• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    سيناء الأرض المباركة
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

النسق المعرفي العلماني: الداروينية الاجتماعية الحديثة

د. بليل عبدالكريم

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 15/1/2011 ميلادي - 9/2/1432 هجري

الزيارات: 34969

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

قام مفكِّرو "الاستنارة المظلِمة" بالتحامل على مفهوم "الإنسان"؛ فأعلن هوبز توماس (1588 - 1679)، أنَّ "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، و"الواقِع ما هو إلا حلبة صراع يخوضها الجميعُ ضدَّ الجميع"، وتبعه كثيرٌ من الفلاسفة الماديِّين؛ مثل: إسبينوزا (1632 - 1677)، الذين يُفكِّكون الذات الإنسانيَّة تمامًا، وانضمَّ لهم بنتام الذي ذهَب إلى أنَّ "سلوكنا الأخلاقي يمكن تفسيره ماديًّا في إطار المنفعة واللَّذة"، ونيتشه فريدريتش فلهم (1844 - 1900)؛ الذي أعلن موت الربِّ وقيامة السوبرمان: أرْقَى الموجودات، المستغنِي بذاته عن غيرِه، غايته البَقاء فيه بالقوَّة والإرادة.

 

هؤلاء وغيرهم ممَّن سبقَهم ومَن تلاهم عرَضوا أفكارًا فلسفية، شملتِ المفاهيم الكُلية، والإنسان والنفْس، والدِّين والمجتمع، والأخلاق والمعرِفة والجمال، غير أنَّها لا تَعْدو أن تكونَ جدَلاً عقليًّا، وترفًا فكريًّا لدَى البعض؛ لكن جاء داروين بنظرية التطوُّر؛ ليحولَ النظريات الفلسفية إلى نظرياتٍ بيولوجية عِلمية (انتقال من العقل النظري إلى التجرِبة العمليَّة؛ من الفلسفة إلى العِلم)؛ فأُكسبتِ الفرضياتُ صِبغةَ " العِلمية"؛ وقاعدة "التجرِبة"، وفُرِض لها نفوذ وقوة على القلوب والعقول، فالعالَم البيولوجي حرَكة وصِراع، والإنسان لا أصلَ إلهي له، فهو سليل القرود، والحفرياتُ وعلم البيولوجيا يدلاَّن على ذلك، وكل مَن ردَّ هذا؛ فهو جاهلٌ مُنكِر للحقائق العِلميَّة!

 

فما أتى مِن بعد داروين مِن إحياء لأفكار كانتْ وئدت بأدلَّة عقلية؛ استندَ إلى ما سُمِّي "حقائقَ علمية يقينيَّة"؛ إذ عصر داروين عصر عِلم وتجرِبة، والعقل الأوربي بكلِّ ما لم يُبنَ على تجرِبة هو به كافِر، ولا يُسمَّى علمًا؛ إلا ما عضَّدتْه التجرِبة، وما قيل عنه عِلمي فهو يقيني، دخَل حيِّز "اللامساس"؛ لذا كان إنجلز يبحثُ في الفلسفة والسياسة، وماركس في التاريخ والاقتصاد، وفرويد في علم النفس، ودوركايم في علم الاجتماع، وكلهم يَصبُّوا إلى العلمانية الشاملة، وهدْم الأديان مِن جذورها، لكن بحوث هؤلاء كلها في العصرِ الصناعي والعقل العِلمي التجريبي هُراء، ما لم يسندْه العلم التجريبي، فكانتْ نظرية داروين عصَا موسى التي حوَّل بها الضلال هُدًى، والباطل حقًّا، والخرافة عِلمًا.

 

"فماركس اكتشف أنَّ المجتمع حلبةُ صِراع خاضع لحتميات ماديَّة اقتصاديَّة، وفرويد أكَّد أنَّ ما يُحرِّك البشر هو اللا وعي (اللا عقل)، الذي تحكُمه قُوى مظلمة مثل الجِنس (القوى البهيمية)، ولا نُدرك الحقيقة أبدًا، بل ما نُدركه هو ما يتراءَى لنا أنه الحقيقة، ودوركايم حوَّل المجتمع إلهًا، فالجماعة هي مَن تشرع، "وهكذا تمَّ ضرب الإنسان وتفكيكه:

أنطولوجيا (وجوديًّا): الإنسان إنْ هو إلا مجموعةٌ مِن الدوافع المادية والاقتصادية والجِنسية، لا يختلف في سلوكه عن سلوكِ أيِّ حيوان أعجم.

 

وإبستمولوجيا (معرفيًّا): إدراك الإنسان للواقِع ليس عقلانيًّا؛ وإنما تحكُمه مصالِحُه الاقتصاديَّة وأهواؤه النفسية"[1].

 

داروين (العالم البيولوجي) انطلق من فَرضية فلسفيَّة للفيلسوف مالتوس؛ ليبنيَ قاعدة علمية بيولوجية عمليَّة، ثم جاء هربرت (الفيلسوف) بالداروينية الاجتماعية؛ لتنطلقَ الفلسفة من فرضية بيولوجية؛ لكن مع اليقين بأنَّها حقيقة عِلمية، غير أنَّ ما سُمِّي علميًّا لم يَعْدُ التخريف، فتولد منه فلسفة التزييف، فقدْ وافَق هربرت سبنسر على إمكانية توريث الصِّفات المكتسبة، وكان هذا لصالح "نظرية التطور"، واتَّخذ ماركس وإنجلز موْقفًا مؤيدًا لمبدأ التوريث (البيولوجي) هذا، وعوَّلاَ على: "بيئة أفضل؛ لإنتاج إنسان أفضل".


أصل نظرية التطور الدارويني:

تُنسب النظرية إلى الإِنجليزي النصراني تشارلز داروين، صاحِب كتاب "أصل الأنواع" سنة 1859م، الذي عرَض فيه نظريته في النشوء والارْتقاء، ونشأة الكائنات الحيَّة وتطورها، واضعًا فرضية (وهمية)؛ بأنَّ أصْل الكائنات الحية كلها خلية، كانتْ في مستنقَع آسِن قبل ملايين السِّنين، ثم تطوَّرت هذه الخلية عبر مراحل، إلى أنْ ظهرتِ الحيوانات، التي مسَّها التطور إلى مرحلةِ القِرْد، كأعلى مرحلة للكائن غير العاقل، ثم انتهاء بالإِنسان الذي سيتطوَّر إلى مراحل أخرى.

 

لم يكن داروين أولَ مَن بحث مسألة أصول الكائنات، وما يوجد بين أشكال الكائنات مِن ترابط، ففي عصر اليونان بحث أناكسيماندر المالطي Anximandre مسألة التطوُّر في مملكة الحيوان، وأمبودوقليس Empidocle تعرَّض للتطور في مفهومه العامِّ، وقدَّم لوكريتس Lucréce أفكارًا مؤيِّدة لمفهوم عملية الانتخاب الطبيعي، الذي يعمل على حِفْظ الأقوى والتخلُّص من الأضعف.

 

أما في العصر الحديث في الغرْب؛ ظهَر علماء أخذوا بفِكرة التطور، واهتمُّوا بدراسة أنواع الأحياء وتطورها بصورةٍ عامَّة، ولاحظ بعضهم التقاربَ بين الإنسان والحيوانات العُليا، وأنَّ هناك انتقالاً من البسيط إلى المركَّب في تدرج المخلوقات، وقد ظهرتْ هذه الدراسات في ظلِّ الجو العدائي الذي ساد العلاقة بين الكنيسة والعِلم،أو بين رِجال الدِّين النصارى والعلماء، وتكاثر الأفكار العلمانية المعادية للدِّين.

 

ومِن أهمِّ هؤلاء العلماء، عالِم الطبيعة الإنجليزي آرسموس داروين (1731 - 1802م) جد تشارلز داروين، الذي تحدَّث عن" تأثير البيئة في الارتقاء"، والعالِم الفَرَنسي كومت دي بوفون (1707 - 1788م)؛ الذي أشار إلى أنَّ "الأنواع قد تتغيَّر عبر الزمن".

 

هُنالك أربع نظريات يمكن تمييزُها كركائزَ لنظرية داروين:

1- التغيُّر الطفيف البطيء (الجيولوجيا): ظهَر بعض علماء الجيولوجيا مِن أمثال كوفييه (1769 - 1823م) "الذي كتَب "تاريخ العظام المتحجرة"، وقارن بيْن الحيوانات الحاضِرة والمتحجِّرة، وبرهَن على وجود أنواع قد زالَتْ، غير أنَّه كان لا يعترِف بالتطور"[2]، وبحث وليم سميث في التاريخ الجيولوجي للأرض، وليل (1744 - 1829م) هو الذي أثبت أنَّ تطوُّرَ الأرض سبَق تطور الكائنات الحية (الأحياء)، واعتقد أنَّ التغيُّراتِ الضئيلةَ والتدريجيَّة؛ التي حدَثت عبر عصور زمنية طويلة يمكن أن تُغيِّر الطبيعة؛ أي: إنَّ الناتج بعدَ قرون؛ ليس هو الأصل السابق قبلَ تلك القرون، فالجيولوجيا الأرضية الحالية؛ هي نِتاج تغيرات وتطورات لم تنقطع، لكنَّها حدثَتْ ببطء زمني، وهي طفيفة ومتراكمة زمنيًّا.

 

طبَّق داروين النظريةَ الجيولوجية عن التغيُّرات الجيولوجية في الأرض على الحيوانات، فاستنتج أنَّ تكوينَ الكائنات الحية غيرُ ثابتٍ، بل متغيِّر، لكن ببطء.

 

2 - الصِّفات المكتسَبة (علم الوراثة): لكن كيف ظهرتْ هذه الأنواع المختلفة من نبات وحيوان؟ هنا يُجيبنا جان بابتيست لامارك (1744 - 1829م) بالقانونين التاليين:


القانون الأول: في كلِّ حيوان ما زال في حالة تطوُّر؛ نجد أنَّ العضو الأكثر استخدامًا والأكثر اعتمادًا عليه يقوى تدريجيًّا ويتطوَّر وينمو بمرورِ الوقت، بينما العضو الذي لا يستخدم باستمرار؛ يَضعُف ويتقلَّص تدريجيًّا، ويَنتهي الأمر باختفائه: (قانون الاستعمال والإهمال).

 

القانون الثاني: كلُّ شيء أرادتْه الطبيعة بالأفراد يكتسب بتأثيرِ الظروف التي يمرُّ بها جِنس أو نوع هؤلاء الأفراد، أو يفقد بتأثيرِ هذه الظروف نفْسِها صفاتٍ أخرى، وعلى هذا فتأثير الاستخدام السائد (المهيمن أو الغالب) للعضو، أو عدم استخدامِه يَنتَقِل بالوراثة إلى أفراد جديدين يَنحدِرون منه، والتغييرات الحادِثة نتيجةَ الظروف السابِقة تشمل الذَّكَر والأُنْثى، أو بتعبيرٍ آخرَ تشمل أولئك الأفرادَ الناتجين مِن أصلاب السابقين[3].

 

قام داروين برحلةٍ بحريَّة إلى أمريكا الجنوبية وبعضِ الجُزر؛ جعلتْه يشاهد الاختلافات الظاهرة في النَّوع الحيواني الواحِد، فاستنتج أنَّ التطور زمانيٌّ ومكانيٌّ، وهو خاضِع للطبيعة التي يتكيَّفُ معها النوع الحيواني، مما يكسبه صفاتٍ وألوانًا وأحجامًا وقدرات تناسب مكانَه وزمانه، ثم يُورثها لنسله، فالطيور يتغيَّر منقارها حسبَ نوع طعامها، وإنْ كانت من نفس الفصيلة، وهذا ما حصَل مع كلِّ الكائنات الحيَّة عبر أزمنة طويلة، فصارتْ لها صفات مكتسَبة جديدة أورثتْها للأجيال التي تَلَتْها، فظهرتْ أنواع مختلِفة ومتعدِّدة، وهذا يدلُّ على أنَّ بين المتعدِّد المختلف الآن أصلاً جامعًا سابقًا، ظهر منه التنوُّع والتَّعَدُّد.

 

• الانتخاب الطبيعي؛ الفلاحة و(علم السُّكَّان) ديموغرافيًّا: التطوُّر حاصِل منذ أزمنة، وباكتساب للصِّفات وتوارثها، لكن ما هو العامِل المؤثِّر في العمليَّة؟

 

عندما عاد مِن رحلته البحريَّة؛ بدأ يفكِّر في أصل هذه الأنواع المتباينة والمختلفة، وفي هذه الأثناء اطَّلَع على رأيٍ لعالِم الاقتصاد الإنجليزي توماس مالتوس (1766 - 1834م)، حول مشكلة تزايد السكَّان مع محدودية الموارد، ورأى أنَّ الحل يقوم في أنَّ الحياة صِراع وتصادم، ينتج من الصِّراع بقاء القادرين على الاستمرار في الحياة.

 

ورغم أنَّ عدد السكَّان يتزايد أكثرَ مِن تزايد الموارد الغذائية، لكن الحروب والأمراض والمجاعات والكوارث تحدُّ وتُقلِّل من هذه الزيادة، فتُهلِك الضعفاء وتُبقي الأقوياء، ولهذه الأسباب يوجد نوعٌ من التوازن بين عدد السكَّان والغذاء، تُعرف هذه النظرية "بنظرية الكوارث" التي ألْمَح إليها ليوناردو دافينشي.

 

استنتج داروين من إفناء الطبيعة للضعفاء لمصلحةِ بقاء الأقوياء فِكرةَ "الانتخاب الطبيعي"، تُقابلها فكرة "الانتخاب الصناعي"؛ التي يُمارسها المزارعون للحصولِ على أحسن المحاصيل النباتيَّة والحيوانيَّة، باختيار أحسنِ البذور، وانتقاء أحسنِ القطعان، ثم تكثيرها بالتلقيح أو التطعيم، فيستغني المزارعُ عن البقَر غير الحلوب بذبْحِها، ويعتني بالمُدِرَّة للحليب برعايتها واستيلادها؛ ليكونَ منها البقر الحلوب، ويزرع المحاصيلَ ذات النوع الجيد، ويترك الرديئة، هذا الانتخاب بشريٌّ يُطبِّقه الناس لتطويرِ منتجاتهم، نقَلَه داروين إلى الكائنات الحيَّة ككل؛ ومنها البشر، لكن مَن المنتخَب؟! هنا نسف المعتقدات القائِلة بالخالِق الإله، وقال بأنَّ الطبيعة هي المتحكِّمة في هذه العملية.

 

فأخذ عن توماس مالتوس نظريةَ الكوارث والصِّراع، والانتخاب لتحسين النوع مِن المزارعين، وطبَّقها على النموِّ السكاني، غير أنَّ المتحكِّم هنا هو الطبيعة بقواها وكوارثها، ثم عمَّم النظرية على أصل كلِّ الأنواع، لبيان عملية نشأة وتطور الكائنات الحيَّة.

 

لكن السؤال: الكائن رقْم واحد "الأول" تكوُّنًا وزمنًا؛ ما هو؟

الأفكار والمعتقدات:

أولاً: يَفترض داروين أنَّ أصل الكائنات العضوية كائنٌ حقير ذو خَلِيَّة واحدة، تطوَّر الكائن أُحادي الخلية العضوية مِن السُّهولة وعدم التعقيد إلى الدِّقَّة والتعقيد، ومِن الأحادية إلى ملايين الخلايا العُضوية، إلى أنْ ظهرتِ الأسماك ثم البَرّمائيات، ثم الزواحف، ثم ذوات الأربع، ثم ذوات الرِّجلين، ثم الطيور، إلى أنْ كان أرقى الأنواع غير العاقلة، وهو القِرْد الذي يقرب للنوع البشري ظاهريًّا، كما شمِل التطور النوع الواحِد من الأحطِّ إلى الأرقى، بأنْ وهبت الطبيعة الأنواعَ القوية عواملَ البقاء والنمو، والتكيُّف مع البيئة لتصارعَ الكوارث وتندرج في سُلَّم الرقي، ممَّا يُؤدِّي إلى تحسُّنٍ نوعي مستمر، يَنتج عنه أنواعٌ راقية جديدة كالقِرْد، وأنواع أرْقَى تتجلَّى في "الإِنسان".

 

وفي المقابل سلبت "الطبيعة" تلك القُدرة مِنَ الأنواع الضعيفة، فتعثَّرتْ وسقطتْ وزالت.

 

"والفروق الفَردية داخلَ النوع الواحد؛ تُنتج أنواعًا جديدة مع مرور الأحقاب الزمنية الطويلة، والطبيعة تُعطي وتَحرِم بدون خُطَّة مرسومة، بل خط عشوائي، وخط التطور ذاته مُتعرِّج ومضطرب، لا يَسير على قاعدةٍ مطَّردة منطقيَّة"[4].

 

وتَقدُّم الأنواع البيولوجيَّة الحيَّة عند داروين يعتمد على الصِّراع من أجلِ البَقاء "نظرية الصدام الدائم، والعداوة المتأصِّلة"، التي تفرضها الطبيعةُ؛ لتميز القوي الصالِح للبقاء مِنَ الضعيف الهزيل المعرقِل للنمو؛ ففي القانون الطبيعي يَنتصر فيه الأصلح، وانتصار الأصلح يتطلب منهزمًا؛ كعلامة مضايفة تثبت تفوُّق الطرف الثاني، وهو الأصلَح للوجود، فكان حالُ الضعيف طبيعيًّا، والتخلُّص منه آكَد طبيعيًّا، ليستمرَّ الانتقاء الطبيعي؛ كيما يحصل التطوُّر والارتقاء للأنواع الحالية؛ نحو أنواع أكثر تعقيدًا وتطورًا، وكل حلقة تؤدِّي إلى التي تليها، وهكذا تؤدِّي اليرقةُ إلى القِرْد، والقِرْد إلى الإنسان بطريقةٍ آلية، وفرْض داروين الاستمرارية والواحدية دون وجود شواهد ماديَّة علميَّة، "تمامًا كما تتحرَّك الأجسام تحت تأثير قانون الجاذبيَّة (في منظومة نيوتن)، وكما تتحوَّل الأفكار الجزئيَّة إلى أفكار كُلية بطريقةٍ آلية في منظومة لوك"[5].

 

ذا هُو تَصوُّر داروين القائِم على مجموعةِ فرضيات، بعضها أقرب إلى الأساطير منها إلى العِلم، فوقَف عاجزًا تمامًا من الناحية العِلمية عن إثبات الكثير منها، كالحلقة المفقودة بين القِرْد والإنسان، كيف تمَّ التحوُّل؟ فعلَّل ذاك من طرف أتباعه بالطفرة؛ بمعنى سَدّ الثغرة في الزمان بدون سبب واضح، وهنا بدَل القول "بالصدفة"، ابتدع مصطلحًا يُوحي بالعلمية "الطفرة"؛ إذ مفهوم الصدفة يُنبئ عن العجْز عن التبرير ودليل على الجهْل بالعِلَّة، أما "الطفرة" فهي العلم بالأصْل مع جهل علَّة وجود الفرْع، في النهاية هي "الصدفة".

 

بل وجود الخَلِيَّة الأولى كيف كان؟ ومما كان؟ وما هو أوَّل تحوُّل؟ وكيف تمَّ؟

 

وهنا تجد إجاباتٍ هي تخريف؛ تبعها تحريف لاكتشافات، ثم تزييف لحقائقَ عِلمية، هل سمعت بنظرية تحول الديناصورات مِن ماشية على قدمين إلى طائِرة بجناحين؟! لقدْ لاحق ديناصور (محظوظ) ذُبابة؛ فلما سبقتْه؛ رام أن يُدرِكها؛ فنَبَت له جناحان حين ركضه؛ بقدرة قادر (وهي الطبيعة)؛ فطار، ومنه نسل الطيور - واللهِ هذه نظرية مُصنَّفة أنها عِلمية - ولا يظن القارئ أنها دُعابة، ولكن السؤال، هل أدرك الديناصور الطائرَ الذبابة أم لا؟! لم تَعلم الداروينية بعدُ، والتحقيقات جارية[6].

 

وليتَ نظرية التطور وقفتْ عند المسلَّمات؛ بل تعدتْها إلى السذاجة العمياء والخرافة البلهاء، يقول البروفسور T.W.Beeb(عالِم طبيعة) في كتابه "الطائر" ص79: إنَّ التغيُّرات الإعجازيَّة التي نفترض أنَّها قاصرةٌ على القصص الخرافيَّة أمور عادية جدًّا في نظرية النُّشوء والارتقاء، ويقول الدكتور ماكنيرولسن في منشورات أكسفورد الطبية: إنَّ نظرية النشوء والارتقاء لا تقلُّ عن أيِّ قصة خرافية[7].

 

ثانيًا: الآثار التي تركتْها النظرية: قبل ظُهور النظريَّة كان الناس يَدْعون إلى "حريَّة الاعتقاد" بسبب الثورة الفرنسيَّة، ولكنَّهم بعدَها؛ أعلنوا إلحادَهم الذي استشرى كالجرب، وانتشر بطريقة عجيبة، وانتقَل من أوروبا إلى بقاع العالَم، فلم يَعُدْ هناك أيُّ معنًى لمدلول كلمة: آدم، حواء، الجَنَّة، الشجرة التي أكَل منها آدم وحواء، الخطيئة (التي صُلِب المسيح ليُكفِّر عنها ويخلِّص البشرية مِن أغلالها حسب اعتقاد النصارى)، وطغَتْ على الحياة فوضى عقائدية، وأصبح هذا العصرُ عصرَ القلق والضياع، واستبدَّ الشعور باليأس والقنوط والضياع، وظهرتْ أجيالٌ حائرة مضطربة ذات خواء رُوحي.

 

فكونُ الإنسانِ نتاجَ الطبيعة وخاضعًا لها، فلا إلهَ خالِق، وإنْ كان فجَدُّه قرْد؛ وما قِيمة الأخلاق إنْ لازمها التطوُّر؟ فهي نسبيَّة خاضِعة للزمان والمكان والنوع، وكل ذلك خاضِع للطبيعة، وتاريخيًّا الأمر لا خلاصَ منه؛ إذ هو انتخاب طبيعي حتمي، والأديان هي مِن بِدع البشَر لتنظيم عملية البقاء والارتقاء بيْن الأنواع، هذا لبُّ ما أفرزته الداروينية.

 

الأصل الفلسفي للنظرية الداروينية (المذهب الطبيعي):

ظهَر الاتِّجاه الطبيعي في منتصف القرْن التاسعَ عشَرَ، وظلَّ مستمرًّا لفترة غير قليلة في القرْن العِشرين، ويقصد "بالمذهب الطبيعي" التصوُّر الذي لا يَعترف بوجود أيِّ واقعٍ آخَرَ خارجَ الطبيعة، أو خارج العالَم الذي نُدركه بحواسِّنا.

 

والمؤمن بالمذهب الطبيعي يَعتبر الإنسانَ جزءًا مِن الطبيعة، ولا يَنطلق في أبحاثه وأفكاره إلا مِن الواقع والظواهِر الطبيعيَّة، لا مِن افتراضات أو مسلَّمات عقلانية، ولا مِن أيِّ شكل مِن أشكال الوحي الإلهي[8].

 

و "الطبيعة" و"المصادفة" هما الحِصْنان اللَّذان يرجع إليهما الملاحدةُ في تفسير كل ما عجزت عن تفسيرِه نظريةُ التطور[9].

 

يُعَدُّ داروين وماركس وفرويد ودوركايم كلهم مِن أنصار المذهب الطبيعي، فداروين زعم أنَّ البشرية نتاجُ تطور بيولوجي طبيعي بطيء، وماركس زعم أنَّ تاريخ البشرية نتاجُ بِنية الإنتاج، وفرويد زعَم أنَّ أعمال البشريَّة نتاج الغرائز الجِنسيَّة البيولوجية، ودوركايم زعم أنَّ الدِّين مِن وضع المجتمع، فصاغ هؤلاء وغيرهم كلَّ ما هو معادٍ للأديان، وتآزروا لقَطْع المدد من السماء، والتأكيد على الحل الأرضي الكامن بالطبيعة، هذه الطبيعة تملك قوى كامنة، وقوانين ثابتة تتحكَّم حتى في الإنسان؛ الذي هو جزءٌ منها، بيولوجيًّا وتاريخيًّا ودينيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا، فأصبحت بعضُ المفردات الاصطلاحيَّة هي الأكثرَ شيوعًا في هذه الاتِّجاهات؛ مثل: الطبيعة، البيئة، التطوُّر، الحتمية، التقدُّم، المادة.

 

مفهوم "الطبيعة" في الفلسفة الطبيعية المادية:

الطبيعة مفهومٌ أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطارِ المرجعية الكامِنة، وخصوصًا في الغَرْب، فكلمة "طبيعة" داخل السِّياق الفلسفي الغربي؛ لا تُشير إلى الأحجار والأشجار والسُّحب والقَمَر والتلقائية والحرية، وإنما هي كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية؛ التي يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- الوحدة: الطبيعة شاملةٌ لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكل المتَّصل، وما عداها مجرَّدُ جزءٍ ناقص منها، فهي لا تتحمَّل وجودَ أيَّة مسافات أو ثغرات أو ثنائيات، وجِماع الأشياء والإجراءات التي توجَدُ في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقِع الوحيد، ولا يوجد شيءٌ متجاوز لها أو دونها أو وراءها، فالطبيعة نظامٌ واحد صارِم.

 

2 - السببية: لكلِّ ظاهرة سبب، وكل سببٍ يؤدِّي إلى نفس النتيجة في كلِّ زمان ومكان؛ أي: إنَّ الطبيعة بأسْرها متسقة مع نفسها، فهي تتحرَّك تلقائيًّا بقوة دفْع نابعة منها، وهي خاضِعة لقوانين واحدة ثابتة منتظِمة صارمة مطَّردة وآلية، قوانين رياضية عامَّة واضحة، حتمية لا يمكن تعديلُها أو التدخُّل فيها، وهي قوانين كامنة فيها.

 

3 - العبثية: الحرَكة أمر مادي، ومِن ثَمَّ؛ لا توجد غائية في العالَم المادي، حتى لو كانتْ غائية إنسانية؛ تسحب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية.


4- الشمولية: لا تكترث الطبيعة بالخصوصية؛ ولا التفرُّد ولا الظاهِرة الإنسانيَّة، ولا الإنسان الفرْد واتجاهاته ورغباته، ولا تَمنح الإنسان أيةَ مكانة خاصَّة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقيَّة الكائنات، ويمكن تفسيرُه في كليته بالعودة إلى قوانين الطبيعة، والإنسان الفرْد (أو الجزء)؛ يذوب في الكلِّ (الطبيعي/المادي) ذَوبان الذرَّات فيها؛ أي: إنَّ الطبيعة تلغي تمامًا الحيِّز الإنساني.

 

5- الذاتية: لا يوجد تَجاوُز للنِّظام الطبيعي من أيِّ نوع، فالطبيعة تحوي داخلَها كل القوانين التي تتحكَّم فيها، وكلَّ ما نحتاج إليه تفسيرها؛ فهي علَّة ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفية بِذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود[10].

 

يُلاحَظ أنَّ الطبيعة - حسب هذا التعريف الفلسفي - هي نظامٌ واحدي مُغلَق مكتَفٍ بذاته، تُوجَد مقوِّمات حركته داخله، لا يُشير إلى أيِّ هدف أو غرض خارجه، يحوي داخلَه كلَّ ما يلزم لفَهْمه، وهو نظام ضروري كلي شامِل تنضوي كل الأشياء تحتَه، وضمن ذلك الإنسان الذي يُستوعَب في عالَم الطبيعة، ويُختزَل إلى قوانينها بحيث يصبح جزءًا لا يتجزَّأ منها، ويختفي ككيان مركَّب منفصل نسبيًّا عمَّا حوله، وله قوانينه الإنسانيَّة الخاصَّة؛ ولذا فالرَّغْبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبير عن النَّزْعة الجَنينيَّة في الإنسان، وهذه هي الصِّفات الأساسيَّة للمذهب المادي.

 

فإذا قيل: (الكائنات)؛ فيقصد المادية ولا يُفكِّر في الإله ولا الرُّوح، فالمادة والقوة والحياة عندَهم موجودةٌ منذ الأزل، كما نراها اليوم واحدة باعتبار الماهية، متعدِّدة باعتبار الشكل[11].

 

و"الإنسان الطبيعي" شخص يُعرف في إطار وظائفه الطبيعيَّة البيولوجية، ويعيش حسب قوانين الحرَكة المادية ويردُّ إليها؛ ولذا فهو يجمع براءةَ الذِّئاب، وتلقائية الأفْعَى، وحياد العاصِفة، وتَسطُّح الأشياء وبساطتها، وحين القول "العودة للطبيعة"؛ فيقصد أنَّ العودة ستكون لقوانين الطبيعة؛ أي: قوانين المادة.

 

"وقدْ فكَّ هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية؛ حينما قال: "يجب أن نكون مِثلَ الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشَّفَقة"، وقد تبِع في ذلك كلاًّ من داروين ونيتشه"[12].

 

مفهوم الفلسفة الطبيعيَّة الماديَّة:

"الفلسفة المادية" هي المذهَب الفلسفي الذي لا يقبل سوى المادة باعتبارِها الشرط الوحيد للحياة (الطبيعيَّة والبشريَّة)، ومن ثَمَّ فهي ترفُض الإله كشَّرْط مِن شروط الحياة، كما أنَّها ترفض الإنسان نفسَه، وأي منظومات فِكريَّة أو قيميَّة متجاوزة للمادة؛ ولذا، فإنَّ الفلسفة المادية تَرُدُّ كل شيء في العالَم (الإنسان والطبيعة)؛ إلى مبدأٍ مادي واحِد هو القوَّة الدافِعة للمادَّة، والسارية في الأجسام والكامِنة فيها، والتي تتخلَّل ثناياها وتضبط وجودها، قوَّة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيءٌ ولا يعلو عليها أحد، وهي النِّظام الضروري والكلي للأشياء؛ نِظام ليس فوق الطبيعة وحسب؛ ولكنَّه فوق الإنسان أيضًا، وإنْ دخَل عنصر غير مادي على هذا المبدأ الواحد، فإنَّ الفلسفة تُصبِح غير ماديَّة.

 

ويمكن القول بأنَّ الأطروحات الأساسية للفلسفة الماديَّة هي ما يلي:

1- أزلية المادة: لا يُوجد إلا المادَّة، ولا توجد أيَّة صِفات سوى الصِّفات المادية، والمادة أزليَّة، فهي لا تفنَى ولا تُستحدَث من العَدم، وهي الأصل الراسخ لكلِّ الموجودات، وهي الجوْهَر الواحِد، والمبدأ الوحيد الأوَّل والأخير؛ الذي تُردُّ إليه جميعُ ظواهِر الحياة المادية والإنسانيَّة والحوادث التاريخيَّة.

 

2- التفسير الكمِّي: لا تُوجد أيةُ صِفات سوى الصِّفات الماديَّة، وطبيعة كلِّ شيء وخصائصه؛ إنَّما هي نتيجةُ تركيب لبعضِ ذرَّات هذه المادة بشكلٍ آلي، ومِن تلقاء نفْسِه مِن خلال الحرَكة الأزلية للمادة، أما أحوال الشُّعور والفِكر والعقل، فهي ظواهرُ تابِعة ناتجة عن ذلك الجوهر، ولا يُوجد سوى الكمِّ في العالَم، وكافَّة الكمَّات يمكن المقارنةُ بينها، أما الكيْف فهو مجرَّد شكل مِن أشكال الكم؛ أي: إنَّه لا يوجد سِوى الكمِّي، أما الكيْفي فهو ظاهِري.

 

3- الحلول الكُمونية: عادةً ما تُقرن المادة بالحرَكة، فالمادة والحرَكة لهما وحدهما وجودٌ وحقيقة نهائيَّة، ولكن الحرَكة كامِنة في المادة، ومِن ثَمَّ فإنَّ المادة ليس لها سببٌ أو محرِّك أول.

 

4- الحتمية الآلية: حركة المادة حرَكة آلية مُحايدة، ليس لها قصدٌ أو غاية أو معنًى، وهي خاضِعة لقوانين طبيعيَّة، لا تختلف ولا تتغيَّر، أو خاضِعة لقانون الصُّدفة.

 

5- التطوُّر المادي: كل تَغيُّر - مهما اختلَف مجالُه - له أساس مادِي، وكلُّ الظواهر تتغيَّر وتختفي وتذوب في مادَّة كونية أزلية، والتطوُّر - بما في ذلك التطوُّر في المجتمعات الإنسانيَّة - هو نتيجة تطوُّر متَّصل في القوى الماديَّة، ولا عَلاقة له بالقِيَم أو الغائية الإنسانيَّة[13].

 

الإنسان الطبيعي المادي:

هو الإنسانُ الذي يكسب كينونته مِن المادَّة، ويَبني نزعاتِه على المادَّة؛ أي: يُعرف بالمادة نشأةً وتطورًا، فهو ذو نزعة أرضية بلا نزعة سماوية، يعيش في إطار طبيعي مادي خالي منَ الدِّين الغيبي، وله سِمات:

• سوبرمان: يملك كل صِفات القُوى الطبيعيَّة، لا حاجةَ له لغيره، فهو مكتَفٍ بذاته، مرجعيتُه ذاتُه، ومعياريته ذاته، فهو تعبيرٌ واضحٌ عن الواحدية الذاتيَّة، يملك الحريَّة المطلَقة التي يُفرزها وجوده المادي، لا يخضَع لرِقابة من أيِّ جِهة، ولا تحدُّه قِيَمٌ أو أخلاق أو قوانين: اجتماعيَّة أو تاريخيَّة أو أخلاقيَّة أو جماليَّة، فهو سوبرمان حقيقي؛ يعيش في "الزمن الطبيعي" الحر؛ وليس في "الزمن التاريخي" الإنساني، الذي تتحكَّم فيه القِيَم والأعراف.

 

• خضوعه للحتمية الماديَّة: فهو جزءٌ لا يتجزَّأ من المنظومة الطبيعيَّة؛ بقوانينها العلمية الحتمية الكامِنة في مادتها الصُّلبة، يسري عليه ما تخضع له كلُّ عناصر الطبيعة، فالطبيعة يمكن أن توجَد دون الإنسان، لكنَّه لا يكون بدونها، فيُمكن القول بأنَّه لا يشكل "المركز" في الكون، فما هو إلا جزء عرَضي فيه، ويَنبغي عليه أن يُذْعِن لقوانينها وألاَّ يحاول تجاوزها؛ أي: إنَّ الحيِّز الإنساني يختفِي تمامًا في الحيِّز الطبيعي المادي، ولا يفسَّر إلا في إطار مقولات "طبيعية/ماديَّة" مستمدَّة مِن عالَم "الطبيعة / المادة":

• وظائفه البيولوجيَّة: الهضم، اللذَّة الحِسية، التناسُل.

• دوافعه الغريزيَّة: البَقاء المادي، الثروة، القوَّة.

• المثيرات العصبيَّة المباشِرة: بيئته الماديَّة، غُدده، جهازه العَصَبي.

 

فالإنسانُ الطبيعي المادِّي شأنُه شأن الكائِنات الطبيعيَّة - جزءٌ مِن النِّظام الطبيعي، وهو نِظام واحدي صارم، لا يعرف الثنائيات أو التركيب، وليس بإمكان كائن تجاوُزه؛ ولذا فالإنسانُ الطبيعي إنسانٌ أُحادي البُعد "إنسان وظيفي"، سلوكه يتبع نسقًا منطقيًّا واضحًا يمكن التنبؤ به؛ ولذا يمكن اختزالُه إلى تلك الصِّيَغ الكَميَّة والرياضية البسيطة المستخدَمة في العلوم الطبيعيَّة، ويُمكن تفسيرُه مِن خلال مقولات مادية محْضَة، ويمكن توظيفُه وجعله مادة استعماليَّة نافعة؛ إذ جوهر "الإنسان الطبيعي" ليس جوهرًا إنسانيًّا، مُستقلاًّ وفريدًا، وإنَّما هو جوهر "طبيعي / مادي"، فهو لا يختلف - بِشَكْلٍ جوْهَري - عن الكائنات الطبيعيَّة الأخرى، فقد يكون سلوكُه أكثرَ تركيبًا من سلوك الكائنات الطبيعيَّة الأخرى، ولكن الاختلاف بينه وبينها هو اختلافٌ في الدرجة وليس في النَّوْع؛ ولذا - في نهاية الأمر - أفكاره وتاريخُه وأشواقه وأحزانه مجرَّد جزءٍ مِن بناء فوقي وَهْمي يُرد إلى البناء المادي التحتي الحقيقي "الطبيعة / المادة" وقوانينها.

 

• المعرفة الماديَّة: هي معرفةٌ محدودة بحدودِ الطبيعة والعلاقات بينها، فالإنسان جزءٌ مِن برنامج طبيعي مادي، ذاتي الحرَكة والتنظيم، بل يُلاحَظ أنَّ الحيوانات العُليا تشترك مع الإنسان (الطبيعي) في درجات من الذَّكاء، ووسائل الاتِّصال، والتنظيم الاجتماعي وأشكال مِن الاقتصاد، ولكنَّها جميعًا تتَّسم بالبساطةِ والمنطقيَّة البالِغة.

 

ويُشير علي عزت بيجوفيتش - المفَكِّر الإسلامي ورئيس جمهورية البُوسنة - إلى أنَّ صناعة الأدوات واستخدامها - وهي ظاهرةٌ تدلُّ على التقدُّم الشديد في حلقة التَطوُّر - تُمثِّل استمرارًا للتَطوُّر البيولوجي، وهو تَطوُّر خارجي كَمِّي، يمكن تتبُّعه من الأشكال البدائية للحياة حتى ظهور الحيوان الكامل.

 

فالوقفة المنتصِبة، واكتمال اليد، واللُّغة والذكاء، كلُّها حالات ولحظات مِن التطوُّر، تبقَى بطبيعتها في إطارها الحيواني، والإنسان عندما استخدَم لأول مرة حجرًا لكسْر ثمرة صُلْبة أو لضرب حيوان، فلا بدَّ أنه فعل شيئًا مهمًّا جدًّا، ولكنَّه ليس جديدًا كلَّ الجدة؛ ذلك لأنَّ آباءه الأوائل مِن فصيلته الحيوانية حاولوا فِعْل الشيء نفسه.

 

مِن هذا المنظورِ يُمكن القول بأنَّ عقل الإنسان ليس له أيةُ فعالية، فوجودُه ليس ضروريًّا لحركة الكون، بل إنَّ العقل والخيال ومقدِرة الإنسان على التجاوز والترميزِ والتجريد؛ تُشكِّل عوائقَ تقِف في طريق محاولة الإنسان الإذعان للطبيعة، والتحرُّك معها والخضوع لحتميَّاتها.

 

والعقلُ الطبيعي المادي لا يَعرِف القلق أو التفكير في المجهول، ولا يُفكِّر في مصيره، ولا في مصير الكون، ولا تعكر صفوَه أيةُ أسئلة معرفيَّة، نهائيَّة وكليَّة كبرى، فأسئلته كلُّها أسئلة عمليَّة ماديَّة، محصورة في البيئة والاحتياجات الماديَّة المباشِرة.

 

وعقل كلٍّ مِن الإنسان (الطبيعي) والحيوان صفحةٌ بيضاء، تُسجَّل عليها الأحاسيسُ المادية؛ ولذا فإنَّ كليهما يُدرِك السطحَ بكفاءة عالية، ولا يُحاول الغوصَ إلى باطن غير مادي مُتوهَّم، وكلاهما لا ينسب إلى الأشياء دلالات رمزيةً غير موجودة في الأشياء المادية.

 

• التاريخ الطبعي المادي: إذا كان للظاهِرة الاجتماعيَّة تاريخ، فهو تاريخٌ مادي يُمكن دراستُه من خلال دراسة بِنية الظاهرة المادية، وقد قام داروين نفسُه بتفسير الظواهر البيولوجيَّة من خلالِ دِراسة تاريخها البيولوجي، وهذا يعني عدمَ وجود أي فارق أساسي بين مجموعة مِن الشبَّان الذين يختطفون فتاةً ويغتصبونها، ثم يقتلونها، وقطيع مِن الذِّئاب تهاجم ظبيًا وتلتهمه، فكلاهما تدفعه غريزةٌ طبيعيَّة ماديَّة قويَّة، ولعلَّ الفارقَ الثانوي الوحيد أنَّ الشبَّان قد هاجموا عضوًا من نفْس نوعهم، وهو الأمر الذي يعوق عمليةَ البقاء، وهذا هو المنطق الوحيد المقبول في إطار دارويني عقلاني مادي"[14].

 

ورغم الواحديَّة الماديَّة التي تَصدُر عنها الداروينية، ورغم رفْضِها لأنْ تكون أية نقطة متجاوزة للمادَّة مصدرًا للحرَكة، ورغم أنَّها تفترض عدمَ وجود مخطَّط إلهي وراءَ الكون فإنَّها مع هذا كلِّه تفترض وجودَ غائيَّة طبيعيَّة، كالتطوُّر باعتباره حركةً من نقطة أدْنَى إلى نقطة أعلى، ومِن التجانُس البسيط إلى اللا تجانس المركَّب حركة حتميَّة تمامًا مثل التقدُّم الحتمي؛ الذي تفترِضُه معظمُ الأيديولوجيات العلمانيَّة.

 

والغائية التي يطرحها داروين غائيةٌ غيرُ متجاوزة، تأخُذ شكل إيمان بأنَّ هناك غايةً كامنة في الطبيعة نفسها، لكن هذه الغائية قد تكون زيادةً في التركيب والتطور من البسيط إلى المركَّب، وقد تكون شيئًا يُسمَّى: "إرادة الحياة" أو "القوَّة"، وقد يكون شكلاً مِن أشكال الوعي ظهَر بالصدفة من خلالِ عملية كيماوية زادتِ المادة تركيبًا، والمهم أنَّ التطوُّر - مهما بلَغ بالكائنات مِن ارتفاع ورُقي - فليس ثَمَّة تجاوُزٌ؛ إذ إنَّ كل شيء - وضمن ذلك الإنسان - أصلُه مادي، ويُرَدُّ إلى المادة.

 

• القِيم الطبيعية المادية: تَصدُر الفلسفات المادية عن الإيمان بأسبقية الطبيعة / المادة على الإنسان؛ ولذا فهي تُركِّز على الإنسان الطبيعي والجوانب الطبيعية / المادية من الوجود الإنساني، وتَرُدُّ كلَّ جوانب الوجود الإنساني الأُخرى له، ولذا فهي تلغي ثنائية الإنسان / الطبيعة، والربَّاني الجنيني، حتى تسود الواحديَّة المادية؛ ولذا فنحن نربط بين الإنسان الطبيعي والنَّزْعة الجنينيَّة؛ التي تعفي الإنسان مِن عبْء الهُويَّة والمسؤولية والاختيار، وتَدور في إطار الواحدية المادية للطبيعة البشريَّة، وهي شأنها شأن الطبيعة المادية في حالة حَرَكة دائِمة وتغيُّر دائم، ولذا لا توجَد إنسانيَّة مشتركة، ولا يُمكن أن تُوجَد أيةُ معايير دينيَّة أو أخلاقيَّة أو حتى إنسانيَّة، فمثْلُ هذه المعايير خاضِعة لقوانين الحرَكة، فيمكن تفسيرُ قِيَم هذا "الإنسان الطبيعي / المادي"؛ ودوافعه ونشاطاته على أُسس طبيعيَّة / مادية، فما يُحرِّكه هو "أخلاقيات طبيعية / مادية" برانية، تستند إلى المنْفعة والمصلحة والرغبة في البقاء الكامنة في المادة.

 

قد يتوهَّم الناس أنَّ القِيَم من لدن الإله، أو مِن إبداع الإنسان، وهذا وَهْم، فمصدر القِيَم هو الطبيعة، ومِن ثَمَّ يُمكن مِن خلال دراسة الطبيعة وقوانينها المختلفة أن نصِلَ إلى منظومات قِيميَّة ومعرفية وجمالية (طبيعية / ماديَّة)، يستطيع الإنسانُ أن يعيشَ بها، وأن يُحقِّق مصلحته وبقاءَه المادي ولذته.

 

تطوُّر الإنسان الطبيعي المادي:

تَطوُّر "الإنسان الطبيعي" مثل تَطوُّر الحيوان الطبيعي، داخل نسق بسيط مُستمرٍّ منطقي، ومهما بلَغ مِن تركيب فهو يظلُّ داخلَ إطار الطبيعة / المادة، لا يختلف عن الحيوان الطبيعي، فهُمَا نتيجة عمليَّة تَطوُّر طويلة تبدأ مِن أدْنى أشكال المادة، حيث لا يُوجد أيُّ تميُّز واضح بينهما؛ فكلاهما مجرَّد وظائفَ بيولوجية، وكلاهما نِتاجٌ لبيئته وعمله، ولمحاولة البقاء مِن خلال الصِّراعِ والتكيُّف.

 

يقول علي عزت بيجوفيتش: "لقدْ أوضح إنجلز أنَّ الإنسان نتاجُ علاقات اجتماعية، أو بدقَّة أكثر: نتاج أدوات الإنتاج الموجودة، إنَّه مجرد نتاج حقائق [مادية] معيَّنة".

 

أَخَذ داروين هذا "الإنسان اللا شخصي" بين يديه، ووصف تَقلُّبه خلالَ عملية الاختيار الطبيعي، حتى أصبَح إنسانًا قادرًا على الكلام، وصناعة الأدوات، وعلى أن يمشيَ منتصبًا، ثم يأتي عِلم البيولوجيا ليستكملَ الصورة، فيُرينا أنَّ كلَّ شيء يرجِع إلى أشكال الحياة البدائية، التي هي بدَوْرها عمليَّة طبيعيَّة كيميائيَّة، أما الحياة والضمير والرُّوح فلا وجودَ لها، وبالتالي فليس هناك جوهرٌ إنساني.

 

و كان "إنسان نيتشه" نتاج عملية التطور هذه، هو "الإنسان الكامِل" اسمًا، لكنَّه في جوهره "حيوان كامل" خاضِع تمامًا لقوانين التطوُّر الطبيعيَّة.


وكلُّ المدُن الفاضِلة المادية (اليوتوبيات التكنولوجية التكنوقراطية)، التي تُدار على أسس علمية / مادية، يظهر فيها "إنسان مثالي" تمامًا، إنسان في مِثالية النَّحْل والنَّمْل والحيوانات التي تبلُغ الغايةَ في التنظيم، وهي كائناتٌ تعيش في مجتمعها بشكل آلي منطقي؛ "كالإنسان الآلي" المغسول في "الرشد المادي" من قِمَّة رأسه إلى أخمص قدميه؛ إنسان لا يختار ولا يقرِّر، فكلُّ شيء قد تَمَّ اختياره وتقريرُه له؛ وهو لا يحمل أيةَ أعباء أخلاقية، فهو يتصرَّف بشكل آلي حسبَ طبيعته؛ وطبيعتُه لا خيرَ فيها ولا شرّ، ولا قلق ولا أسئلة كُبرى، هذا الإنسان الآلي هو تَطوُّر طبيعي للإنسان الطبيعي / المادي لا يختلِفُ عنه في الجوهر.

 

إنَّ عالَم الإنسان الطبيعي عالَمٌ واحديٌّ برَّاني أملس، يقول علي عزت بيجوفيتش: "لقد دَأب الماديُّون على توجيه نظرِنا إلى الجانب الخارجي للأشياء، فيقول إنجلز: إنَّ اليد ليستْ عضوَ العمل فقط، وإنَّما هي أيضًا نتاجُ العمل، فمِن خلال العمل اكتسبتِ اليدُ البشريَّة هذه الدرجةَ الرفيعة مِن الإتقان، الذي استطاعتْ مِن خلاله أن تنتج لوحاتِ روفائيل، وتماثيل ثورفالدسن، وموسيقا باجانيني".

 

إنَّ ما يتحدَّث عنه إنجلز هو استمرارُ النمو البيولوجي، وليس النمو الرُّوحي، ولكن الإنسان ليس مجرَّدَ وظائف بيولوجية، ونمو بيولوجي وحْدَه، حتى لو امتدَّ إلى أبدِ الآبدين، ما كان بوُسْعه أن يمنحَنا لوحاتِ روفائيل، ولا حتى صور الكهوف البدائية التي ظهرَتْ في عصور ما قبل التاريخ.

 

وهنا يطرح بيجوفيتش مفهومَ ازدواجية الطبيعة الإنسانية؛ التي جاء أحدُ جانبيها من الأرْض (الطبيعة/المادة)، وجاء الآخَرُ من السماء، فالوظائفُ البيولوجية والنشاطات الطبيعيَّة - مِثل: الصَّيْد، وصُنع الأدوات - هي التي جاءتْ مِن الأرض، أمَّا النشاطات الأخرى - مِثل: الدِّين والفن - فهي ليستْ مِن سمات "الإنسان الطبيعي"، وإنما مِن سِمات "الإنسان الإنسان"، وهو كائنٌ مُركَّب متعدِّد الأبعاد، قَلِق يسأل أسئلة كلية، يحمل عبْء الهُويَّة والمسؤولية الخُلُقية، لا يمكن اختزالُه في صِيغ رياضية كَمِّيَّة، كما لا يمكن ردُّه في كليته إلى عالَم الطبيعة/المادة وواحديته المادية؛ ولذا فهو يعيش ثنائيةً فضفاضة لا يُمكن إلغاؤُها.

 

وللإنسانِ الطبيعي نوعانِ في الفلسفات الماديَّة:

1- الإنسان الاقتصادي: "إنسان آدَم سميث"، الذي تُحرِّكه الدوافع الاقتصاديَّة، والرَّغْبة في تحقيقِ الرِّبْح والثروة، و"إنسان ماركس" المحكوم بعلاقات الإنتاج، وهو يُعبِّر عن مبدأ المنفعَة، بحيث لا يعرِف الإنسان سوى صالحِه الاقتصادي؛ ولذا فهو إنسانٌ يتَّسم بالتقشُّف والإنتاج وحبِّ التراكم، وهو إنسان متحرِّر تمامًا من القِيمة، شأنُه شأن الطبيعة، دوافعه الأساسية اقتصاديَّة بسيطة، وتحرِّكه القوانينُ الاقتصاديَّة، وتحكُمه حتمياتها، تمامًا مِثل الإنسان الطبيعي؛ الذي يخضَع لقوانين الطبيعة، وحتميات القانون الطبيعي لا يَملِك تجاوزًا لها، فهو إنسانٌ لا ينتمي إلى حضارةٍ بعينها، وإنَّما ينتمي إلى عالَم الاقتصاد العام، وهو لا يَعرِف الخصوصية ولا الكرامة، ولا الأهدافَ السامية التي تتجاوز الحرَكةَ الاقتصادية، وهو يُجيد نشاطًا واحدًا هو البيع والشراء، وهذا هو إنسان ماركس وآدم سميث. ويُشار إلى هذا الإنسان في النُّظم الرأسمالية بأنَّه "دافع ضرائب"، أما في النُّظُم الاشتراكية فيُمكن أن يكون "بطل الإنتاج"[15].

 

2- الإنسان الجسماني أو الجِنسي: "إنسان فرويد" الذي تُحرِّكه دوافعه الجِنسيَّة، و"إنسان بافلوف " الذي تُحرِّكه غُددُه وجهازه العصبي.

 

وهو يُعبِّر عن مبدأ اللَّذَّة، ولا يعرف سوى مُتعته؛ إنسان الاستهلاك والتَّرَف والتبذير؛ إنسان أُحادي البُعْد، خاضِع للحتميات الغريزيَّة، متجرِّد من القِيَم، لا يتجاوَز قوانين الحرَكة.

 

إنَّ الإنسان الطبيعي هو نفْسه الإنسان الاقتصادي، وهو نفْسه الإنسان الجسماني، وقد تختلِف المضامينُ ولكن البنية واحِدة، ولو أنَّنا وضعْنا كلمة "اقتصاد" أو كلمة "جِنس" بدلاً من كلمة "طبيعة"، لظلَّ كلُّ شيء على ما هو عليه، ولما غيَّرنا شيئًا من خِطابنا.

 

وثنائية الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني تُعبِّر عن نفسها مِن خلالِ مرحلتَيْن في تاريخ الاقتصاد العلماني: المرحلة التقشُّفيَّة التراكميَّة، وتَليها المرحلةُ الفِردوسيَّة؛ التي بدأتْ في العالَم الرأسمالي في بداية القرْن العشرين، وبدأتْ في شرق أوربا بعدَ سقوط الاتِّحاد السوفيتي، وبدأتْ في العالَم الثالث بين أعضاء النُّخب الحاكِمة المتغرِّبة، وما يسود الآن في المجتمعات الحديثة هو خليطٌ بين الاثنين.

 

الأخلاق الطبيعية الماديَّة:

المادَّة لا تسبق العقل وحسب؛ وإنما تسبِق كلَّ ما هو إنساني، فهي مثلاً تَسبِق الأخلاق؛ ولذا فإنَّ الأخلاق تُفسَّر تفسيرًا ماديًّا، ووفقًا لقانون طبيعي، فمنطق الحاجة الطبيعيَّة المباشِرة هو الذي يتحكَّم في الأخلاق الإنسانيَّة، تمامًا مثلما تتحكَّم الجاذبية في سقوط التفَّاحة؛ ولذا تُنادي المذاهبُ الأخلاقية المادية بأنَّ الشيء الوحيد الذي يَجدُر بالإنسان أن يسعَى إليه، هو الخيرات المادية التي تجود بها الحياة، وثَمَّة قِيمٌ أخرى في النِّظام المادي، ولكنَّها قِيَم ماديَّة مثل البقاء والنمو والحرَكة.

 

وإذا كانتِ القوَّة هي الآلية التي يتمُّ بها حسمُ الصِّراع في عالَم الطبيعة، فهي تُصبح بالتالي الآلية الأخلاقيَّة المادية الكُبْرى[16].

 

بل إنَّ المشاعرَ الإنسانية الكونيَّة الأوليَّة؛ مِثل مشاعر الأُبوَّة والأُمومة والرغبة في الاطمئنان والاستئناس بالآخَر، ومظاهر النُّبل والخساسة - كلها أمور ماديَّة، والبناء الفوقي الفِكري والعقلي والنفسي؛ يُرَدُّ - في نهاية الأمر - إلى المادَّة، وما لا يُردُّ إلى المادة لا وجودَ له، وقَبول وجوده هو سقوطٌ في الميتافيزيقا والغيبية والجهالة.

 

والشيءُ نفْسُه ينطبق على المعايير الجماليَّة، فالشعور والإحساس بالجَمَال، وكل الأحاسيس الإنسانيَّة، يُمكِن فَهْمها بردِّها إلى المبدأ الطبيعي / المادِّي الواحِد، فهي مجرَّد تعبيرٍ عن شيءٍ مادِّي يُوجَد في الواقِع المادي.

 

الداروينيَّة الاجتماعيَّة:

التمييز بين الداروينيَّة وداروين ضروري، فالأفكار التي صَدَرتْ عن صاحب "أصل الأنواع" تغيَّرتْ هي نفسها بتأثيرِ أعمال مختلِفة لاحِقة[17].

 

"الداروينيَّة" أو "الداروينيَّة الاجتماعيَّة" Darwinism فلسفة علمانية شاملة، عقلانيَّة ماديَّة، تؤكِّد وجود قانون طبيعي واحد؛ يَسري على كلِّ الظواهر.

 

تفكك الإنسان باعتباره جزءًا خاضعًا للطبيعة المادية، ضِمنَ نظام كوني لا مرجعية له خارجَه، وتستبعد الخالقَ من المنظومة المعرفيَّة والأخلاقيَّة، والآليَّة الكُبْرى للحرَكة في الداروينيَّة هي "الصِّراع" و"التَقدُّم اللا نهائي"، وهو صِفة من صِفات الوجود الإنساني، أسَّسها البريطاني هربرت سبنسر (1830 - 1903)،ونقَلَتْ نظرية دارون مِن تطوُّر الكائنات الحيَّة إلى تطوُّرِ الطبقات والمجتمعات - دستورًا غابيًّا للحياة يجعل البقاءَ للأنفع لا الأصلح.

 

وسبنسر يُقرِّر أنَّ التاريخ الإنساني هو صيْرورةُ مِنَ التأقْلُم، من خلالها تتغيَّر الإنسانية بِشَكْلٍ تدريجي، ففِكرة التكوُّن البيولوجي عندَ لامارك كانتْ في أوجها حين كتَب عنها سبنسر، فنَقَلها مِن البيولوجيا إلى عِلم الاجتماع؛ ومن تطوُّر الكائنات إلى تطوُّر الحضارات، دَرس هربرت سبنسر(1830 - 1903) تاريخَ المجتمعات باعتباره تطورًا من المجتمع العسكري إلى المجتمع الصِّناعي، وعندَ ماركس (1818 - 1883م) التاريخ تطوُّر من الشيوعيَّة البدائيَّة إلى الشيوعيَّة المركَّبة؛ عبر حلقات محدَّدة: المجتمع العبودي، فالإقطاعي، فالرأسمالي، فالاشتراكِي.

 

بينما بيَّن أوجست كونت (1798 - 1857)، أن التطوُّر هو تَطوُّر من مجتمَع يستندُ إلى السِّحر؛ إلى مجتمع يستند إلى الدِّين، وصولاً إلى المجتمع الحديثِ الذي يستند إلى العِلم.

 

كان هربت سبنسر هو مَن قال بمصطلح "البقاء للأصلح"، وليس داروين، فرسخ مفهوم الارتقاء والتطوُّر بأبعاد اجتماعيَّة؛ لينتجَ علم الاجتماع الحديث الداروينيَّة الاجتماعيَّة، "فأَلْحَقتْ أفكارُه أضرارًا بالفَهْم الدقيق للنظرية، وكان أكثر الأمور إضرارًا توسيع نِطاق الفِكرة للعلوم الأخرى"[18].

 

يرَى دُعاة الداروينيَّة الاجتماعيَّة أنَّ القوانين التي تَسري على عالَم الطبيعة والغابة، هي نفسها التي تَسري على الظواهِر الإنسانيَّة، التاريخيَّة والاجتماعيَّة، وقد ذهَب داروين إلى أنَّ الكون بأَسْره سلسلة مُتواصِلة، في حالة حرَكة مِن أسفل إلى أعْلى، وأنَّ الإنسان إنْ هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أرْقاها ولكنَّه ليس آخرَها.

 

فذَهَب دُعاةُ الداروينيَّة الاجتماعيَّة إلى أنَّ فرضيةَ داروين نظريةٌ وحقيقة عِلمية، ثم نقلوا هذه الفرضيةَ من عالَم الطبيعة إلى عالَم الإنسان، وقرَّروا أنَّ العَلاقة بين الكائنات الحيَّة في الطبيعة؛ لا تختلف عن العلاقات بيْن الأفراد داخل المجتمعات الإنسانيَّة، ولا عَن العلاقات بين المجتمعات والدُّول.

 

وعلى هذا تَمَّ استخدامُ النموذج الدارويني لا لتفسيرِ الطبيعة / المادة وحسْبُ؛ وإنما لتفسيرِ حياة الإنسان الفَرْد في المجتمعات، وفي تفسيرِ العلاقات بيْن الدول والمجتمعات على المستوى الدَّولي.

 

وقد وُظِّفت الداروينيَّة الاجتماعيَّة في تبرير التفاوت بين الطَّبَقات داخلَ المجتمع الواحد، وفي الدِّفاع عن حقِّ الدولة العلمانية المطلَقة، وفي تبريرِ المشروع الإمبريالي الغربي على صعيدِ العالَم بأَسْره.

 

فالفُقراء في المجتمعات الغربيَّة وشعوب آسيا وإفريقيا (والضعفاء على وجهِ العموم) هم الذين أثبتوا أنَّ مقدرتَهم على البقاء ليستْ مرتفعة؛ ولذا فهم يستحقُّون الفناء، أو على الأقل الخضوع للأثرياء ولشعوبِ أوربا الأقوى والأصلح.

 

والفكر العِرْقي الغربي هو فِكر تطوري؛ إذ يرى أنَّ الإنسانَ الأبيض هو آخِر حلقات التطوُّر وأعلاها، ولذا فَلَه حقوقٌ معيَّنة.

 

وقدْ تبلْوَر الفِكرُ التطوُّري العِرْقي في الأيديولوجيا النازية؛ التي تبنَّتْ تمامًا فِكرةَ وحْدة العلوم، وَطبَّقت القوانين الطبيعيَّة بصرامة على الكافَّة، وحاولتِ الاستفادة مِن قوانين التطور؛ مِن خلال قواعدِ الصحَّة النازية، كإبادةِ المعوقين والمتخلِّفين عقليًّا وأعضاء الأجناس الأُخرى، ومِن خلال محاولات تحسين النَّسْل عن طريقِ التخطيط، وعقْد زِيجات، أو تنظيم علاقات إخصاب تؤدِّي إلى إنجاب أطفال آريِّين أصحاء.

 

"وقدْ حقَّقت الداروينيَّةُ الاجتماعيَّة ذيُوعًا في أواخر القرْن التاسع عشر، وهي الفترة التي تَعثَّر فيها التحديثُ في شرق أوربا، وبدأ فيها بعضُ يهود اليديشية في تبنِّي الحلِّ الصِّهْيوني للمسألة اليهودية، كما بدأ التشكيلُ الإمبريالي الغَرْبي يتَّسع ليقتسمَ العالَم بأَسْره.

 

ويمكن القولُ بأنَّ الداروينيَّة هي النموذج المعرِفي الكامِن وراءَ مُعْظَم الفلسفات العلمانيَّة الشاملة، إنْ لم يكُن كلها"[19]؛ إذ عَدَّتِ الداروينية الحياةَ تطوراتٍ تتسبَّب فيها المادة، أمَّا الحياة النفسيَّة والاجتماعيَّة فانعكاسٌ للظروف المعيشيَّة المادية، فالغاية والأهداف كامِنة في النَّشاط البَشَري المادي[20]، لا عَلاقةَ له بالغيب ولا الدِّين ولا القِيَم الرُّوحية التي يتستَّر بها الضُّعفاء، فالحلُّ البشري لا حاجةَ له بالعون السماوي، فالخَلاصُ كامنٌ فيما يضَعُه البشرُ الأقوياء "السوبرمان"، مِن قوانين وسياسة وأخلاق ونُظم اجتماعية واقتصادية، وذِي هي العلمانية الشامِلة الهادِمة لكلِّ ما يتقارَب مع الدِّين والرُّوح والغيْب.

 

"والفِكْر الصِّهْيوني مثله مثل الفِكْر النازي، ترجمة للرُّؤية الداروينيَّة، فالصهاينة قاموا بغزوِ فِلَسْطين باسمِ حُقوقهم اليهوديَّة المطلَقة التي تَجُبُّ حقوق الآخرين، كما أنَّهم جاؤوا إلى فلسطين ممثِّلين للحضارة الأوربيَّة، يحملون عبءَ الرجل الأبيض، وهم - نظرًا لقوتهم العسكرية - يملكون مقدرةً أعْلى على البقاء؛ أي: إنَّهم جاؤوا من الغَرْب مسلَّحين بمدفعية أيديولوجية وعسكرية داروينيَّة علمانيَّة ثقيلة، وقاموا بتسويةِ الأمور مِن خلال الموقِع "الدارويني النيتشوي"، فذَبَحوا الفلسطينيِّين، وهدموا قُراهم، واستولوا على أراضيهم، وهي أمورٌ شرعية تمامًا مِن منظور دارويني علماني، بل واجِبة، ولعلَّ تَأثُّر معظَم المفكِّرين الصهاينة بنيتشه أمرٌ له دَلالته في هذا المقام[21].

 

ويرى هربرت سبنسر أنَّ "الأديان تخضَع لقانون التطوُّرِ كما تخضَع جميعُ الظواهر الأخرى"، ويأتي بتفسيرٍ خاصٍّ لنشأة الدين يتحدَّث عنه بوترو قائلاً:

".. إنَّ نقطة البداية في الأديان تبعًا للترتيب التاريخي هي الواقعةُ الأولية التي تتعدَّد، فينتج عنها صورٌ مختلفة لا نهايةَ لها، ليستْ شيئًا آخَرَ سوى ما يُسمِّيه سبنسر بالقرين (Double)، فالإنسان يرَى في صفحة الماء صُورتَه أو قرينَه، وكذلك يرى نفسه في الرؤيا كما يرَى فيها صورةَ غيرِه من الناس.. وفى الإنسان نزعةٌ طبيعيَّة تَميل به إلى الاعتقادِ أنَّ القرين لا يتلاشَى، كل ما في الأمر أنَّه ينصرِف، ولعلَّه يظهر مرَّةً أخرى في حُلْم مستقبل، حتى إذا حانتْ منيَّةُ المرء، سهُل عليه الاعتقاد بأنَّ هذه الأنا الغامِضة لا تزال باقية، وأنها تظلُّ كثيرًا وقليلاً شبيهة بنفسه، فهي إذًا تشبه شبهًا بعيدًا أو قريبًا ذلك الكائِنَ المرئي الذي كان قرينَه، ومِن هنا نشأ الاعتقادُ في الأرواح والكائنات الفائِقة على الطبيعة، وفي قوَّتها وتأثيرها في حياةِ الإنسان، وهذا هو الأصل التاريخي للأديان في نظَر هربرت سبنسر، الذي يلتقي فيه الأبيقورية ثُم تفرَّع عن هذا الاعتقادِ المعتقداتُ والطقوس والنُّظُم الكهنوتيَّة[22].

 

ويُمكن تلخيصُ الأطروحات الأساسيَّة في الداروينيَّة الاجتماعيَّة على النحو التالي:

1- كل الأنواع العُضوية ظهرتْ مِن خلال عملية طويلة من التطوُّر، وهي عملية حتميَّة شاملة تشمل كلَّ الكائنات، وكل المجتمعات في المراحِل التاريخيَّة كافَّة.

 

2- العالَم كلُّه في حالة تَطوُّر دائِم، وهذا التطوُّر يتبع نمطًا واضحًا متكرِّرًا، رغم أنَّ التطوُّر قد يكون بطيئًا وغيرَ ملحوظ أحيانًا، وقد يأخُذُ شكلَ طفْرة فجائية واضِحة أحيانًا أخرى.

 

3- تتمُّ عملية التطوُّرِ من خلال صراع دائم بيْن الكائنات والأنواع، فالصِّراع دمويٌّ حتمي، وهو صراعٌ جماعي لا فَرْدي.

 

4- السبب الذي يؤدِّي إلى تَغيُّر الأنواع هو الاختيارُ الطبيعي، الذي يؤثِّر في جماعات الكائنات العضوية، ويترُك عليها آثارًا مختلِفة.

 

5- الكائِن أو النوع الذي ينتصِر على الكائنات والأنواع الأُخرى، ويحقِّق البقاءَ المادي لنفسِه، يثبت بالتالي أنَّه أرْقَى من الأنواع الأخرى؛ إذ حقَّق البقاء على حسابها، فبَقِي هو، بينما كان مصيرُها الفناء.

 

6- تُحقِّق الكائنات البقاءَ: إما مِن خلال التكيُّف (البرجماتي) مع الواقع، فتتلوَّن بألوانه وتخضَع لقوانينه، أو تُحقِّقه مِن خلال القوَّة وتأكيد الإرادة (النيتشوية) على الواقِع، والبقاء مِن نصيب الأصلح القادِر على التكيُّف، والأقوى القادِر على فرْض إرادته، ومِن أشكال التكيُّف: الانتقال مِن التجانس (البسيط) إلى اللا تجانس (المركَّب).

 

7- مهما كانتْ آلية البقاء، لا عَلاقةَ لها بأية قِيَم مطلَقة متجاوزة، مثل الأمانة أو الأخلاق أو الجَمَال، فالبقاءُ هو القِيمة المحوريَّة في المنظومة الداروينيَّة، التي تتجاوز الخيرَ والشرَّ، والحُزْن والفَرَح.

 

8- النَّوْع الذي يَنتصِر يُورث الخصائصَ التي أدَّتْ إلى انتصاره (سر بقائه) إلى بقيةِ أعضاء النَّوْع، بمعنى أنَّ التفوُّق يصبح عنصرًا وراثيًّا.

 

9- هذا يَعني استحالةَ وجود مساواة مبدئيَّة بيْن الأنواع، أو بيْن أعضاء الجِنس البشري.

 

10- مع تزايُدِ معدَّلات التطوُّر، تُصبِح هناك كائناتٌ أكثر رُقيًّا من الكائنات الأخرى بحُكم بِنيتها البيولوجيَّة، ومِن ثَمَّ يصبح للتفاوت الثقافي أساسٌ بيولوجي حتْمي[23].

 

الفلسفات التي تأثرتْ بالداروينيَّة:

عاش ماركس وداروين في لندن في نفس الفتْرة، ولخَّص فريدرك إنجلز التقاطُع الفِكري بين ماركس وداروين بقوله: اكتشَف داروين قوانين التطور العضوي للطبيعة، واكتشف ماركس قوانين التطوُّر التاريخي للبشريَّة.

 

وربط فرويد نظرياته في التحليل النَّفْسي بنظرية داروين في التطوُّر بأنَّهما جَرحتَا كبرياء الإنسان، ففرويد عالجَه مِن منطلَق البهيميَّة فيه، التي هي أصْله عندَ داروين.

 

قال جاك لاكان: "إنَّ ماركس وفرويد فسَّرَا أهمَّ عمليتَيْن في المجتمع الإنساني، وهما الإنتاج والتكاثُر".

 

فماركس قدَّم "الإنسان الاقتصادي" الذي تُحرِّكه وسائل الإنتاج، وفرويد قدَّم "الإنسان الجسماني" الذي يُحرِّكه اللبيدو (الشهوة الجِنسيَّة)، أما داروين فقدم الأصل "الإنسان البهيمي" الذي أفرزتْه الطبيعةُ مِن خلية بماءٍ آسِن، إلى بهيمة إلى نوْع أرْقَى، وهو خاضِع دائمًا لانتخابِ الطبيعة وتَطْويرها له.


كانتْ نظريةُ داروين إيذانًا وتمهيدًا لميلادِ نظرية فرويد في التحليل النفْسي، وميلاد نظريَّة برجسون في الرُّوحيَّة الحديثة، وميلاد نظرية سارتر في الوجوديَّة، وميلاد نظريَّة ماركس في الماديَّة التاريخيَّة.

 

سيتلو داروين مصطلحات الحتميَّة التاريخيَّة، والمركزيَّة الأوربيَّة، والتفوُّق العِرقي، والتطور والتقدم والنسبية الأخلاقية والنفعية، والتحديث والحَدَاثة، وكلها تتوكَّأ على نظرية "النشوء والارتقاء"، إمَّا تصريحًا، أو تلميحًا، أو لزامًا.

 

• الماركسية (علم الاقتصاد): هي مذهبٌ فِكري مادي يقوم على الإِلحاد، واعتبار المادَّة هي أساس كلِّ شيء، يُفسِّر التاريخ بصِراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي، ظهَر في ألمانيا على يدِ كارل ماركس (1818 - 1883م) وفردريك إنجلز (1820 - 1895م)، وتجسَّد المذهب في الثورة البلشفية التي ظهرتْ في روسيا سنة 1917م، وتوسَّعَتْ على حساب غيرِها بالحديد والنار، وتعرَّضتْ شعوبٌ للاستئصال والانقراضِ؛ بسبب هذه الدعوة[24].

 

فسَّر ماركس تاريخَ البشرية بالصِّراع بين البورجوازية: طبقة كِبار التجَّار ورِجال الأعمال، والبروليتاريا: طبقة العمَّال، ويَنتهي هذا الصِّراع ببقاء البروليتاريا، وكل تغيير في العالَم نتيجة حتمية لتغيُّر وسائل الإِنتاج، والفِكْر والحضارة والثقافة هي وليدةُ التطور الاقتصادي، والأخلاق نسبيَّة نتيجة لانعكاس آلةِ الإِنتاج، فالعوامل الاقتصاديَّة هي المحرِّك الأوَّل لسلوكِ الأفراد والجَماعات.

 

فالمجتمع البشَري عندَ ماركس يتطوَّر اعتمادًا على الناتِج البشري، ويستحيل إدراك البنيات والتشكيلاتِ الاجتماعيَّة بعيدًا عن المنطِق المادي الصارِم، فالإنسان لا يختلف عن الحيوانات مِن حيثُ النوعُ، بل من حيثُ الدرجة[25].

 

فالتاريخ تطوَّر من الشيوعيَّة البدائية إلى الشيوعيَّة المركَّبَة عبْرَ حلقات محدَّدة: المجتمع الدِّيني، فالإقطاعي، فالرأسمالي، فالاشتراكي.

استمدَّ ماركس مِن نظرية داروين ماديةَ الإِنسان، وجعَل مطلبَه في الحياة ينحصر في الحصول على "الغذاء والسَّكَن والجِنس"، مهملاً بذلك جميعَ العوامل الرُّوحيَّة لديه، وقد تبدَّت هذه المنظومةُ الداروينيَّة بشكل واضِح في الرؤية المعرفيَّة العلمانية الإمبريالية، من إنكار قِيمة أيِّ شيء أو أيَّة مرجعية متجاوِزة، إلى تأكيدِ ضرورة التنافُس والصِّراع، والإصرار على حريَّة السُّوق وآلياته، وعدم تَدخُّل الدولة؛ بحيث يهلك الضعفاء، ولا يَبْقَى سوى الأقوياء.

 

والإمبريالية هي تدويلٌ للرؤية الداروينيَّة، حيث أصبح العالَم كلُّه سوقًا، ومسرحًا لنشاطِ الإنسان الأبيض المتفوِّق، الذي أباح لنفسه قتلَ الآخر ضمانًا لبقائه، وتأكيدًا لقُوته.

 

وقد أسهمتِ الداروينيَّةُ أيضًا في تزويد النظريات العرْقية الغربيَّة، والتجارِب الخاصَّة بتحسين الأجناس والنَّسْل، والقتْل الرحيم على أساسٍ عِلمي[26].

 

تأثَّرتِ الماركسية بجُملةٍ مِن الأفكار والنظريات الإلحادية منها:

• مدرسة هيجل العقلية المثاليَّة.

• مدرسة كونت الحِسيَّة الوضعية.

• مدرسة فيورباخ في الفلسفة الإِنسانيَّة الطبيعيَّة.

• مدرسة باكونين صاحِب المذهب الفَوْضوي المتخبِّط[27].

 

• الفرويدية (علم النفس): سيجموند فرويد (1856 - 1939) Sigmund Freud مُفكِّر من أعضاء الجماعة اليهوديَّة في النمسا، ومؤسِّس مدرسة التحليل النَّفْسي، يُعَدُّ من أهمِّ المفكِّرين الغربيِّين، لا يضارعه في مكانته - في رأي البعض - سوى كارل ماركس، قال جاك لاكان: إنَّ ماركس وفرويد فسَّرَا أهمَّ عمليتين في المجتمع الإنساني، وهما الإنتاج والتكاثُر، الإنسان الاقتصادي الذي تحرِّكه وسائلُ الإنتاج، والإنسان الجسماني الذي يُحرِّكه اللبيدو (الشهوة الجِنسيَّة)، وقد أثَّر التحليل النفسي في معظمِ المدارس والاتِّجاهات الفِكرية الغربية الحديثة، حتى إنَّ كثيرًا مِن أفكار فرويد أصبحتْ بُعدًا أساسيًّا في الخِطاب الحضاري الغرْبي الحديثة، ولعلَّ النَّسَق الفرويدي من أهمِّ الأنساق المعرفية؛ التي وضعَتْ أساس "النسبية الأخلاقية"، التي أصبحتْ سِمةً أساسية في رُؤية الإنسان الغربي للكون[28].

 

يَنطلق فرويد في كتابِه "الطوطم والمحرَّم"؛ من الافتراض الذي قال به داروين؛ بأنَّ الكائناتِ البشريةَ الأولى كان لها نمطٌ من الحياة شبيهٌ بنمط الحياة عندَ القرود العليا؛ أي: إنَّها تكون جماعات صغيرة يتألَّف كلٌّ منها من ذَكَر قوي ومستبد، ومِن بعض الإناث اللواتي يمارس عليهنَّ الذكر سيطرتَه الحصريَّة[29].

 

فاستمدَّ فرويد من نظرية داروين بهيميَّة الإنسان، وكوَّن منها مدرستَه في التحليل النفسي، وقد فسَّر السلوك الإِنساني معتمدًا على الدافِع الجِنسي كدافِع وحيد في ذلك، فالإِنسان عندَه "حيوان جِنسي" لا يَملِك إلاَّ الانصياع لأوامر الغريزة، وإلاَّ وقَع فريسةَ الكبْتِ المدمِّر للأعصاب.

 

والتطوُّر في البِنية الاجتماعيَّة عندَ فرويد أصبح مُفسِّرًا للدِّين تفسيرًا جنسيًّا: "الدين هو الشعور بالندمِ مِن قتْل الأولاد لأبيهم، الذي حرَمَهم مِن الاستمتاع بأمِّهم، ثم صار عبادةً للأب، ثم عبادة للطوطم، ثم عبادة القُوى الخفيَّة في صورة الدِّين السماوي، وكل الأدوار تنبُع وترتكز على عقدة أوديب[30]"، وتطوَّرتْ فكرة الأُلوهية لديه على النحو التالي:

1- كان الأبُ هو السيِّد الذي يملِك كلَّ الإناث في القبيلة ويحرمها على ذكورها.

2- قام الأبناءُ بقَتْل الأب، ثم التهموا جزءًا نيئًا مِن لحمه للتوحُّدِ معه؛ لأنَّهم يحبونه.

3- صار هذا الأبُ موضعَ تبجيل وتقدير باعتباره أباهم أصلاً.

4- ومِن ثَمَّ اختاروا حيوانًا مرهوبًا لينقُلوا إليه هذا التبجيل، فكان الحيوان هو الطوطم.

5- الطوطميَّة أول صورةٍ للدِّين في التاريخ البشري.

6- كانتِ الخُطوة الأولى بعدَ ذلك هي التطوُّر نحوَ الإله الفرْد، فتطوَّرت معها فكرةُ الموت، الذي صار بهذا الاعتبار خُطوةً إلى حياة أخرى، يلقى الإنسانُ فيها جزاءَ ما قدَّم.

7- الله - إذًا - هو بديل الأب، أو بعبارة أصح هو أبٌ عظيم، أو هو صورة الأب كما عرَفَها المرءُ في طفولته[31].


نخلُص مِن هذا إلى أنَّ العقائد الدينية - في نظره - أوهامٌ لا دليلَ عليها، فبعضها بعيدٌ عن الاحتمال ولا يتَّفق مع حقائقِ الحياة، وهي تقارن بالهذيان، ومُعظَمها لا يمكن التحقُّق مِن صحَّته، ولا بدَّ مِن مجيء اليوم الذي يُصغي فيه الإنسانُ لصوت العقل.

 

وهنا علاقةٌ بالتطوُّر والصِّراع الدارويني؛ إذ عمليةُ تكوين الصور النهائية عن الإله بدأتْ بالصِّراع، ودوافِعُ الصراع كانتْ بهيميَّة، فنِكاح الأمِّ لم يعلمْ في أيِّ عِرق أو زمن بيْن البشَر، غير أنَّه قائم بين البهائم، فالصورةُ التي حكَاها فرويد ليشرحَ بها تطوُّرَ مفهوم الألوهية لا يعلم مَن قام بها، ولك السؤال: أيُعقل أن تُبنَى نظريات علمية على تخريف، بل على" خمن أنَّه، ويحتمل كذا.."؟! ليس ذا بغريبٍ فنظرية داروين نفسها قائمة على نفس المنهج، بل تفسير داروين للكائن الأوَّل الخلية كان بوضعِ فرضية؛ بقوله: خمِّن!

 

فرويد نقَل الصورةَ التي يلاحظها بين البهائم، وجعلَها فرضية، لكن قبل تطوُّر الإنسان وارتقائه الفِكري، وإنْ ثبَت بالأدلَّة العلمية البيولوجيَّة الداروينيَّة أنَّ هذا البشَر الإنسان كان سلَفًا قِردًا، فمن المنطق الدارويني أنَّ خلال مراحل تطوره وارتقائه البطيء مِن البهيمة إلى الإنسان، صحِب معه سلوكياتِ أصلِه البهيمي، كنِكاح الأمَّهات، وهو يَتكلَّم عن ذلك التخريف، وكأنَّه يَروي حقائق قائمة بذاتها لا نَقيضَ لها، ثم ينتقل بناءً على ما بيَّن مِن أصل القضية المختلقة، إلى الغاية وهي ردْم الدِّين، ولكأنه بنَى على جُرُف هار؛ فانهار به وبما بنَى.

 

ممَّا ساعد على انتشار أفكاره ما يلي:

1- الفِكر الدارويني الذي أرْجع الإنسانَ إلى أصول حيوانيَّة ماديَّة.

2- الاتِّجاه الطبيعي المادي الذي سادَ أوروبا حينذاك.

3- الفِكر العلماني الذي صبَغ الحياة بثورته ضدَّ الكنيسة أولاً وضدَّ المفاهيم الدينيَّة ثانيًا.

 

مِن أكبر الآثار المدمِّرة لآراء فرويد: أنَّ الإنسان حين كان يقَع في الإثم كان يَشعُر بالذنب وتأنيب الضمير، فجاء فرويد ليريحَه مِن ذلك، ويوهمه بأنَّه يقوم بعمل طبيعي لا غُبارَ عليه، وبالتالي فهو ليس بحاجةٍ إلى توبة، وبذلك أضْفَى على الفساد صِفَةَ الأخلاقية.

 

و"أقام آراءَه على الإلحاد بإنكار الخالِق والدِّين والأخلاق، واعتبار الإنسان كائنًا ماديًّا، ناتجًا عن تطوُّر المادة تطورًا ذاتيًّا، فهو غير مُكلَّف مِن قوى غيبية بمسؤوليَّة"[32].


• الدوركامية (علم الاجتماع): إميل دوركايم (1858 - 1917)Emile Durkheim، أوَّل عالِم اجتماع فَرَنسي أكاديمي، تأثَّر بهربرت سبنسر في الرؤية التطوريَّة للمجتمع، ووليام سميث في أهميَّة الطقوس في الدِّين.

 

الإنسان حسبَ تصوُّرِ دوركايم حيوان لا يَشْبَع، على عكس الحيوانات الأخرى، وكلَّما ازداد ما يحصُل عليه يزداد نهمُه؛ ولذا فلا بدَّ أن تُوضَع رغباتُه الفردية داخلَ حدود خارجيَّة جماعيَّة، فاستمدَّ دوركايم مِن نظرية داروين سلالةَ العقد الحيواني للإِنسان، وجمَع بينهما بنظرية "العقل الجمعي"، فقرَّر أنَّ المجتمع يتطوَّر من "التضامن الميكانيكي" إلى "التضامن العضوي".

 

فالقطعان الحيوانيَّة ذات الطابع الجَماعي؛ كالأغنامِ والذِّئاب، والنَّحْل والنَّمْل، لا تنشأ فيها الفرديةُ إلا في الإطار الجماعي العام؛ أي: إنَّ لها قانونًا جماعيًّا يحكم الكل، ويَفرِض على الجميع، يلتزم به الأفرادُ بطريقة آلية دون مصادَمَة له، الصورة نفسها ترْقَى للإنسان الفرْد - القرْد سلفًا - وسط المجتمع الجماعة، وهنا دوركايم لم يُهاجمِ الدِّين كمركب للهُويَّة الجماعية، لكنَّه حوَّله إلى ناتج بشري؛ أي: قطع أسباب السماء، وجعَل القَدَاسة التي تَفرِضها التجمُّعات هي التي تلزم الأفراد بالشرائع، والهالة اللا دينيَّة السماوية إنما هي رُوح الجماعة، التي تحاول رفْع الأعراف نحوَ العِصمة الكامنة فيما علا الأرْض، وما يعلو الفرْد هو المجتمع.

 

هنا يُنشئ دوركايم "دينًا بدون إله"، أو "لاهوتًا بدون إله"، وهو لاهوتُ موت الإله، وذا قَبل أن تُطبَّق على الإنسان الغربي رؤيته التشاؤمية بشأنِ العدمية الكامنة في مِثل هذه الرؤية.

 

ففِكرةُ الإله مجرَّد إعلاء لفِكرة المجتمع؛ أي: إنَّ فكرة المقدَّس والمدنَّس ضمن النَّسق الاجتماعي، هي صناعةُ المجتمع لضبط العَلاقات العامَّة والخاصَّة، والممارسات الدِّينيَّة التقليديَّة؛ إنَّما تُشير أو ترمُز إلى المجتمع، فالمصدر الرئيس لتكوُّنِ الدين هو المجتمع لا الفرد؛ أي: إنَّ مقتضى تكتُّل الأفراد ضمنَ مساحة مكانية في مدَّة زمنيَّة، هو نشوء ممارسات جماعيَّة تُوحِي بها رُوح المجتمع والتجمُّع، ثم تفرِضها بالعقل الجَمْعي للمجتمع على العقل الفرْدي للإنسان، وتتمثَّل وظيفةُ الدِّين الرئيسيَّة في تحقيقِ التضامُن الاجتماعي وتدعيمه والمحافَظة عليه.

 

"هذا هو موقِف دوركايم من الدِّين وتعريفه له، ومِن الواضح أنَّه حرَّر المطلَق من فِكرة الإله، وربَطَها بشيءٍ آخر مادي تاريخي متعيِّن قابلٍ للرصد هو المجتمع"[33].

 

• الوضعية (علم الأخلاق): استفاد برتراند راسل (1872 - 1970) مِن ذلك بتفسيره لتطوُّر الأخلاق، الذي تَطوَّر عنده من المحرم (التابو)، إلى أخلاقِ الطاعة الإِلهيَّة، ومِن ثَمَّ إلى أخلاقِ المجتمع العِلمي.


يقول برتراند راسل: "ليس ثَمَّة كمال ثابِت، ولا حِكمة لا تقوم بعدَها أخرى، وأي اعتقاد نعتقدُه؛ ليس بباقٍ مدَى الدَّهْر، ولو تخيلْنَا أنَّه يحتوي على الحقِّ الأبدي فإنَّ المستقبل كفيلٌ بأن يضحَك منَّا".

 

الإنسان شأنُه شأن الأميبا (حيوان أُحادي الخلية)، لا يتمتَّع بأية حُريَّة ولا يحمل أيَّة أعباء أخلاقية، فالقوانين الأخلاقيَّة هي مجرَّد تَطوُّر لأشكال مِن السلوك الحيواني الأقل تطورًا، "وهذا يعني أنَّ القانون الأخلاقي، وكل القوانين، هي مؤقَّتة نِسبيَّة، ترتبط بحلقة التطوُّر التي أفرزتْها، ولذا يتمُّ الاحتفاظ بالقوانين طالَمَا أنها تخدم المرحلة، ومِن ثَمَّ فإنَّ الأخلاق المطلَقة تقِف ضدَّ التقدُّم العقلاني المادي، وخصوصًا إذا كانتْ أخلاقًا دِينيَّة، تدعو إلى حمايةِ الأضعف والأقل مَقدرةً، ثم إلى الإشفاق عليه والعناية به.

 

وهذا يعني أنَّ كلَّ الأمور نسبيَّة تمامًا، ولا توجد أيةُ مطلقات، ولذا يمكن القولُ بأنَّ النظَريَّة الداروينيَّة هي الأساس العِلمي للفِكْر النسبي، وإذا كان التطوُّرُ يتم أحيانًا عن طريقِ الصُّدفة، وتُحدِّده الحوادث العارضة، فيمكن القول بأنَّ النظرية الداروينيَّة هي أيضًا أساس الفِكر العبثي"[34].

 

ويَنطبِقُ الشيء نفسُه على نظرية الأخلاق، فالبقاءُ هو القِيمة الوحيدة، والصِّراع هو الآلية، فمصدر الحرَكة الحضاري هو التمركُزُ على الذات البشريَّة، الفرد ضد الآخَر، والمجتمعات ضد الأخرى، فالأُمم لا بدَّ مِن أن تصارع غيرَها؛ كيما يحصلَ انتقاءٌ للنوع الأرْقَى، ليكون الأحقَّ بالبقاء؛ لأنَّ الطبيعة لا تحتمل الكثافةَ السُّكَّانيَّة العالية، وتُحتِّم خفضَ النسبة البشرية.

 

ومقتضَى هذا هو الوصول لغاية البقاءِ بتبرير وسيلةِ التطهير، فلا يوجد مُطلق مقدَّس لأيِّ شيء، وما يرمز الفكرة بالقيمة؛ هو ما يُمَكِّن من البقاء والارتقاء، ضمنَ التغيُّر والتطور الحتمي في الحرَكة الطبيعيَّة، فتكون الأخلاق الثابتة عائقًا وكابحًا للحرَكة المادية الطبيعيَّة، فالتنوُّع الواقِع في واقِع الأُمم، والاختلاف الثابِت في أخلاق المجتمعات البائِدة والسائِدة دليلٌ على أنَّ لكلِّ تجمُّع ما يُناسِب نسقَه الحضاريَّ الدافِع لتطوُّره التصاعُديِّ.

 

• السريالية العبثية: العبثيَّة مدرسةٌ أدبيَّة فكريَّة، تدَّعي أنَّ الإنسان ضائع لم يعُدْ لسلوكه معنًى في الحياة المعاصِرة، ولم يعدْ لأفكاره مضمون، وإنَّما هو يجترُّ أفكاره؛ لأنَّه فقَدَ القدرة على رؤية الأشياء بحجمها الطبيعي؛ نتيجةً للرغبة في سيطرة الآلة على الحياة؛ لتكونَ في خدمة الإنسان، حيث انقلَب الأمر فأصبح الإنسان في خِدمة الآلة، وتحوَّل الناس إلى تروسٍ في هذه الآلة الاجتماعيَّة الكبيرة.

 

جاءتْ مَدْرسة العَبَث كمرآة تعكِس وتُكبِّر ما يُعاني منه إنسان النِّصف الثاني مِن القرن العشرين، عن طريقِ تجسيده في أعمالٍ مسرحيَّة ورِوايات شِعريَّة، لعلَّه ينجح في التخلُّص مِن هذا الانفلات في حياته، ويفتَح الطريقَ أمامَ ثورة هائِلة في الإمكانيات، ومِن التجديد في وسائلِ التعبير، فيتولَّد لديه الانسجامُ والفَهْم لِمَا يحدُث[35].

 

فعند المدرسة العبثية لم يَعُدْ هنالك جدوى من البحْث في الغاية والهدَف من وجود الإِنسان؛ لأنَّ داروين قد جعَل بين الإِنسان والقرد نَسَبًا، بل زعم أن الجدَّ الحقيقي للإِنسان هو خليةٌ صغيرة عاشَتْ في مستنقع راكد قبل ملايين السِّنين، فأهملت العلوم الغربية بجُملتها فكرة "الغائية"، بحُجَّة أنَّها لا تهمُّ الباحث العلمي، ولا تقَع في دائرة عَمله.

 

وإذا كان الأمرُ كذلك، فإنَّ أفضل طريقة لتفسير سلوكِ الإنسان ووجوده لا يُمكِن أن تتمَّ إلا مِن خلالِ النماذج الطبيعيَّة الماديَّة، ومِن هنا "حتمية وحدة العلوم".

 

• الوجودية: الوجودية اتِّجاه فَلْسَفيٌّ يغلو في قِيمة الإنسان، ويُبالِغ في التأكيد على تفرُّده، وأنَّه صاحبُ تفكير وحريَّة وإرادة واختيار، ولا يحتاج إلى مُوجِّه، وهي فلسفة عن الذات أكثر منها فلسفة عن الموضوع، وتُعتبر جملةً من الاتجاهات والأفكار المتباينة التي تتعلَّق بالحياة والموت والمعاناة والألَم، وليستْ نظريةً فلسفيةً واضحة المعالِم؛ ونظرًا لهذا الاضطراب والتذبذب لم تستطعْ إلى الآن أن تأخُذَ مكانها بيْن العقائد والأفكار.[36]

 

وهي تَمْسَخ الوجودَ الإنساني، وتُلغِي رصيدَ الإنسانية من الأديان وقِيَمها الأخلاقية.

 

يُعدُّ سورين كيركجورد 1813 - 1855م مؤسسَ المدرسة الوجودية، ومن مؤلفاته: "رهبة واضطراب".

 

ومِن رُوَّادها جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي (1905م)، وهو ملحِدٌ يناصر الصِّهْيونية، له عدَّة كتب ورِوايات منها: الوجوديَّة مذهبٌ إنساني، الوجود والعدم، الغثيان، الذباب، الباب المغلَق.

 

في الفلسفة الوجوديَّة الإنسان أُلْقِي به في هذا العالَم، وسطَ مخاطر تؤدِّي به إلى الفناء، وهو أقدمُ شيء في الوجود، وما قبله كان عدمًا، ووجودُه سابقٌ لماهيته.

 

فكان العالَم كله خاضعًا له وهو مركزه؛ لذا يجبُ إعادةُ الاعتبار الكلي للإنسان ومراعاةُ تفكيره الشخصي وحريَّته وغرائزه ومشاعره.

 

فالقِيَم والأخلاق نسبيَّة غير مطلَقة ولا ثابتة، وحريَّة الفرْد "الإنسان" تعلو على الأفراد "المجتمع"، فلا صلاحيةَ لجِهة لفَرْض قوانين أو قِيَم أو المعاقبة على سلوكيات الإنسان الحُرِّ.

 

فالحقُّ هو ما كان مِن الداخل دون مؤثِّر خارجي؛ إذ مشاكلُ كل فرْد حلولها كامنة به؛ لذا عليه أن يُجيبَ ما بداخله بلا حدودٍ أو قيود.

 

أدَّى فِكرُهم إلى شيوع الفوْضَى الأخلاقية، والإباحية الجِنسيَّة، والتحلُّل والفساد، والانطوائية الاجتماعيَّة، والانهزامية في مواجهة المشكلات المتنوِّعة، وانتشرتْ أفكارهم المنحرفة المتحلِّلة بين المراهقين والمراهقات في فرنسا وألمانيا، والسويد والنمسا، وإنجلترا وأمريكا، وغيرها، حيث أدَّتْ إلى الفوضى واللا مبالاة بالأعراف الاجتماعيَّة والأديان.

 

تأثَّرتِ الوجودية بالداروينيَّة في إطلاق العنان للغرائز، وجعلها هي الباعِث للحريَّة المطلَقة للفرْد الإنسان؛ ولأنَّ هذا الإنسان وُجِد دون قوى خارجية "الطفرة الداروينيَّة"، فلا قوى فوق الطبيعة تُسيِّره، ولا صلاحية للدِّين اللاهوتي عليه، كما لم تكُنْ هنالك صلاحية على أسلافه "القِرَدة"، فلا نسب يفتخر به ولا نَسْل يفخر به؛ إذ ما سيتلوه سيكون أكثرَ تطوُّرًا وتعقيدًا منه، فالتطوُّر البيولوجي والاجتماعي والأخلاقي والدِّيني حتميةٌ تاريخيَّة؛ لذا على الإنسان أن يعيشَ لحظتَه كما يشاء هو لا غيرُه!



[1] "موسوعة اليهود واليهودية والصِّهْيونيَّة"، عبدالوهاب المسيري، (4/490).

[2] "أصل الإنسان بين العلم والكتب السماوية"، موريس بوكاي، (ص: 25).

[3] "قصة الحضارة"، ول ديو رانت، (42/283).

[4] "الجينية" (1/ 9).

[5] "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" عبدالوهاب المسيري، (2 / 72).

[6] راجع: - "هدم نظرية التطور في عشرين سؤالاً" يحيى هارون.

- "الإنسان مخلوق لا مصادفة" باول لوث.

[7] "مصرع الداروينية"، محمد علي يوسف، (58).

[8] "عالم صوفيا؛ رواية عن تاريخ الفلسفة" يوستن جاردر؛ تر: أحمد لطفي. دار يعرب: دمشق. ط2، 2000، (ص: 531).

[9] "مصرع الداروينية"، محمد علي يوسف، (ص: 71).

[10] "موسوعة اليهود واليهودية والصِّهْيَونية"، عبدالوهاب المسيري، (1/ 133).

[11] "موقف العقل والعلم والعالم"، مصطفى صبري، (ص: 77).

[12] "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، عبدالوهاب المسيري (1/ 134).

[13] "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، عبدالوهاب المسيري، (1/136).

[14] "موسوعة اليهود واليهودية والصِّهْيونية"، عبد الوهاب المسيري، ( 2 / 77).

[15] "موسوعة اليهود واليهودية والصِّهْيونيَّة"، عبدالوهاب المسيري، (1/ 244).

[16] "موسوعة اليهود واليهودية والصِّهْيونية"، عبدالوهاب المسيري، (1/ 137).

[17] "الداروينية اليوم" ف شايفيل؛ ب غراسيه، وآخرون، (ص: 27).

[18] "الخَلْق بين العنكبوتيَّة الداروينيَّة والحقيقة القُرآنيَّة"، كريم حسين، (ص: 112).

[19] "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، عبدالوهاب المسيري، (2/ 71).

[20] "القرآن ومذهب داروين"، بكير بن سعيد أغوشت، (ص: 41).

[21] "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، عبدالوهاب المسيري، (2/132).

[22] "العلمانيَّة .. نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلاميَّة المعاصرة"، (1/330).

[23] "موسوعة اليهود واليهودية والصِّهْيونية"، عبدالوهاب المسيري، (2 / 73).

[24] "الشيوعيَّة" (1/ 1).

[25] "القرآن ومذهب داروين" بكير بن سعيد، (ص: 42).

[26] "موسوعة اليهود واليهودية والصِّهْيونية"، عبدالوهاب المسيري، (2 /79).

[27] "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة" (2 /141).

[28] يشير تعبير "التحليل النفسي" إلى أمور ثلاثة مجتمعة، طريقة التحليل النفسي في الاستقصاء، وإلى تقنيته في العلاج، وإلى النظريات التي نشأتْ بالاتِّصال الوثيق معهما، وعُرِفت فيما بعدُ بالفرويدية.

- "نظريات في علم النفس"، كمال بكداش، (ص: 5).

[29] "نظريات في علم النفس" (ص: 44).

[30] عُقدة أوديب مأخوذة من أسطورة أوديب، الذي قتَل أباه وتزوَّج من زوجته "زوجة أبيه"، ليكتشفَ بعدها أنَّ زوجته هي أمُّه، فسمل عينيه ندمًا على فِعلته، ومِن خرافة بني فرويد ما يُسمِّيه نظرية عِلمية، وذا غالبٌ عليه وأمثاله.

[31] "الموسوعة الميسَّرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة"، ( 2/71).

[32] "كواشف زيوف في المذاهب الفِكرية المعاصرة"، عبدالرحمن حبنكة الميداني، (2/297).

[33] "موسوعة اليهود واليهودية والصِّهْيونية"، عبدالوهاب المسيري، (8/234).

[34] "موسوعة اليهود واليهودية والصِّهْيونية"، عبدالوهاب المسيري، (2/ 76).

[35] "الموسوعة الميسَّرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة"، (2/123).

[36] "الموسوعة الميسَّرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة"، (2/63).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الشرك الدارويني
  • علم الاجتماع: قرن كامل من الفشل فى مصر والعالم العربى
  • العلوم الاجتماعية والدين تعايش أم تصادم
  • علم الاجتماع أقصر الطرق إلى الإلحاد (1)
  • علم الاجتماع أقصر الطرق إلى الإلحاد (2)
  • الدارونية الحديثة خطر
  • الداروينية .. إعادة المحاكمة
  • الداروينية والتنين المجنح ( اختبار قابلية نظرية التطور للتخطئة )
  • ليس الإنسان مفصلا على طراز داروين

مختارات من الشبكة

  • جيري بيرغمان: الداروينية أكثر خطورة على الإنسانية من النازية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • البلاغة وتحليل الخطاب - دراسة في تغير النسق المعرفي(مقالة - الإصدارات والمسابقات)
  • شرح عطف النسق(مقالة - حضارة الكلمة)
  • النص بين النسق والسياق (كتاب الكتاب في تعلم العربية - الجزء الثاني أنموذجا)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الصورة وجمالية النسق في توقيعات نعيمة خليفي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • النظام الصائتي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • العلماني(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الدستور الإنساني والتيه العلماني في إشارات من القرآن الكريم (عرض تقديمي)(كتاب - موقع د. حسني حمدان الدسوقي حمامة)
  • الخطاب العلماني وحديث التجديد(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • فرية "قبول الآخر" في الخطاب العلماني(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب