• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم / سير وتراجم وأعلام
علامة باركود

الإمام عبدالله بن المبارك وجهوده في الدفاع عن العقيدة

الإمام عبدالله بن المبارك وجهوده في الدفاع عن العقيدة
إيمان إسماعيل البلوشي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 8/2/2012 ميلادي - 15/3/1433 هجري

الزيارات: 50220

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الإمام عبدالله بن المبارك وجهوده في الدفاع عن العقيدة

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

 

مقدمة:

الحمدُ لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرُّسلِ بَقايا من أهل العلم، يَدعون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويصبِرون منهم على الأذى، يُحيون بكتابِ الله الموتى، ويُبصِّرون بنورِ الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هدوه! فما أحسَنَ أثرَهُم على الناس! وأقبح أثر الناسِ عليهم!

 

يَنفُون عن كتابِ الله تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين، الذين عقَدُوا ألويةَ البدعةِ، وأطلقوا عقالَ الفتنةِ، فهم مختلفون في الكتاب، مُخالِفون للكتاب، مُجمِعون على مُفارَقة الكتابِ، يقولون على الله وفي الله وفي كتابِ الله بغير علمٍ، يتكلَّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدَعُون جهَّال الناسِ بما يشبهون عليهم، فنعوذُ بالله من فتن المضلِّين[1].

 

كان المسلمون في عهد النبوَّة وفي عصر الصحابة على عقيدة صحيحة، ولم يظهرْ أنَّ أحدًا خالَفَ في العقيدة إلى إنْ فُتِحت الفتوحُ، واتَّسعت رقعةُ العالم الإسلامي، واختَلَط المسلمون بغيرِهم، وتأثَّر بعضُ الجهَلةِ ببعض الشُّبهات، ولَمَّا أُصِيبوا بداء الشُّبهة لم يتوجَّهوا إلى العُلَماء الربِّانين ليجدوا عندهم العلاجَ، بل تخبَّطُوا في الظَّلام، واتَّبعوا أهواءَهم، يُفسدون ويحسبون أنهم مهتدون، وضلُّوا وأضلُّوا خلقًا كثيرًا، هنا نهضَ العلماءُ المجاهدون للدِّفاع عن العقيدةِ؛ منهم الإمام عبدالله بن المبارك الذي ردَّ على الجهم وشِيعته، وقد خصصتُ هذا البحثَ للحديث عن هذا الحبرِ العظيم؛ للوقوف على سِيرته وأخلاقه وجهادِه للدِّفاع عن العقيدة، والردِّ على المعطِّلة الذين يَنفُون الصفات، ويُسمُّون أهلَ السُّنَّة بأتباع ابن تيميَّة والوهابيَّة، ولم يكن ابن تيميَّةَ ومحمد بن عبدالوهاب على مذهبٍ جديدٍ، وإنما ساروا على طريقة الحبيبِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصحابة والتابعين، ولم يكونوا أوَّلَ مَن وقَف في وجوه المبتدِعين، وإنْ كانت لهم جهودٌ مشكورةٌ في هذا، بل ساروا على طريقة العلماء المتقدِّمين، فبيَّنت جهودَ ابن المبارك في الدِّفاع عن العقيدة.

 

الجهد البشري لا يخلو من القصور؛ فما كان صوابًا فمن الله، وما كان خطأً فمنِّي ومن الشيطان.

 

وأسألُ الله أنْ يُوفِّقَ القائمين على (شبكة الألوكة)، ويجزيَهم خيرَ الجزاء، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.

 

قسمتُ البحث إلى أربعة فصول:

الفصل الأول: حياته.

المبحث الأول: اسمه ومولده ونشأته.

المبحث الثاني: شيوخه.

المبحث الثالث: تلاميذه.

 

الفصل الثاني: ثناء العلماء عليه.


الفصل الثالث: أخلاقه.

مبحث الزهد عند ابن المبارك.

 

الفصل الرابع: جُهُود ابن المبارك في الدفاع عن العقيدة.


 

الفصل الأول

حياته

المبحث الأول: ترجمته؛ اسمه ومولده ونشأته:

عبدالله بن المبارك، أبو عبدالرحمن المروزي مولى بني حنظلة، وُلِدَ عبدالله بن المبارك سنةَ ثماني عشرة ومائة[2].

 

ويُحكى عن أبيه أنَّه كان يعملُ في بُستانٍ لمولاه، وأقام فيه زمانًا، ثم إنَّ مولاه جاءَه يومًا وقال له: أريدُ رمانًا حلوًا، فمضى إلى بعض الشجرِ وأحضر منها رمانًا، فكسره فوجدَه حامضًا، فحرَد عليه وقال: أطلُبُ الحلوَ فتحضر لي الحامض! هاتِ حُلوًا، فمضى وقطَع من شجرةٍ أخرى، فلمَّا كسرَه وجدَه أيضًا حامضًا، فاشتدَّ حردُه عليه، وفعَل كذلك دفعةً ثالثة، فقال له بعدَ ذلك: أنتَ ما تعرفُ الحلوَ من الحامضِ؟! فقال: لا، فقال: كيف ذلك؟! فقال: لأنَّني ما أكلتُ منه شيئًا حتى أعرفَه، فقال: ولِمَ لم تأكلْ؟ قال: لأنَّك ما أذنتَ لي، فكشَف عن ذلك فوجَد قوله حقًّا، فعظُم في عينِه وزوَّجَه ابنتَه، ويُقال: إنَّ عبدالله رزقه من تلك الابنة، فنمتْ عليه بركة أبيه[3].

