• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

أين الخلل ؟

أين الخلل ؟
د. محسن عبدالحميد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 20/4/2014 ميلادي - 19/6/1435 هجري

الزيارات: 9003

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أين الخلل؟

قضية للمناقشة

حول العلم الإسلامي مراجعة وتقويم


ميزة هذه المناقشة أنها تفسح المجال لوجهات النظرِ المتنوعة، حتى المتعارضة منها أحيانًا، ليتحقق للمسلمين بشكل عام، وللعاملين في الحقل الإسلامي بشكل خاص - رؤيةٌ خصبة لجميع جوانب الأزمة التي يعاني منها الواقعُ الإسلامي، ولينصروا ما يدور بعقل النخبة، أو مَن يُسمَّون بالقيادة الفكرية، من طرائقَ للعلاج.

 

ونعود إلى التذكير بأن لا مجالَ للتخوُّف على القضية الإسلامية من الحوار وبيان العِلَل والأمراض التي يعاني منها الجيلُ المسلم، بحجَّة أن ذلك يسهِّلُ على الأعداء مهمتَهم في حربهم للإسلام والمسلمين، وإنما التخوُّف من إلغاء الحوار، واستبقاء الأمراض التي تمكِّن للعدو منا على كل حال... ولو أخَذ المسلمون هذا في اعتبارهم تاريخيًّا لتعطلت كلُّ حسبة، وانطفأت كل فاعلية، وغابت كلُّ رقابة، ولانقلَب العملُ الإسلامي إلى لونٍ من الكهانة، وضرب من التعصب، يساهم في الإبقاء على الأخطاء، وحماية الانحراف، والله - تعالى - يقول: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.... ﴾ [التوبة: 71].

 

من الخطأ الاعتقاد أننا نستطيع أن نضعَ أيدينا على سقوطنا الحضاري العام بسهولة ويُسر؛ ذلك لأن المراجعةَ الحضارية لتاريخنا، وتحديد عوامل النكوص والإحجام والنخر في حياتنا - تحتاجُ إلى عقليات واعية تمتلك قدرةً فكرية عميقة على الغوص والتحرِّي والنفوذ إلى الأعماق، ودراسة الظواهر المتشابهة والمتنافرة لاستخراج الأسباب الكامنة وراء أحداث التاريخ الإسلامي في ضوء المذهبية الإسلامية الشاملة، والإدراك الموضوعي للسنن التي تقف وراء حركة الإنسان وتطورها نحو الأرقى أو الأردأ.

 

بِناءً على ذلك فمن المستحيل تغييرُ مسار مجتمعٍ ما ما لم يبدأ المخططون من البِنى التحتية، والتغلغل في جذورها ومساراتها ومحاولة التعامل الإيجابي معها، كالجرَّاح الماهر الذي لا يهمُّه الوقتُ الذي تستغرقُه العملية الجراحية بقدرِ ما يهمُّه الوصولُ إلى أبعدِ نقطةٍ في مكان الإصابة لاستئصال الأورام الخبيثة المتجذِّرة في الخلايا البعيدة.

 

ومن هنا فسنكون ساذجين جدًّا إذا اعتقدنا أن مجردَ الصرخات العاطفية، والمواعظ المثيرة، والتظاهرات الآنية، والتجمعات العاطفية الهشة، وتأليف الكتب وتدبيج المقالات، وإقامة المواسم والمهرجانات - تكفي لإحداث التغيير الحضاري، ومعالجة النخر الاجتماعي في مجتمع كالمجتمع الإسلامي في مشارف القرن الخامس عشر الهجري.

 

إن سقوطَ المجتمع الإسلامي لم يكن استجابةً صارمة لتحدي العوامل السلبية في القرون الأخيرة فحسب، على الرغم من معاولها التاريخية الرهيبة في الهدم، وإنما أضيفت إليها مخططات رهيبة فرَضها عليها أقوى الأعداء التاريخيين عسكريًّا وحضاريًّا..

 

فبجانب عوامل الجمود والخمود في العلوم الإسلامية التي عطَّلت العقل المسلم، وأخرجَتْه من صراع عالم الشهادة إلى جدال عالم الغيب، وتسخير الإنسان المسلم من قِبَل الحكام الطغاة والأمِّيين وأنصاف العلماء من مُوَقفي التاريخ، وكهنوت الطُّرقُية الخرافية، ومظالم المتحالفين معهم من ظَلَمة الملاك - ظهرت عوامل الإنشاء الاستشراقي المزيف والتنصيري المخطط، والسقف الثقافي الاستعماري الذي ضرَب على سماءِ العالم الإسلامي، والاحتكاك الطبيعي بمراكز الحضارة الغربية المتقدِّمة بشعاراتها الإنسانية، وادِّعاء العَقْلانية وإنجازاتها العلمية، وإغراءاتها الجنسية.

 

إذًا فمثلُ ذلك المجتمع الساقط عقيديًّا وحضاريًّا وإنسانيًّا كان يحتاجُ إلى مخططٍ إسلامي شامل لدراسة أسبابِ تلَكُّئِه الحضاري، وسقوطه الإنساني، وبُروده العقيدي، من أجل اكتشاف الأمراض التي نخَرت حياته، وفتَكت ببُنيانه التحتي، تمهيدًا لتحديد العلاج الحاسم والبدء به من نقطة البداية، بلا تشنُّج ولا انفعال ولا استعجال، ولا إطلاق شعارات، ولا مواجهات فوقية ولا اصطدامات دموية، ولا مطالبة بالتقويم والتعديل، من كائنات متهرئة منخورة ملغومة، أنتجَتْها عواملُ المَحْق التاريخي، وأفرزتها كهوفُ التآمر الماسوني، وأوكارُ الحِقد الصليبي، ومراكز المؤسسات العَلْمانية الحديثة.

 

تغيير جزئي وصحوة:

ومن الأسف أن تقرر أن ذلك التخطيطَ الحضاري الإسلامي الشامل لم يولَدْ بكل أبعاده في مواجهة السقوط الاجتماعي والحضاري الرهيب في بلاد المسلمين، بل ظهرت صحوةٌ إسلامية محدودة، بدأها جمالُ الدين الأفغاني، وظن أن إثارةَ الثورة في نفوس المسلمين على الحكَّام هي منطلق التغيير، وعلى الرغم من أنه كان يؤمن عقليًّا بالتغيير الشامل في حياةِ المسلمين، فإنَّه ركَّز جهوده على الأول، وأهمل التركيز على الثاني، فانتهى به ذلك المنهج إلى عدم التخطيط لبناءِ قاعدة إسلامية قوية في مجتمع ما، فتبعثَرت جهودُه وعبقريتُه، ولم يكن بمقدور أيِّ مجتمع إسلامي يومئذ أن يستفيدَ منها، والذين جاؤوا من بعده من تلامذته والمتأثرين بأفكاره حاولوا نشر حقائق الإسلام عن طريق التربية والتعليم، ومن خلال قنوات الإعلام المتوفر يومئذ، فانطلقت بداياتُ الوعي الإسلامي في مجتمع كان المستعمرون وأذنابُهم يخطِّطون لإبعاده النهائيِّ عن الإسلام.

 

ومن هذا المنطلق فإنه لم تظهَرْ محاولاتٌ جادة في العالم الإسلامي لاتِّباع سبيل التخطيط لإعادة الوعي الشامل إليه في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، ولَمَّا أدرك الدعاةُ المخلصون بعد ذلك ضرورةَ التخطيط الجدي لنقل العالم الإسلامي من حالةِ السقوط إلى حالة القيام والشعور بالذات وتحمُّل المسؤولية، تمهيدًا لاستئناف الحياة الإسلامية الحقيقية - لم يأتِ ذلك التخطيط قويًّا محصَّنًا، وإنما ظلت موجاتُه تتوسع في إطار الصحوة الإسلامية العامة؛ فالعمل الإسلاميُّ - على الرغم من الخدمات العظيمة التي قدَّمها للإسلام والمسلمين - لم يزَلْ يعيش في عصر الصحوة، ولَمَّا ينتقل إلى طور الدعوة الحقيقية المتأصلة المتجذِّرة المنظمة بمعناها الإسلامي الدقيق العلمي الحديث.

 

وقد يقول قائل: ولكن هذا إنكار لِما قام به العملُ الإسلامي من تثقيف الجيل الإسلامي، وإحداث الهزَّة في النائمين، وتربية كثير من الشباب على الاعتزازِ بالعقيدة الإسلامية، والتمسُّك بالفضيلة والأخلاق والتضحية بالمال والحياة في سبيل الوصول إلى تجديد شباب الإسلام، وإنقاذ المسلمين من الهاويةِ التي سقطوا فيها.

 

أقول: لا يجوز لعاقلٍ منصفٍ أن ينكر تلك الحقائق - وغيرها كثير - ولكنني يترجح عندي أن ما تم إلى الآن كان إرهاصًا لِما يجب أن يكون، وكان مقدمات ضرورية لم يكن بالإمكان غيرها في ظروف سقوط المجتمع الإسلامي، والتعقيد الحضاري العالمي، وتقدُّم فنون التآمر على الإسلام، ومِن الخطأ الفادح الاعتقاد أن ما تم هو المطلوب، وأن الصحوة العامة هي الدعوة الحقيقية، ولأنها قد أخفَقَتْ وأُعيقت وحوربت وتمزَّقت ولم تتحول إلى تيار حضاري عارم، إذًا انتهى كل شيء، ولم يعُدْ بالإمكان أحسن مما كان.

 

أين الخلل؟

إن روَّاد العمل الإسلامي الأوائل وتلامذتهم المخلصين انطلَقوا من ظروف عصرهم وواقعهم، ومبلغ عِلمهم بما يجري في هذا العالم، فأحدَثوا يقظةً وصحوة، وقذَفوا بقضية الإسلام إلى السطح من أعماق الحياة النَّخِرَة، ومن خلال مؤامرات الأعداء المنطلقين من الواجهات العلنية والأوكار السرية، فقدَّموا عملاً عظيمًا، وبرَّؤوا ذمتهم أمام خالقِهم، وقدَّم الذين استحقوا الشهادة حياتَهم رخيصة في سبيل الله تعالى.

 

فالخلل الذي تلاحظه اليوم في العمل الإسلامي ليس منهم، وإنما فينا عندما نحول المقدمات إلى نتائج، وعندما نوقف عجلة الزمن، ولا نعي السنن ولا نُدرك التجدُّد، ولا نغوص في العمق، ولا ننفُذ إلى نسيج القضية بشموليتها الدقيقة المتشابكة مع أحداثِ العالَم المعاصر.

 

إن اكتشافنا الخلل من مطلق تغير الزمان وتجدد الحياة، وظهور الحقائق الجديدة، ومرارة تجارِبِ السنين - لا يعني أننا نضَعُ أهلَ الله من الشهداء والصِّديقين مِن روَّاد العمل الإسلامي العظام في قفصِ الاتهام كما قد يفهم بعضُهم، وهم يحاولون أن يعيشوا على جهاد القوم، ويكتفوا بما قدَّموا من تجديدٍ وفكر وعمل، متجاهلين أسباب تعثُّره ونكوصه، وهذا أخطرُ داء يمكن أن يصيب حركةً حضارية تريد التغيير والبقاء، وإعادة صيغ الحياة المنشودة من جديد، ولا سيما إذا كانت الحياة هي الحياةَ الإسلامية الحقيقية في مجتمعٍ مُضَعْضَعٍ منهارٍ ممزَّق مقلد مخدَّر مستَلب.

 

إذًا فأولئك الذين يعتقدون أن العملَ الإسلامي انتقل من طَور إلى طور؛ من طور الدعوة في التخطيط إلى دور الصحوة - مخطئون في رأيي؛ لأن العملَ الإسلامي ما يزال في طَوْر الصحوة، وليس في طَوْر الدعوة الشاملة بمعناها الإسلامي الحق ومعناها العِلمي الحديث.

 

ومن الممكن الانتقالُ إلى مرحلة الدعوة الحقيقية الشاملة إذا قُمْنا بنقد ذاتي شامل منظم، وسلَّطنا الأضواء عبر دراسات جماعية على العَقبات والأمراض التي جعَلت من العمل الإسلامي في بلاد الإسلام كلها عملاً مبعثرًا، بلا تخطيطٍ دقيق وتدبير ذكي، ولا معرفة أصيلة بسُنَن التغير في الوجود، ولا إدراك عميق لطبيعة العصر.

 

أمراض وعقبات:

ونحن في هذه الصفحات - وبلا تردد، وبمنهجية إسلامية صارمة في نقد الذات - نحاول أن نضعَ أيدينا على بعض من تلك الأمراض والعقبات التي تمكَّنت من حفرِ أخاديد في جسد العمل الإسلامي، دون أن يكونَ قصدُنا لفت النظر إلى بلد أو جماعة أو مذهب أو طائفة.

 

الأول:

إن ظروف المجتمعات الإسلامية الأليمة في قرننا الحالي دفَعَت المخلصين من الحاملين لهموم الإسلام وآلامِه إلى مواجهةِ الخراب الذي أصاب حياةَ المسلمين بصراحة وبراءة وانفعال، وغلَب عليهم أسلوبُ الوعظ والخطابة والمحاربة في جبهات كثيرة ظنوا أنَّ عليهم أنْ يلجوها ويواجهوا ثغراتها دفعة واحدة حتى يصلوا إلى إصلاحِ المجتمع الإسلامي بأقرب زمن ممكن، لعدم تحمُّلهم رؤيةَ الأمة وهي تتمزَّق أمامهم شلوًا شلوًا، وتسير في طريق بعيدٍ عن طريق الإسلام.

 

واليوم نرى أن مثل هذا الأسلوبِ كان خطأً من وجهين:

أما الوجه الأول: فلقد كانت جراحاتُ المجتمع الإسلامي عميقةً إلى درجة أنها كانت تحتاجُ إلى مباضع الجرَّاحين، لا إلى صرخات الباكين الذين كانوا يريدون جلبَ الأنظارِ إلى دم المريض وهو يسيلُ بلا إمكانية علاج، ولا غرفة عمليات، ولا طبيب.

 

وكان الأمرُ يحتاج إلى التخطيطِ الهادف، والدراسة المتأنيَّة، وحسابات معارك الإقدام والإحجام بدقة، والتعمُّق في دراسة أوضاع العالَم المعاصر في الداخل والخارج، وعدم كشف الأوراق كلها دفعة واحدة في منصَّات الخطابة، وصفحات الجرائد والكُتب، واللقاءات العامة.

 

أي إن الصحوةَ الإسلامية في هذا العصر لم تمرَّ بالعهد المكي تربويًّا، وإنما قفَزت بسرعة فائقةٍ من محاولةِ تصحيح عقائد المسلمين وتربيتِهم تربية إسلامية سليمة واعية إلى المطالبة الصريحة بتطبيق حدودِ الإسلام، والتمكين لأحكام شريعتِه في جميع مجالات الحياة، دون أن تكون هنالك قاعدةٌ جماهيرية عريضة تؤمِنُ بذلك وتدعو له، بل تفرِضُه بالطُّرق العصرية المعروفة على واجهاتِ الحياةِ كلها.

 

والآن وبعد نصف قرنٍ مضى على بدءِ العملِ الإسلامي الجاد في العالم الإسلامي، عندما نقرأُ الوثائقَ التي نُشِرت، والأبحاث التي أعدَّت، والمذاكرات التي كُتِبت، والمؤامرات التي حِيكَتْ مِن قِبَل أعداءِ الإسلام والمسلمين - نوقِنُ كم كان ذلك الأسلوبُ خطأً، بحيث ألقى المخلصونَ أنفسَهم مِن خلالِه إلى أفواه الذِّئاب الجائعة.

 

وأما الوجه الثاني: فإن المخلِصين من قادة العمل الإسلامي، ظنوا أن مجردَ أن يكون المجتمع إسلاميًّا في الظاهر يكفي أن يرجعَ إلى طريق الحق بتذكيره بدِينه ونبيِّه وأخلاقِه، ولم يدركِ الجميعُ أن هذا الكون يرتبط بسننٍ إلهية لا تتخلَّف ولا تتبدَّلُ، وأن المؤمن والكافر سواءٌ أمامها، وأن للحضارات أسبابًا لسقوطِها، وقوانين لإحيائها وتجديدها، وأن لكل أمة أجلَها في ذلك، وأن الزمن قد تبدَّل تبدُّلاً عظيمًا في مشاكله وهمومه ومظاهره وتعقيده، والقوى الخفية التي تحرِّكه، وأن مجتمعاتِنا قد تلبَّست بالحياة الحضارية الحديثة الخانقة في عشراتٍ من السنين، وأن يدًا تبني، وألفَ يدٍ تهدم، وأن الهدم أسرعُ في هذه الوجود من البناء، وأن معظم الناس - ولو حرَص المخلصون - ليسوا بمؤمنين، وأنهم ينهارون من أول الطريق، ويسقُطون في أقرب صدمة، ويلوُون أعناقهم لأيِّ طاغية، يصفِّقون ويهرجون، وأننا نقرأ ذلك في كتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا، ونتعلَّمه عندما ندرس التاريخ باستقراء أحداثه واستخلاص سُنَنه.

 

الثاني:

لا شك أن كل تغيير حضاري يريد أن ينقُلَ المجتمعات من حال إلى حال لا بد له من وضوحِ رؤية، ومنهجٍ متكامل يستنبط من أوضاع الحياة الاجتماعية، ويخطط لكيفية البدء، ويرتِّب الأولوياتِ بصرامةٍ ومن خلال حسابات دقيقة جدًّا.

 

إن العمل الإسلامي يخضع لهذا القانون، تمامًا كسائر مناهج التغيير؛ ذلك لأن الإسلامَ - بجوهره وملامحه، ولا سيما في أحوالِ سقوط مجتمعاته - بحاجةٍ إلى ذلك أكثرَ من أيِّ منهج تغييري آخرَ؛ لكثرة العَقبات والأعداء.

 

ومن المؤسف أن أقولَ: إن الذي وقَع في تاريخ العمل الإسلامي غير ذلك؛ فالعملُ الإسلامي في هذا العصر لم تكن له أولوياتٌ من أول ظهوره، فهو يريد طردَ المستعمرين، ومقاومةَ الحكَّام العَلْمانيين، والوقوف أمام الفساد الاجتماعي والظلم الاقتصادي، وتطبيقَ شرائع الإسلام بكل أبعادِها في الوقت نفسه في مجتمع ابتعد فيه كلُّ شيء عن الإسلامِ فردًا وأسرةً وجماعة.

 

أي إن العملَ الإسلامي أراد أن يعملَ في مساحة أكبرَ من حجمه بعشرات المرات، وهذا كان سببًا أساسيًّا في إخفاقِه وتراجُعاته وإلقاء نفسه بين مطاحن الأعداء.

 

لقد كان العملُ الإسلامي في حالات معينة من الغفلة وسذاجة التقدير بحيث جرفته الظروف المحلية والعالمية، فاستُدرِج إلى معاركَ لم يكن معدًّا لها، فضُرب ضرباتٍ قوية معيقة مزَّقتْه وزعزعت كيانه، وحِيلَ بينه وبين بناء المجتمع الإسلامي بالقوة والعنف، ثم بالتخطيط المعاكس من موقع التسلُّط المحلي والتعاون الأممي، بحيث كانت النتيجةُ الفادحة تربية أبناء الجيل بعد ذلك في ظلِّ الأفكار المادية والعَلْمانية؛ أي إن العمل الإسلامي تحوَّل في مثل هذه الحالة سلبيًّا ومِن دون قصد إلى تكريسِ حياة البُعد عن الإسلام من حيث أراد أن يصوغَ المسلمين صياغةً جديدة في ضوءِ عقيدته وشريعته.

 

إن الرأيَ الذي يقول بأن الشرعَ يوجب علينا ألا نسكُت عن أية مخالفة - رأيٌ لا يستند أبدًا إلى فهمٍ دقيقٍ لأصول الشريعةِ ومقاصدها في الحياة، ونحن نتساءل هنا يا ترى: المقصد من أجل هداية المجتمع وصياغته صياغة إسلامية تُعيد إليه أصالتَه وعزَّتَه ونمطَه الحضاري؟

 

فإذا كانت الخطواتُ في هذه السبيل لا تحقِّق ذلك الهدفَ النبيل، فلماذا نُقدِم عليها ونُقحِمُ أنفسَنا في منعطفات حادةٍ متعبة مهلكة تُبعِدُنا عن غايتنا أكثرَ من ذي قبلُ، وما تزال مشكلة المشاكل في العمل الإسلامي إلى الوقت الحاضر عدمُ فهمِ هذه الحقيقة الجوهرية، وعدمُ الاستفادة من القواعدِ الأصولية التي تضبطُ حركة العقل المسلم، وتضَعُها على الطريق الصحيح الذي يؤدِّي إلى تحقيق الغاية المنشودة.

 

الثالث:

إن بقاء العمل الإسلامي في إطار تعميمات ثقافيةٍ إسلامية عامة، وعدم الاهتمام بالدراسات الأصولية العميقة التي تُظهر مرونةَ الشريعة، وتجدُّد الفقه، وإهمال دراسة طبيعة العصر وثقافته وتجدُّد الفكر والحياة فيه، والبُعد عن إدراك المنهج الشامل لحركة التغيير الاجتماعي في الإسلام - حرَمَه من وَضْعِ فكرِ المراحل المتتابعة في ضوء تغيرات الحياة، وبروز المشاكل المتجددة، والهموم المتنوعة، الأمر الذي لم يستطعْ به أن يقنع تيارَ الحركة الاجتماعية الجديدة بواقعية مذهبية العامة ذات السِّمات الخالدة التي تحتاجُ إلى استنباط الشؤون المرحلية لقضايا المجتمع في كل عصر حسب مرحلتِه.

 

وهكذا بقي العمل الإسلامي مشلولاً من الناحية الواقعية، بلا منهجٍ محدد مرحلي للحياة والحركة المدروسة المتفق على تفاصيلها بكل دقة، وهذا المرضُ الخطير لا يزال ساريًا إلى الآن؛ فقد سأَل أحدُ الصحفيين أحدَ رجال الدعوة الإسلامية البارزين: ماذا عن سياستكم في حل المسألة الاقتصادية، وهل تملِكون برنامجًا محددًا لهذا الأمر؟ أجاب: يمكننا في ظرف أسبوع أن نُعِدَّ مثلَ هذا البرنامج بواسطة الاقتصاديين الإسلاميين (المجلة عدد 226/1404هـ)، ولما قرأتُ ذلك تألَّمْتُ غايةَ الألم على مصير العمل الإسلامي وهو يواجه أخطرَ قضيةٍ في حياة الجماهير الإسلامية بل الإنسانية في القرن الخامس عشر الهجري بهذا الحجم.

 

أسبوع واحد لوضع برنامج اقتصادي إسلامي مرحلي؟

إنني أقول لذلك الفاضل: إن شهرًا واحدًا لا يكفي لترتيب دعوة مدروسة مخططة لعدد من الاقتصاديين المختصين كي يجتمعوا في بلد، وإن ردودَهم على مثل تلك الدعوة تحتاجُ في الأقل إلى شهرين، ولا بد بعد تحديد موضوع الندوة من إعطاء شهرين في الأقل كي يُعِدَّ كلٌّ منهم بحثَه؛ أي إن التحضير لعقد ندوة اقتصادية إسلامية لا يمكنُ أن يتمَّ قبل أربعة أشهر، ثم إن هؤلاء سيجتمعون وأمامهم دراسات اقتصادية إسلامية متنوعة، متعددة المذاهب والمناهج، فهل سيتَّفِقون خلال أسبوع واحد على تفاصيلِ المنهج الاقتصادي الإسلامي لحل مشاكل الحياة الاقتصادية المعقَّدة المُزمِنة؟ إنني أشكُّ في ذلك كثيرًا.. وما تزال تجرِبةٌ شخصية في الإطار نفسه ماثلةً أمام عيني؛ فلقد دُعِيتُ لحضور مؤتمر الفقه الإسلامي العالمي الذي عُقِد في جامعة الإمام بالرياض عام 1396هـ، واشتركتُ في لجنته الاقتصادية التي تفرَّعَت منه، وأذكر من الذين اشتركوا فيها، الدكتور محمود أبو السعود، والدكتور عيسى عبده إبراهيم - رحمه الله - والأستاذ الدكتور علي عبدالواحد وافي، والأستاذ صالح عشماوي - رحمه الله - والشيخ عبدالجليل عيسى لجنة الفتوى في الأزهر، والعلامة المغربي الفاروق الرحالي، ومفتي باكستان، ورئيس رابطة العلماء في الهند، وآخرين غيرهم من المختصين، وعبر أسبوع كامل من النقاش صباحًا ومساءً في تحديد الخطوط العامة للاقتصادي الإسلامي لم تستطعِ اللجنةُ إلا أن تتفق على الحد الأدنى من القضايا العامة، ولقد تعدَّدتْ بنا السبلُ في تلك المناقشات؛ فبين داعٍ لتكريس الاتجاه الجماعي في الاقتصاد الإسلامي، وبين مدافع عن ترسيخ الاتجاه الفردي، وبينما ذهب بعضُهم إلى العمل بفوائدِ بعض المعاملات المصرفية للضرورة لحين قيام اقتصاد إسلاميٍّ متجانس - حرَّم ذلك الآخرون تحريمًا قاطعًا، وكنت أقول يومئذ: يا للمصيبة، كلُّ هذه المناقشات في تحديد الأسس العامة، فكيف تكونُ الحال، وكم من الأشهر تستغرق إذا دخلنا في عشرات التفاصيل الاقتصادية في حياتنا الواقعية المرحلية، وهكذا نجد أن عشرات الكتب الحديثة، ومئات الدراسات والمقالات المنشورة في الاقتصاد الإسلامي - لم تضَعْنا على خط واحد؛ لكثرة الآراء والاجتهادات التي أنتجتها مرونةُ قواعد الشريعة، ففتحت المجال أمام المجتمع الإنساني لاختيار منهجه المرحلي، وتطبيق الحل المناسب في الزمن المناسب، غير أن استخلاصَ المنهج الموحد واختيار الاجتهاد الواحد المناسب بين تلك الاجتهادات يحتاجُ إلى وقت كافٍ إذا كنا نريدُ أن نكون مخططين عِلميين ندرُس الواقعَ من خلال تطوره السريع في ضوء المذهبية الإسلامية والاجتهادات الفكرية المتنوعة، والإحاطة بواقع التطور الاجتماعي، وتسخير العلوم الإنسانية الحديثة للقيام بهذه العملية الحضارية الإسلامية، ولا ينعدم المنهج المرحلي في الحياة الاقتصادية في ساحة العمل الإسلامي فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى قطاعاتِ الحياة الإنسانية كافة.

 

فعلى سبيل المثال في النظام السياسي الإسلامي ما تزال الدراسات والكُتُب التي تصدر من نصف قرن في هذا المجال من أرباب الفكر الإسلامي - تُعيد لنا كثيرًا من الأفكار التي فرَضها الواقعُ التاريخي للنظام في مجال الحُكم والسياسة على الفكر الإسلامي، وسجَّلها الفقهاء من حيث إنها كانت تعبِّر عن واقع المراحل التي مرُّوا بها.

 

وفي هذا الموضوع - وعلى سبيل المثال - أذكر النظرية الخاطئة التي شاعت في الفكر الإسلامي والتي تقول بأن الشورى ليست ملزمةً للإمام أو الخليفة أو أمير الجماعة، حتى وإن جاءت من قِبَل أكثرية أعضاء مجلس الشورى، وعلى الرغم من وضوح هذا الإلزام في كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وواقع حياة الصحابة، وسنن العقل والاجتماع الإنساني، وعلى الرغم من أن تلك النظريةَ لم تنتج في التاريخ إلا الطغيانَ والظلم، والفساد، والانفراد بالرأي، وفرض سيطرة الفرد، وعلى الرغمِ من أن الحياة قد تطوَّرت، وانبَرَتِ الإنسانية في أرض الله كلها تطالب باستعادة إنسانيتها المهدرة، وإرجاع حقوقها الضائعة، والقضاء النهائي على حُكم الفراعنة والنماردة والطغاة - أقول: على الرغم من ذلك كله، فإن العملَ الإسلامي ما يزال في إنشائِه الفكري يتشبث بمثل تلك النظريات العتيقة الفاسدة التي لم تتولَّدْ إلا في جو الطغيان، والخروج عن حياة الشورى التي أراد الإسلامُ أن يركزَها، استخلاصًا لكرامة الإنسان، وإطلاقًا لطاقاته، وإقرارًا بحقوقِه في تسييرِ حياته ومجتمعِه.

 

الرابع:

لا شك أن العمل الإسلامي من خلال أنشطته المتنوعة قام بتوعيةٍ إسلامية مباركة شمِلت مجالات عدة، غير أن تلك النشاطات الثقافية ظلت حبيسةَ إطارات محدودة من الفكر الذي وقَف في مشارف الستينيات ولم يتجدَّد، وظل كتَّابُ ومفكِّرو العمل الإسلامي يكرِّرون أنفسَهم ويدورون في حلقاتٍ فكرية لم تَعُدْ تكفي لمجابهة التغيُّرات الجديدة، وقد نتَج ذلك من:

أ- انشغالهم بالمحافظة على وجودهم أمام محاولة الاحتواء الخارجي وأمام قوة حصار الواقفين على خنادق الإلحاد والعَلْمانية.

 

ب- الكتابة العاطفية الخطابية التي سيطرت على كتابات الكتَّاب الأوائل، ظلت ساريةً عبر العقود الأخيرة، ومسيطرةً على معظم الكتابات الجديدة.

 

ج- العُزلة عمَّا كان يدور حولهم من الأفكار والثقافات الوضعية التي ظهَرت في كتابات جديدة للمادِّيين والعَلْمانيين في إطار تلك النظريات؛ أي إن كتَّاب العمل الإسلامي لم يستفيدوا من الكتابات المضادة ومن مناهجهم وأساليبهم الجديدة حتى يعاملوها بالسلاحِ نفسه.

 

د- وجهة النظر الاجتهادية التي سادت منذ أوائل الستينيات، والتي تقول: إن القضية تتعلق بتصحيح العقائد، وتوحيد الاتجاه والعبودية للمصدر الواحد فقط، وتصرِّح بأنه لا أهمية للاجتهادات الجديدة إلا بعد قيام المجتمع الإسلامي؛ لأن كل رأي يعرض في رأي هؤلاء سيتأثَّر بالواقع الحالي، وانتهى هؤلاء إلى الدعوةِ إلى عدم الاجتهاد حتى في مجال الفِكر الفِقهي المتصل بحركة الحياةِ والحضارة.

 

وهذا الاتجاه ظهَر مع بدء ظهور عدّ المجتمعات الإسلامية مجتمعات جاهلية كافرة، وترتبت على ذلك الدعوةُ إلى الانشغال بأمور العقيدة فقط، من أجل إدخالِ المسلمين إلى الإسلام من جديد.

 

وكان هذا الاتجاه ردَّ فعل عنيف خطير على المخططات المعادية للإجهاز على العمل الإسلامي وطمس معالمه، والتصفية الجسدية لقادته، ورد الفعل ذلك كان يفتقرُ إلى الإسناد الأصولي لتكفير المسلمين؛ ولذلك لا يمكنُ أن يسلِّمَ به مَن يعلَم أن تكفير المسلم يحتاج إلى أدلة قطعية من القرآن والسنَّة، وكيف وأنه لم يقُلْ بذلك حتى مجتهد واحد تتحقَّق فيه شروط الاجتهاد، وإنما نشَر تلك النظرةَ بعضُ مَن كانوا يكتبون في الثقافة الإسلامية العامة، ولم يقُلْ بذلك أبدًا الروَّاد الأوائل من مجدِّدي الإسلام في هذا العصر.

 

فهم كانوا يصرِّحون بأنهم دعاةٌ جاؤوا ليُعِيدوا المسلمين إلى الله ورسوله، ولم يأتوا قضاةً يوزِّعون صكوكَ الكُفر والإيمان على المجتمعات الإسلامية.

 

ومن هنا، فمن الضرورة إعادةُ النظر في الكتابات الإسلامية التي كُتِبت في الثلاثين سنة الأخيرة؛ لأنها كتابات - على فوائدها العظيمة - لا تخلو من العصبيةِ، وردود الفعل الواضحة التي أفقدتِ العقلَ المسلم اتِّزانَه، وأوهنت أحكامُه، وضيَّعت عليه في حالاتٍ معينة تقريرَ الحقائق من حيث هي انطلاقٌ مِن الأصول الإسلامية المتفق عليها، والمستنبطة من كتاب الله - تعالى - وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم.

 

وفي سبيل توضيح هذه الفكرة أضربُ مَثلاً بصنيع الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله - في كتابه: "اشتراكية الإسلام"، فعلى الرغم من أن كلَّ ما قرَّره في الكتاب من قضايا تحقيق الاتجاه الجماعي في الاقتصاد الإسلامي كان متفقًا مع القواعد والأصول الإسلامية فإن كثيرًا من علماء العمل الإسلامي وكتَّابه أنكَروا على الدكتور منهجَه واتجاهه؛ لمجرَّد أنهم لم يرتضوا هذا العنوان من منطلق ردود الفعل على مآسي تلك المرحلة، فبدل أن يؤكِّدوا على رفض العنوان والدعوة إلى الاكتفاء بالمصطلحات الإسلامية، راحوا يموعون ذلك المنهج العظيم الذي يُشكِّل صُلْب مقاصد الشريعة الإسلامية، حتى تطرَّفوا فوصَموا الاقتصاد الإسلامي بالفردية، وكأنَّ الإسلام جاء للإبقاءِ على المصالح الطاغوتية لمصَّاصي دماء العبيد والمظلومين، ولم يأتِ لتحقيقِ مصالح الجماهير العظمى من المستضعفين في كل زمان ومكان.

 

ولو أن المنهج الذي بدأ به سيد قطب - رحمه الله - في كتابيه: "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، و"معركة الإسلام والرأسمالية"، ووسَّعه وعمَّقه الدكتور السباعي في كتابه المذكور من خلال منهج أصولي واضح كان يستمرُّ في عالم الاقتصاد وينمو ويتجدَّد - لرأينا اليوم وضوح الخط الإسلامي في الانتصار التاريخي الكامل للفقراء والمظلومين، ولَمَا رأينا الاتجاه الذي يسقُط في الاقتصاد الرأسمالي باسم الإسلام في المجتمعات الإسلامية، ويقرِّر أن الزكاةَ وحدها يقرِّرُها الإسلام لإنصاف الفقراء، أما النشاطات الأخرى فالبشرُ أحرارٌ فيها، ولو أدَّى ذلك إلى امتلاكِ شخصٍ واحد لربع ثروة المجتمع على سبيل المثال.

 

أما قضية التوازن الاقتصادي، وتأكيد وظائف الدولة الاقتصادية، وعدالة توزيع الثروة، ووَضْع سقف لحركة رأس المال، وتقرير حقوق عادلة للعمال، وتحديد حرية الأفراد في إطار القواعد والمقاصد العامة في الشريعة، ومَنْع التعسُّف في استعمال الحقوق، فإنها لم تجِدْ مِن أصحاب ذلك الاتجاه الفردي اهتمامًا مطلوبًا.

 

وهذه ثغرةٌ كبيرة حرَّمت على العمل الإسلامي مساحاتٍ واسعةً في القاعدة الجماهيرية سيطر عليها أربابُ المذاهب المادية والعَلْمانية من خلال الشِّعارات التي أطلقوها خلال العقود الأخيرة.

 

الخـامس:

لقد وقَع العمل الإسلامي خلال عملِه النبيل والقيام بمسؤولياته الشرعية الكبرى في خطأٍ عظيم عندما أعطى لنفسِه في المجتمعات الإسلامية حجمًا أكثرَ بكثير من واقعه، اعتمادًا على عظَمةِ الإسلام، وأحقية قضيته، وانطلاقًا من أنه لا يفعَلُ شيئًا غير تذكير المسلمين بإسلامهم، وإثارة الحميَّة في نفوسهم.

 

وقد غفل تمامًا عن جوهر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء)).

 

والغريب لا يبدأ بالفوق، بل بالتحت شيئًا فشيئًا حتى يصعَد إلى فوق، ولكن الاستعجال وعدم الانتظار قد أفسَد على العمل الإسلامي رؤيةَ الحقيقة والتخطيط للأهداف حسب الأولويات، وفي ضوءِ مناهج المراحل المتتابعة.

 

هناك حديثٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تُنقَض عُرى الإسلام عروةً عروةً، أوَّلُها: الحُكم، وآخرُها: الصلاةُ).

 

ولو أدرك العملُ الإسلامي منذ عشرات السنين أسرارَ هذا الحديث، لتحاشى قدر الإمكان المزالقَ التي وقَع أو أُوقِع فيها؛ ذلك لأن أولئك الغرباء الذين وصَفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنهم يُصلِحون ما أفسَده الناس لا بد لهم من أن يبدَؤوا من النهاية؛ لأنهم لو بدَؤوا من البداية؛ أي مِن إصلاح الحُكم، لوجدوا أنفسَهم أمام خندق عميق يحُول دون الوصول إليه، وهو الفراغُ الإسلامي الكبير الذي يستند إليه ذلك الحُكم، والدليل القاطع على ذلك أن العملَ الإسلامي بمواجهته لأهل الحُكم والسياسية كان وما يزالُ ينطلِقُ من الفراغ؛ أي عدم وجود قاعدة إسلامية شعبية عازمة يمكن الاعتمادُ عليها في تعديل الاعوجاجِ، وتقويم الانحراف، ولو كانوا قد بدؤوا بالعمل بنهاية الحديث، وهو الاهتمام أولاً بعُروة الصلاة، وما جاوَرها مِن العُرى، ثم توثيقها واحدة واحدة - لصلَحت الحالُ بعد ذلك؛ لأن توثيق تلك العُرى وهي مئات، كل مجموعة في دائرة معينة، كان ينتهي إلى إرجاع القاعدة الجماهيرية العريضة إلى حظيرة الإسلام، والحق أن المجدِّدين الروَّاد الأوائل كانوا يُدرِكون هذه القضية؛ ولذلك نادَوْا بنظرية إصلاح الفرد، ثم الأسرة، ثم المجتمع، ولكن ضغط الحماس الذي يذهب دائمًا بالفِطنة قد أفسَد كل شيء عبر تقلُّبات الأوضاع والظُّروف.

 

ونحن حين ندرُس تاريخ الصدر الأول على سبيل المثال نجد هذا واضحًا؛ إذ حين بدأ الفسادُ في القاعدة حُوصِر عثمان - رضي الله عنه - وظهَرت الفتنةُ، وأدرك معاويةُ بن أبي سفيان هذه القضيةَ الاجتماعية؛ إذ لَمَّا جاءه قوم يقولون له: لماذا لا تعمَلُ فينا بسيرةِ الخلفاء الراشدين؟ قال لهم: وهل أنتم تعمَلون بسيرة رعية الخلفاء الراشدين؟ ولذلك كان من المستحيل أن يُختارَ غيرُ أبي بكرٍ وأمثاله في سَقيفة بني ساعدة.

 

إذًا العلاج لا بدَّ أن يأتي من القاعدة، وليس من القمة، لأن البشرَ غير الواعين وغير المدركين الذين لا تربِطُهم عقيدة، ولا مبدأ موحد، ولا يشعُرون بآدميتهم - هم الذين يصنعون الطغاة بأيديهم عبر التاريخ الإنساني؛ لأن هؤلاء الجبابرةَ لا يولَدون من بطون أمهاتهم طغاة، كانت عصبية الخلفاء الراشدين هي المجتمع المؤمن الواعي الشجاع، فلما تبدَّلت تركيبة المجتمع تبدَّلت العصبيةُ إلى عصبية البيوتات، وجاء مَن يمثِّلها.

 

إن العمل الإسلامي إذا أراد أن يُعيد الأمر إلى نصابِه لا بد أن يخطِّطَ لكيفية تربية الأمَّة من جديد على الإيمانِ والإسلام حتى تعيَ نفسَها وواقعَها، وتنطلقَ من قاعدة عقيدية واحدة، تؤمنُ بها وتضحِّي مِن أجلها.

 

إذا استطاع العملُ الإسلامي أن يُنقذ المسلمين في أي مجتمع من المجتمعات الإسلامية من التمزُّق الفكري، ويوحِّدهم على أساس الإسلام، ويربِّيهم عليه، ويجعَل مِن قضيته القضية المصيرية - أنهى عند ذلك الانحرافَ والقهرَ والتسلُّط.

 

لن تستطيع عصبيةُ البيت الواحد أن تتحرَّك حينئذ أمام عصبية الأمة كلها للإسلام، وكرامة أبنائه، لن يستطيع أهلُ الأهواء والمصالح أن يشتروا الذِّممَ لفرض قهرِهم وتسلُّطهم على أبناء أمتهم.

 

لن تظهر الفراعنة والنماردة والأصناف التي تُعبَد من دون الله - سبحانه وتعالى - وقد يقول قائل: إن هذا طريقٌ طويل قد يستغرق قرًنا أو أكثر! أقول: ليستغرِقْ ما يستغرق طالما أن العملَ الإسلاميَّ يخطِّطُ لاستئناف الحياة الإسلامية في ضوء مقاصدِ الإسلام وسُنن الله في الوجود، وهل يستطيع أحدٌ أن يخرقَ تلك السنن؟ وهل ذلك مطلوب منه شرعًا؟

 

إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قضى ثلاثة عشر عامًا في مكةَ يدعو إلى التوحيد، ويُثبِّتُه في النفوس، ولا يتعرَّض لتحطيم الأصنام، ومع مقارنة وَضْع المسلمين اليوم بوَضْعِ العرب يومئذ ننتهي حتمًا إلى أن العملَ الإسلامي كان يحتاجُ إلى خمسة أضعاف تلك المدَّةِ على الأقل حتى يخرُجَ من الدور المكيِّ إلى آفاق الدور المدنيِّ، هذا لو كانت الأمورُ تجري طبيعية في ضوء قواعد العمران البشري.

 

واليوم وبعد التَّجارِبِ التي مرت بها محاولةُ التمكين للوعي الإسلامي في بلاد الإسلام لا بدَّ للعقلاء أن يُدرِكوا سننَ الله في الوجود، ويفهموا طبيعة العصر، وكيفية إحداث التغيير فيه، فينصرفوا إلى بناء القاعدة بعلمٍ وتخطيط وذكاء، ويبتعدوا عن الخوض في المضاربات السياسية، والاصطدامات الفوقية؛ كي يتفرَّغوا إلى القيام بالمهمة الأساسية؛ مهمة تربية المجتمع الإسلامي على الإسلام؛ عقيدةً وشريعة وسلوكًا؛ فالهدم الشامل الذي نراه في المجتمعِ الإسلامي لا يُفيد معه إلا البناءُ الشامل الذي يبني على ثلاثِ دعائم؛ (أولاها): الفهم العميق لأصول الإسلام وقواعده ومقاصده بعقلية المجتهدين العظام، لا بعقلية حَفَظة النصوص، (ثانيتها): إدراك دقيق لطبيعة تطور الحياة والحضارة في العصر الحاضر، (وثالثتها): جهاد شامل في مضامير الحياة كلها من خلال تفكيرٍ عميق، وتدبير دقيق، وعمل متواصل في سبيل الأهداف الإسلامية النبيلة.

 

واللهُ غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.

 

نشرت في: مجلة الأمة، العدد التاسع والأربعون، السنة الخامسة

المحرم 1405هــ، تشرين الأول (أكتوبر) 1984م





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • سبب الخلل الذي أصابنا
  • سدوا الخلل (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • القواعد السبع للتعامل مع المخالف: ما لا يتطرق إليه الخلل ثلاثة(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • من سورة الأنعام: مكمن الخلل في تصورات المشركين(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أين الخلل(مقالة - حضارة الكلمة)
  • مخطوطة إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • المنظومة التعليمية بالمغرب.. أين يكمن الخلل؟(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • مظاهر الخلل الفكري واللغوي في موضوع (لو أنني رئيس حي) للثاني الإعدادي(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الدعوة للإلحاد بين الخلل في التربية والقصور في التعليم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مواطن الخلل في تعامل طلاب الماجستير والدكتوراه مع الدراسات السابقة(مقالة - موقع الدكتور أحمد إبراهيم خضر)
  • مواطن الخلل في عرض الباحثين للمفاهيم العلمية والإجرائية في رسائل الماجستير والدكتوراه(مقالة - موقع الدكتور أحمد إبراهيم خضر)
  • الخلافات العائلية المالية.. أين الخلل ؟ وكيف المخرج ؟(مقالة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب