أين أذهب هذا المساء؟!

أين أذهب هذا المساء؟!

إنها أمنية جميلة تداعبني منذ أمدٍ طويل، وما زالت تلح السؤال عليَّ، وتطلب - بحرقة - الانعتاق من عالم الأماني الحالمة.

يقلِّب أحدُنا وريقاتِ الصحيفة المحلية، أو يزور موقعها على الشبكة المعلوماتية، باحثًا عن إجابة لسؤال بسيط المبنى وعظيم المعنى، طالما تحدَّى الكثير وأعجزهم: أين أذهب هذا المساء؟

يا للدهشة الغامرة، والفرحة الآسرة التي لا توصف، حين لا يطول بحثنا ويحط رِحاله، فتقابلنا الإجابة، والأجوبة لهذا السؤال معروضة بسهولة ويسر في صور غنية متعددة تَعِج بالإثارة والتشويق، إجابة يهرب لرؤيتها الملل والسأم والكآبة، وتملؤنا بالشوق واللهفة للقاء المساء، فنمضي سحابة نهارنا في تململ وترقُّب مؤلم ومُفرِح، ونعدُّ الثواني وأجزاءها كعاشق وعَدَه معشوقه - بعد طول فراق وصدٍّ - سويعاتِ وصلٍ في أحضان المساء.

ما أجمله من عرض مرتب، ومصنف معروض في موقع بارز ولافت للأنظار في واجهة الصحيفة المحلية، تحت عنوانٍ تتراقص حروفُه في حُلَلها الملوَّنة المزركشة: أين تذهب هذا المساء؟

لا تعجل عليَّ يا صديقي، وتتهمني بالمبالغة في وصفي واستغراقي في أمنيتي، وهلمَّ واقرأ بنفسك في حروف خيالي، وسوف ترى صدق مقالي، ولعلك عندئذٍ تلومني لأنني لم أفِ هذا العرض حقَّه من المدح والثناء المستحقَّينِ بلا مجاملة.

تبرز بالخط العريض في عمود: أين تذهب هذا المساء؟ العناوين الرئيسية: "واحة الشعر، المسرح، لقاء مع مفكِّر معروف، عرض بهلواني، رقصة شعبية للشباب، اللقاء الشهري مع المحافظ، محاضرة الأسبوع، ساعة فرح، حرفة من التراث، قراءة في كتاب، الحكواتي، ساعة الحناء، مرح للعائلة، الجديد في عالم الإلكترونيات، اليوم المفتوح لزيارة الأيتام، عيادة المرضى، دورة ثقافية للمسنِّين، لمسة وفاء للآباء والأمهات، إعادة الحب الضائع، حفلة لك على الماشي، مهرجان الورد الطائفي، عرض رسوم فنية لفنان عالمي مشهور، عرض بألوان الليزر على الواجهة البحرية...".

لن تحتار بعد اليوم، واقرأ هذا العمود، وأَعِدْ لحياتك النشاط، واطرد عنها الجمود، فسوف يشهد المساء - وكل مساء - في المكتبة الكبرى قراءة شعرية جميلة لشاعر يتغنى بمآثر الربيع العربي، وفي ساحة السوق عرضًا بهلوانيًّا يتلوه رقص ولعب بالسيوف، وفي سوق النساء مهرجانًا ومسابقة لنقوش الحناء، وأربعة مستشفيات في المنطقة تنسق زيارات خاصة للمرضى، وفي قاعة المؤتمرات مهرجان صغير للطفل فيه مسرح للدُّمَى المتحركة، وحكواتي، ولقاء مع الجَدة، وعشر مساجد تنسق للمصلين زيارات لدُور الأيتام يُدخِلون فيها السرور على الأيتام في وجبة عشاء عائلية، وهدايا، وعناق كله حنان ورحمة.