 

وفاته: ماتَ ابنُ المبارك بهيت وعانات[4]، في شهر رمضان، سنة إحدى وثمانين.

يُقال: إنَّ الرشيد لما بلَغَه موتُ عبدالله، قال: مات اليوم سيدُ العلماء[5].

 

قال أحد الفُضَلاء:

مَرَرْتُ بِقَبْرِ ابْنِ المُبَارَكِ غَدْوَةً
فَأَوْسَعَنِي وَعْظًا وَلَيْسَ بِنَاطِقِ
وَقَدْ كُنْتُ بِالعِلْمِ الَّذِي فِي جَوَانِحِي
غَنِيًّا وَبِالشَّيْبِ الَّذِي فِي مَفَارِقِي
وَلَكِنْ أَرَى الذِّكْرَى تُنَبِّهُ عَاقِلاً
إِذَا هِيَ جَاءتْ مِنْ رِجَالِ الحَقَائِقِ[6]

 

المبحث الثاني شيوخه:

طلَبَ العلمَ وهو ابنُ عِشرين سنةً، فأقدَمُ شيخٍ لقيه: الربيع بن أنس الخراساني، تحيَّلَ ودخَل إليه إلى السجنِ، فسمعَ منه نحوًا من أربعين حديثًا، ثم ارتحلَ في سنةِ إحدى وأربعين ومائة، وأخَذ عن بَقايا التابعين، وأكثَرَ من الترحال والتطواف، إلى أنْ مات في طلبِ العلم، وفي الغزو، وفي التجارة، والإنفاق على الإخوان في الله، وتجهيزِهم معه إلى الحج[7]، سمع هشامَ بن عروة، وإسماعيلَ بن أبي خالد، وسليمانَ الأعمش، وسليمانَ التيمي، وحميدًا الطويل، وعبدالله بن عون، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاري، وموسى بن عُقبة، وسعيد الجريري، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وابن أبي ذئب، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وشعبة، والأوزاعي، والليث بن سعد، ويونس بن يزيد، وإبراهيم بن سعد، وزهير بن معاوية، وأبا عوانة، وكان من الربَّانيِّين في العِلم، الموصوفين بالحِفظ، ومن المذكورين بالزهد.

 

المبحث الثالث: تلاميذه:

حدَّثَ عنه داودُ بن عبدالرحمن العطَّار، وسفيان بن عُيَينة، وأبو إسحاق الفزاري، ومعتمر بن سليمان، ويحيى بن سعيد القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، وعبدالله بن وهب، ويحيى بن آدم، وعبدالرزاق بن همام، وأبو أسامة، ومكي بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، ومسلم بن إبراهيم، وعبدان بن عثمان، ويعمر بن بشر، وأبو النضر هاشم بن القاسم، ويحيى بن مَعِين، وأبو بكر بن أبي شيبة، والحسن بن الربيع، وغيرهم[8].

 

الفصل الثاني

ثناء العلماء عليه

قال ابنُ مهديٍّ: الأئمَّة أربعةٌ: مالك، والثوري، وحماد بن زيد، وابن المبارك.

 

وقد فضَّلَه ابن مهديٍّ أيضًا على الثوري، وقال مرَّةً: حدثنا ابن المبارك - وكان نسيج وحده، وقال أحمدُ بن حنبل: لم يكن في زَمانِ ابن المباركِ أطلب للعلم منه.

 

وعن شعيب بن حربٍ قال: ما لقي ابنُ المبارك مثلَ نفسِه.

وقال شعبةُ: ما قدم علينا مثلُ ابن المبارك.

وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمامُ المسلمين.

وقال ابن مَعِين: كان ثقةً متثبتًا، وكانت كتبُه التي حَدَّثَ بها نحوًا من عشرين ألف حديث.

 

وقال يحيى بن آدَمَ: كنتُ إذا طلبتُ الدقيقَ من المسائل فلم أجدْه في كتبِ ابن المبارك أيست منه.

 

وعن إسماعيل بن عيَّاشٍ قال: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك.

 

وقال عباس بن مُصعَب: جمعَ ابنُ المبارك الحديثَ والفقه والعربيَّة وأيام الناس والشجاعة والسخاء ومحبة الفِرَقِ له.

 

وقال أبو أسامة: ما رأيتُ رجلاً أطلبَ للعلمِ في الآفاق من ابن المبارك.

 

وقال شعيبُ بن حربٍ: لو جهدتُ جهدِي أنْ أكونَ في السنة ثلاثة أيَّامٍ على ما عليه ابن المبارك لم أقدر.

وقال أبو أسامة: هو أميرُ المؤمنين في الحديث.

 

وقال الحسن بن عيسى بن ماسرجس: اجتمعَ جماعةٌ من أصحاب ابن المبارك، فقالوا: عدُّوا خِصالَ ابن المبارك، فقالوا: جمعَ العلم والفقه والأدب، والنحو واللغة والزهد والشجاعة، والشعر والفصاحة، وقيام الليل والعبادة والحج، والغزو والفروسية، وترَك الكلامَ فيما لا يعنيه، والإنصاف وقلَّة الخلاف على أصحابه[9].

 

قال أسودُ بن سالم: كان ابن المبارك إمامًا يُقتَدى به، كان من أثبَتِ الناس في السُّنَّةِ، إذا رأيتَ رجلاً يغمزُ ابن المبارك فاتَّهِمْه على الإسلام[10].

 

الفصل الثالث

أخلاقه

ما أحوجَنَا للوُقوفِ على سير العُظَماء والتعرُّف على أخلاقهم، كان ابن المبارك مدرسةً في الأخلاق، وشهد علماء عصرِه بِحُسْنِ خلقه وحُسن تعامُلِه.

 

قال العباسُ بن مُصعَبٍ في "تاريخ مرو": كانت أم عبدالله بن المبارك خوارزميَّة، وأبوه تركيًّا، وكان عبدًا لرجلٍ تاجرٍ من همذان، من بني حنظلة، فكان عبدالله إذا قدم همذان يخضعُ لوالديه ويُعظِّمهما، قال أحمد بن سنان القطان: بلغني أنَّ ابن المبارك أتى حمادَ بن زيد، فنظَر إليه، فأعجبه سمتُه، فقال: من أين أنت؟

قال: من أهل خُراسان، من مرو.

 

قال: تعرف رجلاً يُقال له: عبدالله بن المبارك؟

قال: نعم.

 

قال: ما فعل؟

قال: هو الذي يخاطبك.

قال: فسلَّم عليه، ورحَّب به.

 

وقال إسماعيل الخُطَبيُّ: بلغني عن ابن المبارك أنَّه حضر عند حماد بن زيدٍ، فقال أصحابُ الحديث لحمادٍ: سَلْ أبا عبدالرحمن أنْ يحدِّثنا.

 

فقال: يا أبا عبدالرحمن، تحدِّثُهم؟ فإنهم قد سألوني.

قال: سبحان الله! يا أبا إسماعيل، أحدثُ وأنت حاضر.

 

فقال: أقسمتُ عليك لتفعلنَّ.

 

فقال: خُذُوا، حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد، فما حدَّثَ بحرف إلا عن حماد.

 

قال أبو العباس بن مَسروق: حدثنا ابن حميد، قال: عطس رجلٌ عند ابن المبارك، فقال له ابن المبارك: أيش يقول الرجل إذا عطس؟

قال: الحمد للهِ.

 

فقالَ له: يرحَمُك اللهُ.

 

كان عبدالله بن المبارك كثيرَ الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزلُ الرقَّةَ في خان، فكان شابٌّ يختلف إليه ويقومُ بحوائجه ويسمعُ منه الحديث، قال: فقدم عبدالله الرقة مرَّةً فلم يرَ ذلك الشاب وكان مستعجلاً، فخرج في النفير، فلمَّا قفَل من غزوته ورجَع الرقةَ سأل عن الشابِّ قال: فقالوا: إنَّه محبوسٌ لدينٍ ركبَه، فقال عبدالله: وكم مبلغ دينه؟ فقالوا: عشرة آلاف درهم، فلم يزلْ يستقصي حتى دُلَّ على صاحب المال، فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم، وحلفه ألا يخبر أحدًا ما دام عبدالله حيًّا، وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبسِ، وأدلج عبدالله فأخرج الفتى من الحبس، وقيل له: عبدالله بن المبارك كان ها هنا وكان يذكرك وقد خرَج، فخرَج الفتى في أثرِه فلحقه على مرحلتين أو ثلاثٍ من الرقةِ فقال: يا فتى أين كنت؟ لم أرك في الخان، قال: نعم يا أبا عبدالرحمن، كنت محبوسًا بدينٍ، قال: فكيف كان سبب خلاصك؟ قال: جاء رجلٌ فقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس، فقال له عبدالله: يا فتى، احمدِ اللهَ على ما وفَّق لك من قضاء دينك، فلم يخبرْ ذلك الرجلُ أحدًا إلا بعدَ موت عبدالله[11].

 

مبحث الزهد عند ابن المبارك:

لا يعني الزهدُ عند ابن المبارك النومَ في المزابل والتسوُّل على الطرقات، فمع كثْرة ماله كان من أشدِّ الزُّهَّاد، وهذا معنى الزهدِ الحقيقي.

 

يقول إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرضِ مثلُ عبدالله بن المبارك، ولا أعلمُ أنَّ الله خلَق خصلةً من خصالِ الخير إلا وقد جعَلَها في عبدالله بن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصرَ إلى مكة، فكان يطعمهم الخبيص[12] وهو الدهرَ صائمٌ.

 

قال عمر بن حفص الصوفي: خرَج ابنُ المبارك من بغداد يريدُ المصيصة فصحبه الصوفيَّة، فقال لهم: أنتم لكم أنفس تحتشمون أنْ يُنفَق عليكم، يا غلام، هات الطست[13]، فألقى على الطَّست منديلاً، ثم قال: يُلقِي كلُّ رجلٌ منكم تحتَ المنديلِ ما معه، قال: فجعَل الرجلُ يُلقِي عشرة دراهم، والرجل يلقي عشرين، فأنفق عليهم إلى المصيصة[14]، فلمَّا بلَغ المصيصة قال: هذه بلاد نفير، فنقسم ما بقي، فجعل يُعطي الرجل عشرين دينارًا، فيقول: يا أبا عبدالرحمن، إنما أعطيتُ عشرين درهمًا، فيقولُ: وما تنكر أنْ يُبارِكَ الله للغازي في نفقته؛ أخبرنا أبو طالب عمر بن إبراهيم الفقيه وأبو محمد الحسن بن محمد الخلال، قالا: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الكاتب، حدثنا أحمد بن الحسن المقرئ قال: سمعت عبدالله بن أحمد الدورقي قال: سمعت محمد بن عليِّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي قال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحجِّ اجتمع عليه إخوانُه من أهل مرو فيقولون: نصحَبُك يا أبا عبدالرحمن، فيقول لهم: هاتوا نفقاتكم فيأخُذ نفقاتهم فيجعلها في صُندوقٍ فيقفل عليها، ثم يكتري لهم ويُخرِجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيبَ الطعام وأطيبَ الحلواء، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأجمل مروءة، حتى يَصِلُوا إلى مدينة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا صاروا إلى المدينة قال لكلِّ رجلٍ منهم: ما أمرك عيالك أنْ تشتريَ لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا وصَلُوا إلى مكة وقضوا حجَّهم قال لكلِّ واحدٍ منهم: ما أمرك عيالك أنْ تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال يُنفق عليهم إلى أنْ يَصِيروا إلى مرو، فإذا وصَل إلى مرو جصص أبوابهم ودورهم[15].

 

فإذا كان بعدَ ثلاثة أيَّامٍ صنَع لهم وليمةً وكساهم، فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق ففتَحَه ودفَع إلى كلِّ رجل منهم صرَّته بعد أنْ كتب عليها اسمَه، قال أبي: أخبرني خادمُه أنَّه عمل آخِر سفرةٍ سافَرَها دعوةً، فقدم إلى الناس خمسةً وعشرين خوانًا فالوذج، قال أبي: وبلغنا أنَّه قال للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتَّجرت، قال أبي وكان يُنفِقُ على الفقراء في كلِّ سنةٍ مائة ألف درهم[16].

 

جاء أنَّ ابنَ المبارك سُئِل: مَن الناس؟

فقال: العلماء.

 

قيل: فمَن الملوك؟

قال: الزُّهَّاد.

 

وعنه قال: ليكن مجلسك مع المساكين.

وعنه قال: لا يقعُ موقعَ الكسب على العيالِ شيءٌ، ولا الجهاد في سبيل الله[17].

 

وقيل: إنَّ ابن المبارك مَرَّ براهبٍ عند مقبرةٍ ومزبلة، فقال: يا راهب، عندك كنزُ الرجال، وكنزُ الأموال، وفيهما معتبرٌ.

 

وقد تفقَّه ابن المبارك بأبي حنيفة، وهو معدودٌ في تلامذته.

وكان عبدالله غنيًّا شاكرًا، رأس ماله نحو الأربعمائة ألف.

قال حبان بن موسى: رأيتُ سُفرة ابنِ المبارك حُمِلت على عجلةٍ.

وقال أبو إسحاق الطالقاني: رأيتُ بَعِيرين محملين دجاجًا مشويًّا لسفرةِ ابن المبارك.

 

وروَى عبدالله بن عبدالوهاب، عن محمد بن عبدالرحمن بن سهم، قال: كنت مع ابن المبارك، فكان يأكُل كلَّ يوم، فيُشوَى له جديٌ، ويتَّخذ له فالوذق[18]، فقيلَ له في ذلك، فقال: إنِّي دفعتُ إلى وكيلي ألفَ دينار، وأمرتُه أنْ يُوسِّع علينا[19].

 

الفصل الرابع

جهود ابن المبارك في الدفاع عن العقيدة

جاهَد الإمام عبدالله بن المبارك الجهميَّةَ والمعتزلةَ، ووقَف في وجه المبتدِعين - "وجاء في "المنهاج": قال عبدالله بن المبارك: الدِّينُ لأهل الحديث، والكذب للرافضة، والكلام للمعتزلة، والحيلُ لأهل الرأي أصحاب فلان"[20].

 

ونهى عن مجالسة المبتدِعة؛ جاء في "السير" عنه قال: "احذَرْ أنْ تجلسَ مع صاحب بدعةٍ"[21].

 

موقفه من الرافضة:

يُطلَق على تلك الطائفةِ ذاتِ الأفكار والآراء الاعتقاديَّة الذين رفضوا خلافةَ الشيخين وكفّروا أكثرَ الصحابةِ، وزعموا أنَّ الخلافة في عليٍّ وذريته من بعدِه بنصٍّ من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّ خلافةَ غيرِهم باطلة[22].

 

جاء في "السير": "نعيمُ بن حمادٍ: سمعتُ ابن المباركِ يقول: السيفُ الذي وقَع بين الصحابةِ فتنةٌ، ولا أقولُ لأحدٍ منهم: هو مفتون[23].

 

روى إسحاق بن سُنَين لابن المبارك:

إِنِّي امْرُؤٌ لَيْسَ فِي دِينِي لِغَامِزِهِ
لِيْنٌ، وَلَسْتُ عَلَى الإِسْلاَمِ طَعَّانَا
فَلاَ أَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَلاَ عُمَرًا
وَلَنْ أَسُبَّ - مَعَاذَ اللهِ - عُثْمَانَا
وَلاَ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ أَشْتُمُهُ
حَتَّى أُلَبَّسَ تَحْتَ التُّربِ أَكْفَانَا
وَلاَ الزُّبَيْرَ حَوَارِيَّ الرَّسُولِ، وَلاَ
أُهْدِي لِطَلْحَةَ شَتْمًا عَزَّ أَوْ هَانَا
وَلاَ أَقُولُ: عَلِيٌّ فِي السَّحَابِ، إِذًا
قَدْ قُلْتُ وَاللهِ ظُلْمًا ثُمَّ عُدْوَانَا[24]

 

نفَى الجهمُ أسماءَ الله وصفاتِه، وزعَم أنَّ اللهَ لم يُكلِّمْ موسى، وأنَّ الله لا يتكلَّم، وأنَّ القُرآنَ مخلوقٌ، ونفَى استواءَ الله على العرش كما يليقُ بجلاله وعظمته، وقف العلماءُ في الردِّ على الجهم ومَن سار على طريقتِه، ومن هؤلاء عبدالله بن المبارك.

 

جاء في كتاب "السنة"؛ لعبدلله بن أحمد: قال مولى عبدالله بن المبارك: قال كان ابن المبارك يقولُ: الجهميَّة كفارٌ.

 

جاء في "السير" قول عبدالله بن المبارك: إنَّا لنَحكِي كلامَ اليهود والنصارى، ولا نستطيعُ أنْ نحكي كلامَ الجهميَّة".

 

ويقول:

وَلاَ أَقُوْلُ بِقَوْلِ الجَهْمِ إِنَّ لَهُ ♦♦♦ قَوْلاً يُضَارِعُ أَهْلَ الشِّركِ أَحْيَانَا[25]

 

جاء في "السنة": كان ابن المبارك يقولُ: الجهميَّة كفارٌ، ومَن يشكُّ في كفرِ الجهميَّة.

 

قال ابن المبارك: ليس تعبدُ الجهمية شيئًا[26]، حدَّثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني سالم بن رستم أبو صالح، قال: حدثني يحيى بن إبراهيم أبو سهل راهويه قال: كنت أدعو على الجهميَّة فأُكثِر، فذكرت ذلك لعبدالله بن المبارك، ودخَل قلبي من ذلك شيءٌ فقال: لا يدخل قلبك، فإنهم يجعَلُون ربَّك الذي تعبدُ لا شيء.

 

يقصد رحمه الله أنهم نفوا صفات الكمال عن الله تعالى، عطَّلوا اللهَ من صِفاته التي وردَتْ في كتاب الله وسنَّة رسوله.

 

قال أحمد بن سعيد الدارمي قال: سمعتُ محمد بن أعيُن، سمعت النضر بن محمد يقول: مَن قال: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾ [طه: 14] مخلوقٌ فهو كافرٌ، قال: فأتيتُ ابن المبارك فقلت له: ألا تعجَب من أبي محمد قال كذا وكذا؟! قال: وهل الأمرُ إلا ذاك، وهل يجدُ بُدًّا من أنْ يقولَ هذا.

 

وهذا ردُّه على الجهمية الذين قالوا بأنَّ القُرآنَ مخلوقٌ، وأنَّ الله لا يتكلَّم، تعالى الله عمَّا يقولُ الجاهلون علوًّا كبيرًا، فالكلام من صِفاته تعالى التي دلَّ عليها الكتابُ والسنَّةُ والأدلَّة العقليَّة.

 

طرق إثباتِ كون الله متكلمًا: منها ما في القُرآن من الأخبار عن ذلك؛ كقوله - تعالى -: قال الله، ويقول الله، وقوله: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، وقوله: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ [الأعراف: 143].

 

وما ذكَرَه في القُرآن من كلمته وكلماته؛ كقوله - تعالى -: ﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [يونس: 19]، وقوله: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، وما فيه من ذِكر مُناداته ومُناجاته كقوله: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52]، وقوله: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [القصص: 62]، ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]، ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشعراء: 10].

 

وما في القُرآن من ذِكر أنبائه وقصصه؛ كقوله: ﴿ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾ [التوبة: 94]، وقوله: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3].

 

وما في القُرآن من ذِكر حديثه؛ كقوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، وقوله: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ [الزمر: 23] من القول منه، وقوله: ﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [السجدة: 13]، وقوله - تعالى -: ﴿ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ... ﴾ [الأنعام: 73] الآية، والطرق العقليَّة لإثبات صفة الكلام.

 

أمَّا الطرق العقليَّة فمن وُجوهٍ:

أحدها: أنَّ الحيَّ إذا لم يتَّصِفْ بالكلام لزمَ اتصافُه بضدِّه؛ كالسكوت والخرس، وهذه آفةٌ يتنزَّه الله عنها؛ فتعيَّن اتِّصافُه بالكلام.

 

الثاني: أنَّ الكلام صفةُ كمالٍ.

 

الثالث: أنْ يُقال: المخلوق ينقسمُ إلى مُتكلِّمٍ وغير مُتكلِّمٍ، والمتكلِّم أكملُ من غير المتكلِّم، وكلُّ كمالٍ هو في المخلوقِ مستفادٌ من الخالق، فالخالق به أحقُّ وأَوْلَى، ومَن جعَلَه لا يتكلَّم فقد شبَّهَه بالموات والجماد الذي لا يتكلَّمُ، وذلك صفةُ نقصٍ؛ إذ المتكلمُ أكملُ من غيرِه؛ قال تعالى في ذمِّ مَن يعبدُ مَن لا يتكلم ولا ينفعُ ولا يضرُّ: ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴾ [طه: 89]، وقال في الآية الأخرى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ﴾ [الأعراف: 148]، وقال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76]، فعابَ الصنمَ بأنَّه أبكمُ لا يقدرُ على شيءٍ؛ إذ كان من المعلوم أنَّ العجز عن النُّطق والفِعل صفةُ نقصٍ، فالنطق والقدرة صفةٌ كمال[27].

 

وذكَر أبو بكر بن أبي عتاب الأعين، ثنا حمزة شيخ من أهل مرو قال: سمعت ابن المبارك يقولُ: مَن قال القرآن مخلوقٌ فهو زنديقٌ.

 

علي بن الحسن بن شقيق قال: سألت عبدالله بن المبارك: كيف ينبغي لنا أنْ نعرف ربَّنا - عزَّ وجلَّ؟ قال: على السماء السابعة على عرشه، ولا نقولُ كما تقولُ الجهميَّة: إنَّه ها هنا في الأرض[28].

 

الحسن بن شقيق يقولُ: قلتُ لعبدالله بن المبارك: كيف يُعرَفُ ربُّنا - عزَّ وجلَّ؟

قال: في السماء على العرش.

 

قلت له: إنَّ الجهميَّة تقولُ هذا.

قال: لا نقولُ كما قالت الجهميَّة، هو معنا ها هنا.

 

قلت: الجهميَّة يقولون: إنَّ الباري تعالى في كلِّ مكان، والسلف يقولون: إنَّ علمَ الباري في كلِّ مكان، ويحتجُّون بقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]؛ يعني: بالعِلم، ويقولون: إنَّه على عرشه استَوَى، كما نطَق به القُرآن والسُّنَّة.

 

وقال الأوزاعي - وهو إمام وقته -: كنَّا - والتابعون متوافرون - نقول: إنَّ الله تعالى فوقَ عرشه، ونؤمنُ بما وردت به السُّنَّة من صِفاته، ومعلومٌ عند أهل العلم من الطوائف أنَّ مذهب السلف إمرارُ آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويلٍ ولا تحريف، ولا تشبيه ولا تكييف، فإنَّ الكلام في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات المقدَّسة.

 

وقد علم المسلمون أنَّ ذات الباري موجودةٌ حقيقةً، لا مثلَ لها، وكذلك صفاته تعالى موجودةٌ، لا مثل لها[29].

 

حدثني محمد بن إسحاق، حدثنا أحمد بن نصر بن مالك، قال: أخبرني رجلٌ عن ابن المبارك قال: قال له رجلٌ: يا أبا عبدالرحمن، قد خِفتُ اللهَ - عزَّ وجلَّ - من كثرة ما أدعو على الجهميَّة، قال: لا تخف؛ فأنهم يزعُمون أنَّ إلهَك الذي في السماء ليس بشيءٍ[30].

 

موقفه من الجهميَّة الذين خالَفُوا العقيدة الإسلاميَّة:

"الجهم كان من أهل خُراسان من أهل ترمذ كان جاهلاً، وكان سبب ضلال الجهم أنَّه لقي أناسًا من المشركين يُقال لهم: السمنية فعرفوا الجهم، فقالوا له: نُكلِّمك، فإنْ ظهرت حجَّتنا عليك دخَلتَ في دِيننا، وإنْ ظهرتْ حجَّتُك علينا دخَلْنا في دِينِك فكان ممَّا كلموا به الجهم أنْ قالوا له: ألستَ تزعُم أنَّ لك إلهًا؟ قال الجهم: بلى، فقالوا له: فهل رأيتَ إلهَك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعتَ كلامه؟ قال: لا، قالوا: فشممتَ له رائحةً؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له مجسًّا؟ قال: لا، قالوا: فما يُدرِيك أنَّه إلهٌ؟ قال :فتحيَّرَ الجهمُ فلم يدرِ مَن يعبدُ أربعين يومًا، ثم إنَّه استَدرَك حجَّةً مثل حجَّةِ زنادقة النصارى؛ وذلك أنَّ زنادقة النصارى يَزعُمون أنَّ الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أنْ يحدث أمرًا دخَل في بعض خلقِه، فتكلَّم على لسان خلقِه فيأمُر بما يشاء وينهى عمَّا يشاء، وهو روحٌ غائبة عن الأبصار.

 

فاستَدرَك الجهم حجَّةً مثل هذه الحجَّة فقال للسمني: ألستَ تزعُم أنَّ فيك روحًا؟ قال: بلى، فقال: هل رأيتَ روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامها؟ قال: لا، قال: فوجدتَ لها حسًّا أو مجسًّا؟ قال: لا، قال: فكذلك الله لا يُرى له وجهٌ، ولا يُسمَع له صوتٌ، ولا يُشمُّ له رائحةٌ، وهو غائبٌ عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، ووجد ثلاث آيات من المتشابه؛ قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 3]، ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾ [الأنعام: 103]، فبنى أصلَ كلامِه على هذه الآيات وتأوَّل القُرآن على غير تأويلِه، وكذَّب بأحاديثِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وزعَم أنَّ مَن وصَف الله بشيءٍ ممَّا وصَف به نفسَه في كتابه أو حدَّث عنه رسولُه كان كافرًا، وكان من المشبِّهة، فأضلَّ بكلامِه بشرًا كثيرًا، وتَبِعَه على قولِه رجالٌ من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيدٍ بالبصرة، ووضع دينَ الجهميَّة، فإذا سألهم الناس عن قول الله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، يقولون: ليس كمثلِه شيءٌ من الأشياء، وهو تحت الأرَضِين السبع كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكانٌ، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلَّمْ ولا يتكلَّمُ، ولا ينظُر إليه أحدٌ في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يُوصَفُ ولا يُعرَفُ بصفةٍ ولا بفعلٍ، ولا له غاية، ولا له منتهى، ولا يُدرَك بعقلٍ، وهو وجه كله، وهو علمٌ كله، وهو سمعٌ كله، وهو بصرٌ كله، وهو نور كله، وهو قدرةٌ كله، ولا يكون فيه شيئان، ولا يُوصَف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لونٌ ولا له جسمٌ، وليس هو بمعمولٍ ولا معقولٍ.

 

وكلَّما خطَر على قلبِك أنَّه شيءٌ تعرفه فهو على خلافِه، قال أحمد: وقلنا: هو شيءٌ، فقالوا: هو شيءٌ لا كالأشياء، فقلنا: إنَّ الشيء الذي لا كالأشياء قد عرَف أهلُ العقلِ أنَّه لا شيء، فعندَ ذلك تبيَّن للناس أنهم لا يؤمنون بشيءٍ، ولكن يدفعون عن أنفسَهم الشنعة بما يقرُّون في العلانية، فإذا قِيلَ لهم: مَن تعبدون؟ قالوا: نعبدُ مَن يُدبِّرُ أمرَ هذا الخلق، فقلنا: هذا الذي يدبرُ أمرَ هذا الخلق هو مجهولٌ لا يُعرَف بصفةٍ، قالوا: نعم، فقُلنا: قد عرَف المسلمون أنَّكم لا تؤمنون بشيءٍ، وإنما تدفَعُون عن أنفسكم الشنعة بما تُظهِرونه، فقلنا لهم: هذا الذي يدبرُ هو الذي كلم موسى، قالوا: لم يتكلَّم ولا يُكلِّمُ؛ لأنَّ الكلامَ لا يكون إلا بجارحةٍ، والجوارح عن الله منفيَّة.

 

فإذا سمع الجاهل قولهم يظنُّ أنهم من أشدِّ الناس تعظيمًا لله، ولا يعلمُ أنهم إنما يعودُ قولهم إلى ضلالةٍ وكفرٍ، ولا يشعرُ أنهم لا يقولون قولهم إلا فريةً في الله"؛ "الرد على الزنادقة والجهمية"[31].

 

الخاتمة:

الحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

 

تعرَّفنا في هذا البحث على حبرٍ من أحبار الأمَّة، الإمام المجاهد الزاهد عبدالله بن المبارك، وعرَضْنا جوانب وصفحات من حَياته، وثناء العلماء عليه، وجوانب من أخلاقه، ومفهوم الزهد عنده.

 

جهادُ الإمام عبدالله بن المبارك للدفاع عن العقيدة وموقفه من الجهمية والرافضة والمبتدعين، وموقفه يمثلُ موقفَ علماء السلف من الضالِّين من الجهميَّة والرافضة وغيرهم.

 

مذهب أهل السُّنَّة إثبات ما أثبَتَه الله لنفسه، أو أثبته له رسولُه، من غير تعطيل ولا تحريف ولا ثمثيل.

 

قائمة المصادر والمراجع:

♦ الرد على الزنادقة والجهمية.

المؤلف: أحمد بن حنبل الشيباني أبو عبدالله.

الناشر: المطبعة السلفية - القاهرة، 1393.

تحقيق: محمد حسن راشد.

عدد الأجزاء: 1.

 

♦ الاعتصام.

المؤلف: أبو إسحاق الشاطبي.

دار النشر: المكتبة التجارية الكبرى – مصر.

عدد الأجزاء: 2.

 

♦ تاريخ بغداد.

أحمد بن علي أبو بكر الخطيب البغدادي.

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت.

عدد الأجزاء: 14.

 

♦ تذكرة الحفاظ.

تأليف: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.

دراسة وتحقيق: زكريا عميرات.

الناشر: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.

الطبعة: الأولى 1419هـ - 1998م.

عدد المجلدات: 4.

 

♦ سير أعلام النبلاء.

المؤلف: شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ).

المحقق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط.

الناشر: مؤسسة الرسالة.

الطبعة: الثالثة، 1405 هـ / 1985م.

 

♦ لسان العرب.

المؤلف: محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري.

الناشر: دار صادر - بيروت.

الطبعة: الأولى.

عدد الأجزاء: 15.

 

♦ منهاج السنة النبوية.

المؤلف: شيخ الإسلام بن تيمية.

المحقق: د. محمد رشاد سالم.

الناشر: مؤسسة قرطبة، الطبعة لأولى.

عدد الأجزاء: 8.

 

♦ وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان.

المؤلف: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان.

المحقق: إحسان عباس.

الناشر: دار صادر - بيروت.



[1] "الرد على الجهمية والزنادقة"؛ لأحمد بن حنبل، ص6.

[2] "تاريخ بغداد" ج10 ص 152.

[3] "وفيات الأعيان" ج3 ص34.

[4] قال ياقوت: بلدٌ مشهور بين الرقَّة وهيت، يعدُّ في أعمال الجزيرة، وهو مشرفٌ على الفرات قرب حديثة النورة، وبها قلعة حصينة.

[5] "السير" (8/ 418).

[6] المصدر السابق (8/ 420).

[7] "سير أعلام النبلاء" (8/ 398).

[8] "تاريخ بغداد" ج1 ص 152.

[9] "تذكرة الحفاظ" ج1 ص 203.

[10] "تاريخ بغداد" 10 / 168.

[11] المصدر السابق.

[12] جاء في "القاموس المحيط" ص 795: الخَبِيصُ: المعمولُ من التَّمر والسَّمن.

[13] سُطولٌ أو السَّيْطَلُ: الطسْتُ؛ "القاموس المحيط" ص 1311.

[14] مدينةٌ خصبةٌ عامرة، وهي منقطعةٌ على نهر سيحان في غربي النهر.

[15] والجَصُّ معروف، الذي يُطْلى به، جَصَّصَ الحائطَ وغيرَه طلاه بالجِصِّ، ج7 ص10 "لسان العرب" دار صادر - بيروت، الطبعة الأولى.

[16] "تاريخ بغداد" ج 10 ص 158.

[17] "سير أعلام النبلاء" (8/ 399).

[18] الفالُوذَق: كالفالُوذَج؛ نوعٌ من الحلواء تسوى من لبِّ الحنطة، فارسي معرب.

[19] المصدر السابق (8/ 409).

[20] (7/ 275).

[21] المصدر السابق (8/ 411).

يحثُّ على التمسُّك بالسُّنَّة ويقول: "وعن ابن المبارك قال: اعلم أي أخي، أنَّ الموت كرامةٌ لكلِّ مسلم لقي الله على السُّنَّة، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتَنا وذهابَ الإخوان، وقلةَ الأعوان، وظهورَ البدع، وإلى الله نشكُو عظيمَ ما حَلَّ بهذه الأمةِ من ذهابِ العلماءِ وأهل السُّنَّةِ وظهور البدع؛ "الاعتصام"؛ للشاطبي، ص60.

[22] المذاهب الفكرية المعاصرة وموقف المسلم منها؛ للعواجي، ج1 ص 231.

[23] "السير" (8/ 405).

[24] نفس المصدر (8/ 414).

[25] "السير" (8/ 414).

[26] "السنة"؛ لعبدالله بن أحمد بن حنبل، ج1 ص 109.

[27] "شرح العقيدة الأصفهانية"؛ أحمد بن عبدالحليم بن تيميَّة، مكتبة الرشد الطبعة الأولى، 1415.

[28] إسناده صحيح.

[29] "سير أعلام النبلاء" (8/ 402).

[30] ج1 ص112.

[31] الإمام أحمد بن حنبل، ص19 - 22، المطبعة السلفية - القاهرة، 1393، تحقيق: محمد حسن راشد.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الإمام عبدالله بن المبارك وشيء من أخباره
  • وقفات وتأملات مع كلمات جامعة لـ"عبدالله بن المبارك"
  • درر مختصرة من أقوال عبدالله بن المبارك رحمه الله

مختارات من الشبكة

  • متن الزبد في علم الفقه على مذهب الإمام الشافعي للشيخ الإمام أحمد بن رسلان الشافعي(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • عبدالله بن أحمد بن حنبل.. إمام بن إمام(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • الإمام يونس بن عبد الأعلى ومروياته الحديثية في جامع البيان للإمام محمد بن جرير الطبري(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • قصة الإمام أحمد بن حنبل في الدفاع عن عقيدته(مقالة - موقع أ. د. عبدالحليم عويس)
  • منهج الإمام الشاطبي في الفتوى من خلال كتاب: (فتاوى الإمام الشاطبي) (PDF)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • الأحاديث التي في مسند الإمام أحمد من طريق الإمام مالك (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • التراث العلمي عند الإمام الصالحي الشامي من كتابنا: الإمام الصالحي الشامي حياته وتراثه العلمي(كتاب - ثقافة ومعرفة)
  • ترجمة الإمام الصالحي الشامي من كتابنا: الإمام الصالحي الشامي حياته وتراثه العلمي(كتاب - ثقافة ومعرفة)
  • مخطوطة مسند الإمام أبي حنيفة النعمان برواية الإمام أبي بكر المقرئ(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة موطأ الإمام مالك برواية يحيى بن عبدالله بن بكير (ج4)(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
1- أُكرمتِ ببلوغ الأمنيات،،
عائشة الحكمي 08-02-2012 02:00 PM

يقول الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - في كتابه "عبد الله بن المبارك" من سلسلة أعلام التاريخ:

(وكان مع هذه الدرجة في الحديث، أديبًا نحويًّا، وكان له شعر)، فالإمام ابن المبارك أديب بارع وله ديوان مطبوع.

مبحث قيٍّم جدًّا أ. إيمان البلوشي، كنتِ ستنتفعين بزيادة علم لو أضفتِ إلى مراجعكِ:(كتاب الزهد ويليه كتاب الرقائق)؛ للإمام عبد الله بن المبارك، تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي

كل الأمنيات الطيبات بالتوفيق والسداد.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 13/11/1446هـ - الساعة: 23:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب