الحياة الفكرية في مصر في عصر الدولة الإخشيدية (5/ 17)

الحياة الفكرية في مصر في عصر الدولة الإخشيدية (5/ 18)

"الحديث والمحدّثون في عصر الدولة الإخشيدية"

لا شكَّ أنَّ الحديث هو المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي الأساسيَّة، فكلُّ حديثٍ للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قانونٌ، وكلُّ عملٍ سنَّة[1]، والمقصود بالسنَّة هو كلُّ ما ورد عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من قول أو فعل أو تقرير[2]، ويُعتَبر الحديث بمثابة المفسِّر أو المبيِّن لما جاء في القرآن الكريم، ونجدُ معنى ذلك في قوله - تعالى - : ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].

وبما أنَّ الشريعة التي هي أوامرُ الله ونَواهِيه إنما تُؤخَذ من الكتاب والسنَّة[3]؛ لذلك صار على كلِّ عالمٍ أو فقيهٍ أنْ يُتقِن الحديث بجانب القُرآن، ليتوفَّر له معرفةُ ما جاء فيهما من أحكامٍ شرعيَّة، ويفرق بينهما وبين غيرها من القصص والأخبار والمواعظ[4].

لذلك فقد كانت للحديث أهميَّة بالغة، فقد كانت الحركة العلميَّة في الأمصار الإسلاميَّة تَكاد تدورُ في فلَك الحديث ورِوايته، وكانت شُهرة الصحابة والتابعين العلميَّة متوقِّفةً على الحديث والتفسير[5].

وزاد إقبالُ طلاب العلم على دراسة القُرآن والحديث؛ لأنهم نظروا إلى هذا على أنَّه واجبٌ من أهمِّ الواجبات المفروضة على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ[6]، وصار الناس ينظُرون إلى المحدِّثين على أنَّهم أعظم الرجال في الإسلام[7].

وفي القرن الرابع الهجري شاعَتِ المؤلَّفات العلميَّة التي صنفت في مجال الحديث[8]، وكان من أصحاب هذه المصنَّفات بالفسطاط الإمامُ "أبو جعفر الأزدي" المصري الحنفي المتوفَّى سنة 321هـ المعروف بالإمام الطحاوي، وكان ثقةً ثبتًا فقيهًا، ومن مؤلفاته: "معاني الآثار"، "أحكام القرآن"، "كتاب الشروط"[9].

واستِمرارًا للنهضة العلميَّة في دراسة الحديث وحِفظه، فقد ظهَر كثيرٌ من المحدِّثين في مصر في عصر الدولة الإخْشيديَّة، وقد اشتهر هؤلاء المحدِّثون بنقْد الحديث الشريف إلى جانب حِفظِه، ويأتي على رأس هؤلاء الحافظُ الإمام أبو بكرٍ أحمد بن عمرٍو الطحَّان المتوفَّى سنة 333هـ[10].

ومن المحدِّثين في مصر الإخْشيديَّة أيضًا الحافظ الإمام أبو سعيد عبدالرحمن بن أحمد بن يونس المتوفَّى سنة 347هـ[11]، فقد كان ابن يونس إمامًا حافظًا للحديث رغم أنَّه لم يرحَلْ عن مصر، ولم يسمع الحديث من غيرها[12]، فقد سمع أباه والنسائي[13]، وكان خبيرًا بأيَّام الناس وتواريخهم[14]، مع أنَّ العُرف كان قبل القَرن الرابع الهجري لا يسمح ولا يُجِيز للإنسان رواية الحديث من غير لقاء رِجاله، ومن غير أنْ يحصل على إجازة مكتوبة تُعطِيه حقَّ الرواية[15]، وقد ألَّف ابن يونس كتابًا في تاريخ مصر على هيئة سير لعُلَمائها[16]، ولكن للأسَف فقد ضاع هذا الكتاب، ولكنَّنا نجدُ بعض المقتطفات منه في حواشي المخطوط الذي طبَع منه الأستاذ "جست" كتاب "الولاة والقضاة"؛ للكندي، وكذلك فقد نقل عنه ابن حجر وأصحابه، وكان أساس ما كتبه ابن يونس في التاريخ[17].

ومن المحدِّثين الذين ظهَرُوا في عصر الدولة الإخْشيديَّة المحدث حمزة بن محمد بن علي بن العباس الكناني المتوفَّى سنة 357هـ[18]، الحافظ العالم مملي جزء البطاقة عن النسائي، وقد اتَّفق العلماء على تقدُّمه في معرفة الحديث، وكان مشهورًا بالورع والعبادة[19].

ومنهم الحافظ ابن السكن أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغدادي نزيل مصر، وُلِدَ سنة 294هـ[20]، وسمع أبا القاسم البغوي وابن جوصا[21]، وعنه أخذ عبدالغني بن سعيد، وقد صنَّف "الصحيح المنتقى"[22]، ومات في المحرم سنة 353هـ[23].

ومنهم أيضًا الحافظ الإمام الجوَّال "أبو بكر النقاش" محمد بن علي بن حسن المصري نزيل تنيس، وقد وُلِدَ سنة 282هـ، وسمع النسائي وأبا علي، ومات في شعبان سنة 369هـ[24].

ومنهم أيضًا الحسن بن رشيق الإمام أبو بكر محمد العسكري المصري، وقد أخَذ الحديث عن النسائي، وعنه أخَذ الدارقطني وعبدالغني، وقال عنه ابن الطحان: ما رأيت عالِمًا أكثر حديثًا منه[25]، وقد وُلِدَ في صفر سنة 283هـ[26]، وتُوفِّي في جمادي الآخرة سنة 370هـ[27].

ومنهم أيضًا ابن النحاس المصري الحافظ الإمام أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى بن الجراح[28]، نزيل نيسابور[29]، وقد قام بأسفارٍ طويلة[30]، وسمع أبا القاسم البغوي[31]، وتُوفِّي سنة 376هـ عن خمسٍ وثمانين سنة[32].

ومنهم ابن مسرور عبدالواحد بن محمد بن أحمد، نشأ في بلخ، وتربَّى وعاش وأقام بمصر، وتُوفِّي سنة 378هـ[33].

ومنهم أيضًا أحمد بن أبي الليث نصر بن محمد الحافظ أبو العباس المتوفَّى سنة 356هـ[34]، وقالوا عنه أنَّه كان شديد القوَّة في الحِفظ[35].

ومنهم الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات المعروف بابن خزابة نزيل مصر ووزير كافور، وحدَّث عن محمد بن هارون الحضرمي وغيره، ورحل إليه الدارقطني، وعزم على التعليق على مسنده، قال السلفي: "كان من الحفَّاظ على المتقنين يملي ويروي في حال الوزارة، عندي من أماليه ومن كلامه على الحديث الدال على حدَّة فهمه وقوَّة عِلمه، وخزابة اسم جدَّته أم أبيه، وقد وُلِدَ سنة 308هـ، وتُوفِّي في ربيعٍ الأول سنة 391هـ[36].

وإلى جانب هؤلاء الذين كانوا بمصر في عصر الدولة الإخْشيديَّة، وكانوا على درجةٍ عاليةٍ من حِفظ الحديث ونَقده، فقد وُجِدَ جماعةٌ آخَرون من المحدِّثين الذين لم يبلغوا درجة الحفظ والذين انفَردوا بعلو الإسناد[37].

ومن هؤلاء أبو جعفر أحمد بن عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المالكي، وكان من أهل العلم والحفظ، وقد حدَّث بكتب أبيه كلها من حِفظه عندما كان بمصر، ولم يكن معه كتابٌ يُحدِّث منه، وهي إحدى وعشرون مُصنَّفًا، وقد ولي قضاءَ مصر لمدَّة شهرين ونصف، وتُوفِّي في ربيعٍ الأوَّل سنة 322هـ[38].

ومنهم أيضًا أبو عبدالله بن أحمد بن بدر الربعي البغدادي، وقد حدَّث عن عباسٍ الدوري وطبقته، وقد وَلِيَ قضاء مصر، وله عدَّة تصانيف، وقد ضعَّفَه أكثر من واحد في الحديث، وتُوفِّي سنة 329هـ وله بضع وسبعون سنة[39].

وكان منهم أيضًا محمد بن أيوب نزيل مصر، وقد روَى عن هلال بن العلاء وطائفةٍ أخرى، وتُوفِّي سنة 341هـ، وكذلك عثمان بن محمد بن أحمد السمرقندي، وقد روى بمصر عن أحمد بن شيبان الرملي وابن أميَّة الطرطوسي وطائفةٍ أخرى، وقد تُوفِّي سنة 345هـ، وله خمسٌ وتسعون سنة[40].

وكان منهم أيضًا أبو بكر محمد بن علي الماذرائي[41]، وقد حدَّث عن العطاردي، وكان من صُلَحاء الكُبَراء، وقد تُوفِّي سنة 645هـ[42].

ومن هؤلاء المحدِّثين أيضًا أحمد بن مهران السيرافي الذي حدَّث عن الربيع المرادي، والقاضي بكار، وقد تُوفِّي سنة 346هـ، وأحمد بن إبراهيم بن عطيَّة البغدادي الذي يُعرَف بابن الحداد، تُوفِّي سنة 361هـ، ومحمد بن بدر، تُوفِّي سنة 364هـ[43].