• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    اللغات العروبية: دراسة في الخصائص
    د. عدنان عبدالحميد
  •  
    الفلسفة الاقتصادية للتسخير في منظور الاقتصاد ...
    د. عبدالله محمد قادر جبرائيل
  •  
    منهج التنافس والتدافع
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الاستشراق والعقلانيون المعاصرون
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    عجائب الأشعار وغرائب الأخبار لمسلم بن محمود ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    صحة الفم والأسنان في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الإعلام المرئي والمسموع والمقروء وعملية الترجمة
    أسامة طبش
  •  
    منهج التعارف بين الأمم
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الإسلام يدعو لحرية التملك
    الشيخ ندا أبو أحمد
  •  
    آثار مدارس الاستشراق على الفكر العربي والإسلامي
    بشير شعيب
  •  
    إدارة المشاريع المعقدة في الموارد البشرية: ...
    بدر شاشا
  •  
    الاستشراق والقرآنيون
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    نبذة في التاريخ الإسلامي للأطفال
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    عقيدة التوحيد، وعمل شياطين الشرك
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    الفلسفة الاقتصادية للاستخلاف في منظور الاقتصاد ...
    د. عبدالله محمد قادر جبرائيل
  •  
    منهج شياطين الإنس في الشرك
    أ. د. فؤاد محمد موسى
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

الإسلام والمجتمع الإيماني المثالي

سيد مبارك

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/3/2014 ميلادي - 16/5/1435 هجري

الزيارات: 28282

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الإسلام والمجتمع الإيماني المثالي

الإسلام رسالة الله للعالمين (3)

 

بادئَ ذي بدء نقول: إننا لا نقصِد بالمجتمع المثالي المجتمعَ الخالي من العيوب، الذي يجمع أفرادُه كلَّ القِيم المثالية، وخلت تصرفاتُهم وسلوكياتهم من الآفات والمعاصي، كما تخيله الفلاسفة، مثل: أفلاطون وأمثاله، قديمًا وحديثًا؛ فهذا حُلم يراود أذهان الفلاسفة والحالِمين، وهو ضرب من الخيال المحض، لماذا؟


لأنه مجتمعٌ لا وجود له في دنيا الناس، ولا علاقة له بالواقع، وقطعًا هذا ما لا أقصِدُه في هذه الدِّراسة.

 

بل الثابت في عصرِ النبوة ورسولُ الإسلام حيٌّ يرزَق بين الناس في المجتمع المدني أنه كان هناك شارب الخمر، والزاني، والسارق... إلخ.

 

وغيرها من الموبقات التي وقَع فيها بعضُ ضعاف الإيمان، وكانت هناك حدود زاجرة ورادعة، تطبيقًا لمبدأ الثواب والعقاب لمن يخرُجُ عنها، ويبارز ربَّه بالمعاصي، حتى لا تنهارَ قِيَم المجتمع كله، فيصير مجتمعًا منحطًّا بسلوك وشذوذِ بعض أفراده عن الفطرة السوية، فيفسد الحرث والنَّسل، كما نرى في عصرِنا الحاضر في كثيرٍ من المجتمعات الغربية أو المحسوبة على الإسلام، التي دمَّرها الانحطاط، وإدمانُ الشهوات، وإشباع الغرائز، بلا قيدٍ أو شرط، حتى فسَدت كثيرٌ من أخلاق الناس وانحطت - إلا مَن رحِم ربي - للمستوى البهيميِّ والحيواني.

 

فالحاصل أننا نقصِدُ بالمجتمع الإيماني المثالي المجتمعَ القائمَ على تعاليمِ ووحي السماء؛ من الكتاب والسنَّة المطهرة، الذي يجمع بين الدِّين والدنيا، ويحث أفرادَه على العبادة والتقوى لله تعالى، والتعاون والتكافل، والرحمة والعدل، والتسامح والمساواة في المعاملة بين الجميع؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90].

 

وفي نفس الوقت مجتمعًا يلبِّي نداء الفطرة الإنسانية والطبيعية بتعاليمَ سامية راقية، بلا إفراطٍ أو تفريط، كما سوف نرى في السطور التالية، وكل ذلك في تجانسٍ مثمر، وتطبيق لوحي السماء، بلا تنطُّع ممقوت، ولا تعصُّب مذموم.

 

وفي تاريخ الإسلام تجرِبةٌ رائدة؛ فقد وُجِدت المجتمعاتُ المثالية، القائمة على منهج الله تعالى في القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، وكفى بشهادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتزكيته لهم، وهو الذي لا ينطِقُ عن الهوى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].

 

بقوله: ((خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))[1]، وهذه القرونُ الثلاثة هي لأجيالٍ كانت مثالاً للقدوة الحسنة والإيمان الحق الصادق، وأقصد بهم جيلَ أصحاب النبي، رضي الله عنهم أجمعين، وجيل تلاميذهم التابعين، وجيل أتباع التابعين، وهم النموذجُ الفريد الناجح، الذي وضَع اللَّبِنة الأولى لكل المجتمعاتِ الإسلامية التي تخطو خطواتِها الأولى نحوَ المثاليةِ الواقعية على منهجٍ ربَّاني.

 

فالمجتمع المثاليُّ هو تلك الحِقبة من عُمُرِ البشرية في هذه القرون الثلاثة، كنموذج للمثالية الواقعية التي تجمَعُ بين الدِّين والدنيا؛ عقيدةً وعبادة، وأخلاقًا وشريعة.

 

مقومات ودعائم المجتمع المثالي الإيماني:

المجتمع المثالي الحق له ملامحُ لا تخفى على ذي البصيرة الإيمانية، وله مقوِّمات ودعائمُ لنجاحه من رُوح الشريعة الرَّبانية وتعاليمها السمحة، من نصوص الوحيين، وليس من وحي الشيطان والهوى الذي يصد الإنسانَ ويُبعِده عن الحق، وهو واضح جليٌّ؛ لجهلِه المطبِق بدِين الفطرة الذي جاء به نبيُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ليظهر إعجاز الشريعة وسماحتها، ويختصر المسافات والخطوات للمجتمعات المتعطشة للمثالية الواقعية التي يؤيِّدُها وحي السماء، فتجمع بين رضا الرب - جل في علاه - وراحة الإنسان السوي المؤمن التقي، ومَن شذَّ وتمرَّد فقد تعرَّض للعقاب في الدنيا، وسَخَط الله تعالى عليه في الآخرة.

 

وسوف نركز في هذا المبحث - في حديثِنا عن المجتمع الإيماني المثالي - على أهمِّ مقوماتِ ودعائمِ المجتمع الإيماني المثالي، على المستويين الفردي والجماعي، وبشرح العلماء الثِّقات، وبالأدلةِ الشرعيةِ من الكتاب والسنَّة المطهَّرة؛ لتظهرَ صحةُ ما ندعو إليه في هذا المبحث، وتنكشف الغُمَّة عن عيون المسحورين والمخدوعين بالمجتمعات المنحلة أخلاقيًّا، والضالة دينيًّا، رغم تقدُّمهم العلمي، ونبين عظَمةَ إسلامنا ودِيننا وتعاليمه وحقائقه الصافية، وأنه رسالةُ الله للعالَمين.

 

ونبدأ ونقول بحول الله وقوَّته: إن مقوماتِ المجتمع الإيماني المثالي كثيرة، ولكن أهم ركائزه أربعة، ونذكرها هنا مع الشرح والبيان:

الركيزة الأولى: إقامة الشريعة الإسلامية بحذافيرها، وتطبيقها كمنهج حياة للأمَّة:

الشريعة عمومًا هي كلُّ ما جاء من تعاليمَ وأوامرَ ونواهٍ وحدودٍ.. إلخ، في نصوص الوحيين؛ القرآن والسنَّة، ويلزم المسلمين العملُ بها، وتطبيقها، والدفاع عنها؛ فهي المحجَّةُ التي جاء بها نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم من عند ربه للعالَمين ليكون لهم نذيرًا وبشيرًا.

 

قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28].

 

والشريعةُ الإسلامية شريعةٌ عامة لكل زمان ومكان، لا تتغيَّر ولا تتبدَّل بتغيُّر الظروف والأحوال والأهواء.

 

قال تعالى: ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43].

والشريعةُ الإسلامية بما فيها من تنظيم وتشريع وحدود وفروض.. إلخ: منهجُ حياة، تنظم العلاقة بين الناس في دنياهم، وتربطُهم بربهم وخالقِهم لأُخراهم، وتُنير بصائرهم ونفوسهم لطريق الحقِّ والرشاد، وليست مجرد أوامرَ ونواهٍ بين العبد وربه، إن شاء فعَلها، وإن شاء ترَكها، أو قصصٍ للسابقين للعبرة والعظة في قرآن يتلى، كما يتبادر إلى ذهن أصحاب القلوب السقيمة، لا غير، ولا علاقة له بحياة الناس؛ فهذه فِرْيةٌ يُشيعها المبطلون، بل القرآنُ وما فيه من تشريعٍ: نظامٌ رباني شامل عادل، يترقى بالإنسان للمثالية في علاقته بربه، ثم علاقته بالناس، ويسمو به إلى آفاقٍ عالية من الرُّقي في دِينه ودنياه.

 

قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 18].

 

قال السعدي: أي: ثم شرَعنا لك شريعة كاملة، تدعو إلى كل خير، وتنهى عن كل شر، من أمرنا الشرعي: ﴿ فَاتَّبِعْهَا ﴾؛ فإن في اتباعها السعادةَ الأبدية، والصلاح والفلاح، ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: الذين تكون أهويتُهم غيرَ تابعة للعلم، ولا ماشيةٍ خلفه، وهم كلُّ مَن خالف شريعةَ الرسول صلى الله عليه وسلم هواه وإرادتُه؛ فإنه من أهواءِ الذين لا يعلَمون؛[2] اهـ.

 

والشريعة هي الهُويَّة الربانية للمسلمين، ومصدرُ قوتِهم ووحدتهم وطهارتهم، وقد جعَلها الله تعالى في تجانُسٍ مع الفطرة الإلهية النقيَّة التي لم تلوِّثْها شهوات الدنيا المهلِكة، وهي خلاصةُ ميراثِ الأنبياء والمرسلين جميعًا من لدن آدَمَ إلى المبعوث رحمةً للعالمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ﴾ [الشورى: 13].

 

ومن ثَم فكل تقصير في تطبيق شرع الله بحجة عدمِ ملائمة بعض أحكام الشرع المطهَّر للعصر هو جهلٌ مطبق، وكفر بواح، ولا يمكن أن تستقيمَ حياة الأمة الإسلامية، وتَقوى شوكتها بين الأممِ بترك مصدرَيْ قوتها: القرآن والسنة، واتباعِ مصادرَ تشريعية من صنع البشر وأهوائهم، تتغيَّر وتتبدَّل في كل عصر ومصر؛ لأنها ستكون يومئذ أمةً عمياءَ عرجاء مطموسة البصر والبصيرة، وقد حذر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمتَه من هذا الاتباع الأعمى، وثبَت ذلك في حديثِ أبي سعيد الخدريِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَتتبعُنَّ سَنَنَ الذين من قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخَلوا في جُحر ضبٍّ لاتبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمَنْ؟))[3].

 

وهو ما يؤكده قوله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21].

 

قال السعدي رحمه الله: "يخبِرُ تعالى أن المشركين اتخذوا شركاءَ يوالونهم، ويشتركون هم وإياهم في الكفرِ وأعمالِه، من شياطين الإنس، الدعاة إلى الكفر، ﴿ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ من الشِّرك والبِدَع، وتحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرَّم الله، ونحو ذلك مما اقتضَتْه أهواؤُهم.

 

مع أن الدِّينَ لا يكون إلا ما شرَعه الله تعالى، ليَدِينَ به العباد، ويتقرَّبوا به إليه؛ فالأصل: الحَجْرُ على كل أحدٍ أن يشرَعَ شيئًا ما جاء عن الله وعن رسوله، فكيف بهؤلاء الفَسَقة المشتركين هم وآباؤهم على الكفر؟"؛[4] اهـ.

 

الركيزة الثانية: تعظيم المسؤولية الخاصة والعامة وعدم التفريط فيها:

والمقصود بالمسؤولية الخاصة هي مسؤولية وواجبات كلِّ فرد في المجتمع، مؤهل شرعًا وقانونًا لتحمُّلِ عواقبِ مسؤولياتِه وأفعاله، أما المسؤوليةُ العامة فهي مسؤولية الدولة والقائمين عليها من أهل الحَلِّ والعقد، ومَن ينوب عنهم أيًّا كان موقعُه ومركزه.

 

ومن صور المسؤولية الخاصة على سبيل المثال لا الحصر: مسؤولية الأسرة:

والأسرة هي اللَبِنَة الأولى لتأسيس المجتمعات وتنشئةِ أفرادها وَفْقًا لتعاليم الشرع المطهر، وبالتالي فهي مسؤولة عن تخريجِ أجيال تفخرُ بهم الأمةُ بين الأمم، ويشارك أفرادُها الأمةَ في نهضتها من كبوتها، وجعل الإسلام ذلك فريضة في الكتاب والسنَّة.

 

 

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].

 

 

قال العلاَّمة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: "أي: يا مَن منَّ الله عليهم بالإيمان، قومُوا بلوازمِه وشروطه؛ فـ: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة، ووقايةُ الأنفس بإلزامها أمرَ الله، والقيام بأمره امتثالاً، ونهيِه اجتنابًا، والتوبة عمَّا يُسخِط اللهَ، ويوجِب العذاب، ووقاية الأهل والأولاد بتأديبِهم وتعليمهم، وإجبارهم على أمرِ الله، فلا يسلَمُ العبدُ إلاَّ إذا قام بما أمَر اللهُ به في نفسه، وفيما يدخُلُ تحت ولايتِه من الزوجات والأولاد، وغيرهم ممن هو تحت ولايتِه وتصرُّفه"[5]؛ اهـ.


ولا أغالي إن قلتُ: إن الأسرةَ هي العمود الفقري لأي مجتمع في تربية وتأهيل شبابه، لتحمل مسؤولياته في الحياة.

 

والأسرةُ المسلمة إن توفَّرت لها مقومات المعيشة الطيبة، قادرةٌ على زرع الوازع الديني في نفوس أبنائها، وتنشئتهم على الفضائل والأخلاق الحميدة والمُثُل العليا منذ طفولتهم، حتى يصيروا شبابًا أقوياءَ، لا تهزُّهم عواصفُ الفِتَن، ولا رياحُ التغيير، عن التمسُّك بحبِّ الدِّين والوطن.

 

وهذا من حسنات الإسلام وتعاليمه؛ ألم يقلِ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالإمام الأعظم الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها وولده، وهي مسؤولةٌ عن رعيتِها، وعبد الرجل راعٍ على مالِ سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِه))[6].

 

قال العلاَّمة ابن القَيِّم رحمه الله: "فمَن أهمَل تعليم ولده ما ينفعُه، وترَكه سُدًى، فقد أساء إليه غايةَ الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادُهم من قِبَل الآباء، وإهمالهم لهم، وترْك تعليمهم فرائضَ الدين وسُننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسِهم ولَم ينفَعوا آباءَهم كِبارًا"[7]؛ اهـ.

 

ومن صور المسؤولية العامة - على سبيل المثال لا الحصر -: مسؤولية النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

فالنصيحةُ لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامَّتهم: مسؤوليةُ كل مسلم، مع الالتزام بشروطها وآدابها؛ وذلك بالحِكمة والموعظة الحسنة، ولا أُغالي إن قلتُ: إن الدِّين هو أساسُ حياة الإنسان، وسبب سعادته في الدنيا والآخرة، وبدونه يخبِطُ المرء في دنياه خبطَ عشواء، ويضِلُّ طريقه عن الحق المبين، ويتبع كل شيطان مريد.

 

قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].

 

وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].

 

قال السعدي رحمه الله في تفسيرها:

هذا استفهامٌ بمعنى النفي المتقرر؛ أي: لا أحَدَ أحسنُ قولاً؛ أي: كلامًا وطريقة وحالة ﴿ مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾ بتعليم الجاهلين، ووَعْظ الغافلين والمُعرِضين، ومجادلة المُبطِلين؛ بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها، والحثِّ عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه، وتقبيحه بكل طريق يوجب تَرْكه، خصوصًا من هذه: الدعوة إلى أصل دِين الإسلام، وتحسينه، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسَنُ، والنهي عما يضادُّه من الكفر والشِّرك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر[8]؛ اهـ.

 

• وقد ثبَت في السنة الصحيحة من حديث تميمٍ الداريِّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((الدِّين النصيحة))، قلنا: لِمن؟ قال: ((للهِ ولكتابه ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامَّتِهم))[9].

 

• وثبت قوله صلى الله غليه وسلم وهو يخطُبُ الناسَ في حجة الوداع: ((ليُبلغِ الشاهدُ الغائبَ؛ فإن الشاهدَ عسى أن يُبلِّغ مَن هو أوعى له منه))؛[10]، وقال أيضًا: ((بلِّغوا عني ولو آيةً))؛[11].

 

قلتُ: ولا يخفى أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر من النصيحة العامة، ويشهَدُ على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].

• قال أبو جعفرٍ الطبري في تفسيرها ما نصه: يعني بذلك جلَّ ثناؤه: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ ﴾ أيها المؤمنون ﴿ أُمَّةٌ ﴾، يقول: جماعة ﴿ يَدْعُونَ ﴾ الناس ﴿ إِلَى الْخَيْرِ ﴾، يعني إلى الإسلامِ وشرائعِه التي شرَعها الله لعباده، ﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ يقول: يأمرون الناسَ باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودِينِه الذي جاء به مِن عند الله، ﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾: يعني وينهَوْن عن الكفر بالله، والتكذيبِ بمحمد وبما جاء به مِن عند الله، بجهادهم بالأيدي والجوارح، حتى ينقادوا لكم بالطاعة.

 

وقوله: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ يعني: المنجِحون عند الله، الباقون في جناتِه ونعيمه[12]؛ اهـ.

 

• وكذلك يدل عليه قولُ رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكَرًا، فليُغَيِّرْه بيده، فإن لَمْ يستطِعْ فبلسانِه، فإنْ لَمْ يستطِعْ فبقلبه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ))[13].

 

قال النووي رحمه الله في شرح الحديث ما مختصره: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فليُغيِّره) فهو أمرُ إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتابُ والسنَّة وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدِّين[14]؛ اهـ.

 

وينبغي التنبيهُ هنا إلى أن تغييرَ المنكَر بالقلب واللسان للعلماء والدعاة وكل مسلم حسب قدرتِه واستطاعته، وفي حدودِ تعاليمِ الشرع المطهَّر، وهو مِن النصيحة لله تعالى، وأما التغييرُ باليد في المجتمع الإيماني فهو مسؤوليةُ السلطان ومَن ينوب عنه، وذلك بوَضْع القوانين المنظِّمة له، وآليته، والقائمين به بين الناس في المجتمع، وهو كذلك مسؤوليةُ كل مسلم في حدود ولايته، وممن يشمَلُهم برعايته ويتولى أمرَهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)) كما بيناه في المسؤولة الخاصة آنفًا.

 

وينبغي أن يكونَ ذلك - تغيير المنكر بكل أنواعه - وَفْقًا للضوابط والقواعد التي بيَّنها أولو الألبابِ من العلماء والفقهاء، وحتى لا تتصادَمَ مع تعاليم الكتاب والسنَّة.

 

والمجتمع الذي يُهمِل أهله أو يحارب القائمين على أمر هذه الوسيلة والدعوة الربانية للإصلاح، ويضع العراقيل بالقوانين الوضعية والأعراف الجاهلية التي هي مِن وَضْع البشر، وفيها ما ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر - سوف يؤدِّي ذلك إلى فساده وإهلاكه بالآفات والمنكَرات المدمِّرة للقِيَم والأخلاق المثالية، ولقد حذَّر النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم من هذا السبيل المظلم فقال: ((مَثَل القائم على حدود الله والواقع فيها كمَثَل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقَوْا من الماء، مَرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرَقْنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يترَكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوْا ونجَوْا جميعًا))[15].

 

فكل هذه الأدلة وغيرها تدل على أن النصيحةَ - ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مسؤوليةٌ عامَّة للأمراء والعلماء، ولكلِّ مَن قدر عليها من المسلمين وتنطبِقُ عليه شروطُها، ويملِك أدواتها، ويفقَهُ ضوابطَها وحدودَها.

 

الركيزة الثالثة: التكافل والتعاون بين أفراده:

والمراد بالتكافل[16]: أن يكفُلَ المسلم أخاه المسلم بما أعطاه الله من نِعَم؛ كالعلم، والمال، والقوة، والذكاء.. إلخ.

 

والمقصود أن يعطف القويُّ على الضعيف، ويواسي الغني الفقير، ويعلِّم العالِم الجاهل، وما أشبهَ ذلك، فهذا التكافل وإن شئت قُلْ: وهذه الرِّعاية الاجتماعية قائمةٌ على منهج رباني؛ فقد شرَع الله تعالى في قرآنه وسنَّة رسوله أنواعًا كثيرةً من التكافل والتعاون المثمِر بين الأفراد والجماعات في المجتمعِ الواحد، من ذلك على سبيل المثال:

 

إيتاء الزكاة من الغني للفقير:

إخراج الزكاةِ من الغني للفقير؛ وذلك عند تمام النِّصاب، ومرور الحول: طهارةٌ لماله، وشُكر لنِعَم الله عليه, وكذلك الصدقات على المساكينِ وأهل الحاجة والفَاقة تَزيدُ مِن الترابُطِ والتكافل والتماسُكِ بين أفراد المجتمع، ومن أدلة ذلك في نصوص الوحيين:

• قوله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103].

 

• وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بُنِي الإسلامُ على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام))[17].

 

قال ابن العثيمين رحمه الله في شرح الحديث ما مختصره وبتصرف يسير:

والزكاة هي: التعبُّد لله تعالى في دفع مال مخصوص من أموال مخصوصة، هذا المال المخصوص مقدر: ربع العشر، نصف العشر، العشر.

 

ثم قال: والزكاة لها فوائدُ عظيمة، منها: تكميلُ إسلام العبد؛ لأنها أحدُ أركان الإسلام، وهي أفضلُ من الصَّدقة.

 

وذكَر رحمه الله من فوائدِ الزكاة والصدقة عمومًا ما مختصره:

• منها: أن فيها جَبرًا لقلوب الفقراء، ودفعًا لحاجتهم، وحماية من غضبهم؛ لأن الفقراء إذا لم يُعطَوْا من مال الأغنياء ربما يغضَبون ويتجرؤون، ويكرَهون الأغنياء، ويرون أنهم في وادٍ والأغنياء في وادٍ، والأمة الإسلامية أمَّة واحدة، يجب أن يعتقد كلُّ إنسان أنه لَبِنة في سور قصرٍ مع إخوانه المسلمين؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشُدُّ بعضُه بعضًا))[18].

 

• ومنها: أنها سببٌ في شرح الصدر؛ لأن الإنسان كلما بذَل شيئًا من ماله، شرح الله له صدره، وهذا شيء مجرَّب وواقع، لو يتصدق الإنسانُ بأدنى من واجب الزكاة لوجَد في صدره انشراحًا، وفي قلبه محبة للخير.

 

• ومنها: كفالة اليتيم، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافلُ اليتيم في الجنَّةِ هكذا، وقال بإصبعيه السَّبَّابة والوسطى))[19].

 

وفي هذا حثٌّ على كفالة اليتيم، وكفالةُ اليتيم هي القيامُ بما يُصلِحه في دِينه ودنياه، بما يصلحه في دينه من التربية والتوجيه والتعليم، وما أشبهَ ذلك، وما يصلحه في دنياه من الطعام والشراب والمسكن...[20]؛ اهـ.

 

إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وكف الأذى:

إطعامُ الطعام، وإفشاء السلام، وكف الأذى، وما أشبه هذا من أعمال البِرِّ التي حثَّ عليها الشرعُ المطهَّر تَزيد من المحبَّةِ والمودَّةِ والتكافل بين الناس في المجتمع الإيماني المثالي، وفي السنَّةِ عن الصادقِ المعصوم أحاديثُ تدل على ذلك، منها:

حديث عبدِالله بن عمرو قال: إن رجلاً سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خيرُ؟ قال: ((تطعم الطَّعام، وتقرأ السلامَ على مَن عرَفْتَ ومَن لم تعرِفْ))[21].

 

• وحديث أبي موسى قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الإسلام أفضلُ؟ قال: ((مَن سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه))[22].

 

قال الإمام النووي رحمه الله في شرح ما ذكرناه من أحاديث، وما يدور في معناها من أحاديث أخرى، ما مختصره:

وفي هذه الأحاديث جُمَل من العِلم، ففيها الحثُّ على إطعامِ الطعام، والجود، والاعتناء بنَفْع المسلمين، والكف عما يؤذيهم بقولٍ أو فعلٍ، بمباشرة أو سبب، والإمساك عن احتقارِهم، وفيها الحثُّ على تألُّف قلوب المسلمين، واجتماع كلمتهم، وتوادهم، واستجلاب ما يحصل ذلك.

 

قال القاضي رحمه الله: والأُلفة إحدى فرائض الدِّين، وأركان الشريعة، ونظام شَمْل الإسلام.

 

قال: وفيه بذل السلام مَن عرفتَ ولمن لم تعرف، وإخلاص العمل فيه لله تعالى، لا مصانعة ولا مَلقًا، وفيه مع ذلك استعمال خُلُق التواضع، وإفشاء شِعار هذه الأمة، والله تعالى أعلم[23]؛ اهـ.

 

نصرة المظلوم وإعانته وإعادة الحقِّ إليه:

ذلك لأن الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة، وهو في الدنيا ظلمةٌ للقلوب، يَزيد من الحقد والكراهية والعداوة؛ ولهذا حذَّر منه الله تعالى، ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، تحذيرًا شديدًا، فقال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [غافر: 52]، وقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ((اتقوا الظلمَ؛ فإن الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة))[24].

 

• قال العلاَّمة ابن العثيمين رحمه الله: "اتقوا الظلم" بمعنى: احذروه، واتخذوا وقايةً منه، وابتعدوا عنه، والظلم: هو العدوانُ على الغير، وأعظم الظلم وأشدُّه الشِّركُ بالله تعالى؛ ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، ويشمل الظلم ظلم العباد، وهو نوعان: ظلم بترك الواجب لهم، وظلم العدوان عليهم؛ بأخذ أو انتهاك حرماتهم.

 

ثم قال:

ومن الظلم أيضًا اقتطاع شيء من الأرض؛ قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: ((مَن اقتطع شِبرًا من الأرض ظلمًا، طُوِّقه يومَ القيامة من سبع أرَضين)).

 

ومن الظلم الاعتداءُ على الناسِ في أعراضِهم بالغِيبة أو النميمة، أو ما أشبه ذلك؛ فإن الغِيبة ذِكرُك أخاك بما يكره في غيبته، فإن كان في حضرته، فهو سبٌّ وشتم، فإذا ظلم الناس بالغيبة بأن قال: فلان طويل، فلان سيِّئ الخُلُق، فلان فيه كذا، فهذه غِيبة وظُلم، يحاسَب عليها يوم القيامة.

 

وكذلك أيضًا إذا جحَد ما يجب عليه جحودًا، بأن كان لفلان عليه حقٌّ، فيقول: ليس له عليَّ حقٌّ، ويكتم؛ فإن هذا ظُلم؛ لأنه إذا كانت المماطلة ظُلمًا، فهذا أظلم، كمن جحد شيئًا واجبًا عليه، فإنه ظالم.

 

وعلى كل حال، اتقوا الظلمَ بجميع أنواعه؛ فإن الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة، يكون على صاحبه - والعياذ بالله - ظلمات بحسَب الظُّلم الذي وقَع منه، الكبير ظلماتُه كبيرة، والكثير ظلماته كثيرة، كل شيء بحسَبه؛ قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وفي هذا دليلٌ على أن الظلمَ مِن كبائر الذنوب؛ لأنه لا وعيدَ إلا على كبيرةٍ مِن كبائر الذنوب؛ فظُلم العباد وظُلم الخالق عز وجل ربِّ العباد كله من كبائر الذنوب[25]؛ اهـ.

 

الركيزة الرابعة: حفظ الحقوق والحريات في إطار الشريعة الربانية:

حِفظ الحقوق والحريات من مقوِّمات ودعائمِ المجتمع المثالي في الإسلام، وهي كثيرة ومتنوعة، وتسمو بعلاقةِ الناس بخالقِهم من جهة، وعلاقتهم بأنفسهم من جهة أخرى، ومن الصعب حصرُها في هذه العجالة؛ لذا رأيت الاكتفاء باثنينِ من الحقوق والحُريات التي اهتمَّ بها الإسلام، وشرَع لها تعاليمَ سامية، ما زال وسيظل يشكِّك فيها المبطِلون والمنافقون من أحفاد أبي جهل في كل عصرٍ ومصرٍ، ويثيرون حولهما الشُّبهات والشُّكوك، ويُكثِرون من ترديدِها في محاولات مستمرة مستميتة؛ لينالوا من الشريعة، ويقدَحوا في أحكامِها وسماحتها؛ لوصفِها بالجمودِ والتطرُّف وعدم ملائمتِها للعصر، ولكن هيهات هيهات.

 

قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17].

 

وهذان الحقان هما:

1- حق المرأة وتحررها في بناء المجتمع الإيماني المثالي.

2- حقوق أهل الكتاب في ديار الإسلامِ من منظور الشريعة.


وسوف نبيِّنهما وبشرح علمائنا الثقات؛ لأهميتهما في بناء الأمَّة على القِيَم والأخلاق المثالية، ولِنكبَحَ جماح فكر وسفسطة بعض المحسوبين على الإسلام، وهم مِن جِلدتنا ويتكلَّمون بألسنتنا، من خطباء الفتنة وأمثالهم في العالم المترامي، من أعداء الله، الكارهين والحاسدين، والمشككين في دين الإسلام، وعظَمة رسالته، ووسَطية منهجه، من أنصار الحرية المزعومة التي لا يُعرَف لها حدٌّ، ولا يؤيدها وحي السماء، كرسالة الإسلام الذي يزيد عددُ معتنقيه ومَن يدخل فيه يومًا بعد يوم، ليموت مَن مات عن بيِّنة، ويهلِكَ مَن هلَك عن بيِّنة.

 

1- حق المرأة وتحررها في بناء المجتمع الإيماني المثالي:

الشبهات التي يُلصقها أعداءُ الله بالإسلام فيما يخص حق المرأة وحريتها: كثيرةٌ، منها قولهم: إن فرضَ الحجاب عليها تقييد لحريتها، وقولهم: إن تعدُّد الزوجات للرجل دون المرأة يُخالفُ المساواة، وقولهم: إن نظام الميراث الذي جعَل نصيبَ الرجل كنصيب امرأتينِ فيه ظلم لها.. إلخ.


ولسنا بصددِ الرد وكشف أباطيلهم في هذه الدراسة؛ لأن هدفَنا منها بيانُ أن الإسلام بمنهجيته ومثاليته ووسطيته رسالةُ الله للعالَمين، وفي كتب علمائنا - سلَفًا وخلَفًا - ما يكشف الغُمَّة، ويزيل الالتباس، ويرُدُّ شبهاتهم وكيدَهم في نحورهم.


لذا نكتفي هنا بالردِّ على الشبهة الأولى، وهي أن فرضَ الحجاب على المرأة يقيِّد حريتها، وببيانِ زيفِ هذه الدعوة، وبيان خطورتها على المجتمع المثالي الإيماني الذي نبيِّن مقوِّماتِه ودعائمَه في هذا المبحث من الدراسة.


وبادئ ذي بَدءٍ نقول:

مما لا شك فيه عند العقلاء من الناس أن المرأة نصف المجتمع، بل هي عندي العمود الفقري للمجتمع كله، وهي القضية الأساسية للشعوب المتحضرة؛ فهي قادرةٌ على النهوض بالمجتمع؛ بإخلاصها لله، والتزامها بشرعه، وهذا لا ريبَ يؤدِّي إلى مجتمع قائم على العِفَّة والفضيلة.


كما أنها قادرةٌ على أن تكونَ بلاءً صاعقًا، تُشيع الفاحشة والإباحية والمجون، بتبرُّجِها وخروجِها عن شرع الله، وهذا لا ريبَ يؤدِّي إلى مجتمع فاسد، منحلِّ القِيَم والأخلاق.


لماذا؟

لأنها مِن أخطر الفِتَن في دنيا الناس، وأولُ مراتبِ الشهوات المهلِكة التي ذكَرها الله تعالى في القرآن الحكيم؛ قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].

 

قال ابن كثير في شرحه للآية - بتصرف يسير - ما مختصره:

يخبِر تعالى عما زُيِّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذِّ من النِّساء والبنين، فبدأ بالنساء؛ لأن الفتنةَ بهن أشدُّ، كما ثبَت في الصحيح أنه عليه السلام قال: ((ما تركْتُ بعدي فتنةً أضَرَّ على الرِّجَالِ من النِّساء))[26].

 

فأما إذا كان القصدُ بهن الإعفافَ وكثرةَ الأولاد، فهذا مطلوبٌ مرغوبٌ فيه، مندوب إليه، كما ورَدت الأحاديثُ بالترغيب في التزويج والاستكثار منه، "وإنَّ خيرَ هذه الأمَّةِ كان أكثرَها نساءً"[27]، وقوله عليه السلام: ((الدُّنيَا مَتَاع، وخيرُ متاعِها المرأةُ الصَّالحةُ[28]))[29]؛ اهـ.

 

قلت: فإن كانت المرأةُ عند العقلاء أخطرَ الفتن، فلا ريب أن تبرجَها وسفورَها واختلاطها بالرجال ومزاحمتها لهم - كما هو مشاهَد اليوم في المجتمعات المتحررة إسلامية أو غير إسلامية، بحجة المساواة والحرية التي لا يحدها حدٌّ - مغالطة فجَّة؛ فإن المجتمعَ الفاضل لا ينشأ بفتح أبواب الفساد، وتسهيل مداخله، بل بغَلْق أبوابه، وسدِّ وتجفيف منابعه، والوقايةُ خيرٌ من العلاج كما يقولون.

 

فلماذا إذًا الهجومُ على شريعة الإسلام التي تدعو المرأةَ للاحتشام بالحجاب؛ لحفظ كرامتِها وعفافها وحيائها من النظرات واللفظات من الرِّجال أصحاب القلوب المريضة، والنفوس الضعيفة، والألسنة البذيئة، ممن لا يردَعُهم دِين ولا ضمير.

 

وإن قالوا: نعم، واجبٌ على المرأة أن تخفيَ مواضع الفتنة منها أمام الرجال، منعًا للفجور، فنحن نسأل العقلاءَ والحكماء منهم: وهل فرَض الله تعالى الحجابَ على المرأة إلا لذلك؟!


قال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

 

فالحجابُ بشروطه الشرعية فقط أمام الناس الأجانب التي يحرُمُ عليهم رؤيتها متبرجة وسافرة، ولكن في بيتها ومع محارمها، فهي - كغيرها من النساء - حرَّة فيما ترتديه من ملابسَ، مع الالتزامِ بآداب الإسلام وسلوكياتِه، فما ترتديه لزوجِها وفي بيت الزوجية يختلفُ عما ترتديه أمام النساءِ عمومًا، أو محارمها؛ كالأب والأخ والعمِّ.. إلخ.

 

وهي ليست ملزَمةً بالحجاب والاحتشام أمامهم كغيرهم من الناس؛ لأنه يباحُ لها السفورُ أمامهم بنص الآية المذكورة آنفًا.

 

ولا يغيب عن أولي الألباب جرائم الاغتصاب والتحرُّش التي تفُوق الوصفَ، كما هو مشاهَد اليوم في المجتمعات المتحرِّرة، التي يختلط فيها نساؤها برجالها، بلا حسيبٍ أو رقيب، ولسنا في حاجةٍ للأرقام؛ فهي معلومةٌ للقاصي والداني، وتتبدَّل وتتغيَّر دومًا، وفي ارتفاع مطَّرد، مما يؤدي بهذه المجتمعات إلى الهاوية والانحطاط الخُلُقي.

 

وإن كانت الحُجَّة حرية المرأة، فإن الإسلامَ قد حرَّر المرأةَ من جبروت الرجل وتسلُّطه في الجاهلية، وحوَّلَها من سلعة تُباع وتشترى أو أن تُدفَن في التراب وهي طفلة لا حول لها ولا قوة - إلى امرأةٍ مكرمة معززة؛ أُمًّا وزوجةً، وأختًا وابنة، والنصوص الشرعية التي تدل على ذلك مشهورةٌ وكثيرة.

 

وجعل الإسلامُ المرأة كالرجل في الثواب والعقاب، وهذا لا يجادل فيه إلا مكابر حاقدٌ على الإسلام.

 

قال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: 195].

 

قال السعدي رحمه الله: أي أجاب اللهُ دعاءهم، دعاء العبادة، ودعاء الطلب، وقال: إني لا أُضِيع عمَلَ عاملٍ منكم، مِن ذَكَر وأنثى؛ فالجميع سيلقَون ثوابَ أعمالهم كاملاً موفَّرًا، ﴿ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾؛ أي: كلُّكم على حدٍّ سواءٍ في الثواب والعقاب[30]؛ اهـ.

 

ولا يخفى أن الحريةَ التي يدعونها للمرأة في التبرُّج والسفور والاختلاط بلا رادعٍ مِن دين أو قانون هي في الحقيقة والواقع المشاهَدِ في المجتمعات المتحرِّرة مِن كل قيد لكل ذي عين: حريةٌ لاحتقارها، وإهانتها، وذهاب عَفافها وحيائها.

 

ولسنا بهذا الطرح بصدد الدفاع عن شريعتنا وإسلامنا؛ فهو قائم بذاته، وإنما كلامنا في بيان أن الحجاب لا يُعِيق حرية المرأة، بل يحفظها ويكرمها من جهة، ومن جهة أخرى ثمار ذلك على سلامةِ وصلاح المجتمع، وفلاح أفراده، من الوقوع في الفتن، وأخطرها تبرُّج المرأة، واختلاطها بالرجال، بلا رادعٍ من دِين أو قانون، لا يخفى على ذي العقول والألباب، هذا لمن عقَل ووعى، أما مَن تكبَّر وأنكر وجادل، فكفى بقولِ الله تعالى زجرًا له ولأمثاله: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].

 

وكفى وشفى ليثلج صدر أهل الإيمان، وتطمئن قلوبهم للحق، والثبات عليه، عندما ينعق هؤلاء بما لا يعلمون، بقولِ سيد الخَلْق المبعوث رحمة للعالمين: ((ليبلُغَنَّ هذا الدِّين ما بلَغ الليل والنهار، حتى لا يدَعَ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله هذا الدِّين، بعزِّ عزيز، أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعِز الله به الإسلامَ، وذلاًّ يُذِل اللهُ به الكفر))[31].


2- حقوق أهل الكتاب في ديار الإسلام من منظور الشريعة:

أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وهم أهل الذمة، والذِّمة في اللغة: العهد والأمان، وهم مِن أصحاب الديانات السماوية الأخرى، والإسلام دين سماوي كذلك، نزَل به الرُّوح الأمين جبريل عليه السلام، على قلب نبيِّ الإسلام، وخاتَمِ الأنبياء صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك - والذي لا يستطيع أن ينكرَه مكابرٌ أو مشكك فيه - هو أنه لو كان من عند غير الله تعالى، لكان من المنطقِ والعقلِ أن يأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أتباعَه بالكفرِ بالكتب السماوية السابقة، وإنكارِ نبوة مَن سبقه؛ ليكون منفردًا بذاته ودينه، ولكن - كما لا يخفى - بيَّنت كثيرٌ من آيات القرآن الذي أوحاه الله تعالى إليه، والسنَّة الصحيحة: أن الإسلامَ هو الدِّينُ الوحيد الذي يقرُّ بنبوةِ ورسالة مَن سبق من الأنبياء والرسل، ويدعو مُعتنقيه للإيمانِ بهم، وتوقيرهم، وتنزيههم، ويحرِّم عليهم سبَّهم، وهذا من أعظم وأسمى حقوقِ أهل الكتاب في الإسلام، ولا ينكرها إلا جاحدٌ أعمى البصر والبصيرة، ومن أدلة ذلك:

• قوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].

 

ثم بيَّن القرآن مَن هم هؤلاء الرسل ممَّن شرَّفهم الله تعالى واصطفاهم بالرسالة والنبوة، فقال تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 84، 85].

 

ومن السنَّة التي تدعو إلى توقيرِ أنبياء الله ورسله ما يلي[32]:

• عن أبي هريرة قال: "استَبَّ رجلان: رجل من اليهود، ورجل من المسلمين، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم على العالَمين، وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى عليه السَّلام على العالَمين، قال: فرفَع المسلمُ يدَه عند ذلك، فلطم وجهَ اليهودي، فذهب اليهوديُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمرِ المسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيِّروني على موسى؛ فإنَّ الناس يُصعَقون، فأكون أولَ مَن يُفيق، فإذا موسى باطشٌ بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صُعِقَ فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله))"[33].

 

• وعن عبدالله - رضي الله عنه - قال: "لما كان يوم حنين آثَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم ناسًا؛ أعطى الأقرعَ مائةً من الإبل، وأعطى عُيَينةَ مِثل ذلك، وأعطى ناسًا، فقال رجل: ما أُرِيدَ بهذه القسمة وَجْهُ الله، فقلت: لأخبِرَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رحم اللهُ موسى، قد أوذي بأكثرَ مِن هذا فصبَر))"[34].

 

• وعن عبدالله بن جعفر قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ينبغي لنبيٍّ أن يقولَ: إنِّي خيرٌ من يونسَ بنِ متَّى))"؛ صحيح، انظر: صحيح الجامع للألباني، ح/ 5821.

 

• وعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى، الأنبياءُ أبناءُ عَلاَّت، وليس بيني وبين عيسى نبيٌّ))[35].

 

وبعد كلِّ هذه الأدلةِ عن حرص رسولِ الإسلام على توقير إخوانه مِن الرسل والأنبياء قبله، فلا عجب إذًا أنِ اختارَه الله - تعالى - خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلاً, وختم به الرسالةَ والنبوة, وجعَله الرحمةَ المهداة للخَلْق أجمعين.

ومِن ثَم، وبناءً على ما سبق ذِكره آنفًا، نقول:

إن مِن أعظم حقوق أهل الكتاب، التي يحفظُها الإسلام، ومن ثوابته: تعظيم أنبيائهم، والإيمان بكُتبهم المنزَّلة من عند الله، إلا ما حُرِّف منها، ويخالف قرآننا المعجِزَ المحفوظ من الله تعالى.

 

• ومِن حقوقهم في الإسلام: الإقرارُ بحقِّهم في الحياةِ الإنسانية الكريمة، وعدم الاعتداء عليهم وظلمهم دون جَريرة أو ذَنب.

 

والأدلة في ذلك كثيرة، منها:

• حديث: ((مَن ظلَم معاهَدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخَذ منه شيئًا بغير طِيب نفس منه، فأنا حجيجُه يوم القيامة))[36].

 

• وحديث: ((مَن قتَل نَفْسًا معاهدًا، لَم يَرَحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحَها لَيوجَدُ من مسيرة أربعين عامًا))[37].

 

• ومن حقوقِهم في المجتمع المسلم: حمايتُهم من الاعتداء الداخلي والخارجي، واجب على المسلمين، وأوجب الجزية في حقهم؛ لهذا قال تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].

 

قال ابنُ العُثَيمين: الجِزية هي: مالٌ يضعه ولاةُ الأمر كلَّ عام على كل كافر تحت ذمَّة المسلمين، عوضًا عن حمايتِه وإقامته بدار الإسلام.

 

مثاله: لو فتَح المسلمون بلدًا للكفار، واستولَوْا عليها، فإنه يقال لِمن فيها من الكفار: لكم البقاء مع دَفْعِ الجِزية.

 

والدليل على الجزية: ما جاء في حديثِ بُرَيدة رضي الله عنه: ((فإن هم أبَوْا، فاسأَلْهم الجزيةَ))[38].

 

قلت: والصحيح الذي عليه علماؤُنا أن الجزيةَ تؤخَذُ من كل كافر، وليس مِن أهل الذِّمة فقط، وهي على مَن بلغ الحُلُم، وكان قادرًا على القتال، أما المعذور لعاهةٍ تمنَعُه من القتال، أو لكِبَر السن، أو النساء والصبيان، ومَن في حُكمهم - فلا تُؤخَذ منهم.

 

والجِزية كما لا يخفى: مقابل حماية المخالفين لنا في العقيدة من غير المسلمين، فإن أسلَموا فهم إخواننا في الحقوق والواجبات، وليس فيها إذلال لهم؛ فهي ليست حِكرًا للمسلمين وغنائمَ لهم، بل تصب في مصلحة المجتمع كله، كما يفعلُ المسلمون الذين يُخرِجون زكاة أموالهم، وزكاة الفطر، وكفارات النذور والأيمان والقتل الخطأ، وفدية الصيام وكفارته، والظِّهار، وما أشبه هذا، وكل هذه مغارم تُصرَف لعلاج آفات الفقر في المجتمع، وحاجات أفراده الأساسية، وهذا هو العدلُ الذي يتفقُ مع رسالة ومفهوم الإسلام.

 

ومعلوم أن الجِزيةَ لا وجود لها اليوم؛ لضَعْف المجتمعات المسلِمة التي تحكُمُ بغير ما أنزَل الله، أو تحكُمُ ولكنها مجتمعاتٌ ضعيفة يفتقد أفرادُها - على المستوى الفردي والجماعي - للصدق في القول والفعل والإيمان الحق، وإن عادُوا لمصدرَيْ قوتهم؛ كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطبَّقوا تعاليمَ الإسلام الصحيح بلا إفراط أو تفريط على أنفسهم - فقد وعَدهم وبشَّرهم اللهُ تعالى بقوله: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

 

• ومِن الحقوق العظيمة التي أباحها الإسلامُ لهم في المجتمع المسلم: حرية ممارسة عقيدتهم، وإقامة شعائرِهم في أماكن عبادتهم، وعدم إكراههم على دخولِ الإسلام، مع الالتزامِ بأحكامه، فإذا أبى التزامَ أحكامِ الإسلام انتقض عهده.

 

وينبغي قبل بيان مقصودِنا بحريةِ العقيدة أن نبيِّن معنى العقيدة، ونبدأ بحول الله وقوته ونقول:

إن العقيدةَ لغةً: من العَقْدِ والتوثيقِ والإحكامِ والربطِ بقوَّة، وهي اصطلاحًا: الإيمانُ الجازم الذي لا يتطرَّقُ إليه شكٌّ أو ريبٌ لدى معتَقِده.

 

ومِن هذا المعنى الجَلي نستطيع أن نقول: إن العقيدةَ في الإسلام تعني: الايمانَ بالله تعالى بلا شك أو تردد، وتوحيده في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورُسله، واليوم الآخر، والقدر خيرِه وشره.

 

وحريةُ العقيدة للكتابيِّ من اليهود والنصارى ومَن جرى مجراهم تختلفُ عن حرية المسلم؛ فليس للمسلم الموحِّد أن ينكر ألوهية الله، ويكفرَ به، وينكر وجوده، ويقال: هذا حقه، وله الحريةُ في الإيمان والكفر؛ فهذا لا حريةَ له، بل يطبَّق عليه حدُّ الرِّدة؛ لأن الإسلامَ يعني الاستسلام والانقياد لحُكم الشرع؛ فعقوبة المسلم المرتدِّ: القتلُ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((مَن بدَّل دِينَه فاقتُلوه))[39].

 

وقتُله ذاك عقاب له إن لم يرجع لدِينه ويتُبْ إلى الله؛ ليستقيم أمرُ المجتمع كله، وحتى لا يكون اعتناقُ الإسلام ثم الكفر به طعنًا فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72].

 

قال ابن كثير رحمه الله: هذه مَكيدةٌ أرادوها ليَلبِسُوا على الضعفاء مِن الناس أمْرَ دِينهم، وهو أنهم اشْتَوروا بينهم أن يُظهِروا الإيمان أول النهار، ويُصلُّوا مع المسلمين صلاةَ الصبح، فإذا جاء آخرُ النهار ارتدُّوا إلى دِينهم؛ ليقول الجَهلةُ من الناس: إنما رَدَّهم إلى دِينهم اطِّلاعهُم على نقيصةٍ وعيبٍ في دِين المسلمين؛ ولهذا قالوا: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72][40]؛ اهـ.

 

فقتلُ المسلِمِ المرتدِّ عن دِينه، ليس عقوبة على حرية الفكر والاعتقاد، بل هو عقوبةٌ على استهزائه بالدين، ومحاولة الطعن فيه بدخوله وخروجه منه، وما في ذلك مِن خطرٍ على الأمة؛ فتماسُكُ المجتمع وتعظيم الدِّين أمرٌ لا يجوزُ فيه رحمة أو تقصير، فلزِم أن تكون العقوبةُ الصارمة على قدرِ الذَّنب الفادح.

 

يقول العلاَّمة ابنُ باز رحمه الله:

وليس لأحد أن يشركَ بالله، وليس له أن يزني، وليس له أن يسرق، وليس له أن يقتل نفسًا بغير حق، وليس له أن يشرَبَ الخمر، وليس له أن يدَعَ الصلاة، وليس له أن يدع الزكاة وعنده مال الزكاة، وليس له أن يدَعَ الصيام وهو قادرٌ على صيام رمضان إلا في السفر والمرض، وليس له أن يتركَ الحج وهو قادرٌ على أن يحجَّ مرةً في العمر، إلى غير ذلك...

 

فلا حريةَ في الإسلام في ذلك، بل يجب أن يلتزمَ الإنسانُ العقيدة الصحيحة، ويدَعَ ما حرَّم الله، نعم، له حريةٌ في الأمور المباحة التي أباحها الله له، له حرية في الأمورِ المستحبَّة التي لا تجب، فلو شاء تَرْكها فلا بأس، والمباح إن شاء فعَله الإنسان، وإن شاء تركه، أما ما أوجب الله عليه فيلزمه فِعله، وما حرمه الله عليه فيلزمه تَرْكه، وليس له أن يعتنقَ الشيوعية أو النصرانية أو اليهودية أو الوثنية أو المجوسية، ليس له ذلك، بل متى اعتنق اليهوديةَ أو النصرانية أو المجوسية أو الشيوعية، صار كافرًا، حلالَ الدمِ والمال، ويجب أن يُستتابَ، يستتيبُه وليُّ الأمر المسلمُ الذي هو في بلده، فإن تاب ورجَع إلى الحقِّ، وإلا قتله؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ بدَّل دِينَه فاقتُلُوه))؛ رواه البخاريُّ في الصحيح.


فمن بدَّل دِينه دِينَ الإسلام بالكفر يجب أن يُقتَل إذا لم يتُبْ، فبهذا يعلم أنه ليس للمسلم حرية أن يترك الحق، وأن يأخذ بالباطل أبدًا، بل يلزمه الاستقامةُ على الحق، ويلزمه تركُ الباطل، وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينصح لله، ويدعو إلى الله عز وجل، وأن يحذَرَ ما حرم الله عليه، وأن يدعو الناسَ إلى ترك ما حرَّم الله عليهم، كل هذا أمر مفترض حسب الطاقة"[41]؛ اهـ.


قلت: ومن ثَم فلا حريةَ في العقيدة للمسلم، وإنما هي لأهل الكتاب، ومَن جرى مجراهم في دار الإسلام، وينبغي أن تكون في إطار الشريعة الخاتمة، كما بيَّنَّا، وليست منفصلة عنها؛ أي: ليس من حقِّ الكافر في دار من ديار الإسلام أن يجاهرَ بكفره علانية ويقول: أنا حر! ثم يمارس كفره وفجوره في المجتمع المسلم، سواء بالقول أو الفعل أو الكتابة والنشر، أو ما أشبه ذلك من الوسائل، دون عقاب على ما يدعو إليه من كفر وزندقة؛ فهذا ليس من حرية الاعتقاد في الإسلام، الذي يدعو إلى التوحيد، بل المقصود أنه لا يُكرَه على الإيمان إلا برغبته، فإن أبى فهو وشأنه، لا يُكره على دخول الإسلام إلا أن يقتنع به، وله أن يمارسَ شعائره الكفرية في حدود ما تبيحه الشريعة أمنًا على نفسه وماله وأهله وأماكن تعبُّده، ما دام لا يخرُجُ عن الحدود الشرعية التي تطبَّق على الجميع؛ لأن مبدأ الثواب والعقاب لا يفرِّق بين مسلم وكتابي، وكل منهما معاقَب حسب ما شرعه الله تعالى، وبيَّنه رسوله صلى الله عليه وسلم، إن خرَج عن إطار الشرع؛ فالحرية ليست مطلَقة، حتى لا يُفسِد كلُّ كافر عقيدةَ ضِعاف الإيمان في الأمة ممن يؤمِن بلسانِه ويكفُرُ بقلبه.

 

فالمقصود بحرية العقيدة للكتابي وما يجري مجراه يبيِّنه قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256].

 

قال السعدي في بيانها ما مختصره: يخبِر تعالى أنه لا إكراهَ في الدِّين؛ لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه؛ لأن الإكراهَ لا يكونُ إلا على أمرٍ خفيَّةٍ أعلامُه، غامضة آثارُه، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدِّين القويمُ والصراط المستقيم، فقد تبيَّنَتْ أعلامُه للعقول، وظهرت طُرقه، وتبيَّن أمره، وعُرِف الرشد من الغي، فالموفَّق إذا نظر أدنى نظر إليه آثَره واختاره، وأما مَن كان سيِّئَ القصد، فاسدَ الإرادة، خبيث النفس، يرى الحقَّ فيختارُ عليه الباطل، ويُبصِر الحَسَن فيميل إلى القبيح - فهذا ليس لله حاجة في إكراهِه على الدِّين؛ لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمُكرَه ليس إيمانه صحيحًا، ولا تدل الآيةُ الكريمة على تركِ قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقةَ الدِّين من حيث هو موجِبٌ لقَبوله لكل منصِفٍ قصدُه اتباعُ الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرَّض له، وإنما يؤخذ فرضُ القتالِ من نصوص أُخَرَ[42]؛ اهـ.

 

وهناك نصوص أخرى كثيرة تدل على حرية المعتقد للكتابي وغيره من غير المسلمين دون إكراهٍ، من ذلك:

• قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29].

 

• وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].

 

بل جعَل الله تعالى المَدخَل لدعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالجدال الحسَن الذي يرُدُّ الحُجَّة بالحجة، ويبيِّن الحق من الباطل، والإيمان من الكفر، وليس الجدال لمجرد الجدال، وإثبات الرأي لهوى ضالٍّ، أو نصر زائف وخادع.

 

فقال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].

 

وإن لَم يرتقِ الجدال لبيان الحق - وهو واضحٌ جليٌّ - فليس للمسلمين في الشريعة أن يُكرِهوهم على الإيمانِ، بل الواجب عليهم دعوتُهم فقط.

 

قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].

 

قال ابن كثير رحمه الله: هذا الخطاب يعُمُّ أهلَ الكتاب من اليهود والنصارى، ومَن جرى مجراهم: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ ﴾: والكلمةُ تُطلَق على الجملة المفيدة؛ كما قال ها هنا، ثم وصَفها بقوله: ﴿ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾؛ أي: عَدْلٍ ونَصَف، نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسَّرها بقوله: ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾ لا وَثَنًا، ولا صنَمًا، ولا صليبًا ولا طاغوتًا، ولا نارًا، ولا شيئًا، بل نُفرِدُ العبادةَ لله وحده لا شريك له.

 

وهذه دعوةُ جميع الرسل؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].

 

وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].

 

ثم قال: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 64]، وقال ابنُ جُرَيجٍ: يعني: يُطيع بعضُنا بعضًا في معصية الله، وقال عِكرمةُ: يعني: يسجُدُ بعضُنا لبعض.

 

﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾؛ أي: فإن تولَّوا عن هذا النَّصَف وهذه الدعوة، فأشهِدوهم أنتم على استمرارِكم على الإسلام الذي شرَعه الله لكم[43]؛ اهـ.

 

قلت: فإن لم يستجيبوا للحق فينبغي تَرْكهم، وعدم التعرُّض لهم، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6].

 

هذا هو مفهوم حرية العقيدة من منظور الإسلامِ بالنسبة لأهل الذِّمَّة ومَن جرى مجراهم.

 

وبعد:

فلقد أثبتنا في هذا المبحث، وبالأدلةِ الشرعية من نصوص الوحيين، أن شريعةَ الإسلام التي جاء بها نبيُّ الإسلامِ صلى الله عليه وسلم من عند ربِّه، والتي أشعَّتْ بنورها قرونٌ طويلة بكمالها وبهائها ومناسبتها للفطرة الإنسانية، رغم التعنُّت البشري في تطبيقها؛ جهلاً وعنادًا بسموِّها، أو كفرًا بها والعياذ بالله، هي السمو والرقي بعينه، والأمل الباقي والوحيد للارتقاءِ بالبشرية، وبناءِ دعائمِ ومقوماتِ المجتمع المثالي الإيماني الذي تهفو إليه أفئدتُهم، وبوحيٍ من السماء لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، والله المستعان وعليه التُّكلان.

 

وللحديث بقية إن شاء اللهُ تعالى.



[1] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم / 3378 - باب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم حديث رقم/ 4601 - باب فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 219).

[3] أخرجه مسلم برقم/ 4822 - باب اتباع سَنَن اليهود والنصارى.

[4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1 /757).

[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/874).

[6] أخرجه البخاري برقم/844 - باب الجمعة في القرى والمدن، ومسلم برقم/ 3408 - باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر.

[7] انظر: تحفة المودود بأحكام المولود (ص/229) - تحقيق: عبدالقادر الأرناؤوط.

[8] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/749).

[9] أخرجه مسلم برقم/82 - باب بيان أن الدِّين النصيحة.

[10] جزء من حديث أخرجه البخاري برقم/65 - باب قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((رُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع)).

[11] جزء من حديث أخرجه البخاري برقم/ 3202 - باب ما ذُكِر عن بني إسرائيل.

[12] جامع البيان في تأويل القرآن لأبي جعفر الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر - الناشر: مؤسسة الرسالة (7/ 91 / 7594).

[13] أخرجه مسلم برقم/70 - باب بيان كون النهي عن المنكَر من الإيمان.

[14] انظر المنهاج في شرح مسلم للنووي.

[15] أخرجه البخاري برقم/ 2313 - باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه.

[16] والتكافل تفاعل من الكفالة، وهي الحِفظ والرعاية والضمان؛ انظر: لسان العرب 11/588.

[17] أخرجه البخاري برقم/7 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بُنِي الإسلام على خمس))، ومسلم برقم/21 - باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام.

[18] أخرجه مسلم برقم/ 4684 - باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم.

[19] أخرجه البخاري برقم/ 5546 - باب فضل من يعول يتيمًا.

[20] انظر شرح رياض الصالحين لابن العثيمين (1/311) - باب ملاطفة اليتيم والبنات.

[21] أخرجه البخاري برقم/11 - باب إطعام الطعام من الإسلام، ومسلم برقم/56 - باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.

[22] أخرجه البخاري برقم/10 - باب: أي الإسلام أفضل، ومسلم برقم/57 - باب بيان تفاضُل الإسلام وأي أموره أفضل.

[23] انظر المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي (1/118/56).

[24] جزء من حديث أخرجه مسلم برقم/ 4675 - باب تحريم الظلم.

[25] انظر شرح رياض الصالحين لابن العثيمين (1/585) - باب النهي عن البخل والشح.

[26] أخرجه البخاري برقم/ 4706 - باب: ما يتقى من شؤمِ المرأة.

[27] أخرجه البخاري برقم/ 4681 - باب كثرة النساء.

[28] أخرجه مسلم برقم/ 2668 - باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة.

[29] تفسير القرآن العظيم لابن كثير - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع (2/ 19).

[30] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/162).

[31] انظر "السلسلة الصحيحة" للألباني (1/ 7)

[32] انظر مقالتنا: "نبي الإسلام الرحمة المهداة" بشبكة الألوكة للمزيد.

[33] أخرجه مسلم برقم / 4377 - باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم.

[34] أخرجه البخاري برقم/ 2917 - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلَّفة قلوبهم.

[35] أخرجه مسلم برقم/ 4361 - باب فضائل عيسى عليه السلام.

[36] انظر حديث رقم: 2655 في صحيح الجامع.

[37] أخرجه البخاري برقم/ 6403 - باب إثم مَن قتل ذميًّا بغير جُرم.

[38] جزء من حديث لمسلم وغيره برقم/ 3261 - باب تأمير الإمام الأمراءَ على البعوث، ووصيته إياهم.

[39] أخرجه البخاري برقم/ 2794 - باب: لا يعذب بعذاب الله.

[40] تفسير القرآن العظيم لابن كثير - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع (2/ 59).

[41] من فتاوى: نور على الدرب (558) - للشيخ: (عبدالعزيز بن باز).

[42] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/110).

[43] تفسير القرآن العظيم لابن كثير - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع (2 / 55).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تمهيد لدراسة: الإسلام رسالة الله للعالمين
  • الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية

مختارات من الشبكة

  • الإسلام والنبي والمجتمع المدني(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الإسلام بين الفرد والمجتمع(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • روسيا: مؤتمر عن دور المرأة في الإسلام والمجتمع(مقالة - المسلمون في العالم)
  • حدود الإسلام تقيم التوازن بين الفرد والمجتمع(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأزمة بين المجتمع المسلم والمجتمع الغربي(مقالة - المسلمون في العالم)
  • ملخص بحث: المخدرات والأسرة والنشء والإسلام والمجتمع(مقالة - الإصدارات والمسابقات)
  • الدور الريادي للمرأة المسلمة في الحياة(مقالة - ملفات خاصة)
  • الإسلام دين جميع الأنبياء، ومن ابتغى غير الإسلام فهو كافر من أهل النار (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مكانة المرأة في الإسلام: ستون صورة لإكرام المرأة في الإسلام (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الحرب في الإسلام لحماية النفوس وفي غير الإسلام لقطع الرؤوس: غزوة تبوك نموذجا(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 1/12/1446هـ - الساعة: 22:18
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب