اصطناع المعروف (عرض)

ما أجملَ أن تدخل الحبور والسعادة على قلوب البائسين والمحرومين، والأراملِ واليتامى, وتمسحَ بيدٍ حانيةٍ دموعهم، وتضمّد جراحهم. وما أجمل أن تزرع البسمة على شفاه المحتاجين، وتصنعَ في الدنيا معروفاً وإحساناً يبقي ذكرك بين الكرماء المحسنين في الدنيا، ويجازيك الله بالإحسان إحساناً في الآخرة، فهل جزاءُ الإحسان إلا الإحسان؟

وكلنا نحفظ قول الشاعر:

ونعلم جميعاً أنّ مجردَ نية المعروف والهمّ به يثاب عليها صاحبها:

بين يدينا اليوم كتابٌ اسمه (اصطناعُ المعروف) وهو من الكتب القيّمة للإمام الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى، وقد كانت هذه اللؤلؤةُ الثمينة والدرةُ النفيسة، في خضمّ الزمن والنسيان، مغمورةً مطموسة، فاستخرجها المحققُ الأستاذ محمد خير رمضان يوسف، وصانها وحماها وصقلها، فخرجت لنا درّةً موشّاةً، بعد أن كُسيت حُلّة من التحقيق العلمي الدقيق...

- المؤلف:
هو الحافظ أبو بكر عبدُ الله بنُ محمد بنِ عبيد بنِ أبي الدنيا، واعظٌ حكيم، ومحدثٌ صدوقٌ، وأخباريٌ مؤدبٌ، توفي في بغدادَ عاصمةِ الخلافة العباسية سنة 281هـ، بعد أن عمر أكثر من سبعين عاماً، وكتابه هذا فيه الجديد من الأخبار والآثار، وفيه رواياتُ الأحاديث تتفاوت بين الصحة والضعف.

- الأصل المتعمدُ في التحقيق:
قال المحقق: والمخطوط المعتمد تحقيقُهُ نسخةٌ وحيدةٌ لا أعرف لها ثانية، وهي من منتقيات مكتبة (لا له لي) بتركيا ضمن مجموع برقم 13664/5 حصلت على مصوَّرتها من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. كما تحدث عن ناسخها وعن مقابلتها فقال: وناسخُها أحمدُ بنُ عبد الله بنِ أبي الغنانم (ت 666هـ) كتبها عام 639هـ. وهي نسخة مقابلة مصحَّحةٌ، عليها سمَاعاتٌ وإجازاتٌ.

وهذه الصورة - كما ذكر المحقق - نال الطمسُ أوراقاً عديدة منها، وأتت الرطوبة على جوانبَ من المخطوطة كلها، لذلك نراه أحياناً يذكر رقم الحديث فقط ثم يضع نقاطاً بعد الرقم كما في ص 32، وأحياناً يضع نقاطاً في بداية الباب، ويذكر المقدار المطموسَ في الهامش كما في ص 47، وأحياناً يذكر عدم وضوح الورقة في المخطوط، ويدوّن ذلك في حاشية الكتاب، وخاصة عندما يكون المطموسُ اسماً لأحد الرواة في سند الحديث أو الأثر كما في ص 32.

كما لم ينس المحقق أن يزوّد الكتاب ببعض الصور لأوراق المخطوط ص 11 - 149.

وهذا الكتاب أعمّ من كتاب (قضاء الحوائج) للمؤلف نفسِه، لأن كتابَ قضاء الحوائج يُعدّ فرعاً من كتاب اصطناع المعروف.

ولقد بلغ التحقيقُ - على ما رأيتُ - ضعفَي حجم الكتاب، مع اعتماد المحقق على أكثر من 169 مرجعاً للتحقيق، وهي من أمهات الكتب، فنحيلك إلى الصفحات 196 – 204، لتقرأ أسماءَ هذه المراجع ومؤلفيها ومحققيها، ففي التعرف إلى هذه المراجع خيرٌ كثير، وزادٌ وفير.

- التحقيق:
لقد كان عملُ المحقق في الكتاب يقوم على شرحٍ لبعض الكلمات الغريبة، وتعليقِ بعض التعليقات المهمة، لكنّ اهتمامه الأكبرَ كان في الأحاديث، فالكتاب معظمه أحاديث وآثار وأخبار، ومن عمله بها، كما قال، الضبط والتحقيق والتوثيقُ والتخريج وبيانُ درجة الأحاديث من خلال أقوال علماء الحديث واستنتاجُ الأحكام منها، مع عمل الفهارس العلمية لها.

والكتاب يتألف من جزأين:
أ/ الجزءُ الأول:
يتألف من أربعة أبواب معنونةٍ، والمحقق هو الذي وضع عنوان الباب الأول كما ذكر في المقدمة ص 5.

والجزءُ الثاني يتألف من ثلاثة أبواب, وسنتحدث باختصار شديدٍ عن أبواب هذا الكتاب:
الباب الأول: عنوانُه (فضل اصطناع المعروف)، وفيه 25 حديثاً تحثّ على اصطناع المعروف، وتتحدث عن فضل ذلك، فاصطناع المعروف من الصدقات العظيمة، والله عز وجل يغفرُ لصانعي المعروف، وبدأه المؤلف بالحديث التالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلُّ معروفٍ صدقةٌ، والمعروف يقي سبعينَ نوعاً من البلاء, ويقي ميتة السوء، والمعروف والمنكر خُلُقان منصوبان للناس يوم القيامة، فالمعروف لازمٌ لأهله, يقودهم ويسوقهم إلى الجنة, والمنكر لازمٌ لأهله يقودهم ويسوقهم إلى النار.

وهذا الباب من ص 18 إلى ص 36.
الباب الثاني: عنوانُه (الضحك)، وفيه 18 حديثاً كلُّها تدل على فضل طلاقة الوجه والتبسم، وتذكر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أكثرَ الناس تبسُّماً. وهذا الباب من ص 37 إلى ص 46.

الباب الثالث: عنوانه (اصطناع المعروف إلى من هو أهلُه)، واحتوى على 31 حديثاً تدل على أن اصطناع المعروف يجب أن يكون إلى إنسانٍ عارف ومقدِّر لقيمة هذا المعروف, لا إلى إنسانٍ أحمقَ أو فاحشٍ أو لئيم, وتحدّث عن سبب ذلك ص 52.

وفي هذا الباب أشعارٌ جميلة تتحدث عن اصطناع المعروف إلى أهله، وعن صنيعة الخير، ص 48 - 56، ومنها هذه الأبيات:

 ومنها:

وكم في قوله "أو لا فأرشدنا إلى من نذهب" من وقعٍ جميل لطيف محبب.

وهذا الباب يقع من ص 47 إلى ص 64.

الباب الرابع: عنوانه (في الحوائج), احتوى على 14 حديثاً، معظمها ضعيفٌ أو ضعيف جداً، وتتقوى الأحاديث الضعيفة ببعضها البعض كما هو معلوم عند علماء مصطلح الحديث الشريف.

وصدَّر المؤلفُ هذا الباب بحديث عظيم يحثّ على التعاون وتقديم الخير والمعروف إلى كل إنسان، حيث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخَلق كلُّهم عيالُ الله، فأحبهم إلى الله تعالى أنفعُهم لعيالهِ). ص 65.

وهذا الباب يقع من ص 65 إلى 73.

ثم يتابع المؤلف هذا البابَ من بداية الجزء الثاني إلى ص 91.

ب/ الجزء الثاني:
الباب الأول: عنوانه (طلبُ الحوائج عند حِسان الوجوه)، واحتوى على 19 حديثاً تدل على طلب الحوائج عند حسان الوجوه، فهم في الأغلب من الكرام، وصانعي المعروف، وذُكرت فيه أشعارٌ تعبّر عن ذلك، ص 96 - 97 على سبيل المثال، وهذا الباب من ص 92 إلى ص 104.

الباب الثاني: عنوانه (في شكر الصنيعة)، وفيه 27 حديثاً بدأها المؤلف بحديث (من لا يشكر الناسَ لا يشكر الله)، وقال عنه الترمذي: حسن صحيحٌ. واحتوى البابُ على أشعار حسنةٍ تحث على حسن الصنيعة وشكرها، منها:
لو كنتُ أعرفُ فوقَ الشُّكر منزلةً = أعلَى مِن الشُّكرِ عندَ الله في الثمَنِ
إذاً منحتُكها منّي مهذَّبةً = حذوِي على حذوِ ما أَوليتَ مِن حسَنِ
وهذا الباب من ص 105 إلى ص 122.

الباب الثالث: عنوانُه (من أنظر معسراً)، يحتوي على 26 حديثاً تدل على فضل إنظار المعسِر، وتنفيس الكرب عن المكروب، وبدأه المؤلف بحديث صحيحٍ يذكر فيه فضل ذلك، والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ستر على مسلم عورةً ستره الله عز وجل في الدنيا والآخرة, ومن يسّر على مسلم يسر الله عز وجل عليه في الدنيا والآخرة, والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه, ومن بطّأ به عملُه لم يسرع به نسبُه، ومن نفَّس عن مسلم كربةً نفس الله عز وجل عنه كربة من كُرَب يوم القيامة, ومن أقال مسلماً أقال الله عز وجل عثرتَه يوم القيامة).

وإليك أيضاً هذا الحديث حيث يكافئ المعروفُ صاحبه يوم القيامة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل المعروف في الدنيا هم أهلُ المعروف في الآخرة, وأهلَ المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة, وإن الله ليبعث أهل المعروف يوم القيامة في صورة الرجل المسافر, فيأتي صاحبَه إذا انشقّ عنه قبرُه فيمسح عن وجهه الترابَ ويقول: أبشِر يا وليَّ الله بأمان الله وكرامته، ولا يهولنّك ما ترى من أهوال يوم القيامة, فلا يزال يقول له: احذر هذا، واتقِ هذا فيسكن بذلك روعَه، حتى يجاوز به الصراطَ, فإذا جاوز الصراطَ عدل وليُّ الله إلى منازله في الجنة, ثم ينثني عنه المعروف، فيتعلق به فيقول: يا عبد الله من أنت؟ خذلني الخلائقُ في أهوال يوم القيامة غيرك, فمن أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا, فيقول: أنا المعروفُ الذي عملتَه في الدنيا بعثني الله خلقاً ليجازيَك به في يوم القيامة.

وفي الباب أيضاً أشعارٌ جميلة بهذا الصدد، منها حدثنا عبد الله قال حدثنا الحسين بن عبد الرحمن قال: دخل زيادٌ الأعجم على عبد الله بن عامر بن كريز فأنشده:

وهو من ص 123 إلى ص 142.

بعد هذه الأبواب وضع المحقق ملحقاً ص 143، ثم وضع الفهارس العامة، وهي على الترتيب: فهرسُ الآيات القرآنية، الأماكن، الأحاديث الشريفة (فهرس أطراف الحديث ويشتمل على المتن والهامش)، فهرسُ الأخبار والآثار، الشعر والأعلام، المراجع، الموضوعات.

وواجبنا بدورنا أن نشكرَ المؤلف والمحقق على هذا المعروف، حيث وضعا بين أيدينا كتاباً من أهم الكتب التي تحث على الأخلاق الحسنة الفاضلة، وعلى رأسها اصطناعُ المعروف وإغاثةُ الملهوف. وشكرُنا يأتي تطبيقاً للحديث المذكورِ في الكتاب: (من لم يشكر الناسَ لم يشكرِ الله)، فجزاهما الله عنا كلّ خير.

بيانات الكتاب:
العنوان: اصطناع المعروف.
المؤلف: ابن أبي الدنيا.
المحقق: محمد خير رمضان يوسف
الناشر: دار ابن حزم - بيروت، ط 1، 1422 هـ.