الجهاز المدلل حتى الساعة؟!

لَم تشهد الإنسانية خنوعًا، ولَم ترَ رجوعًا، وأخشى أن أقول: تواطُؤًا؛ لجهاز يُفترض أنه المنوط بالأمن، الكفيل بالسلامة للراكب والراجِل، المسلم والكتابي، والمُقيم والباد، مثلما شَهِدت ورأَت البلاد إبَّان نَفْرة الثوَّار إلى أرض التحرير، مُطالِبين بالإصلاح والتغيير، مُعبِّرين عن رأْي السواد الأعظم لأُمَّة فرَغَت من الصبر جَعْبتها، وشَحَّ وارتفَع وتعاظَم ثَمَنُه.

ولا أتصوَّر تعليلاً؛ حيث إني لا أمْتلك الفراسة الكافية، ولا النجابة الوافية اللتان قد تَهدياني للسبب الرئيس لهذا الخنوع، وذاك الرجوع.

وما أُبَرِّئ نفسي من الظنِّ؛ "فسوء الظنِّ من حُسن الفطن"، فبرأْسي قد جالَت أفكارٌ تَدَّعي أنَّ الجهاز العظيم كان يَحمي ويَذود عن النظام الراحل غير المأسوف عليه، ولا على أتْباعه ومَن تَبِعهم في الَجْور ونَهْب المقدرات.

فيا أيها الشرطي الكريم، إنْ كنتَ تريد أن تعود بأجْمل حُلَّة، وأبهى ثياب، فما لك من خيار سوى أن تعود لتحمُّل العِبء، وكفالة المسؤولية الأمنيَّة، حينها سيُناصرك كلُّ رشيد، وسيُؤَازِرك كلُّ عاقل، وإنَّ الأمثلة منكم ليستْ ببعيد.

وإنَّ الاحترام والثقة ليَنبُعان من مدى تحمُّل المسؤولية، فقديمًا قالوا: تزداد المسؤولية متى زادَت الحريَّة، أو كلما اتَّسع محيط الحرية، اتَّسَع كذلك عبءُ المسؤولية.

وأمَّا إن كان البعض يريد أن يعودَ بما كان عليه الجهاز في ثوْبه الأخَرق، الملفَّق المُزَركش - صَلفًا، وظُلمًا، وجَهلاً على الناس - فهَيْهَات، هيهات لِما تنتظرون؛ فإن ثورة الخامس والعشرين على الرغم مما شابَها من تكدير ومحاولات تعكيرٍ، وصناعة الفتن وابتكار الطائفيَّة بأيادٍ خفيَّة مبتورة - بإذن الله؛ فإنها أنتجَت مواطنًا جديدًا تعرَّف لحقِّه المسلوب وإرْثه المنهوب، وزادَت ثقافة الأُمي قبل المتعلِّم، عرَفنا مفردات كثيرة لطالَما أخفاها عنَّا الراحلون.

منذ سنوات قليلة نَظَمتُ بعض أبيات للشرطة في عيدها السنوي، وقد وجدتُ من المقرَّبين استياءً، ومن البعض امتعاضًا، وذلك ليس لسوء العَرض، ولا أريد أن أذكر السبب؛ فهو معروف ومن الأدب ألاَّ أذكره، وجرَت العادة أنَّ السيِّئة تعمُّ، بيد أني حاوَلت جاهدًا أن أوضِّح وجهة نظري، عارضًا الأمثلة والبراهين، فمن الناس مَن إذا ذكَّرتَه بحقيقة وسجيَّة طبْعه، فسَرعان ما يرجع ينفضُ عنه الغَبار، باذلاً الجُهد؛ لتحقيق الصورة المنشودة، ومنهم وللأسف الشديد مَن إذا ذكَّرته بهذا، يزدَدْ تعنُّتًا، ويَقتل الصَّلف فيه الرُّوح، فعلى الأُولَى كنتُ أعوِّل، والله من وراء القصد.

وهذه بعض أبيات منها:

الناس بالفِطْر والأَضْحى قَدِ احْتَفَلوا عَدا الشُّرَطي بالمَيدان يَمْتَثِل ولَه أهْلُون يَرْجُون رُؤيَتَه وتُلامِس خَدَّ الصَّغير مِنْهُم القُبَلُ وَلسانُ حاله بصِدْقٍ راحَ يُخبرهُم مُنذ أيَّامٍ لَم تَرَني الدَّار والنُّزُل ويَزيدني فخْرًا وَتيهًا على مَن سبَقُوا في الطِّب و(الكِيميا) ومَن نَقَلُوا أنَّ رسولَ اللهِ كرَّمَني عَيْنَاي فِي حِمَى المَوْلَى مَتَى انْتَبَهَت بِها المُقَلُ جَوابٌ بالمَيْدان جَالَتْ نَواظِرُه يَطُوف الأرض لَم يَدر به الكَسَلُ سبَّاق في المُلِمَّات مَتَى نَزَلَت صَبُور للحَادِثات لا يَدْري به المَلَلُ مُجاهِد في النَّائِبات ليس يَتْرُكُها شَهِدَت بفَضْلِه الأدْيَانُ والمِلَلُ ذُو فَراسَة للعَابِرات إذْ مرَّتْ أَعْيَتْ أُولِي النُّهَى وخَابَتْ لَها الحِيَلُ حَمُول على الدَّهْر مَهْمَا جَرَى وافْتُه الشَّمسُ مُشْرِقة أو حَلَّ بِها طِفْلُ إذا رآهُ الشَّقِيُّ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ أصَابَه مِن هَوْلِه البَلَلُ

ومنها أيضًا:

وعَلى أوْكَار الظالِمين تَرَاه مُنقَضًّا فمَا اسْطَاعُوا حَرَاكًا ومَا انْفَلُّوا كمْ صارَع الأهْوالَ والإرهابَ حِينًا فيَا سَعْدَ مَن أبْلَى ومَن بَذَلُوا

ومنها:

أرَى الشُّرَطيَّ الكريمَ مَن عامَل النَّاس بِتَبْصِرَةٍ لا مَن أهْانُوا ومَن رَكَلُوا رَحِيمٌ مَع الناس ذُو فضْلٍ وتَكْرِمَةٍ على الضَّعيف ومَن بِه كَهل

وكما أسلفْتُ لَم أبتغِ بها سوى أن أوضِّح الصورة المثالية التي يجب أن يكون عليها الشرطي في كلِّ زمان ومكان، فمن بستان المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - ارْتشَفَت رحيق الحديث الشريف: ((عينان لا تَمسهما النار: عَيْنٌ بَكَتْ من خَشية الله، وعين باتَتْ تَحرس في سبيل الله)).

فيا أيها الشرطي الكريم، عُدْ إلى الميدان، وأدِّ عملك، فإن وافتْك المنيَّة، فقد وقَع أجرُك على كريم، ومَن وقَع أجْره على الكريم، فلا يُضام.

ولعلَّ ما حدَث لكم أيام الثورة وقفة من ربِّكم، فلعلَّ المتكبِّر يزدجر، والمُتغطْرِس يَعتبر، ومَن كانتْ له سَوْءَة تُغتفر، وما يُدرينا فلعلَّ كُلنا سَوْءَات، لكنَّ رحمة الله وَسِعت كلَّ شيء، راجين أن نكون ممن شَمَلهم القلمُ حين أُمِر، والأمر حين نزَل.

دَامَتْ أَرْضُ الكِنَانَةِ بِالأَمْنِ نَاعِمَةً وَحَفَّ شَعْبَهَا النِّيلُ وَالظُّلَلُ

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.