• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    سيناء الأرض المباركة
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

محنة الأقليات المسيحية في البلاد العربية والشرق الأوسط

د. محمود علي خليل

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 2/10/2014 ميلادي - 7/12/1435 هجري

الزيارات: 8553

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

محنة الأقليات المسيحية في البلاد العربية

والشرق الأوسط

 

دولة الفاتيكان:

تعتبر الفاتيكان أصغر دولة في العالم، وهي دولة دينية وعرقية (مسيحية لاتينية)، يقوم على شؤونها وسياستها كهنة دينيون، يرأسهم حبر منهم (رئيس الكهنة)، الذي يجري انتخابه من "مجلس البطاركة" (الآباء)، لفترة تدوم مدى الحياة، ينال فيها بمجرد انتخابه لقب (بابا)؛ أي: كبير الآباء، وتتم عملية الانتخاب في (الكنيسة السيستانية) في داخل الفاتيكان، وهي كنيسة بُنيت منذ بضعة قرون بجانب كنيسة بطرس الرئيسية - مركز الحاكمية - لتؤدي دورًا خاصًّا في الحياة الأيديولوجية للسياسة الفاتيكانية.

 

يتمتع البابا بكافة السلطات التشريعية والقضائية، والتنفيذية المطلقة، وهو يعين الطاقم الإداري مرة كل خمس سنوات؛ لمساعدته في القيام بإدارة الدولة، ولهم وزير واحد برتبة "كاردينال"، يعينه البابا ليكون مسؤولًا عن العلاقات الخارجية للفاتيكان والكرسي البابوي.

 

شعار الفاتيكان:

يتشكل علم الفاتيكان من مفتاحين متعاكسين، يرمزان للسلطتين الدينية والمدنية، يعلوهما تاج شبه مخروطي، تنبعث منه من الخلف شكل حيَّتين من قماش، تلتف كل منهما حول مفتاح من المفتاحين، ويتدلى من نقطة التقاء المفتاحين وسط الصليب، حبل يربط نقطة تصالب المفتاحين، ثم يتدلى نزولًا وينفصل إلى شُعبتين، تذهب كل منهما باتجاه؛ واحدة إلى اليمين، والأخرى إلى الشمال، وتدخل كلُّ شعبة في ثقب قبضة المفتاح، وتدلى منها نحو الأسفل، والحيتان ترمزان إلى الحرب والسلم، والحبل يرمز إلى القيود التي تشد كلًّا من السلطتين إلى الصليب الرابط بين الدين والدنيا، تعبيرًا عن وجوب الالتزام.

 

تاريخ نشوء دولة الفاتيكان:

يرجع تاريخ تأسيس الفاتيكان إلى سنة 326 م، عندما بنيت أول كنيسة على هضبة من هضاب رومة السبع، وهي الكنيسة الأولى المعروفة باسم كنيسة قسطنطين، وقد بنيت في الموقع الذي يعتقد المسيحيون أنه المكان الذي يحتوي على قبر بولس شاؤول، مؤسس المسيحية الأيديولوجية (أعمال الرسل، والرسائل)؛ حيث اعتُبِر قبره مكانًا مقدسًا، ومنذ ذلك الحين، اعتبرت الكنيسة ملاذًا لسكنى الباباوات في دورهم المدني، ومن هناك بدؤوا يسيطرون على المناطق المجاورة تدريجيًّا، في وقت كانت فيه إيطاليا إسرائيلية السكان، توراتية الدين بصورة عامة، وهذا ما أشار إليه بولس في رسالته إلى أهل رومة في القرن الأول، عندما خاطبهم قائلًا في رسالته إلى رومة فيما كانوا ينتظرون على أحرَّ من الجمر مجيء رسول الله خاتم النبيين المخلص (ماسيا - المسيح المنتظر): "أقول الصدق في المسيح ولا أكذب، وضميري يشهد لي بالروح القدس.. فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح، ولأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد، الذين هم إسرائيليون، ولهم التبني والعهود، والاشتراع، والعبادة، والمواعيد، ولهم الآباء، ومنهم المسيح حسب الجسد.. (الفصل التاسع: 1- 5).

 

ولم تتحرر رومة من طابعها الإسرائيلي (العربي) إلا في القرن التاسع الميلادي على أثر أربع حملات استعمارية كبرى، كانت أولها سنة 410م، عندما هاجمها الغوث الغربيون بقيادة "أليريك"، والثانية سنة 455م، والثالثة سنة 476م، والرابعة سنة 800 م تقريبًا، وفي سنة 1084م أغار النورمانديون على رومة ونهبوها، وتقلص عدد سكانها إلى أربعين ألفًا بعد أن كان يقارب المليون، وعاش نصف السكان الباقين على الحرف البدائية، والنصف الآخر على التسول والصدقات، كما تتأكد عروبة رومة وسكانها من خلال ظاهرة (هانئ بعل)، ومن بعده: (أسرة سبتيموس سفيروس)، التي جعلت من عرش رومة وراثيًّا بدلًا من الفوضى الانتخابية.

 

الراهب أوغسطين (354 - 430 م)، وهو مانوي، يعزو سقوط رومة سنة 410 إلى إرادة السماء! وشبه الإمبراطورية الرومانية ببابل، واعتبر هذه الظاهرة إشارة لبداية "ملكوت السموات" (ملسوس شمايم)، أما المؤرخ "زوزيموس" فقد رد سبب الانهيار إلى المسيحية ذاتها.

 

قبل الغارة الأخيرة للنورمانديين سنة 1084 م، كانت الكنيسة سنة 1070م تقرض الإقطاعيين مقابل حصة (ربوية) في أملاكهم، وأصبح قسم من المؤسسات الديرية مراكز صيرفة، يشرف عليها يهود، بمثابة (بنوك كبرى) في العصور الوسطى، مثل: دير سانت أندريه في فرنسة، كما قدمت منظمة فرسان الهيكل القروض إلى الملوك والأمراء، وأمست أعمال المنظمة المالية من أكبر الفعاليات المالية في العالم المسيحي، ثم ما لبثت أن بدأت الحروب الصليبية.

 

وخلال استمرارية الفاتيكان بممارسة السلطتين الدينية والدنيوية، تمكن الفاتيكان من السيطرة على جميع أراضي الإمبراطورية الرومانية، ونازعه الجرمان خصوم اللاتين هذه السيطرة التي امتدت إلى منتصف القرن التاسع عشر، عندما استولت المملكة الإيطالية الحديثة على معظم أراضي الكنيسة الكاثوليكية سنة 1870 م، وجرى تقليص حصة رئيس الفاتيكان أكثر عندما ضُمت رومة ذاتها إلى تلك المملكة، وسجن عدد من الباباوات بسبب هذا النزاع، ولم يتم حل النزاع بين إيطاليا والفاتيكان إلا فيما بين سنتي (1911 و1921 م) بثلاث معاهدات، عرفت بمعاهدات (لاتران)، التي جرى بموجبها - تحت حكم موسوليني - الاعتراف بمدينة الفاتيكان دولة مستقلة ذات سيادة، ومنح منزلة الكاثوليكية الرومانية مكانة خاصة في إيطاليا.

 

وفي سنة 1984 م جرى تعديل بعض أحكام المعاهدات السابقة بمعاهدة جديدة بين الفاتيكان وإيطاليا، ومن ضمنها أسبقية الكاثوليكية الرومانية كدين رسمي لإيطاليا.

 

سكان الفاتيكان:

جميع سكان الفاتيكان هم من العاملين فيه، ومعظمهم من الرهبان الكهنة، أما الجيش فيتمثَّل في مظهر الحرس الرمزي المكون من سويسريي الجنسية، وهناك عدة آلاف من العاملين المدنيين بصفة مستخدمين، يسكنون خارج حدود مدينة الفاتيكان.

 

واللغة الرسمية لدولة الفاتيكان هي (اللاتينية) التي يتحدث بها اليوم سكان أمريكا اللاتينية منذ أن نشرتها قوات الغزو الكاثوليكي بواسطة الحملات الإسبانية، التي قضت على شعوب وثقافة السكان الأصليين بالعنف والإكراه، كما سيأتي، وذلك بعد طرد العرب والمسلمين واليهود من الأندلس في القرن الخامس عشر؛ حيث تعتبر اللاتينية لغة المسيحية الكاثوليكية، بينما تعتبر اللغة الكلدانية (الآرامية) لغة المسيحية الأرثوذكسية الشرقية، وفي الواقع العملي فإن اللغة الإيطالية هي السائدة بين سكان الفاتيكان وبين العاملين فيه.

 

موقع وجغرافية الفاتيكان:

في شمال غرب العاصمة الإيطالية رومة، وعلى بعد مئات الأمتار من مجرى نهر التيبر، أقيمت مدينة الفاتيكان ضمن سور يبلغ محيطه 3، 2 كلم (ثلاثة كيلومترات) تقريبًا، وهذا السور يجعل من الفاتيكان مدينة منيعة تحمي البابا، رأس الكاثوليكية، من مخاطر الاعتداءات المحتملة من خصومه الدينيين والعلمانيين وغيرهم، والمدخل الرئيس للمدينة هو من ساحة كنيسة بطرس المشهورة.

 

وقد انتهت السيادة الكاثوليكية جغرافيًّا عند هذا الحجم الصغير بعد أن كانت وريثة للإمبراطورية الرومانية التي كانت تشمل أوربا والشرق الأوسط، غير أن تقييد نفوذ البابا الجغرافي بهذا الشكل بعد سلسلة من الحروب الدينية بين الفاتيكان وبين البروتستانت دامت أكثر من مائتي سنة، جعل قيادة الفاتيكان تشعر بالمهانة نتيجة ما لحق بها من خسارة لنفوذها وسيادتها على ممتلكات الإمبراطورية البريطانية، ودفع الباباوات إلى العمل بكل دأب، وتحت شعار سلمي، من أجل الانفلات من هذا القيد، والعودة إلى الحرية والمجد والسلطان والنفوذ، ولما كان هذا ممنوعًا على الكاثوليكية المهزومة في حربين عالميتين، فقد تحول نشاط الفاتيكان إلى العمل الذي يسمونه (تبشيريًّا).

 

تمثيل دولة الفاتيكان في الخارج:

تقيم الفاتيكان علاقات دبلوماسية مع معظم دول العالم، ولها سفراء في عواصم تلك الدول، كما لها سفراء يمثلون دولهم فيها من خلال كونهم ممثلين لبلادهم لدى الدولة الإيطالية، فيقوم السفير بالمهمتين معًا، وتتلخص وظائف سفراء الفاتيكان بمهمتين أساسيتين، وهما:

أولًا: التواصل مع الكنائس الكاثوليكية في تلك الدول، والتنسيق معها في مجالات توحيد الجهود والأنشطة التعليمية؛ للمحافظة على إيمان الرعايا الكاثوليك، وضبط نمط معيشتهم الدينية والدنيوية، والحيلولة دون تحوُّل تلك الرعية إلى مذاهب أو دين آخر - خاصة الإسلام - لأن التحول إلى اليهودية غير وارد عند المسيحيين؛ لأنه يمثل العودة إلى القديم بدلًا من التقدم نحو الأحدث.

 

ثانيًا: العمل بواسطة برنامج (التبشير) الدعوي التقليدي على تنصير الناس من المسيحيين، واجتذابهم إلى الديانة الكاثوليكية، وبصورة خاصة المسلمون الفقراء والأميون والمتخلفون اجتماعيًّا، إلى جانب أولاد المترفين من الأثرياء الذين يُبدون إعجابهم غير المحدود بالثقافة الغربية، ونمط حياتها المتحرر، ممن يدفعون بأولادهم (ذكورًا وإناثًا) إلى مدارسهم التنصيرية، ونواديهم الخاصة، كل ذلك بالتعاون الفعال بين المبعوث الفاتيكاني والمؤسسات الكنسية الكاثوليكية الدينية والمدنية، ومن هنا فإن الفاتيكان يتمتَّع برصيد واسع من الرأي العام الجماهيري الكاثوليكي، يمتد من أقصى الشرق (الصين واليابان) إلى أقصى الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية)؛ حيث يوجد حوالي 50 مليون كاثوليكي، وكندا، ودول أمريكا اللاتينية، وأقليات في الشرق الأوسط.

 

ولأن الفاتيكان - كدولة دينية - في أوروبا العلمانية لا يستطيع أن يخوض حروبًا ضد خصومه بشكل مباشر؛ كيلا يصطدم مع البروتستانتية المهيمنة على العالم اليوم؛ فهو يستخدم أسلوب (الحرب بالنيابة)، أكثر المعتقدات الدينية قربًا إلى معتقداته اللاهوتية هي "الديانة الشيعية"، التي تلفعت بالثوب الإسلامي، وعملت على مصادرته منذ حركة الانشقاق الأولى، وشكلت معتقداته المناوئة لحقيقة الإسلام، بما في ذلك الطعن في صحة القرآن المعتمَدِ لدى جميع مسلمي العالم؛ حيث تفرقت الشيعة بين المسيحية الأرثوذكسية، والمسيحية الكاثوليكية، واليهودية، وربما هذا ما يفسر لنا بكثير من الوضوح أسبابَ وعوامل قوة إيران وحزب الله في وقتنا الراهن، وهي قوة إعلامية أكثر منها قوة واقعية رغم مظهرها العسكري المتشدد، فهناك كثير من القواسم المشتركة التي سنتحدث عنها لاحقًا، والتي تبدأ أساسًا من نظرية (التجسد اللاهوتي) المرفوضة علميًّا وإسلاميًّا ومنطقيًّا، وغير المستعدة لقبول الإسلام الرافض لهذه النظرية؛ ذلك أن نظرية "العصمة" للأئمة عند الشيعة تدخل في باب (التأليه) التجسدي مباشرة؛ حيث يعتبر هذا الباب المصدر الأساس لنظريات تأليه علي بن أبي طالب، ومن ثم "الحسين بن علي"، الذي صِيغَت رواية مقتله الدراماتيكية بأسلوب مأساوي مفجع، يحاكي ما عند قدماء البابليين حول "بعل" وتموز، وأدونيس، وديونيسوس، ويسوع الناصري الذي توحدت فيه جميع تلك المعبودات بشكل أو بآخر، وما من ريب في أن الحركة الشيعية منذ انطلاقتها من الإسكندرية في مصر، وقطيسفون في العراق، إنما نشأت كحركة مقاومة لاإسلامية، بمعنى أن مؤسسيها استخدموا الإسلام بمثابة "حصان طروادة" للعبور منه إليه.

 

أهمية الفاتيكان العالمية:

كانت قوة الفاتيكان منذ نشأته في القرن الرابع إلى القرن السابع عشر، تتبدى في كونه استطاع لمَّ شعث الإمبراطورية الرومانية بعد تصدُّع الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، وانهيارهما أمام الفتوحات الإسلامية العربية، فكانت الفرصة مواتية - دينيًّا على الأقل - لتوحيد أوروبا المشتتة في وجه العرب والإسلام الزاحف باتجاه أوروبا، ففي الفتوحات العربية لا يمكن تجاهل حركة التغيير الديمغرافي والتنقلات والارتحال، التي رافقت مثلًا خروج الروم البيزنطيين من فلسطين وبلاد الشام وتدفقهم - كلاجئين - إلى بلاد الروم، دون أن نتناسى الخلافات والنزاع الديني العقائدي بين المذاهب المسيحية ذاتها، والتي حملت الكاثوليك واليعاقبة إلى رومة وما كان تحت يدها من بلاد، وحملت البيزنطيين الروم إلى روسيا واليونان وبعض دول آسيا التركية، وصولًا إلى منوسوريا ومنوغوليا، وما تركه هؤلاء من انطباع عاطفي حول ما آلت إليه أمورهم بعد أن كانوا حكَّامًا يتمتعون بخيرات الأرض، ويفرضون عليها قوانينهم ومعتقداتهم، وبما أن الإمبراطورية الفارسية قد ارتمت في أحضان الإسلام، فلم يعد أمام الفاتيكان سوى الاعتماد على الشعوب الإسرائيلية ذات الأصول التركية، وعلى الشعوب الجرمانية المعروفة باسم (البرابرة - أو البربر) من ذوي المعتقدات المنوية القديمة، واستقدامهم إلى أوروبا للتغلب عنصريًّا على القوى العربية المبعثرة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وبتلك الطريقة سقطت روما العربية سنة 1084 م، كما سقطت الأندلس التي يعود الوجود العربي فيها إلى أيام الإمبراطور العربي سبتيموس سفيروس على الأقل، والمعروفة قديمًا باسم (بلاد عسفان)، وهو الاسم الذي أعجم إلى (إسبان)، كما كانت تعرف عند بني إسرائيل القدامى باسم (عبوريا)، باعتبارها موقع عبور موسى ومن معه المجاز، أو المعبر المعروف اليوم باسم (المضيق؛ أي: مضيق جبل طارق)، ثم أعجم الاسم أيضًا إلى (إيبيريا).

 

كل هذا من شأنه أن يفسر لنا عمليًّا عواملَ وأسباب حملات الوندال والنورمان وغيرهم على تلك المناطق، بما في ذلك شمال إفريقيا، واستيطان جماعات كبيرة من البربر هناك، وهذا بالطبع من خفايا التاريخ غير المتداول.

 

بعد انتهاء تلك العمليات التي تعتبر في نظر المسيحية الكاثوليكية، وفي نظر الشعوب اللاتينية والجرمانية - عمليات تحرير وتطهير، استطاع الفاتيكان أن يُحكم قبضته بقوة على الجغرافيا الأوروبية، ويمارس فيها السلطتين - الدينية والسياسية - باسم ما كان يعرف بالإمبراطورية الرومانية المقدسة دون منازع، باستثناء تقدم المسلمين وعبورهم المجاز (مضيق جبل طارق) لفتح وتحرير بلاد عسفان، ووصولهم إلى القسم الجنوبي من فرنسا؛ حيث طوقوا بذلك أوروبا الرومانية من الشرق والغرب، وهو ما ساعد الفاتيكان على توحيد أوروبا في وجه الخطر الداهم[1].

 

لقد كانت الفتوحات الإسلامية هي أحد أهم عناصر قوة الفاتيكان، وقد صار من اللازم الإبقاءُ على شعلة العداء مستعِرةً من خلال الشحن النفسي والديني، أو ما يسمى: (الإرهاب الفكري) ضد الإسلام والمسلمين؛ لبقاء تلك القوة وبقاء هيمنتها، وقد لا يلام الأوروبيون في التصدي السياسي ومقاومة الزحف الإسلامي جغرافيًّا وقوميًّا، كما لا يلام المسلمون في زحفهم الذي يعتبرونه تحريرًا لأراضٍ كانت لهم في السابق، ولكن عندما يتعلق الأمر بالدين وبرؤساء دينيين، فإن اللجوء إلى التحقير والسِّباب والطعن والإهانة والتشويه لا يعود أمرًا دفاعيًّا مبررًا؛ وإنما يعكس أمرًا يتجافى مع العِلم والمنطق، ويكشف عجزًا عقليًّا وفكريًّا عن مواجهة حقائق أقوى، ثابتة، وغير قابلة للتبديل أو التحريف، أو مواجهتها ببديل من نوعها أقوى منها، فإذا اتحد هذا العجز وهذا التخلف عن العلم والعقل مع (الجهل) بطبيعة وأصول الإسلام، تحوَّل الأمر كله إلى نوع من الكراهية العدائية، التي لا تليق بالباحثين عن طبيعة الرب الإله (..)، ولا من يتُوق إلى معرفة الحقيقة - لخدمة الناس، وليس لاستعبادهم - من أجل الحق والسلم والأمن للبشرية كلها، التي أراد الله لها الخيرَ وصلاح الحال في الدنيا والآخرة.

 

مصدر القوة الثاني للفاتيكان هو مواقع الأتباع والرعية في العالم الخارجي، وما من شك في أن المفهوم التنظيمي للكنيسة، يتخذ غالبًا شكل التنظيم الحزبي المتماسك قسرًا وطوعًا؛ فالقسر يبدأ بالجوانب العملية المتعلقة بالأحوال الشخصية، مثل: التعميد المناولة، وعقود الزواج الملتحم الذي لا فكاك له، والمواليد، والإرث والوفاة والدفن، وغير ذلك، مما يجعل الفرد مرتبطًا حكمًا بالكنيسة التي يسيطر عليها رجل الدين الكاهن، حيث تبدأ علاقة واقعية بين تابع ومتبوع، لا يمكن الوصول إلى المعارف الدينية وطريق الخلاص بعد الموت إلا من خلال رجل الدين نفسه، باعتبار المسيحية ديانة فلسفة وأسرار لا يستطيع العامة فهمَها بسهولة، ولغتها الأساسية هي السريانية والإغريقية، اللتان لا يفهمهما كثير من الناس، أما الطوعية فتتمثل في: قبول الناس للمعتقدات المسيحية بحكم البيئة والسلوك العام في غياب البديل - أو في حال وجود بدائل مرفوضة أو غير مقنعة - من جهة، ثم في قبول المسيحية هربًا من السيف الذي أشعل أوروبا بالحروب التي خاضها الملوك الكاثوليك منذ أيام أول الملوك الفرنسيين (كلوفيس/481 - 511 م) إلى سنة 732 م، عندما تمكن شارل مارتل من وقف التقدُّم الإسلامي في وسط فرنسا، وما تبع ذلك بعدها من حروب أوروبية - أوروبية لبسط السلطان المسيحي في تلك البلاد بحد السيف، بحسب ما تقول كتب التاريخ.

 

لقد كانت الشعوب الأوروبية آنذاك - وبغض النظر عن دياناتها المختلفة - تعتبر جميعها وثنية في نظر الكنيسة الكاثوليكية (بما في ذلك الإسلام نفسه).

 

المصدر الثالث لقوة الفاتيكان يكمن في الكنائس الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط؛ ذلك أن أصل المسيحية مرتبط جغرافيًّا بالمناطق العربية التي كانت مناطق لبني إسماعيل وبني إبراهيم العرب، ويقال لاتحادهم: (قريش)؛ من التقريش، وهو التجميع، والمسيحية لا تخفي ذلك الانتماء إلى (إبراهيم) العربي - أبي العرب - وإن كانت ترى - كما الآراميين - أنه كلداني عبراني مرتبط ببابل وليس بمكة بعد تحويله إلى "أبرام".

 

وإذا كان هذا هو أصل ومصدر الصراع الحضاري بين الإسلام وبين التهويد من جانب، ثم لاحقًا بين المسيحية وبين الإسلام من جانب آخر، فإن عوامل أخرى لا تقل أهمية في هذا الصدد تكمن في أن الدور البابلي في المسيحية - وهو غير عربي، ومزاحم للعرب على مواقعهم، وقام به اليهود والمجوس معًا - يعتبر المسيحية بمثابة (حرب وقائية) وهجوم استباقي لاحتواء الوعد التوراتي برسول الله، المخلص لبني إسرائيل من الضياع؛ (انظر: سفر تثنية الاشتراع: 18/15- 19، و33/1).

 

أما الكنائس المساندة للفاتيكان في تلك المنطقة، فهي:

1- الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، ويصف المؤرخ "يوسيفوس" الكلدانيين ذوي الثقافة الإغريقية بأنهم (كيسديم؛ أي: السحرة)، وهم البابليون، وتعرف كنيستهم اليوم باسم كنيسة بابل الكلدانية، ومركزها بغداد، وتتبَعُ المعتقد الكاثوليكي الروماني بعد أن انشقت عن كنيسة المشرق الأرثوذكسية (كنيسة الأثوريين/ غير الأشوريين) المعروفة بكنيسة النساطرة، التي انشقت بدورها عن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية سنة431 م، والتي تنعت بالكنيسة الغربية؛ نسبة لموقعها في غرب بلاد أثور.

 

ويرجع سبب الانشقاق إلى أن كنيسة المشرق الأرثوذكسية أرادت في القرن الخامس عشر، إلغاء نظام الانتخاب لمنصب البابا، وجعل هذا المنصب وراثيًّا عائليًّا في نسل البطريرك "مار شمعون الرابع" الملقب (باصيدي)، لينتقل منه إلى ابن الأخ أو ابن العم، غير أن المطارنة رفضوا ذلك عام 1552 م، كما رفضوا قبول التسلسل الوراثي الذي سيأتي بصبي صغير غير مدرب إلى سدة البطريركية (..)، حيث كان هذا الصبي هو وريث مار شمعون الوحيد، فاجتمع المطارنة في أربيل (العراق) وانتخبوا "يوحنان الثامن " - سولاقا، رئيس دير الربان هرمزد" بدلًا من البطريرك الصغير "شمعون برماما"، ومن ثم غادر يوحنان إلى أورشليم برفقة سبعين رجلًا، ومنها توجه إلى رومة مركز الكثلكة، حيث نال رسامة قانونية من البابا، وبعد مباحثات طويلة مع الفاتيكان تعهد يوحنان بالانضمام رسميًّا للكنيسة الكاثوليكية، وأصدر البابا "يوليوس الثالث" براءة لإعلان يوحنان سولاقا بطريركًا، وذلك بتاريخ 20/3/1553 م، وبعد ذلك بعشرين يومًا رسمه البابا مطرانًا، وسلمه درع السلطة الكنسية، وجعل مقره في بلاد "ديار بكر" جنوب شرق تركيا، بينما كان البطريرك الوراثي في "القوش" شمالي العراق.

 

استمر هذا الوضع إلى سنة 1662 عندما قام البطريرك في ديار بكر "مار شمعون الثالث عشر- دنحا" بالخروج عن سلطان رومة، ونقل مقره إلى جبل "هكاري"، ونزل في قرية كوشانيس في تركيا، فرد الفاتيكان على هذه الخطوة بأن أقام بطريركًا جديدًا ليقود (الأشوريين) ومن بقي على ولائه للكنيسة الكاثوليكية، ولم تتحقق الشركة الكاملة مع الفاتيكان إلا في عام 1830 م عندما عمد البابا "بيوس الثامن" إلى التصديق والتأكيد على تسمية "مار يوحنا الثامن - هرمز" رئيسًا للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، ومنحه لقب: (بطريرك بابل للكلدان).

 

وإذا كنا قد لاحظنا هنا وجود مصطلحين (أثوريين) في أربيل، و(أشوريين) في ديار بكر، كما لاحظنا وجود رموز فرثية في أسماء البطاركة (هرمز، هرمزد)، فإن لذلك رموزًا ودلالات خاصة، منها:

أن الأشوريين في ديار بكر هم عرب من ربيعة، وتحمل مناطقهم اسم جدهم بكر بن وائل، ومعهم بقايا قبيلة الحوريين، وفلول العامة من الأشوريين الذين بقوا في مناطقهم بعد انهيار إمبراطوريتهم، وكانوا من الذين نصروا المسيح عيسى ابن مريم ابنة عمران في القرن السادس قبل يسوع الناصري، وكانوا أول من حمل اسم النصارى في التاريخ إذ قالوا: نحن أنصار الله.

 

إن تحويل تلك الجماعة التي كانت أول من حمل صفة النصارى، إلى المسيحية البابلية اليسوعية - يبقى هدفًا أساسيًّا لمختلف الكنائس؛ لمنع الجماعة من العودة إلى الأصول النصرانية لعيسى ابن مريم ابنة عمران، وقد كان لهم على مدى التاريخ الطويل للمسيحية دور أساس في الصراع المسيحي - المسيحي حول طبيعة المسيح (بدون تحديد اسمه: عيسى أم يسوع) الجسمية واللاهوتية، وكان لهم دور كبير في حفظ كثير من تراثهم النصراني الذي أثار كل المعضلات الفكرية والفلسفية والعقائدية الجدلية حول طبيعة المسيح إلى هذا اليوم، وهؤلاء عرب أقحاح لا يشعرون بالغربة عن بيئتهم العربية ولا عن مصالحها، وفي آباء هؤلاء نزل قول الله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المائدة: 82]، وقدَّم هؤلاء لأمَّتهم كثيرًا من المثقفين والمفكرين والسياسيين والعلماء، ليس آخرهم "طارق عزيز" على سبيل المثل - نائب رئيس الوزراء العراقي ووزير الخارجية السابق في عهد نظام صدام حسين - ومنهم كذلك "النصارى" الذين وجدهم الكهنة الصابئة الإيسينيون حول البحر الميت في القرن الثاني قبل يسوع، وكانوا يحتفظون بالإنجيل الصحيح لـ "عيسى" ابن مريم ابنة عمران الملك، الذي تحول فيما بعد التحريف إلى "عيساي"، وبالإعجام المعرب في الآرامية إلى (إشعيا)، أو: (esaie بالفرنسية، و(e-sai، as) بالإنجليزية، و(jesaja) بالألمانية.

 

أما الأثوريون، فيراد بهم تلك الجماعة اللاتينية - الآرية - التي استوطنت الجبال شرقي بلاد أشور، والتي صارت تعرف اليوم باسم "الأكراد"، وكنيستهم في أربيل، وهم أصحاب الثور المجنح، وقد جرى تعمد الخلط والتوحيد بين الأثوريين وبين الأشوريين؛ لتذويب وإنهاء وجود الأكثرية في الأقلية، حتى صار التاريخ ليتحدث عن الأشوريين بصفتهم (أثوريين)، وعن الأثوريين بوصفهم أشوريين، ثم صار السريان أشوريين كذلك، وصار الجميع في العصر الحديث بعد هذا الخلط (أكرادًا)، وصار الأكراد العرب (كوردو) آريين جرمانيين وآسيويين يابانيين، كما يدعي زعماء الأكراد اليوم، (كورد - شورد - كورت - شورت - كاراد - كارات - شاراد... إلخ).

 

أبناء الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية والأرثوذكسية هاجروا بأعداد كبيرة إلى أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة)، واستوطن معظمهم بولاية ميتشيغان، وهاجر قسم منهم إلى أستراليا وإلى أوروبا.

 

ومنذ سنة 1996 جرت محاولات قام بها مار دنخا الرابع بطريرك الأثوريين، ومار روفائيل بداويد بطريرك الكلدان البابليين، لإعادة توحيد الكنيستين في إطار اتحاد الكنائس العالمي، الرامي لتوسيع السيطرة المسيحية العقائدية في دول العالم الثالث، وخاصة في دول العالم الإسلامي.

 

بطريرك الكنيسة المشرقية الحالي هو "مار عمانوئيل الثالث دلى"، انتخب عام 2003 م خلفًا لسلفه مار روفائيل بيداويد، الذي توفي في ذلك الوقت[2].

 

كذلك جرت محاولات كثيرة عبر التاريخ للتوحيد بين الكلدان والآراميين من جهة، وبين السريان في سوريا وشمال العراق وشرق وجنوب الأناضول من جهة ثانية؛ ذلك أن الكلدان بجذورهم الهندية يعتبرون أنفسهم أساسًا لحضارة كلدو، وبعد سيطرة الساميين الآريين بوصفهم (آراميين) على كلدو وأغاد وسومر/ سام - آر، وقضوا على الكلدانيين، بدأ هؤلاء يعتبرون أنفسهم "أثوريين" ساميين؛ أي: من بني الفراعنة الذين جاؤوا بعبادة "الثور" (ها ثور - أثور).

 

ويضيف "أدي شير": "إن اسم الكلدان، أو الأثوريين، يطلق على شعب واحد دون تمييز؛ لأن لسانهم واحد، وديانتهم وتمدنهم وعوائدهم واحدة لا تختلف، غير أنه لما انتشرت الديانة المسيحية بينهم أهمل المتنصرون الاسم الكلداني الأثوري؛ لنفورهم من كل ما يدل على الوثنية؛ لأن اسم "الكلدان" في تلك الأحقاب صار مرادفًا للمنجم والفلكي، فاشمأزوا منه (..)، وسموا أنفسهم (مشارقة)، وكنيستهم "الكنيسة الشرقية"، أو الكنيسة الكاثوليكية، أو الكنيسة التي في فارس، ولقبوا بطريركهم بـ "بطريرك المشرق"، أو جاثليق "ساليق" (سلوقية) وقطيسفون (المدائن)، وقد أطلق عليهم اسم "السريان الشرقيين"، ولكنه اسم غريب (..) خارجي، أطلقه المصريون ثم الإغريق على أهل سوريا، ومن الإغريق استعاره "الآراميون الغربيون"، ومن "السريان" الغربيين سرى إلى المتنصرين من الكلدان الأثوريين؛ لأنه من سوريا أتتهم الديانة المسيحية، فتسموا باسم "السيريان"؛ تمييزًا لهم من الكلدان الأثوريين الوثنيين، فلم يكن الاسم السرياني يومئذٍ يشير إلى أمة، بل إلى الديانة المسيحية لا غير"[3].

 

2- الكنيسة السريانية الكاثوليكية: هي كنيسة شرقية مستقلة، ولكنها مرتبطة بشركة كاملة مع الكنيسة الكاثوليكية في رومة (الفاتيكان) بفرعها الشرقي.

 

وهذه الشراكة والاستقلال يعنيان: أنه يسمح للسريان الكاثوليك بالاحتفاظ بعاداتهم وطقوسهم وصلواتهم بلغتهم السريانية، حتى وإن كانت تخالف - أحيانًا - الطقوس والتقاليد الكاثوليكية الغربية.

 

المركز الرئيسي لهذه الكنيسة هو في أنطاكية في تركيا، ولكن أحدًا من رؤسائها لم يُقِم هناك أبدًا، وإنما تنقلوا بين سوريا ولبنان منذ تأسيسها، أما المقر الحالي لبطريرك السريان الكاثوليك فهو في بيروت، العاصمة اللبنانية، ويحمل بطاركتهم جميعًا اسم (أغناطيوس) كاسم أول، يليه الاسم الشخصي للبطريرك.

 

على أثر نجاح الكنيسة السريانية الأرثوذكسية (النسطورية) في تحالفها مع المغول ضد المسلمين، ومساندة تلك الكنائس الأرثوذكسية لكل من (جان كيس خان، وهولاكو)، سعت الكنيسة السريانية الكاثوليكية للدخول في مشروع إعادة توحيد الكنيستين، وذلك في القرن الثالث عشر، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل.

 

وفي سنة 1626م بدأ المرسلون اليسوعيون والكبوشيون عملهم بهمة ونشاط لتحويل السريان الأرثوذكس إلى الكثلكة، وذلك بدعم ظاهر من القنصل الفرنسي في حلب، وقد استجاب العديد من السريان ودخلوا في شركة إيمانية مع الفاتيكان.

 

في سنة 1662م، توفي بطريرك السريان الكاثوليك "أغناثيوس يوسف الثاني كمشيح"، فقامت الجماعة الكاثوليكية باختيار بطريركها الخاص، وانتخبت "أندراوس أخيجان" الأرمني المارديني كبطريرك لها، ومنه تبدأ سلسلة بطاركة السريان الكاثوليك.

 

تعرض السريان الكاثوليك خلال القرن الثامن عشر لمقاومة شديدة من الأرثوذكس الذين تمتعوا إلى عهد طويل بحماية سلاطين العثمانيين، الذين لم يعترفوا إلا بالأرثوذكسية كمسيحية حقيقية، وكان مركز بطريرك الأرثوذكس في إستانبول ذاتها.

 

وما من شك في أن هذه الحماية تركت تأثيرها المباشر على العلاقات الأوروبية - العثمانية منذ ذلك التاريخ، وإذ فرغ كرسي البطريركية السريانية الكاثوليكية من مدبر بعد اضطرار البطريرك "أغناطيوس ميخائيل جروة" إلى الفرار واللجوء إلى لبنان سنة 1782م، غير أن هذه المعاناة انتهت - تبعًا لتطور التحالفات العثمانية مع الأوروبيين سياسيًّا وعسكريًّا - عندما اعترفت السلطات العثمانية بالكنيسة السريانية الكاثوليكية كنيسة مسيحية مستقلة كغيرها من الكنائس التابعة للسلطنة، وذلك سنة 1829.

 

بعد ذلك بثلاثة أعوام، استقر كرسي البطريرك سنة 1831م في مدينة حلب، غير أن المسيحيين هناك رفضوه، فاضطر لتغيير مقره سنة 1850، ونقله إلى مدينة (ماردين) في تركيا.

 

في الحرب العالمية الأولى، كان الألمان اللوثريون - البروتستانت - حلفاء لتركيا، وقد وعدوها بأن يعملوا مع الغرب لإنهاء الامتيازات الأجنبية التي كانت ذريعة لتعزيز المسيحية الكاثوليكية في الإمبراطورية التركية العثمانية، وكان هذا الموقف الألماني من أوكد الأسباب التي جعلت أوروبا تحرك الأقليات الكاثوليكية في فتن هنا وهناك؛ لتتخذها ذريعة للتدخل العسكري ضد تركيا.

 

وعندما تحرك الأرمن والسريان ضد بعض القرى الإسلامية وذبحوا أهلها في تركيا (والعلاقة بين الأرمن والسريان كانت دائمًا وثيقة وقوية حتى قبل المسيحية)، كان على تركيا أن ترد على هذا العدوان بحملة تأديبية وطنية ودينية وسياسية، تهدف إلى إضعاف المسيحية الكاثوليكية لمصلحة التحالف التركي الألماني البروتستانتي، وهكذا تعرض الأرمن لحملة انتقام شديدة، كما تعرض السريان الكاثوليك لحملة مماثلة، ومثلهم عانى السريان الأرثوذكس في جنوب تركيا بشكل عام، ويقول السريان الكاثوليك: إنهم فقدوا في تلك الحملات 75000 شخص منهم، وبعد انتهاء الحرب، وبناءً على تقسيم بلاد الشام حسب اتفاقية (سايكس/ بيكو سنة 1916م)، جرى نقل المقر البطريركي للسريان الكاثوليك سنة 1920 إلى بيروت، حيث لجأ كثير من رعايا الكنيسة إلى لبنان فرارًا من الانتقام التركي.

 

بطريركهم اليوم هو "أغناطيوس بطرس السابع" المنتخب عام 2001، ويبلغ عددهم حوالي (124000) نسمة، يتوزعون في لبنان والعراق وسوريا، والمهجر، أما الثقل الرئيسي ففي لبنان والعراق، وهذه الكنيسة هي عضو في مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، وتلعب دورًا إيجابيًّا في عمليات التنصير، وفي تعزيز العلاقات التسامحية بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، إضافة إلى دور مماثل في الحوار الإسلامي المسيحي.

 

3- كنيسة الروم الكاثوليك/ لا تختلف كثيرًا عن كنيسة السريان الكاثوليك؛ فهي مثلها كنيسة شرقية مستقلة، مرتبطة بشركة تامة مع الكنيسة الكاثوليكية في روما، الموطن الأصلي لهذه الكنيسة هو الشرق الأوسط، وأصول أغلب أتباعها هي من السريان والأقباط، وينتشر أكثر أتباعها في بلاد الاغتراب.

 

لغة الكنيسة الطقسية الليتورجية هي اللغة العربية، وتعرف بكنيسة الروم الملكيين، ولكل مقطع من هذا الاسم دلالات خاصة؛ فلفظ "ملكيين" (malkhoyee) أطلق على المسيحيين السريان وقسم من الأقباط الذين قبلوا قرارات مجمع خلقيدونية الذي انعقد سنة 451 م[4].

 

لما كان ملوك الروم قد اتخذوا من القسطنطينية مركزًا لإقامتهم، فقد عزز هذا الاختيار مرتبة الكرسي البطريركي القسطنطيني، وَفاق كرسي الإسكندرية منزلة، كما يقول الأسقف أدي شير، وهذا يعني أن السيطرة المسيحية الأولى في الشرق الأوسط كانت لبقايا الدولة الإغريقية البطليموسية، والرومانية فيما بعد في الإسكندرية، أما الكنيسة الكلدانية فقد كانت تتبع بقايا دولة الإغريق السلوقيين، ولما كان البطالمة والسلوقيون في حال عداوة وتحاسد؛ نظرًا لتباين الثقافتين وتنازعهما بين أورمزد الفرثي البابيلي، وبين "زوس" الإغريقي، فقد انتقل هذا الصراع إلى المسيحية ذاتها، التي يعتبر الكلدان أنهم صناعها، بينما يعتبر الإسكندرانيون أنهم هم الذين وهبوا المسيحية اليسوعية قيمتها الفكرية من خلال جهودهم في فلسفتها وبلورتها.

 

لذلك كان بطاركة الإسكندرية يحسدون كرسي بيزنطة، وحدثت بينهما منازعات شديدة بحسب ما ورد في قاموس اللاهوت الكاثوليكي الذي ألفه علماء ألمانيا الكاثوليك، ومن هذه المنازعات ما كان بين "ثنوفيلوس" بطرك الإسكندرية ويوحنا الشهير بلقب "فم الذهب" الذي جلس على كرسي البطريركية في القسطنطينية سنة 397م، فشق ذلك على ثنوفيلوس؛ لأنه كان يريد أن يعطي الكرسي لواحد من حزبه، فصار يحتال (والتعبير للأسقف أدي شير) على يوحنا فم الذهب، حتى استطاع أن يعقد مجمعًا في القسطنطينية ذاتها سنة 403 م، وحكم ظلمًا على فم الذهب وأنزله عن كرسيه.

 

وقام بعد ثنوفيلوس ابن أخيه كيرولوس على بطريركية الإسكندرية سنة 412 م، وقضى كل حياته في النزاع والخصومات في أمور شتى، ومما اشتهر به أكثر من أي شيء آخر مقاومته لنسطور بطريرك القسطنطينية وتفنيد آرائه".

 

عقيدة النساطرة:

جلس نسطور على الكرسي البيزنطي سنة 428 م، كان متكبرًا يحب النزاع، فاضطهد الآريوسيين، وأراد هدم كنيستهم، فالتزموا أن يحرقوها بأنفسهم، وبسببها احترقت بيوت كثيرة؛ ولأجل ذلك سمي نسطور (المحرق)، كما اضطهد الذين كانوا يعيدون الفصح مع اليهود من المسيحيين.

 

وتتركز عقيدة نسطور المسيحية في التالي: "إن في المسيح طبيعتين، وأقنومين، بشخص واحد، وإن لاهوت المسيح لبس الناسوت، وصار الناسوت (الجسم الإنساني) هيكلًا للاهوت ومسكنه..؟ وإن مريم لا يجوز أن تدعى "أم الله"، بل (أم المسيح الإله)؛ لأنها لم تلد اللاهوت، بل ولدت شخصًا هو إله وإنسان معًا، وهذا كان رأي أغلب العلماء الذين اشتهروا في أنطاكية ونواحيها - بحسب المؤرخ لابور صفحة 248/252- مثل ديودوروس أسقف طرسوس، وثنودوروس أسقف مصيصة، ويوحنا فم الذهب.

 

وما أن انتشر تعليم نسطور (المنطقي) حتى قام عليه كيرولوس الإسكندري، وشمر الساعد ليسحق رأسه (والكلام لأدي شير)، وكان كيرولوس تارة يقول: إن في المسيح طبيعة واحدة، هي طبيعة الإله، الكلمة المتجسم (بحسب ما ورد في كتاب "تاريخ مؤلفي الكتب المقدسة")، وتارة يقول: إن في المسيح طبيعتين متحدتين، لكن المسيح واحد، ولم يكن له ثبات على رأي، أو بالحري لم يكن يتجاسر أن يوضح أفكاره توضيحًا تامًّا، كما قال عنه يوحنا، بطريرك أنطاكية، وكثير من الأساقفة المعاصرين له، ولأجل هذا التردد اعتبره الكاثوليكيون كاثوليكيًّا، واعتبره "المنوفستيون" (اليعاقبة) منوفستيًّا.

 

في هذه الأثناء، كان على كرسي رومة "ثنوديوس الثاني" (لم نعثر على اسمه في سلسلة أسماء الباباوات)، فأمر بالتئام مجمع مسكوني في أفسوس (مجمع أفسوس) سنة 431 م لحسم هذا النزاع والجدل، وكان كيرولوس الإسكندري رئيسًا لهذا المجمع، الذي خرج بقرارات حرم فيها نسطور وتعاليمه، وأنزلوه عن كرسي البطريركية، أما يوحنا بطريرك أنطاكية وأساقفته فقد دافعوا عن نسطور، وعقدوا هم أيضًا مجمعًا لهم في أفسوس ذاتها حرموا فيه كيرولوس، واجتهدوا في إبطال مجمعه وقراراته، غير أن قوة يوحنا وجماعته تلاشت أمام أوامر الحكومة، وأرغِم يوحنا البطريرك على عقد مجمع في حلب سنة 432 م، التأم فيه جميع أساقفة الشرق، باستثناء أسقف أورهاي (الرها) المؤيد لكيرولوس، واتخذ المجمع قرارات حرم بها نسطور وتعليمه، وهكذا استطاع كيرولوس الإسكندري أن يحقق الانتصار للإسكندرية، ويمضي مع أساقفته "قانون الإيمان" الذي أرسله إليه يوحنا، وهو ذات القانون الذي حدده يوحنا وأساقفته في مجمع أفسوس، وقاومه يوحنا نفسه، وكان فيه: "إن يسوع هو إنسان وإله معًا، وإن فيه طبيعتين: طبيعة إلهية، وطبيعة إنسانية، وإن مريم هي أم الله" (سبحان الله وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا)، وقدم الطاعة ليوحنا بعض الأساقفة المخالفين، والذين أبَوْا أرسلوا إلى المنفى بقوة الحكومة، وعلى هذا عقد الصلح بين الكنيستين المصرية والكلدانية الشرقية، ولكنه لم يدُمْ طويلًا؛ فقد ظهر "أوطاخي" (رئيس دير بجوار القسطنطينية)، وقال: "إن في المسيح لا يوجد بعد التجسد إلا طبيعة واحدة، وزعم أنه قرأ ذلك مرارًا في مؤلفات كيرولوس، وبذلك قضى على وثيقة الإيمان المشار إليها، والقائلة بوجود طبيعتين في يسوع المسيح.

 

وكان على كرسي بيزنطة في القسطنطينية "فلابيانوس" الذي عقد مجمعًا في القسطنطينية سنة 448 م، وحرم أوطاخي، فاشتكى أوطاخي لدى "ديوسقورس" الإسكندري، فتجدد النزاع، فأمر الملك بعقد مجمع جديد في أفسوس سنة 449 م، وكان نفوذ الإسكندرية فيه أقوى من السابق، وعرف مجمع أفسوس الثاني باسم (مجمع اللصوص)؛ لأنه حقق ما أراد، وحكم لأوطاخي، وأعطاه الحق، وعزل جميع الأساقفة المتحزبين لكرسي أنطاكية من القائلين بالطبيعتين في المسيح، بينما أرسل فلابيانوس - بطريرك القسطنطينية - إلى المنفى نظير ما حصل لنسطور.

 

بعد سنتين، وفي عام 451 م، أمر بابا رومة "لاون" (ليون) الشهير بالقديس العظيم، بعقد مجمع آخر في "خلقيدونية" (اسمها القديم: بيثينيا، على شاطئ البوسفور) بالاتفاق مع الملك موريقيوس، وأقر المجمع العقيدة الخلقيدونية التي تقول: "إن يسوع هو: رب واحد، ومسيح واحد، إله حق، وإنسان حق، كامل في الطبيعتين، مساوٍ للآب في اللاهوت، ومولود في آخر الأزمنة من مريم في الناسوت، وهو في طبيعتين من غير بلبلة ولا انقسام ولا انفصال، وإن خاصية كل منهما محفوظة، وتنتهيان إلى "أقنوم واحد" بحيث يكون هو بعينه، ابن واحد وحيد، وهو الرب الكلمة ربنا يسوع المسيح".

 

أما خلقيدونية، فقد كانت منوفستية في الأصل، تقول بالطبيعة الواحدة، ولهم أسماء متعددة، منها: (ديوسقوريون: نسبة إلى ديوسقورس بطرك الإسكندرية، وساويروسيون: نسبة إلى بطرك أنطاكية "ساويروس" الذي على يده كان انشقاقهم في سوريا، واليعاقبة: نسبة إلى يعقوب البرادعي".

 

وإذ آلمت هذه المقررات أتباع كيرولوس، والفلسطينيين، والسريان، قرروا الانحياز إلى المنوفستيين القائلين بالطبيعة الواحدة، ورفضوا مقررات مجمع خلقيدونية، وانتشر العصيان على تلك المقررات في كل من مصر وسوريا وفلسطين ضد رومة والفاتيكان.

 

ومن هنا جرى إطلاق مصطلح "الروم الملكيين" على الذين قبلوا مقررات مجمع خلقيدونية، بمعنى أنهم على مذهب الملك البيزنط، ومصطلح (الروم الملكيون) لا يطول جميع المجموعات التي قبلت مقررات خلقيدونية؛ ذلك أن مصطلح "الروم" يدل على الانتماء لإرث الكنيسة البيزنطية ذات الطابع الثقافي الإغريقي، ومن هذه الناحية هي تختلف قليلًا بطقوسها وطبيعة بناء ليتورجيتها عن بقية الكنائس الأرثوذكسية الشرقية.

 

أما مصطلح " كاثوليك" فيدل بصورة عامة على الانتماء إلى سلطان بابا رومة، كما تشير إلى وحدة وشركة الكنيسة الكاثوليكية العالمية الجامعة (المتحررة الشمولية)، وأول من استخدم هذا المصطلح هو "أغناطيوس الأنطاكي" أحد الآباء الرسوليين الأوائل للكنيسة، وعلى هذا فإن الملكيين يعتبرون أنفسهم أحيانًا، أقدم جماعة كاثوليكية.

 

يعتبر الأوروبيون هذه الكنيسة ويطلقون عليها اسم (كنيسة الإغريق الملكيين الكاثوليك)، بينما يترجم هذا التعريف بالعربي - لسان هذه الكنيسة - إلى (كنيسة الروم..) بدلًا من (الإغريق)، وتشمل سلطة بطريركها: أنطاكية، بطريركية مصر، وبطريركية قدس (أورشليم)، وجميع الذين قبلوا إيمان مجمع خلقيدونية كانوا - بشكل رئيس - يسكنون المدن ذات الثقافة الإغريقية، ويتكلمون بلسانها وفلسفتها.

 

السريان الغربيون (السوريون) الذين رفضوا المقررات الخلقيدونية، كانوا يتكلمون لغتهم الخاصة، وهم الذين وصفوا الخلقيدونيين بالملكيين، أما في مصر، فقد تكلم القبط الملكيون بلغة القبط.

 

لقد كان لانتصار العرب بالإسلام على البيزنطيين بعد معركة اليرموك، وفتح (تحرير) القدس/ إيلياء، من الروم، وما كان من نتائج "العهدة العمرية" التي أخرجت البيزنطيين الروم من بلاد العرب - أثر كبير في انكفاء الروم الملكيين إلى داخل البلاد العربية، وابتعادهم عن الحدود البيزنطية، وإعلان خضوعهم للجزية تحت سلطان الإسلام، ومع أن اللغة والثقافة الإغريقية ظلت محتفظة بمكانتها، خصوصًا في إيلياء/ القدس، فإن عادات وتقاليد الروم الملكيين انصهرت وذابت تدريجيًّا ضمن اللغة والثقافة والتقاليد العربية الإسلامية، ولا عجب في ذلك؛ لأن أصل هذه المجموعات يعود إلى "السريان" في تركيا الجنوبية وسوريا والشام، وإلى بقايا الحوريين العرب أنصار المسيح عيسى ابن مريم ابنة عمران (الأشوريين)، وإلى الغساسنة؛ مما أدى إلى التباعد بين بطريرك القسطنطينية رئيس الأرثوذكس الخلقيدونيين وبين رعيته من الملكيين الذين قبِلوا بالحُكم الإسلامي العربي.

 

بعد انتهاء الحروب الصليبية، وابتداء من سنة 1324م، نشطت الإرساليات الغربية الكاثوليكية في عملها في بلاد الشام، وبصورة خاصة في دمشق، وكان لأسلوبهم ونمط إغراءاتهم المادية والمعنوية تأثيرٌ كبير على رجال الدين الملكيين، وعلى رعيتهم في ذات الوقت، ومع أن انشقاقًا عمليًّا عن الكنيسة الأرثوذكسية لم يحدث مباشرة، فإن تلك التأثيرات تركت صداها الذي مهد السبيل - بمرور الوقت - لإنشاء جماعة كاثوليكية فاعلة في قلب الأرثوذكسية الشرقية.

 

سنة 1724م، جرى انتخاب "كيرلوس السادس" في سوريا بطريركًا جديدًا لأنطاكية، وكان غربي الميول والتوجهات، فشعَر بطريرك القسطنطينية "جيرميس الثالث" بأن سلطانه على الروم الملكيين أصبح في خطر، فأعلن إبطال انتخاب "كيرولوس"، وعين بدلاً منه "سيلفستر" وهو راهب إغريقي، وإذ بدأ سيلفستر عهده بإثارة الرأي العام بين رعيته، ممهدًا لانفصال بين بعض الملكيين بسبب القوانين الكنسية الثقيلة التي فرضها عليهم، فآثروا الاعتراف بسلطة "كيرولوس السادس" بطريركًا بدلًا من "سيلفستر".

 

وفي العام ذاته، رحب البابا بينيدكتوس الثالث عشر المنتخب حديثًا على رأس كنيسة رومة بالبطريرك كيرولوس السادس كبطريرك حقيقي وشرعي، وقبله مع أتباعه من الروم الملكيين ككنيسة حقيقية (مستقلة) في شركة تامة مع الكنيسة الكاثوليكية، ومنذ ذلك التاريخ تم تكريس انفصال كنيسة الروم الكاثوليك الملكيين عن كنيسة الروم الأرثوذكس الشرقيين.

 

لعبت كنيسة الروم الكاثوليك الملكيين دورًا هامًّا في قيادة المسيحية بالبلاد العربية؛ فقياداتها كانت دائمًا من المسيحيين الناطقين بالعربية، بينما كانت قيادة الروم الأرثوذكس (الكنيسة المشرقية) دائمًا بيد بطاركة من بلاد الإغريق حتى سنة 1899م.

 

في العام 1835م، اعترفت السلطنة العثمانية بالبطريرك "مكسيموس الثالث مظلوم" بطريرك أنطاكية للروم الملكيين الكاثوليك بصفة (قائد ملة)؛ أي: راعٍ لطائفة دينية مستقلة ومميزة، وهذا من الامتيازات التي كبلت بها السلطنة العثمانية نفسها بقيود لا فكاك منها، كما منح البابا "غرغوريوس السادس" البطريرك مظلوم لقب بطريركية ثلاثية على كل من أنطاكية، والإسكندرية، والقدس، ولا يزال هذا اللقب يحمله بطاركة هذه الكنيسة إلى هذا اليوم.

 

البطريرك "غريغوريوس الثاني يوسف" (1864 - 1896)، كان خصمًا شديدًا لقضية العصمة الباباوية (..) التي طرحت للنقاش في المجمع الفاتيكاني الأول، وكان موقفه يستند إلى إيمانه بأن صياغة عقيدة بهذا الشكل سوف تسبب توترًا عظيمًا في العلاقات بين الملكيين الكاثوليك وبين بقية المسيحيين الشرقيين، وفي المجمع الفاتيكاني الثاني دافع البطريرك "مكسيموس الرابع صايغ" عن التراث الشرقي للمسيحية، ونال احترام وفد الملكيين الكاثوليك الذين حضروا هذا المجمع بصفة مراقبين، أما خَلَفُه البطريرك "مكسيموس الخامس حكيم" (1967- 2000)، فقد تابع مسيرة أسلافه في بناء تلك العلاقة المتينة بين كنيسة الروم الكاثوليك وبين بقية الكنائس المسيحية الشرقية.

 

البطريرك الحالي "غريغوريوس الثالث لحام" بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والقدس والإسكندرية للروم الملكيين الكاثوليك، مقره البطريركي في دمشق، العاصمة السورية، يبلغ عدد أفراد هذه الكنيسة حوالي (..،.35، 1) نسمة، أكثر من نصفهم يعيش في بلاد الاغتراب.

 

الكنيسة المارونية:

تنتسب الكنيسة المارونية بالأصل إلى شخص رمز، هو الراهب "مارون" الناسك، الذي يعتبر محور الكنيسة المارونية، والأب الروحي للموارنة، وإذ من المتعذر الجزم في المكان الذي بدأ تنسكه فيه فإن علماء الموارنة اتفقوا على أنه قد تنسك في سوريا الثانية (سوريا نهر العاصي)، وأنه كان سريانيًّا، وتكلم باللسان السرياني.

 

وقد يكون الناسك مارون هو في الأصل من سكان "بيثينيا" (خلقيدونية) الواقعة في الجزء الأوروبي من تركيا اليوم، والتي كانت تمتد إلى الجبل الأسود في البلقان على بحر إيجه، حيث تقع هناك مدينة "مارونيا" على ساحل البحر إلى الشرق من مدينة "أبديرا"، وتتبع مقاطعة (ثراقيا)، أما التنسك في الجبال والمغاور، فهو من أصول الزرادشتية التي تدعو إلى هجر الحياة الدنيا وزخرفها.

 

ويعتبر الاسم (مارون) غريبًا عن لسان المنطقة ولغاتها، بدءًا من اللسان العربي، مرورًا بلغة الكلدان جنوبًا، والسريان شمالًا، والأثوريين والفرثيين شرقًا، ومن هنا يمكن اعتباره مهاجرًا من مارونيا إبان الحروب الفرثية - الرومية التي أخرجت السريان والأشوريين والعرب من أراضي الدولة البيزنطية لأسباب دينية (مسيحية/ مجوسية)، ولأسباب مسيحية - مسيحية فلسفية وأيديولوجية.

 

ومن المرجح أن مجيء مارون إلى منطقة حمص، وبالتالي انتقال أتباعه إلى جبل لبنان الشمالي، ثم إلى الأوسط (كسروان)، إنما حدث في أيام ملك الفرثيين "خسرو الأول"، المشهور بـ: (أنو شروان)، وهذا ما يفسر إطلاق اسمه على الجبل الأوسط في لبنان (كسرى وان) مختصرًا، غير أن الشيء المؤكد هنا هو أن "مارون" لم يأتِ أبدًا إلى جبل لبنان، ولم يعرف أتباعه الذين اضطروا للجوء إلى هذه المنطقة أيام كسرى أنو شروان.

 

وتفيد بعض المصادر المسيحية أن "مارون الناسك" كان مطرانًا لمدينة "كرخ سلوق" (كركوك) الحالية، ففي "مجمع ساليق (سلوق) الثاني سنة 410 م تقرر أن يكون كرسي كرخ سلوق مطرانيًّا، وإن أول من تولى هذا الكرسي "عقبلاها"، ثم "برحدشبا"، ثم "شابور براز" بن بورزين، واشتهر شابور هذا بتقشفه وحبه للمرضى، وفتح كنوز والديه، وبنى على أرض لهما مشفى، فوَّض أمر علاج المرضى فيه إلى أطباء حاذقين، وأوقف أموالًا وأملاكًا لنفقاته، ثم تخلى عن رئاسة المطرانية، واعتزل الحياة في أحد الأديرة، وانتخب بدلًا منه "مار يوحنان".

 

وفي أيام هذا جرى دم المسيحيين سيولًا في "بيت قرماي"، و"بلاشفار" الواقعة على شاطئ نهر ديالة، وتعزو الرواية سبب المذابح إلى تحول بعض الحكام المجوس هناك إلى المسيحية، وخلعهم طاعة "يزدجرد الثاني" مثل "طهماز كرد" حاكم كرخ سلوق، و"آزرهرمزد" - موهبار بلاشفار، وكانوا دخلوا إلى المدينة (كرخ سلوق) ونكلوا بالأكابر والأشراف - حسب الرواية - وأودعوهم السجن، وقبض على "يوحنان" مع عشرة من أتباعه، لينضموا إلى عشرين ألف مسيحي في السجون، وبلغ عدد المعتقلين في تلك المنطقة وجوارها حوالي (133000)[5].

 

ثم تقول الرواية: "وبنى مارون - مطران كرخ سلوق - ديرًا جليلاً في محل مقتل الشهداء المسيحيين، وهو موجود إلى الآن، ويدعى بالتركية: (قرمزي كليسا)؛ أي: الكنيسة الحمراء، أو كنيسة "مار طهماز كرد"، الذي تنصَّر في آخر أيامه، الأمر الذي اعتبره يزدجرد خيانة، وقيل كذلك عن مارون: إنه هو و"بابوي" عقدَا مجمعًا من أساقفة بيت قرماي وحدياب، وقرروا أن يحتفل بعيد أولئك الضحايا ثلاثة أيام (الجمعة والسبت والأحد) من الأسبوع السادس من صوم الرسل[6].

 

ولكي نتحقق من تاريخ بناء مارون للكنيسة الحمراء المذكورة، يفترض أن يكون هذا الأمر قد حدث بعد عهد يزدجرد الثاني، وانتهاء اضطهاد المسيحيين في تلك المنطقة؛ ففي الفترة الواقعة بين سنة 486 م وسنة 531 م، كانت الحروب بين الفرس والروم حروبًا دينية بامتياز بين المجوس وبين المسيحيين، وتجاوزًا لكثير من حوادث التاريخ، نذكر ظهور "مزدك" ودعوته الشيوعية من جهة، وحروب الملك "قباذ" في بلاد الروم.

 

في تلك المرحلة التي ستطول القرنين الخامس والسادس للمسيحية، سوف نجد المقاومة الثقافية والأيديولوجية قد لجأت إلى الفن كوسيلة للتعبير عن التوحيد بين القديم الموروث وبين المحدث المسيحي، فقد اقتحم "التصوير" - كعمل فني رمزي - الكنائس، المصورون استوحَوْا نماذجهم وأمثلتهم من مدونات مسيحية ويهودية قديمة تعرف باسم "أبوكريفا"، والتي تعني: (الكتب غير المعترف بها)؛ أي: غير الشرعية، ومن مميزات هذا التصوير: الاهتمام الشديد - بعد مجمع أفسس - بتصوير العذراء (عشتار) كملكة للسموات، تارة وحدها، وتارة وهي تحمل بين ذراعيها طفلًا، وأحيانًا وهي محاطة بالقديسين، ولم يجد المسيحيون حرجًا في تأويل تلك الرسوم عندما زعموا أن العذراء (عشتار/ ملكة السموات عند البابليين الكلدان) هي "مريم"، وأن الطفل بين ذراعيها هو يسوع، وأن القديسين (الأرواح) حولها هم الرسل، وبقدر ما أراح هذا التوحيد المسيحيين السريان في آسيا والعراق وميديا وفرثيا والإغريق، فقد أزعج كثيرًا المسيحيين الكلدان، الذين كانوا منذ البداية من اليهود، ويكرهون التماثيل والتصوير؛ استنادًا لنصوص صريحة في التوراة.

 

يقول الدكتور أسد رستم - أحد أساتذة التاريخ في الجامعة اللبنانية -: "ولعل الكربوكراتيين الغنوسيين المسيحيين (المتصوفة) سبقوا غيرهم إلى إكرام صورة المسيح، والسجود لها، وذلك في النصف الثاني من القرن الثاني، ولكنهم تمثلوا في ذلك طرق الوثنيين"[7]، فلأنهم لم يكتفوا بالإكرام والسجود، بل مارسوا أمام صورة يسوع وتماثيله طقوسًا وثنية معروفة[8]، ثم جاء القرن الرابع بزهاده القديسين (المصلين المتصوفة) وعجائبهم، فبدأ أتباعهم المؤمنون بهم يتبركون بذخائرِ مَن خصهم الرب بروح منه، وكان بين تلك الذخائر صور للزهاد أنفسهم مطبوعة على قطع من الطوب، أعدها الزهاد أنفسهم من الغبار الذي أحاط بهم، ومما تصبب من عرق أجسامهم، أو شاكل ذلك؛ فأكرم أتباعهم تلك الذخائر، واعتبروها - كما هو الحال مع أتباع متصوفة المسلمين اليوم - متوشحة ب- "روح" الله (سبحان الله عما يصفون)، الذي حل على من صنع تلك الذخائر..[9]، وشمل إكرام المؤمنين كذلك الصور التي لم ترسمها يد بشرية (؟)، وإنما انطبعت انطباعًا على قطعة من قماش وغير ذلك لاصقت وجه الزاهد القديس، ومن الذخائر العجائبية التي شاعت في ذلك العصر، جثث (قبور) الزهاد أو أثوابهم، أو تراب الأرض التي جرت عليها حوادث (اضطهاد) مقدسة..[10]، وإذ حفظت تلك الذخائر في صناديق معينة، ورسمت عليها صور محتوياتها، انتقلت قداسة المحتويات إلى الصور اللاصقة بها، وهكذا أصبحت الصور مقدسة؛ لاتصالها المباشر إما بالقديسين أنفسهم، أو بذخائرهم، وصارت بالتالي "آنية" لقوة الرب، ثم تطور هذا القول مع مرور الزمن، فشمل كل صورة مقدسة، وكل أيقونة، سواء ألاصقت قديسًا أم لم تلاصقه..[11].

 

ورأى الروم في الحرب الفارسية حربًا مقدسة؛ فقد قال "بروكوبيوس" مؤرخ جوستنيانوس، في كلامه عن حوادث سنة 544 م: إن كسرى ملك الفرس قاوم "الرب" إله المسيحيين، لا جوستنيانوس، وجاء في حوليات باسكال عن نهاية تلك الحرب في عهد هرقل سنة 628 م: أن كسرى المتكبر المتجبر، كان قد ثار على المسيح، وأنه "الثيوماخوس" (محارب الرب)، والثيوميسيتوس (الدجال/ مبغض الرب)، وأن جيوش "محبي المسيح" رموا به إلى الهاوية، ومحَوْا ذِكره، وتوج هرقل بياناته الرسمية بعبارات من المزامير (..)، وجعل أعداءه الفرس أعداء السيد، وأوجب جاورجيوس بيسيذس شاعر القصر محق ديانة الفرس؛ لأنها كاذبة باطلة، ودعا إلى المسيحية؛ لأنها - بزعمه - ديانة الحق، ورأى في جيش هرقل العدالة نفسها زاحفة ضد الشر.

 

"وفي غمرة هذا الحماس الديني وتلك الحرب بين دين المسيح ودين زرادشت، أضاف طيباريوس الثاني (578 - 582 م) اسم قسطنطين إلى اسمه، ولجأ إلى الصليب المقدس، فضربه على مسكوكاته الذهبية فوق درجات النصر، وضربه على المسكوكات الفضية مكللًا مرفقًا بعبارة (lux mundi) مذكرًا بـ: "رائد الدولة المسكوني" (العالمي)"[12].

 

تلك هي الظروف التي ظهر خلالها الناسك "مارون"، الذي يبدو أنه جاء إلى منطقة "حمص" بعد اضطهاد اليعاقبة لجميع القائلين بالطبيعتين في يسوع داخل الإمبراطورية البيزنطية، فتلقفهم ملك الفرس كسرى أنو شروان، وأسبغ عليهم حمايته ورعايته، ونظرًا لأن مارون كان من أتباع الخلقيدونية، التي تعتبر أقرب إلى النسطورية، فقد كان من الطبيعي أن يحظى بعطف كسرى أنو شروان، وأن يغيب ذكره عند النساطرة واليعاقبة والأريوسية وغيرهم من المسيحيين في الشام والعراق ومصر؛ لأنه فيما يبدو من غير أبناء المناطق المذكورة.

 

أما الظروف التي حملت مارون إلى منطقة حمص، فكانت تلك التطورات التي عصفت بالإمبراطورية الفارسية بعد موت الملك فيروز سنة 483 م، فملك ابنه "بالاش" بدلًا من أخيه "قباذ" الذي لجأ إلى ملك "الهون" الذي رحب به وأكرمه، وزوده بجيش هوني لمقاتلة أخيه بالاش، ولما وصل قباذ إلى المدائن وجدهم قد قتلوا أخاه بعد أن سمَلوا عينيه، فملك قباذ سنة 488 م، ومال في بداية عهده إلى النصارى، ومن خلال هؤلاء سمح للمسيحيين ببناء الكنائس والأديرة، ومن المحتمل أن مارون قد بنى الكنيسة الحمراء في فترة السماح تلك.

 

غير أن قباذ الذي أراد حماية عرشه من تسلط كهنة المجوس الذين بلغوا من القوة والنفوذ ما جرأهم على قتل أخيه، والتحكُّم بمصير المملكة، عمد إلى اعتناق دين "مزدك" الشيوعي، الذي جعل النساء والأموال - مشاعًا - بين كل الناس، ودافع عنه بقوة، مسددًا ضربة قاصمة لنفوذ رجال الدين الزرادشتيين المجوس، ومصادِرِهم المالية، وأوقافهم العقارية الضخمة، إلا أن هذه المعركة انتهت بأن احتال الكهنة على قباذ (وسحروه)، وألقوه في السجن، وملكوا أخاه "زماسب" سنة 496 م، فاضطهد هذا المزدكيين وأنصار أخيه بمساندة من المسيحيين ورجال الدين والاقتصاد المجوس.

 

وفي هذه الفترة بالذات، برز اسم "بارصوما" الجاثليق، الذي عمل على فصل الكنيسة الفارسية عن كنيسة أنطاكية، بعد هجر المدرسة الكلدانية الآرامية في الرها سنة 489 م أيام حكم قباذ، وبذلك انقطعت كل الصلات الدينية بين الروم والكلدان، بين النسطورية وبين الكاثوليكية، فما كان من المملكة الفارسية إلا أن رعت المسيحيين النساطرة (الكلدان)، ومنحتهم ثقتها، وقربهم الملوك والحكام إليهم ليكونوا (أطباء، وصيارفة، ومنجمين) في القصور الملكية، خاصة بعد أن أباح "بارصوما" للرهبان المسيحيين الزواج والإنجاب، وإذ تزامن ذكر "مارون" - كما رأينا في موضوع بناء الكنيسة الحمراء - مع الجاثليق (باباي) الذي دعا إلى عقد مجمع المدائن بحضور 33 شخصًا، منهم أربعة مطارنة هم: (هوشع مطران نصيبين، وأغاي رئيس أساقفة بريث ميشان، ويوسف رئيس أساقفة حدياب، وبختيشوع مطران بيت قرماي)، فإن اسم مارون لم يظهر بين تلك الأسماء الأربعة، كما لم يرد بين أسماء التسعة والعشرين الآخرين الذين حضروا مجمع المدائن المذكور، اختفاء مارون هنا هو نتيجة اضطهاد للنساطرة الذين ساندوا المزدكية؛ لكونها تنسجم مع طبيعة ما دعا إليه يوحنا ويسوع من زهد وتخلٍّ عن الحياة الدنيا لتخليص "الروح" (النفس) من أسر الجسد.

 

التاريخ يذكر أن قباذ الملِكَ السجينَ استطاع الفرار من سجنه بمساعدة شقيقة له، ولجأ مرة أخرى إلى البرابرة (الهون/الترك)، الذين زودوه بجيش جديد لمحاربة أخيه، فرجع سنة 498 م إلى بلاده، وهزم أخاه، وجلس على سرير المملكة، وتظاهر بنبذِ دين مزدك الشيوعي، وأحسن إلى المسيحيين الذين دعوا لتحرير "الروح" من سجن الجسد، ثم بدأ يستعد لغزو الروم الذين خرجوا عن تلك المبادئ المسيحية، والذين ساعدوا أخاه عليه من قبل، مستعينًا بجيوش الهون التي جاءت معه وبقيت في خدمته[13]، وكان الروم في تلك الأثناء يدفعون الجزية للفرس سنويًّا؛ لضمان أمن الممرات التجارية المؤدية إلى بحر قزوين، ولما طلب قباذ هذه الجزية، رفض "أنستاس" ملك الروم تأديتها، فنشبت الحرب بين الفريقين سنة 502 م، واستمرت إلى سنة 531م عندما مات قباذ، وخلفه كسرى أنو شروان سنة 532 م، وبينما كان قباذ ينهب بلاد الروم، كان "شيلا" الجاثليق الذي خلف باباي ينهب الكنائس الفرسية، ويحارب "المنوفستيين" (اليعاقبة) بعنف، ويطردهم من بلاد الفرس[14]، بينما كان "زينون" ملك الروم يدعم المنوفستيين ويناصرهم، ومثله فعل خلفه "أنستاس" (491 - 515م)، وكان من أشهر دعاة المنوفستية في تلك الفترة: (يعقوب السروجي، أخسنايا، شمعون الأرشامي، ويعقوب البرادعي - المتوفي سنة 572 م).

 

دامت الحرب الشرسة بين الكنائس المختلفة من جهة، وبين الكنيسة الواحدة من جهة ثانية، طيلة خمس عشرة سنة، وصار لكل كنيسة رئيسان متنافسان متناحران متحاربان، إلى أن عمَد كسرى أنو شروان إلى التدخُّل لوقف هذا الصراع الدموي، فثبت بعض الأساقفة، وحرم البعض الآخر، وحمى النساطرة في مواجهة اليعاقبة حلفاء الروم البيزنطيين أعدائه.

 

كان الخلقيدونيون من ضحايا هذا الصراع، ويبدو أنهم لجؤوا إلى جبل لبنان هربًا من هذا الاضطهاد، إلى أن أوقف كسرى الحرب بين الكنائس، وآمنهم على أنفسهم، وقد عرفت المغاور والكهوف التي لجؤوا إليها في جبل لبنان باسمه: (كسرى أنو شروان)، واختصرت إلى (كسرى - وان)، وهكذا نجد أن أصل الموارنة يعود إلى مجموعة من النساك الذين كانوا على خطى الناسك مارون - المهاجر من مارونيا - في التعبد في كهوف الجبال دون أن يكونوا من عِرْقٍ معيَّن، أو قومية خاصة، وإن غلب عليهم العِرق السرياني ولغته، وأن "مارون" نفسه كان قد انقطع عن الناس ليتنسك معتزلًا في جبل "قريش" القريب من بلدة (نبو)، والذي كان يعرف باسم (جبل نبو) ابن بعل مردوخ، الذي كان معبودًا لسكان المنطقة، وكان في الجبل معبد لنبو، كرسه مارون للعبادة والصلاة للرب يسوع بحسب زعم المؤرخ المسيحي "ثيودور تيتوس"، وكان ذاك المعبد الحقير المتواضع هو المكان الذي انطلقت منه المارونية.



[1] هذه الخلفيات التاريخية تعتبر من أهم قناعات بينيدكتوس السادس عشر، التي حملته على الاستشهاد بما ذكره كمال تيودور خوري من انتشار الإسلام بحد السيف.

[2] استندنا في بعض هذه المعلومات إلى موقع "ويكيبيديا" - الموسوعة الحرة.

[3] أدي شير، تاريخ كلدو وأثور، الكتاب الثاني - المقدمة، الصفحة الأولى، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، بيروت - 1913.

[4] مجمع خلقيدونية المشار إليه جرى عقده للنظر في النزاع حول طبيعة يسوع.

[5] تاريخ كلدو وأثور، الأسقف أدي شير، الكتاب الثاني: صفحة 124 - 126.

[6] ن. م. س.

[7] حرب في الكنائس، د. أسد رستم، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1958 م، صفحة 10 - 11.

[8] ن. م.

[9] ن. م. صفحة 11.

[10] هذا يذكرنا بحجر الجبهة المصنوع من تراب كربلاء عند الشيعة.

[11] ن. م. س.

[12] ن. م. س. (يلفت النظر هنا إلى أن مثل هذه الظاهرة للأيقونات والرموز قد ظهرت مؤخرًا في أوساط بعض المواقع الإلكترونية الإسلامية، تزعم وجود بعض ذخائر من مقتنيات محمد رسول الله، صلاة الله وسلامه عليه، مثل بعض شعرات، وحذاء، وقميص، وختم خاص، وعصا، وغير ذلك مما يعد وسيلة استدراج نحو تقديس، ومن ثم عبادة تلك الرموز؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89]).

[13] لا بد من الإشارة هنا إلى أن الهون سبق وأن هاجموا أوروبا الغربية في القرن الخامس الميلادي واجتاحوها، ووصلوا في تقدُّمهم بقيادة (أتيلا) إلى سهل "شالون"؛ حيث دارت معركة شالون الشهيرة سنة 451 م بين الهون وبين القبائل الجرمانية، بين فرنسا وبلجيكا، وهزم فيها أتيلا وعاد إلى بلاده التي استولى عليها، وهي "هون - غار"، أو هنغاريا اليوم، وعاصمتها: "بودا - بست".

[14] تاريخ كلدو وأثور، الأسقف أدي شير، الكتاب الثاني: صفحة 158 وما بعدها.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الفاتيكان.. بيت من زجاج
  • هل يشطب الفاتيكان البابا الحالي؟
  • قلق الفاتيكان من الإسلام على نصارى الشرق الأوسط
  • هل ستنقرض المسيحية؟!

مختارات من الشبكة

  • محنة الإمام أحمد بن حنبل(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • محنة الإمام مالك بن أنس(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • تعريف الأقليات الإسلامية(مقالة - موقع أ. د. محمد جبر الألفي)
  • حقيقة الأقليات المسلمة في جنوب شرق آسيا(مقالة - المترجمات)
  • خطوط عريضة عن أبرز المحن التي تعرض لها ابن تيمية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الإسلام يحمي الأقليات(مقالة - موقع أ. د. عبدالحليم عويس)
  • محنة العربية، أم محنة أبنائها؟(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الأقليات المسلمة في أوروبا الشرقية(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • الإمام أبو الفرج ابن الجوزي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الإمام البخاري ومحنته في نيسابور(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب