتعدين بمعاونة جهينة وربيعة وسعد العشيرة، فعظم نفوذه، واتسعت دائرة سلطته، حتى صارت مصدر خطر لأحمد بن طولون والي مصر، وقيل: إن ستين ألف جمل كانت تعمل في حمل المؤن من أسوان لحلفائه، عدا العير التي تجيء من عيذاب، وقد أنشأ العمري أول إمارة عربية في شمال شرق السودان، وشجع نجاحه هذا كثيرًا من المقامرين والراغبين في الهجرة ليحذوا حذوه، مما زاد النشاط العربي في أرض المعدن، وقد شمل هذا النشاط التعدين والتجارة ونقل المؤن بين المناجم وصعيد مصر وميناء عيذاب، كما عملت مجموعات أخرى في نقل التوابل والحجيج بين صعيد مصر والموانئ السودانية.

 

وقد لعبت ربيعة دورًا هامًّا في نشر الإسلام والنفوذ العربي في أرض المعدن، وعلى إثر خلافها مع العمري حالفت البجة وصاهرتهم، واستطاع بعض العرب أن يرثوا المراكز القيادية بعد أن تزوجوا بنات الزعماء، ومن ثم قوي نفوذهم حتى عم أرض المعدن، وكان صاحب المعدن في عام 934م بشر بن مروان بن إسحاق يركب ثلاثة آلاف رجل من ربيعة وحلفائها، وثلاثين ألفًا من الحداربة وهم مسلمون من سائر البجة، واستطاع أحد أحفاد بشر هذا أن يساعد الفاطميين في القبض على ثائر أموي، فخلع عليه الخليفة الحاكم بأمر الله لقب كنز الدولة، وهو جد بني الكنز الذين نوهنا بهم من قبل، ومن ذلك الوقت صار بنو الكنز وأبناء عمومتهم من ربيعة في أرض المعدن يمثلون قوة عربية محلية لها وزنها.

 

ولم تقف الهجرة العربية على أرض المعدن، بل توغلت جنوبًا؛ فقد وجدت آثار مستوطنات عربية ازدهرت لأكثر من قرن (820 - 941م) في خور نبت على بُعد سبعين ميلًا شمال شرق محطة هيا، وكان هؤلاء العرب يعملون بتربية الإبل وبيعها لنقل الحجيج والمؤن.

 

هذه المناشط التجارية كانت بمثابة المراحل الإعدادية التي مهدت الطرق لهجرة العرب عبر الصحراء الشرقية، وكانت التجارة مع أواسط البلاد، خاصة تجارة الرقيق، منشطًا هامًّا، إذ كان معظم ذلك الرقيق يستغل في الجندية أو في الأعمال المنزلية في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي آنذاك.

 

وبمرور الزمن بدأ إنتاج المناجم يقل تدريجيًّا حتى توقف في منصف القرن الرابع عشر، ولعل السبب في تدهورها يرجع أولًا لخوف أصحابها من هجمات البجة والأعراب الذين كثر عددهم، وثانيًا كان الإنتاج لا يغطي النفقات، وتبع ذلك انتقال طريق الحجاج من الصحراء الشرقية إلى سيناء، وتدهور عيذاب، واضطراب قوافل التجارة الشرقية، فتوقف النشاط الاقتصادي الواسع الذي اعتمد عليه كثير من العرب من بَليٍّ وجهينة ودغيم وبني كاهل ورفاعة وربيعة وغيرهم، واضطرت أغلبيتهم للسير لداخل السودان.

 

وقد أصبحت هذه الهجرة أكثر فاعلية نتيجة السياسة التي اختطها الخليفة المعتصم بحرمان المقاتلين العرب من العطاء، ونتيجة للتدخل الإيجابي للمماليك في سياسة بلاد النوبة المسيحية وتعاظم ضغطهم على الأعراب في مصر.

 

ولا شك أن وجود هذه المناشط الاقتصادية قد شجع على الهجرات العربية، ولكن أسباب هجرتهم تعود إلى أسباب أكثر تعقيدًا؛ فقد كان العرب في البدء يمثلون الطبقة المقاتلة والصفوة الحاكمة في مصر، وكانوا يتسلمون معاشات سخية من الدولة، وفي أواخر العهد الأموي بدأت جماعات منهم تعمل بفلاحة الأرض وتختلط بالمصريين.

 

وكان ذلك بداية لاستعراب السكان الوطنيين وانتشار الإسلام بينهم، وأدت الهجرات العربية التي ظلت تتدفق على مصر دون توقف لأسباب كثيرة أن صارت مصر بمثابة مستودع كبير يزخر بأعداد كبيرة من القبائل العربية التي استقر بعضها واحترف الزراعة، بينما آثر بعضها حياة البداوة، فلما انتهت دولة العرب وآل الأمر إلى العباسيين قل الاعتماد على المقاتلين العرب، وحرم بعضهم من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في صدر الإسلام، واعتمدت الدولة العباسية على المقاتلين الخراسانيين أولًا، ثم الأتراك الذين فضلتهم الدولة على سواهم، وأدى هذ التغيير في سياسة الخلافة إلى استياء العرب ولجوئهم إلى الثورة، وزاد استياؤهم لما بدأت الدولة في منتصف القرن التاسع الميلاد تعيين ولاة مصر من الترك.

 

ولما آل الأمر إلى الخليفة المعتصم انتهج نفس السياسة، بل اشتط في ذلك فأمر بشطب من في ديوان مصر من العرب وقطع الرواتب عنهم، ودفع هذا القرار الخطير العرب في مصر إلى ثورة عارمة، ولكن الأمر انتهى بهما إلى خيارين؛ إما أن يحترفوا الزراعة، أو ينزحوا إلى صعيد مصر حيث يضعف نفوذ الحكومة، وكانت السياسة التي ابتدرها المعتصم بتجنيد الترك العامل الأساسي الذي شجع العرب على الهجرة إلى السودان بعد فشل ثوراتهم ضد الدولة، وقد ارتبط حجم هذه الهجرة إلى درجة كبيرة بازدياد النفوذ التركي في الإدارة والجيش في مصر، فكلما ازداد الأتراك تمكنًا من مقاليد الأمور في مصر كثر عدد المهاجرين من العرب إلى السودان، وقد بلغت هذه الهجرة القمة في عهد المماليك الأتراك (1251 - 1517)، ووجد بعض هؤلاء العرب متنفسًا في أرض المعدن كما أسلفنا، فوق هذا كله فمنذ القرن التاسع الميلادي بدأت جماعات عربية في الهجرة إلى السودان بحثًا عن الكلأ دون أن يرصد التاريخ تحركاتها.

 

ذكرت في مطلع حديثي أن معاهدة القبط، رغم ما أصابها من شروخ، ظلت تنظم العلائق بين مصر وبلاد النوبة أمدًا طويلًا، وكان السلم يغلب على تلك الصلات إلا في حالات نادرة أدت إلى مناوشات على الحدود أو حرب محدودة، وكانت أول محاولة جادة بعد معركة دنقلا في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي حيث توغل الأيوبيون حتى أبريم، ولكنهم صرفوا النظر عن تلك المغامرة بعد أن تبين لهم فقر النوبة، وكانت المحاولة الثانية في عهد المماليك.

 

وحقيقة الأمر أن الحكومات الإسلامية رغم ازدياد نفوذها الأول في بلاد النوبة لم تشأ التدخل في شؤون مملكة النوبة المسيحية، بل اكتفت بأن كفلت للمسلمين مزاولة شعائرهم الدينية في حرية تامة، ولم يحاول القائمون على أمر مصر الإسلامية أن ينشروا العقيدة الإسلامية في بلاد النوبة؛ إذ لم يكن نشر الدين - فيما يبدو - جزءًا من سياستهم المعلنة، بل ترك أمر نشر الدعوة للجهود الفردية للتجار والبدو، ومع جهلنا التام لدرجة نجاحهم في هذه الفترة فإن الحماس الديني الذي يدفع بعض المسلمين لنشر العقيدة الإسلامية مضافًا إليه ما حققه المسلمون من انتصارات في البلاد المسيحية المجاورة، وسِجِّلهم الحسن في معاملة رعاياهم من أهل الذمة - كانت كلها خير عون لهؤلاء الدعاة.

 

وكانت المحاولة الرسمية الوحيدة لنشر الدعوة الإسلامية التي أوردتها المصادر التاريخية قد تمت في عهد الدولة الفاطمية التي تدين بالمذهب الشيعي، فبناء على توجيه من القائد جوهر الصقلي خرج ابن سليم الأسواني الداعية الفاطمي إلى بلاد النوبة داعيًا الملك جورج الثاني إلى الإسلام، ولكن جورج رد عليه في مناظرة ضمت عددًا من الأساقفة، بأن دعاه إلى النصرانية، ولم يقبل ابن سليم ذلك بحجة أن ما يدعو إليه هو الحق ولا شيء يعلى عليه، إلا أن تحديد فاعلية هذه الطريقة من مقارعة الحجة بالحجة في بلاد النوبة ليس بالأمر اليسير، ومن الراجح أن انتقال المسيحيين إلى الإسلام كان تدريجيًّا، وكان نتيجة الاختلاط بينهم وبين المسلمين، ولم يكثر عدد المسلمين من الوطنيين إلا بعد اضمحلال النفوذ السياسي لمملكة النوبة المسيحية، وقد تحقق ذلك في عهد المماليك.

 

أدى قيام دولة المماليك الأتراك في مصر سنة 1251م إلى تطورين هامين أثَّرَا على مملكة النوبة المسيحية:

أولهما: أن القبائل العربية التي أبعدت عن مواضع السلطة والنفوذ فيما سبق ثارت ضد العهد الجديد وأعلنت عصيانها، وكانت هذه القبائل ترى أن العرب هم أصحاب الحق في الحكم، وأنهم أحق بالسلطة من الأتراك، واستمر هذا الصراع حتى نهاية القرن الخامس عشر، وكلما زاد جبروت الحكام في قمع ثورات العرب، زادت ثورات "العربان"، فإذا لحقت بهم الهزيمة لم يجدوا بدًّا من الهجرة إلى السودان، وفي أوساط القرن الرابع عشر تتبع المماليك من هرب من هؤلاء الأعراب مسيرة سبعة أيام حتى دخلوا أطراف بلاد الزنج - أي السودان - ويخبرنا المقريزي أنه بنهاية تلك الحملة لم يبقَ "بدوي" واحد بصعيد مصر، وفي سنة 1380 أمر السلطان الظاهر برقوق بنقل جماعة من حوارة إحدى قبائل البربر من الوجه البحري وإسكانها في الصعيد بين سائر مجموعات القبيلة بما فيها من عرب، كما اقتطع السلاطين كثيرًا من أراضي العرب الزراعية إلى أتباعهم من المماليك؛ فضعف حال العرب، كما أن موجة المجاعات وانتشار وباء الطاعون التي لازمت العهد المملوكي الأول شجعت العرب على الهجرة خوف الموت، وقد حدثت أول هجرة لهذا السبب سنة 1324م، وقد صاحب هذا التدني في الحالة الاقتصادية العامة زيادة في الضرائب لمواجهة زحف المغول، كل هذه الأسباب لم تترك للعرب بديلًا سوى الهروب لبلاد النوبة، كما صاحب كثير من هؤلاء العرب الحملات المملوكية التي غزت بلاد النوبة.

 

وقد أدت ثورات العربان المتكررة في صعيد مصر والصحراء الشرقية إلى اضطراب سير القوافل وإشاعة الخوف بين من يعملون في أرض المعدن، فاضطر السلطان بيبرس لتأمين تلك الطرق ومد نفوذه حتى ميناء سواكن.

 

وأحس داود، ملك النوبة، بأن المماليك بتصرفهم هذا يهدفون إلى حرمان ممالك النوبة المسيحية من الاتصال بالعالم الخارجي عبر البحر الأحمر، وعبَّر داود عن استيائه هذا بتخريب عيذاب وصعيد مصر سنة 1272، مبتدرًا بذلك سياسة هجومية دفاعية، وبينما كان السلطان بيبرس يعد العدة لتأديب الملك داود، وفد إليه أمير نوبي يدعى شكندة وزعم أن الملك داود قد اغتصب عرش النوبة منه، فوجد بيبرس في ذلك مبررًا للتدخل في شؤون بلاد النوبة، وهذا هو التطور الثاني الذي أشرنا إليه.

 

وفي سنة 1276 تمكن الأمير شكندة، بدعم جيش مملوكي يتبعه كثير من عربان الوجه القبلي من اعتلاء عرش النوبة، وقد أنهت هذه الحملة الوجود السياسي المستقل لمملكة النوبة المسيحية؛ إذ صارت دولة تابعة لسلطان مصر، وساعد تفشي الخلافات بين أفراد الأسرة الحاكمة في تدخل المماليك في شؤون بلاد النوبة متى شاؤوا.

 

وقد ساعد الوضع الجديد على انتشار الإسلام وتكثيف عملية الاستعراب التي بدأت منذ أمد بعيد في بلاد المريس على يد بني الكنز، كما ساعد تدخل المماليك العسكري على إضعاف السياج السياسي لنظام الحكم في بلاد النوبة، ومهد لدخول كثير من العربان مع الجيوش الغازية واستقرارهم في بلاد النوبة، على غير ما أراد السلطان بيبرس، وتزوجوا من أهلها ومن أسرها الحاكمة حتى ملكوا زمام الأمر.

 

وعند موت شكندة اختلفت النوبيون فيمن يخلفه، مما أدى إلى تدخل المماليك عسكريًّا بجيش بلغ من اشترك فيه من عربان الوجه القبلي والبحري نحوًا من أربعين ألف مقاتل، ومن ذلك التاريخ داوم الممالك على تعيين ملوك النوبة، وفي عام 1217 نجحوا في تتويج حفيد الملك داود، الأمير سيف الدين عبدالله برشمبو الناصري، الذي اعتنق الإسلام إبان وجوده في القاهرة، كأول ملك مسلم على مملكة النوبة المسيحية، وأرخ لهذا الحدث باتخاذ كنيسة دنقلا مسجدًا، ولكن عهد الملك سيف الدين لم يطل؛ إذ ثار عليه النوبيون، وبعد حروب طويلة بين المماليك والقوى المحلية تمكن أحد أفراد بني الكنز، الأمير كنز الدولة الذي كان أهله قد صاهروا الأسرة النوبية الحاكمة، من اعتلاء عرش النوبة سنة 1323، وقد أجمل النويري وصف تلك الأحداث بقوله: "فاجتمع أهل النوبة على كنز الدولة وملكوه عليهم، فملك البلاد حينئذ، ولبس تاج الملك واشتغل بالمملكة، وضم إليه العرب، واستعان بهم على من ناوأه، ومن ثم أصبحت الأسرة الحاكمة في تلك المملكة نوبية مسلمة تجري في عروقها دماء عربية بعد أن كانت نوبية مسيحية، منذ ذلك التاريخ قل ذكر بلاد النوبة في المصادر العربية إلا من إشارات قليلة، ففي سنة 1365 ذُكر أن ابن أخت الملك هاجم خاله بمساعدة بني جعد، وأخيرًا انتقل الملك إلى الدو (البدو) شمال دنقلا، وعبثًا حاول المماليك استرداد نفوذهم جنوب الدو، وإن ظل ثمانية من زعماء المجموعات العربية التي تنتشر على أبواب النوبة وعلى الطرقات الموصلة للديار المصرية يكاتبون السلطات المملوكية حتى عام 1368.

 

وقد أحسن العلامة ابن خلدون (1332 - 1405 - 1406م) وصف حالة الضعف التي تردت فيها البلاد بعد أن تفتتت قوى حكومة النوبة المركزية، وتدفق العرب في أعداد كبيرة على تلك البلاد استحوذت عليها، يقول ابن خلدون: "إن الجزية انقطعت بإسلامهم (أي النوبة) ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم واستوطنوها وملكوها، وملؤوها عبثًا وفسادًا، وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا، فصاروا إلى مصانعتهم بالمصاهرة فافترق ملكهم وصار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت، فتمزق ملكهم، واستولى أعراب جهينة على بلادهم، وليس في طريقتهم شيء من السياسة الملوكية للآفة التي تمنعهم من انقياد بعضهم إلى بعض، فصاروا شيعًا إلى هذا العهد، ولم يبقَ لبلادهم رسم للملك، وإنما هم رحالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الأعراب، ولم يبقَ لبلادهم رسم للملك، لما أحالته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلط والالتحام"؛ (ابن خلدون 5/ 1922).

 

ومع أنني أميل إلى أن بني الكنز قد قاموا بدور قيادي وهام في هذه المرحلة إلا أن هذا الترجيح لا ينفي أن جهينة كانت من أهم القبائل العربية التي توغلت في السودان وأكثرها عددًا، ومن ثم أسهمت بدور كبير في الهجرة العربية.

 

وبسقوط ملكة النوبة المسيحية زال الكيان السياسي القوي الذي كان يحول دون دخول العرب في أعداد كبيرة عن طريق وادي النيل، وقد صادف هذا الحدث قمة الصراع بين العربان والمماليك في مصر؛ فتدفق العرب في مجموعات غفيرة عبر الصحراء الشرقية التي كانت مسرحًا لنشاط عربي اقتصادي كبير، وموطنًا لكثير من العرب الذين قدموا لتلك الديار (إما من مصر أو عبر البحر الأحمر) حيث تزوجوا من البجة ونشروا الإسلام، وكثيرًا من مظاهر الثقافة العربية، وسارت هذه الجماعات حتى بلغت أرض البطانة والجزيرة ثم عبر النيل إلى كردفان ودارفور، وهناك التقت هذه الموجة من الهجرة بموجة أخرى كانت قد تابعت شاطئ النيل الغربي حتى دنقلا، فوادي المقدم، ووادي الملك، حتى بلغت مملكة كانم - برنو - في أواخر القرن الرابع عشر حيث كان الإسلام قد بلغ تلك الجبهة قبل عشرات السنوات من بلاد المغرب وشمال إفريقيا.

 

واستقر هؤلاء المهاجرون، وجلهم من البدو، في سهول أواسط السودان الغنية بالمرعى وانفتحوا على السكان الوطنيين من نوبيين وبجة وزنج وغيرهم فصاهروهم، مكررين تجربة التلاحم التي بدأتها ربيعة في بلاد البجة والمريس منذ مئات السنوات، ونتيجة هذا التلاحم الشديد صارت العربية أو العروبة ذات مدلول ثقافي.

 

وعندما بلغ العرب إقليمي كردفان ودارفور اضطروا بسبب غزارة الأمطار أن يتخلوا عن إبلهم ويعتمدوا على البقرة في ترحالهم، ومن ثم عرفوا بعرب البقارة، ولكن بقرهم لم يستطع حملهم جنوب بحر الغزال وبحر العرب ومنطقة السدود بسبب ذبابة التسي تسي التي تؤذي الأبقار، وكانت تلك المنطقة الاستوائية آخر ما بلغه العرب في هجرتهم نحو الجنوب، ولم ينتشر الإسلام فيما يعرف بجنوب السودان حاليًّا إلا في العهد التركي، وقد تأثر إقليمَا كردفان ودارفور بقدوم العرب من شمالي إفريقيا وبلاد المغرب، ولكن أعدادهم لم تكن كبيرة.

 

وقد كانت لتلك الهجرات أثر كبير في القضاء على مملكة علوة المسيحية التي تربطها بعض الصلات بالدولة الإسلامية منذ زمن بعيد، ويخبرنا اليعقوبي أن التجار العرب كثيرًا ما ترددوا على سوبا في القرن التاسع الميلادي، وفي القرن العاشر تمكنوا من إقامة رباط لهم في سوبا، كما أن مجموعات من الأعراب الذين لم يغرهم الاشتغال بالتعدين والعمل في نقل البضائع الشرقية تسربوا إلى مراعي علوة، وقد كثر عددهم بعد أن تدهورت إمكانات المنطقة الشرقية الاقتصادية، وبعد سقوط مملكة النوبة المسيحية، ولما كثر عدد الوافدين وازدادوا منعة وقوة بظهور التكوينات القبلية الكبيرة، وحَّدهم عبدالله جماع القاسمي، وقضى على علوة في منتصف القرن الخامس عشر، ومع أن سقوط علوة كان نتيجة جهد عربي إلا أن مدة تفرد العرب بالسلطة لم تدم طويلًا؛ إذ سرعان ما نازع العبدلاب، خلفاء عبدالله جماع، جماعةٌ من البدو السود اشتهرت بتربية البقر وعرفوا باسم الفونج، ولا يعرف أصل الفونج البعيد، ولكن الراجح أنهم شعب أسود وفد من منطقة أعالي النيل الأزرق وتمثل الثقافة العربية الإسلامية، وربما كانوا سلالة أب عربي وأم سودانية، ومهما كان أصلهم فالمهم أن ظهورهم في التاريخ ارتبط - إلى درجة كبيرة - ببلوغ المؤثرات الإسلامية العربية إلى تلك المنطقة، وتمكن الفونج سنة 1504 من بسط نفوذهم على العبدلاب وعلى رعاياهم من العرب والمجموعات المستعربة وغيرهم من الوطنيين حتى الشلال الثالث، كما شملت مملكة الفونج، أو السلطنة الزرقاء، أجزاء كبيرة من كردفان وبلاد البجة.

 

وفي سلطنة الفونج الإسلامية التي أنشأها عمارة دونقس تمازج العنصران العربي والسوداني - الإفريقي وتكاملا ثقافيًّا في بوتقة الحضارة الإسلامية، مقدمين بذلك نموذجًا جديدًا للتلاحم بين شعوب مختلفة في إطار الدين الإسلامي، ونجد خير دليل على انصهار الشعبين وتكامل الثقافتين في اسم مؤسس دولة الفونج: فعمارة رمز العروبة ودونقس رمز الإفريقية، وقد تكررت نفس الظاهرة عند قيام سلطنة الفور في غرب السودان، وفي مملكة تقلى في أواسطه.

 

يتضح من الصفحات السابقة أن انتشار الإسلام بين الوطنيين - وهم خليط من المسيحيين والوثنيين - يعزى إلى تسرب القبائل العربية في أعداد كبيرة، وإلى توغل التجار في تلك الديار، ولكن عملية التحول إلى الدين الإسلامي كانت بطيئة جدًّا، وحقيقة الأمر أن سودان وادي النيل لم يصبح بلدًا مسلمًا إلا بعد قيام السلطنات الإسلامية كالفونج، والفور وتقلى، والسبب في ذلك أن الديانة المسيحية لم تمت بسقوط الكيان السياسي في مملكتي النوبة وعلوة، بل بقيت المسيحية في بعض مظاهرها حتى وقت متأخر، وقد ظلت الشعائر المسيحية تمارس في أقصى شمال السودان حتى أواخر القرن الخامس عشر (1485م)، وهناك ما يشير إلى وجود بعض المسيحيين في إحدى جزر المديرية الشمالية، ولعلها جزيرة تنقس حتى سنة 1742.

 

إن انتشار الإسلام قد اتسم بالتدرج: فقد دخل العرب مزودين بالقيم الإسلامية واختلطوا بالسكان الوطنيين، ثم توالدوا معهم، وتغيرت طبيعة المجتمع لشعب تغلب عليه الثقافة العربية، ويحمل في أحشائه كثيرًا من السمات الإفريقية؛ ممثلة في سحنته وعاداته وممارساته وفنونه الشعبية، وبجانب قوة الدين الإسلامي ومميزاته التي مكنته من الانتشار، فإن الكنيسة المسيحية في كل من بلاد النوبة وعلوة قد أصابها شيء من الضعف والضمور منذ أواسط القرن الرابع عشر، ويرجع ذلك إلى توقف وصول البعثات الكنسية والقسس من الكنيسة الأم بالإسكندرية، مما أدى إلى فقر روحي وشظف ثقافي عام، وكان ذلك نتيجة العزلة السياسية التي فرضتها الدولة الإسلامية على مملكتي النوبة وعلوة من مراكز الإشعاع المسيحي في الإسكندرية وبيت المقدس، وكان الإسلام هو البديل الوحيد لهذه الحالة التي تتسم بالخواء الروحي والفكري لشعب كان يوحد الله تعالى، ولنذكر أنه رغم انتصار العقيدة الإسلامية في آخر الأمر، فمن الراجح أن الإسلام والمسيحية ظلا يعيشان جنبًا إلى جنب ردَحًا من الزمن، والواقع أن نشر الإسلام لم يصحبه في الأغلب عنف من جانب المسلمين، فهم لم يفرضوا دينهم على المجموعات التي التحموا بها، بل تم التحول سلميًّا، وكانت هذه السمة هي الغالبة في انتشار العقيدة الإسلامية، وقد تم ذلك في جو من التسامح بعيدًا عن جو الحروب والتعصب.

 

غير أن انتشار الدعوة الإسلامية قبل قيام المماليك الإسلامية كان اسميًّا في كثير من مظاهره، فقد اهتم الرواد الأوائل من المسلمين، وجلهم من التجار والبدو وهم ممن تنقصهم المعرفة الدقيقة بالشريعة الإسلامية، بكسب المسيحيين والوثنيين مركزين على السمات العامة للعقيدة دون التفاصيل المرهقة، وقد شارك هاتين الفئتين بعض العلماء، ولكن جهودهم كانت محدودة النتائج فيما يبدو، وقد روي عن أول عالم ورد ذكره في الأخبار، واسمه غلام الله بن عائد اليمني، وكان قد قدم من اليمن إلى دنقلا في منتصف القرن الرابع عشر، أنه قرر البقاء في تلك المدينة للمساهمة في نشر تعاليم الإسلام بعد أن هاله ما رأى بأهلها من جهل وحيرة لانعدام العلماء، وأخذ الشيخ غلام الله يعمر المساجد وينشئ المدارس ويعلم القرآن، وشهد القرن الخامس عشر مجيء حمد أبو دنانة صهر الشيخ عبدالله بن محمد الجزولي الشاذلي، وكان استقراره بالمحمية، حيث بدأ في نشر الطريق الشاذلية في السودان.

 

وبالرغم من مجهودات الرواد من العلماء ورجال الطرق الصوفية من أمثال غلام الله، وحمد، فإن حالة التيه والجهل التي أشرنا إليها لم تنحسر، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كانت البلاد في حالة من الفوضى السياسية والاجتماعية، لم تنقشع إلا بقيام سلطنة الفونج، وهذا ما يؤكده محمد النور ود. ضيف الله عندما أرخ لبداية عهد الفونج بقوله: اعلم أن الفونج ملكت أرض النوبة وتغلبت عليها أول القرن العاشر (السادس عشر الميلادي)، ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قرآن، ويقال: إن الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة، حتى قدم الشيخ محمود العركي من مصر، وعلم الناس العدة، ومحمود العركي "سوداني" من بني عرك، نشأ بمنطقة النيل الأبيض ورحل لمصر حيث درس الفقه المالكي، وعند عودته أنشأ سبع عشرة مدرسة بين الخرطوم والليس لتدريس الفقه.

 

فحين وطَّد الفونج أركان ملكهم، في شراكة مع العبدلاب، ولد نوع من الاستقرار السياسي مهد لنشر الدين الإسلامي بطريقة أعمق وأشمل مما كان عليه الحال من قبل، فتمكن بعض السودانيين من الهجرة إلى مصر والحجاز طلبًا للعلم، كما أن عددًا من العلماء والمتصوفة وفدوا إلى السودان بتشجيع من ملوك الفونج والفور وزعماء السودان الذين أغدقوا عليهم الهبات، وأخذ هؤلاء العلماء يشرحون للناس أصول دينهم، مبينين لهم ما يتعارض مع موروثهم من معتقدات وثنية وموروثات مسيحية، وبازدياد عدد من نالوا العلم من السودانيين خارج البلاد، وعدد العلماء الوافدين، بدأت المرحلة الثانية في نشر العقيدة الإسلامية وتعميق مفاهيمهما على أسس سليمة، وكان لكل من هؤلاء الرواد من رجال الدين أثره، تبعًا للمنطقة التي قدم منها أو درس فيها، فالقادمون من مصر كان جلهم من الفقهاء، والوافدون من الحجاز غلب عليهم الأثر الصوفي، بينما ساهم التيار المغربي (ومن أواسط بلد السودان)، وهو آخرها تأثيرًا، في إثراء كل من الطابع الفقهي والصوفي.

 

وقد وافقت بداية انتشار العلوم الإسلامية في السودان فترة الركود الفكري التي عمت العالم الإسلامي؛ إذ حصر العلماء جهودهم على العلوم النقلية دون اجتهاد، مهتمين بالإيجاز والاختصار وكتابة الشروح والحواشي لها، كما صادفت تلك الفترة غلبة التصوف وهيمنته على كثير من الممارسات الدينية، وتفاعلت هذه الروافد الإسلامية مع البيئة السودانية المترامية الأطراف، والتي تغلب عليها الأمية وصعوبة الاتصال في الداخل وتتعذر مع الخارج، وفي هذه العزلة الفكرية عمل الفقهاء ورجال الطرق الصوفية معتمدين على قدر ضئيل من المؤلفات الخطية.

 

ولكن معظم السودانيين لم تستهوهم الدراسات الفقهية والعلوم الدينية، بل انخرطوا في سلك المريدين من أتباع الطرق الصوفية، وكان أن نهلت الأغلبية من تعاليم رجال الطرق الصوفية، وفي هذا التقسيم بين المنهج الفقهي والطريق الصوفي كثير من التبسيط والتعميم؛ إذ إن كثيرًا من العلماء والمثقفين جمعوا بين علمي الظاهر والباطن، وصاروا من أتباع الطرق الصوفية، وبهذا التلاقح بين المنهجين الفقهي والصوفي وضعت النواة الأولى للخصائص المميزة للثقافة الدينية في السودان، وقد خضع انتشار الإسلام في السودان خضوعًا تامًّا للجو الصوفي المتفشي في العالم الإسلامي - بعد أن كتب له النصر في صراعه مع أهل السنة في القرن الثاني عشر الميلادي، وبعد أن كان التصوف مقصد الصفوة من المسلمين، صار مقصدًا للجميع؛ فانتشرت الطرق الصوفية حتى عمت كل أرجاء العالم، وقوي سلطانها على الخاصة والعامة، وأسبغ بعض أتباع الطرق الصوفية من الجهلة على مشايخها بعض الكرامات وخوارق العادات التي لا تمت للدين بصلة وألبسوها لبوس الدين.

 

وقد أصبح التصوف وسيلة هامة لنشر تعليم الدين الإسلامي في أجزاء كبيرة من آسيا وإفريقيا - فلما بلغت الطرق الصوفية "مملكة الفونج" وجدت التربة صالحة مهيئة لتحقيق أهدافها، فكتب لها النصر، وبما أن المجال لا يسمح بتفصيل تفاعل المؤثرات الإسلامية مع البيئة فأكتفي بذكر بعض الأمثلة لتوضيح ما ذهبنا إليه.

 

اهتم العلماء الأوائل بتحفيظ القرآن للنشء، وتدريسهم مبادئ الفقه والتوحيد في إطار مذهب الإمام مالك الذي ارتضته غالبية السودانيين، ويرجع هذا التمييز للمذهب المالكي أن معظم من هاجر إلى السودان من العرب جاؤوا من صعيد مصر الذي عرف باتباعه لتعاليم ذلك المذهب، كما أن الرواد الأوائل من الفقهاء سواء من درس منهم في مصر كمحمود العركي، وإبراهيم البلواد، ومحمد صغيرون بن سرحان وتلاميذهم أو من قدموا من مصر مثل محمد القناوي المصري - كانوا من أتباع مذهب مالك، وقد أدخلوا تدريس كتابَيِ الرسالة ومختصر خليل في دور العلم في السودان، كما أن علماء المغرب الذين وفدوا إلى هذه البلاد كانوا من المالكية، وقد اعتنقت قلة من السودانيين مذهب الإمام الشافعي، وكان غاية ما يصبو إليه المتعلمون هو دراسة علوم القرآن والفرائض ومبادئ النحو والصرف، وعلوم العربية، والمنطق، والحديث والتفسير، والأصول، والسير والأخبار، ومن الأسر التي عنيت بتدريس علوم الدين أسرة إبراهيم البولادي بن جابر بن غلام الله بن عائد وإخوته إسماعيل، وعبدالرحمن، وعبدالرحيم، وفاطمة، وأحفادهم، وقد كرسوا مناشطهم في ديار الشايقية، ثم انتقلوا إلى أجزاء متفرقة من البلاد، قاموا فيها بإرساء قواعد التعليم الديني على أسس سليمة، ففي الفجيجة أنشأ أحفاد فاطمة بنت جابر وهم أولاد محمد صغيرون بن سرحان مدرسة علمية نالت مكانة مرموقة في عهد الشيخ الزين ولد صغيرون، وصفها د.ضيف الله بقوله: "وجلس في حلقة أبيه من بعده، وشدت إليه الرحال، وضربت إليه آباط الإبل، وطال عمره واشتهر ذكره، وأخذت عليه الآباء والأبناء والأحفاد، وبلغ تدريسه لمختصر خليل ستين ختمة، وبلغت حلقته ألف طالب، وتلامذته صاروا شيوخ الإسلام، وبالجملة فبالبلاد كلها إلى دار صليح نجد فقهاءها وفضائل تلامذته وتلامذة تلامذته".

 

وقام آخرون من أولاد جابر وأبناء عمومتهم الركابية بإنشاء مراكز دينية في أبي حراز، والهلالية، وفي خورسي، وجبل الحرازة في كردفان، وفي قرية الصبابي، التي ربما هاجروا إليها قبل قيام السلطنة الزرقاء، وفي هذه الفترة هاجر المحس من ديارهم بين الشلال الثاني والثالث لشواطئ النيل الأزرق بالقرب من ملتقي النيلين، وأسهموا في إنشاء بعض المراكز الدينية التي صارت مصادر إشعاع علمي مثل مدرسة الشيخ إدريس ود الأرباب في العليفون، ومدرسة الشيخ أرباب الخشن، وقد درس على الأخير حمد ود أم مريوم، ومحمد بن ضيف الله (جد مؤلف الطبقات) وفرح ود، تكتوك، وخوجلي بن عبدالرحمن.

 

وقد قام رجال الطرق الصوفية بدور كبير في نشر العقيدة الإسلامية وتعميق مفاهيمها، وأهم هذه الطرق: القادرية، والشاذلية، والسمانية، والختمية، وسأختصر ملاحظاتي على القادرية لعظم دورها، وقد ارتبط دخولها البلاد، على الأرجح، بالشيخ تاج الدين البهاري البغدادي القادري الذي قدم إلى السودان من بغداد عن طريق الحجاز نحو عام 1577 بدعوة من تاجر سوداني، وأقام تاج الدين سبع سنوات انصرف فيها لنشر الطريقة، وكان ممن انخرطوا في سلكها محمد الهميم بن عبدالصادق، وقد جعله خليفة له، وبان النقا الضرير، والشيخ عجيب المانجلك، والشيخ شاع الدين ولد التويم جد الشكرية، وحجاز بن معين - وأخيرًا عبدالله العركي، وحول الصادقاب، أحفاد محمد الهميم، واليعقوباب، أحفاد بان النقاء والعركيين، أحفاد عبدالله العركي، وحول غيرهم من المشايخ مثل الشيخ إدريس ود الأرباب والشيخ حسن ود حسونة انتشرت الطريقة حتى صارت مقصد غالبية السكان.

 

وقد اتبع رجال الطرق الصوفية منهجًا مبسطًا لنشر العقيدة وتعميق مبادئها يعتمد على التلقين ومداومة الأذكار، كما استعملوا الطبول والترانيم؛ مما حبب العامة في الانخراط في سلك الطريقة، وكان نجاحهم يعتمد على ما يتمتعون به من علم وخلق ديني، وورع وزهد، وصلاح وبركة، وحماية للضعفاء من عنت الحكام، ومساعدة الفقراء؛ فأحبهم العامة وأضفوا عليهم الكرامات، ولم يقف هذا التبجيل على العامة بل شاركهم في ذلك الملوك والسلاطين الدين صاروا لا يقدمون على عمل شيء دون أخذ المشورة من مشايخهم، وقد حظي رجال الطرق الصوفية مثل العلماء بالعون المادي؛ إذ أقطعهم الحكام الأراضي.

 

ومجمل القول أنه بعد اكتمال الهجرات العربية بنهاية القرن الخامس عشر (عدا هجرة الرشايدة) وقيام سلطنة الفونج بدأت المرحلة الثانية لنشر العقيدة الإسلامية وتعميق مفاهيمها على يد العلماء والمتصوفة، وما أن تم النصر للدين الإسلامي وأحرز الاستعراب تقدمًا ملحوظًا في الجزء الشمالي من سلطنة الفونج، وهو الجزء الخاضع لنفوذ ملوك العبدلاب والذي يمتاز بأنه ذو مضمون حضاري عريق، حتى تهيأ لهذه المنطقة أن تحتل مكان الصدارة للإشعاع الإسلامي والحضاري لباقي أقاليم سودان وادي النيل.

 

وبعد أن تهيأت لهذا الإقليم القيادة الدينية والسياسية بدأت هجرة العلماء ورجال الطرق الصوفية للمناطق الحديثة العهد بالإسلام أو الواقعة على أطراف دار الإسلام، وهذه المناطق تقع إما داخل التكوينات السياسية القائمة في سودان وادي النيل، أو على أطرافه، ونخلص من هذا إلى أن جيل رجال الدعوة الإسلامية الذين حملوا مشعلها في المرحلة الثانية كان جلهم من الجيل الجديد: من النوبة المستعربين، أو العرب الذين استوطنوا في هذه الديار منذ عشرات السنوات كالدناقلة، والمحسن، والركابية، والشايقية، والجعليين.

 

وقبل بدء هذه الهجرة من الجزء الشمالي إلى منطقة جنوب الجزيرة، وإلى نقلي، وكردفان، ودارفور، فإن بعض مراكز التعليم القائمة في الشمال قد جذبت أعدادًا كبيرة من الطلاب من المجتمعات حديثة العهد بالإسلام، فقد كان بين طلبة الشيخ محمد القدال القاطن بالقرب من الدويم نحو من ألف وسبعمائة من التكرور - وهو لفظ يشمل مواطني المنطقة الواقعة غرب دارفور، من الفلاتة، والهوسا، والبرقو، وربما بعضًا من الفور، وقد بلغ طلبة الشيخ أرباب العقائد (الخشن) ألف طالب، جلهم من المنطقة الممتدة بين جنوب الجزيرة ودار البرنو، وكان بعض المشايخ يشتري الرقيق أو يحصل عليهم عن طريق الهبة، فكان يدخلهم في الإسلام ويفقههم في الدين ثم يعتقهم ليكونوا دعاة بين أهلهم، وكان أتباع الشيخ حمد ود أم مريوم من قبيلة فزارة التي تعيش في دارفور يأتونه بزكاة الماشية، فيشتري بثمنها الرقيق فيعتقهم بعد أن يفقههم في الدين.

 

أما انتشار الإسلام في كردفان ودارفور فلا يختلف كثيرًا عن النهج الذي سار عليه في حوض وادي النيل الأوسط؛ فقد مر بمرحلتين رئيسيتين، ولعل الخلاف الوحيد بين الحالتين أن انتشار الإسلام كان أكثر بطئًا في منطقتي كردفان ودارفور، فعلى يد المهاجرين العرب الذين وفدوا من الشمال ومن الشرق واختلطوا بالسكان الوطنيين، وعلى التجار الوافدين من شمال إفريقيا وأواسط بلاد السودان وضعت اللبنات الأولى لنشر العقيدة الإسلامية، وبدأت المرحلة الثانية بقيام السلطنات، خاصة مملكتي الفور وتقلى، واللتين كانتا في بعض مظاهر نشأتهما نتاج هجرة بعض الفقهاء إليهما، وقد شجعت هذه الممالك، كما فعل الفونج من قبل، هجرة رجال الدين إليهما، فقام هؤلاء بنشر العقيدة الإسلامية، وكان معظم هؤلاء العلماء من الدناقلة، ومن أفراد المجموعة الجعلية، ومن مصر والحجاز وأواسط بلاد السودان.

 

وببداية القرن التاسع عشر الميلادي كانت العقيدة الإسلامية قد تعمقت جذورها، وامتدت فروعها وارفة الظلال على أجزاء كبيرة من سودان وادي النيل، ولعل خير ما يعكس هذا التطور كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والعلماء الصالحين، الذي توفي مؤلفه محمد النور بن ضيف الله في عام 1809 - 1810م.

 

ثبت المصادر:

اعتمدت في كتابة هذا البحث على بعض مؤلفاتي وما أوردته فيها من مصادر، فمن شاء التوسع في هذا الموضوع، فليرجع إلى تلك المصادر، ومنها:

1، Yusuf Fadi Hasan، The Arabs and the Sudan، Kartuoum، 1970.

 

2، Yusuf Fadi hasan، "Externa Islamic influences nd the Progress of and Islamization in the Eastern Sudan between the 15th and 18 th centuries، he Sudan in Africa.

Yusuf Fadi Hasan (editor)، Khartoum، 1971.


3 - يوسف فضل حسن، مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي، بيروت، 1972.

 

4 - يوسف فضل حسن، دراسات في تاريخ السودان، الخرطوم 1975 (الموضوع الثالث والخامس).

 

5 - يوسف فضل حسن، انتشار الإسلام في سودان وادي النيل، وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، الخرطوم، 1976.

 

بحث مختار من المؤتمر الأول لجماعة الفكر والثقافة الإسلامية، 29 محرم - 2 صفر 1403هـ، نشرته دار الأصالة للصحافة والنشر والإنتاج الإعلامي.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الهجرات القسرية لعلماء قرطبة
  • الهجرات العربية إلى بلاد النوبة والسودان الشرقي وآثارها الثقافية والحضارية
  • نشر الإسلام في القطب الجنوبي
  • دور شبكات التواصل الاجتماعي في نشر الإسلام في أمريكا اللاتينية
  • جغرافية الإسلام في السودان
  • أساليب في التعامل التجاري تتنافى مع الشرع الحنيف
  • قيم الإسلام ونظام التعليم في السودان
  • الثقافة الإسلامية في السودان قبل القرن الحاضر
  • الأستاذ والي خان
  • أثر هجرات المسلمين إلى شرق ووسط إفريقيا

مختارات من الشبكة

  • التربية القرآنية وأثرها في التنمية البشرية (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مفهوم الأثر عند المحدثين وبعض معاني الأثر في القرآن(مقالة - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • الهجرة وأثرها على الشباب المسلم(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الهجرة النبوية أبعادها وأثرها على المجتمع المسلم الناشئ(مقالة - ملفات خاصة)
  • أثر الرقابة الداخلية والخارجية في صلاح البشرية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • هجرة العقول البشرية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • هجرة سيد البشرية دروس وعبر(مقالة - ملفات خاصة)
  • رفيقك عند تلاوة القرآن (تفاسير مختصرة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • طرق الحج عبر السودان قديما وأثرها في انتشار الثقافة الإسلامية في غرب إفريقيا (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • سلسلة أثر الإيمان: أثر الإيمان في حفظ الحقوق وأداء الأمانات (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 21/11/1446هـ - الساعة: 10:16
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب