مع الدكتور مانع الجهني كانت لنا أيام

مع الدكتور مانع الجهني كانت لنا أيام

في السويد عام 1987 وجَّهْنا الدَّعوة إلى الدكتور مانع؛ لحضور المؤتمر الإسلامي في "مالمو"، أعْلَمنا بيوم قُدومه من "فيينا" لكنَّه لم يخبرْنا بموعد الطائرة، أرسلنا أحد الشباب إلى مطار "كوبنهاجن" لانتظار الطائرات القادمة مِن "فيينا"، فلم يجدْه، وفي النهاية ذهبتُ إلى ميناء المراكب السَّريعة التي تربط "كوبنهاجن" بـ"مالمو"، ولم يكن بينهما جسرٌ في ذلك الوقت، وبعد بحثٍ وجدتُ الدكتور مانعًا يجلس في استراحةٍ قُربَ المركب، وحولَه مجموعة من السويديين يتحادث معهم، وبعدَ قليل أنهى حديثَه، وسلَّمْنا على الحضور وغادرنا.

فقلت له: لقد قَلقْنا عليك يا دكتور، فقال: كنت أنوي أن آخذَ سيارة وأحضر مباشرة إلى المركز الإسلامي بـ"مالمو"، لكنِّي تعرَّفتُ في المركب على هؤلاء الشباب السويديين، وبدأنا نتحاور حولَ الإسلام، وحينما وصل المركبُ دعوتُهم لتناولِ القهوة في الاستراحة، وجلسْنا نكمل الحوار، إنهم طيِّبون ويعيشون فراغًا رُوحيًّا، اللهمَّ اهدِهم للإسلام.

في النِّمسا كان لقاؤنا مع عدد من الدُّعاة من أوروبا الشرقيَّة، بعدَ بداية الانفتاح في تلك الدُّول كان الدكتور مانعٌ يقول في اللِّقاء: البرامج العمليَّة أنا أتكفَّل بتمويلها، سوف نسعى لتمويلها من النَّدوة، أو أن أقوم شخصيًّا بالاتِّصال بالمحسنين، المهمُّ أنَّنا نريد برامج عمليَّة، نريد ترجمةَ الكتب الإسلاميَّة إلى اللُّغات الأوروبيَّة الشرقيَّة، نريد لقاءاتِ لتدريب الشباب على الدَّعوة إلى الإسلام، نُريد فتحَ مراكز للطلاَّب والشباب في الجامعات، نريد أن نكسب الوقت، وأن نُقدِّم الإسلام بديلاً، نريد أن نستنهض مسلمي تلك البلاد، وكانت كلماتُ مانع سريعة التأثير، وهكذا كان.

• مع الشباب.. يصارع:

في هولندا أواسط الثمانينيات استضفْنا الدكتور مانعًا في أحد اللِّقاءات الشبابيَّة، وكان اللِّقاء في منطقة خضراء بين الحدود البلجيكيَّة والهولنديَّة، وبعدَما ألقى كلمته للشباب وجاءت فترة الاستراحة، طلب برنامج اللِّقاء، وذهب ليستريحَ في المكان المخصَّص له، وبعد العصر بحثْنا عن الدكتور مانع فلم نجدْه، كنَّا نبحث عن رجل يلبس "دشداشة بيضاء"، فلم نجده.

نظرنا في أرض الملعب الأخضر الفسيح، وإذا بمجموعة من الشباب المشاركين يَلعبون المصارعةَ بلباسهم الرِّياضي، سألتُهم هل رأوا الدكتور مانعًا؟ فقالوا: إنَّه هنا يتصارع مع ثلاثةٍ من الشباب، كان يلبس الزِّيَّ الرياضيَّ، كان مستعدًّا للقاء الشباب والجلوس معهم وممازحتهم، يستعمل الأسلوب الاستفهاميَّ أحيانًا في التربية والتوجيه، فقد سأل الشبابَ عن مساحة هولندا وسكَّانها وعاداتهم، ثم سأل عن إندونيسيا، وعن عدد سكَّانها وثقافتهم، وأخيرًا تعجَّب قائلاً: سبحان الله! هذا البلد كان يحتلُّ ذلك البلد؛ لماذا برأيكم؟!

في فرنسا حضر الدكتور مانع أحدَ المؤتمرات، وكنتُ في استقباله في المطار، وبعد مشاركته في المؤتمر صَحبتُه في جولة بالسيارة رتَّبناها سابقًا لزِيارة عددٍ من المراكز الإسلاميَّة والشبابيَّة والدُّعاة، من باريس إلى "ليل" في الشمال الفرنسي، ثم إلى بروكسل عاصمة بلجيكا، ثم إلى هولندا، ورجعنا عن طريق آخن الألمانيَّة، ثم لوكسمبورج، ومِن ثَمَّ باريس.

وكلَّما اقتربنا من حدود إحدى الدول الأوروبيَّة الخمس التي زرناها، كان الدكتور مانع يُخرج جواز سفره ليطَّلع عليه رجال الأمن، لكن رجال الأمن الفرنسيِّين فقط نظروا إلينا مرَّة واحدة، وقالوا: تفضَّلوا، من دون مشاهدة جواز السَّفر، أمَّا في حدود الدول الأربع الأخرى فلا أحدَ جاء، ولا أحد سأل.

وكان مانع يقول في كلِّ مرَّة: سبحان الله! وحينما وقفْنا على أحد الطرق السريعة في إحدى الاستراحات؛ لنصلِّيَ الظهر والعصر جمعَ تقديم، التفَّ حولَنا بعضُ الأطفال ينظرون، وبعد الانتهاء منها سأل أحدُهم: أنتم مسلمون، أليس كذلك؟! أجبنا: بلى، فقال مانع: وكيف عَرفت؟ قال الطفل: لي صديقٌ مسلم في المدرسة يصلِّي مثلكم، وأخذ مانع يمازح الأطفال، ثم قال لهم: أُريد أن أشتريَ لكم هديَّة؛ لأنَّنا أصبحنا الآن أصدقاءَ، أليس كذلك؟ فرح الأطفال بذلك، وسِرنا راجعين إلى باريس.

• ماليزيا.. الطعام والخلق النبيل:

في ماليزيا في أوائل التسيعنيات التقيتُ الدكتور مانعًا في كوالالمبور في المؤتمر العالمي، وقد كان الطعام الماليزيُّ مشكلةً لبعض الضيوف، فالمالح حلو، والحلو مالح، والشاي والقهوة ربَّما يُشربان معًا، أمَّا الفلفل الحار والزنجبيل فهو أمرٌ لا بدَّ منه، وعلى رغم أنَّني كنت أحد المشاركين فقط، فإنَّني لاحظت أن جموعًا من المشاركين يلتفُّون حولي، ويسألونني عن الطَّعام المناسب لهم، فأُرشدهم إلى ذلك، إلاَّ أنَّ كثرة السائلين جعلني أسأل عمَّن أرسلهم إليَّ، فقال بعضهم: الدكتور مانع، وحينما رأيتُه حدَّثته عمَّا حَدَث، فأكَّد لي ذلك قائلاً: نعم؛ لأنَّني أعرف أنَّك مكثتَ في ماليزيا العام الماضي أربعةَ شهور، فأصبح عندك معرفة بالبلد، وهذا الوقت المناسب للاستفادة منها، فأجبته: لكنَّ هنالك شيئًا آخر جيِّدًا في ماليزيا، قال: وما هو؟ قلت: المرأة حينما تتزوَّج، بعد عامين من زواجهما، أو بعدَ المولود الأوَّل تذهب هي وتبحث لزوجها عن زوجة ثانية؛ لتصبحَ أختها أو صديقتَها لا (ضرَّتَها)، فأجابني: يجب أن نُربِّي بناتِ المسلمين على هذا الخُلق النبيل.

• في مؤتمر النساء المسلمات.. بالسويد:

وفي السويد استضفنا الدكتور مانعًا وزوجتَه للمشاركة في مؤتمر النِّساء المسلمات في أسكندنافية، وقبل إلقاءِ دروسه كان - رحمه الله - يسألني عن نوعيةِ ومستوى المشاركين، وعنِ الموضوع الذي يتحدَّث فيه، وذهبْنا معًا لنصلِّيَ المغرب في أحد المصلَّيات القريبة.

فقلت له: إنَّ أغلب النَّاس هنا هم من العمَّال، ولم أُقدِّمه لهم إلاَّ بصفته شيخًا، فألقى لهم درسًا حوالي 40 دقيقة، كلُّه عبر ودروس من قصص الصحابة، فقام بعضهم يقول: هكذا المشايخ الصح، يا شيخ نُريد أن تبقى عندنا إمامًا.

وفي تلك الزِّيارة عرفتُ أنَّ الدكتور متزوجٌ من ثلاثِ نِساء، فقلت له مازحًا: أقترح أن تكون الرابعة أوروبيَّة، حتى تكتمل الصورة العالميَّة لأمين عام الندوة، فقال: لا يوجد عندي مانع، فقلت له: إذًا أخبر زوجتك الدكتورة حتى تخطبَ لك المرأة الآيسلندية المشاركة في المؤتمر، فقال: لا أظنُّها تفعل ذلك، فقلت: لماذا؟ فهي متعلِّمة وداعية، ولا فرق بين النِّساء الثلاثِ والأربع، فقال رحمة الله عليه: صحيح كلامك، لكن سوف (تفرق معها) في عدد الأيَّام.

الشباب والشيوخ في عمان.

• في الأردن عام 1998م:

عقد المؤتمر العالمي للندوة، وكان عددٌ كبير من العُلماء يشاركون في المؤتمر، فقلت للدكتور مانع رحمة الله عليه: لقد غطَّى الشيوخ على الشَّباب يا شيخَ الشَّباب! فقال: الشاب هو الذي عمره مكوَّن من رقمين فقط، ولا يوجد أحدٌ معنا الآن عمره مكوَّن من ثلاثةِ أرقام، وكان رحمة الله عليه يُكرِّر لنا ذلك كلَّما أراد أن يُشجِّعنا على عدم الاستسلام لتقدُّم السِّن طالما أنَّنا نعمل للشباب، فالقلوبُ يجب أن تبقى شابةً طالما أنها تُسبِّح بحمد الله.

وفي كوبنهاجن بالدنمارك كنتُ مع الأخ العزيز مانع في شهر سبتمبر 2001 قبل أحداث سبتمبر بيومٍ واحد، حيثُ تحدَّث في ملتقى خادم الحَرمَين الشريفَين الثقافي بكلمةٍ نحن في أشدِّ الحاجة إلى تعميق المفاهيم التي جاءت فيها، حولَ كيفية فَهْم وتقديم الإسلام في الغرْب، كيف لا، وهو الذي درس ثقافةَ الغرب وعاش بين أهله؟!

وتمنَّيت لو تُطبع وتُهدى تلك الكلمة لعلماء ودعاة الأمَّة الذين يُسافرون إلى الغرب، فتكون لهم دليلاً ومرشدًا في كيفية فَهْم النصوص وتقديمها للآخرين.

بعد المؤتمر صحبتُ الدكتور بسيارتي مع بعض الإخوة الضيوف لزيارة مدينة مالمو، عبرَ الجسر الذي يربط بين كوبنهاجن ومالمو، زُرنا في أثنائها المسجدَ الكبير والتوسعة الجديدة للمركز الإسلامي، وبعض معالِم المدينة، والتقينا بعضَ الإخوة الدُّعاة في المدينة، وشاهَدَ النُّسخة الجديدة من ترجمة القرآن الكريم إلى اللُّغة السويدية، إضافةً إلى نشرات الندوة، وبعضَ الكتب الأخرى المترجمة.

• آخر لقاء في مكة المكرمة:

في مكَّة المكرَّمة كان آخرُ لقاء لي مع الأخ العزيز الدكتور مانع خلال شهر إبريل 2002م؛ حيث عقد المؤتمر السَّنوي العام لرابطة العالَم الإسلامي، تحدَّثتُ معه حول مشاركةِ المرأة المسلمة في المؤتمر العالَمي التاسع للندوة - في شهر شعبان 1423هـ - فهي تُعدُّ نصفَ المجتمع، ومسؤولة عندَ ربِّها كالآخرين، ودورها التربويُّ في بناء المجتمع أهمُّ وأخطر من دَور الرَّجل، ويوجد من النِّساء المتعلِّمات الكثيرُ منهنَّ اللائي لهنَّ نشاطٌ كبير في الدعوة والخِدمة الاجتماعيَّة، ومنهنَّ المؤهَّلات فكريًّا وثقافيًّا، ونحن بحاجة ماسَّة إلى تلك الطاقات للمشاركة في تقديم الإسلام إلى الآخرين، ولردِّ الشُّبهات، ولإيقاف عمليات استغلال المرأة في الانتقاص من مبادئ الإسلام.

فقال: نحن نسعى لهذا، ونسأل الله التوفيق.

ولمَّا كانت تلك هي رغبةَ الدكتور مانع لمعرفته بأهميَّة الأمر، فقد اقترح في إحدى جلساتِ مؤتمر مكَّة المكرَّمة دعوةَ النِّساء لحضور جَلَسات المؤتمر خاصَّة أنَّ القاعة مهيَّأة لذلك.

• عن آيسلندا:

آخرُ حديث لي مع الدكتور مانع كان هاتفيًّا، حول آيسلندا التي تقع في أقصى شمال غرْب أوروبا، تحدَّثت معه كما تحدَّثت مع بعض الدُّعاة عن كيفية العمل للإسلام في آيسلندا من خلال برامجَ هادفة؛ برامجَ اجتماعيَّة مدروسة نتائجُها مضمونة، برامج إنتاجها غزير، وتأثيرها في التواصُل والحوار الحضاري كبير، فالساحة خصبة مفتوحة، والمسلمون فيها بحاجةٍ إلى مديد العَون لتربية أبنائهم، والآيسلنديون بحاجة إلى معرفة الإسلام ومبادئه الوسطيَّة السمحة، تجاوب مانعٌ مع الفكرة قائلاً: الأمر جديرٌ بالاهتمام، ضع تصوُّرًا للموضوع، وحينما نلتقي في الرِّياض نتحدَّث بالتفصيل حولَ الدعوة في آيسلندا.

نعم، كان لي موعدٌ مع الدكتور مانع في الرِّياض خلال شهر أكتوبر 2002؛ لنتحدَّث عن دعم الدَّعوة في أوروبا عامَّة، وآيسلندا خاصَّة، لكن في أثناء زيارتي لبعض الفعاليات السياسية في الأردن، أطلعهم بها على أحوالِ المسلمين السياسية في السويد، قال لي أحد الأصدقاء المسؤولين: هل تعرف رقم فاكس الندوة العالميَّة للشباب الإسلامي في الرِّياض؟ أجبتُه: نعم، لكنَّه ليس معي الآن، لماذا؟ قال: نريد أن نُرسِل تعزيةً في وفاة الأمين العام للندوة.

أجبته: هل أنت متأكِّد من ذلك؟

قال: هكذا أخبرني بعضُ الإخوة.

لقد كانت صدمةً لنا، مع إيماننا بقدر الله، وأنَّ كلَّ نفس ذائقةٌ الموت، أرسلنا رسالة تعزية، لكنَّنا نعتقد أنَّها لا تكفي في حقِّ هذا الحبيب الذي أعطى الكثير لخِدمة دِين الله، ولشباب الأمَّة في كلِّ بقاع الأرض.

فهو عند ربِّه إن شاء الله في عِداد مَن تَرَك العِلم والصدقة، والأجيال المؤمنة التي تدعو له، لكنَّنا بحاجة إلى تخليد سِيرة هذا الرَّجل؛ ليستفيدَ من تجارِبه الآخرون، بحاجة إلى كتاب نسمِّيه: "هكذا كان مانع الجهني".

نكتب فيه كلَّ ما نعرفه عن الفقيد، ويَكتب فيه كلُّ مَن لازم أو صاحب هذا الداعية، وبذلك نحافظ على هذه التجارِب والأخلاق النبيلة التي تميَّز بها الفقيد، ولعلَّنا بذلك نُكرِّم مُصلحًا جمع بين نقاء الاعتقاد وأصالة الفِكر، وبين ثقافة الزمن المعاصر، ولعلَّنا أيضًا نصنع وقفًا باسم الفقيد خاصًّا لبناء مراكز تربويَّة للشباب المسلم في مناطق العالَم المختلفة، حتى نشجِّع الأحياء من أبناء الأمَّة على العطاء لدِين الله، ولخدمة الأمَّة، بهذا يكون الوفاء، وبهذا يكون استمرار الخير.

المستقبل - العدد - 138، شوال 1423 هـ، ديسمبر - يناير 2002 - 2003م