عشاق الفنون الجميلة هم أيضًا مدعوون مساء الجمعة إلى عرض للوحات فنية لرسَّامين مشهورين من البحرين وإيطاليا والمغرب، وكذا المهتمون بتطوير المدينة مدعوون - كما يذكر هذا العمود الأمنية - إلى اللقاء الشهري المفتوح مع المحافظ، حتى الأزواج والزوجات مدعوون إلى ورشة عمل مجانية بعنوان: "إحياء الحب بين الزوجين"، ويتلو هذه الورشة دعوة إلى مشاهدة عرض بالألوان الليزرية، وعشاء رومانسي على الواجهة البحرية، وللذين يحسون بالوحدة والحزن برامجُ ومناشط، يلاقون فيها صديقًا جديدًا، وفيها حفلة مفرحة مفاجئة جهزت لهم، حتى المسنُّون لم تَنْسَهم هذه البرامجُ، فهم مدعوون إلى ورشة عمل أُعِدَّت للتحدث عن الحفاظ على السعادة في سِنِي التقاعد عن العمل، ويتلوه لمسة وفاء بتكريم عدد من المسنين بمسرحية هادفة، وأنشودة مرحة تشرح صدورهم، وتُشعِرهم بالحب والامتنان.

أين تذهب هذا المساء؟

سؤال كبير تعكس إجابته المتمناة - إذا تحققت - أبعادَ الخارطة الفنية والثقافية والحضارية لمجتمعاتنا، ولعل البعض يبالغ قليلاً - وهو معذور - حين يدعي أن إجابة هذا السؤال تشخِّص - بدقة - حياةَ مجتمعاتنا ومُدننا وصحتها؛ فالفنون رئة يتنفس من خلالها المجتمع، وتُعِيد حيويته، وتجدِّد نشاطه، وهنالك -كما هو مشاهَد- مدن ومجتمعات تشتهر مساءَ كلِّ يوم بحياتها النابضة بالفرح، والغنية بمختلِف الأنشطة الثقافية والفنية، وفي الجهة الأخرى مدن ومجتمعات ذابلة خاملة، لا يجمع الناسَ فيها في نهارها ومسائها إلا المآتمُ والهموم، وأنشطة مكررة ومعادة ممجوجة ومملولة، والسبب في الحالتين - المجتمعات الحية، والمجتمعات الذابلة - يَرجِع للتوجهات الفكرية لأهل هذه المجتمعات عامة، وإلى مَن يسمون أو يتسمون بالنُّخب الفكرية ومُلاَّكِ القرار خاصة، وأظنه يرجع كذلك إلى منظورهم وفرضياتهم تُجَاه الفرح والمرح والفنون على المستوى الفردي والجمعي، فلعلنا - بغير قصد - ضيَّقنا من الأمر واسعَه، وحرَّمنا بلا دليلٍ بعض زينة الله والطيِّبات من الرزق، أو بالغنا في تخيل وتوقي المفاسد وضخَّمناها؛ فدرأنا - بحسن نية - المفسدة الأصلية والمضخمة وكثيرًا من المصالح المحللة.

أين تذهب هذا المساء؟

سؤال يبحث عن إجابة شافية كافية، وأمنية من محب للخير لا تتعدى إطار المباح والحلال - وما أوسعه وأفسحه في أصل ديننا! - أمنية من محب يسعى للترويح عن نفسه وغيره، فساعة وساعة يا حَنْظَلة، والقلوب تكل وتمل، وكما أن في الإسلام صلاة وصومًا وعبادة، ففيه جُمَع ويَوْمَا عيدٍ للفرح والتزاور والتهنئة، وفيه مزح بريء، وفيه تفاؤل، ونتعلم منه أن إدخال السرور على الإخوان صدقة، وفيه مرح في بستان ونزهة، ولعب وسباق، وفيه حث على الحب في الله، والتزاور والتهادي بين المحبين، وفيه حب الجمال والنظافة معنًى وحسًّا، وفي ديننا كذلك فسحة في فرح منضبط بدُفٍّ، ونشيد، وصوت مؤدب حلو في عرس، وعند مجيء غائب.

لا يكاد المرء يبالغ إن قال: إن في ديننا من فسحة المباح، وسَعة الحلال ورُخَصه المشروعة، ومشاعر الفرح والتفاؤل والإيجابية - ما يعطي البشريةَ أجمع أوفرَ الإجابة وأجملها لهذا السؤال المهم، والذي ما ضاقت إجابته، وذبلت ورودُها، وبهتت ألوانُها، إلا حين ضاق وتحجَّر بعض فهمنا وفقهنا للمباح، والحلال، والفرح، والكثير من معاني السعادة، والعطاء، والبناء، في ديننا وحياتنا كمسلمين.