• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / روافد / موضوعات طبية وعلمية
علامة باركود

نحن والاضطرابات النفسية والعقلية

د. عبدالستار إبراهيم

المصدر: كتاب:"العلاج النفسي الحديث"
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 13/12/2007 ميلادي - 3/12/1428 هجري

الزيارات: 52775

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

نحن والاضطرابات النفسية والعقلية

سأحاول في هذا الفصل أن أُقَدِّم للقارئ عرضًا لبعض المفاهيم الرئيسة التي سيصادفها في ثنايا الفصول القادمة، فهذا الكتاب – فيما أوضحنا - يَهْدُف أساسًا إلى إعطاء وجهة نظر علمية مُتماسكة عن عدد من الأساليب الحديثة في العلاج النفسي، فموضوعه أساسًا هو السلوك الإنساني الشاذّ أو المضطرب، ومن المفيد – لهذا السبب – أن نتفق على فهم جوانبَ معينةٍ في هذا الموضوع: فما هو السلوك الشاذّ، أو المضطرب؟ وكيف يتحول الناس إلى مضطربين عقليًّا؟ وما هي العوامل النفسية المتدخلة في ذلك؟ وهل تزداد النسبة المئوية لحالات الاضطراب العقلي والنفسي؟ وكيف يمكن العلاج؟
هناك في الحقيقة خلاف كبير حول طبيعة السلوك الشاذّ، يعترِف واحد من أئمة علم النفس الحديث بأنَّ البدء في تعريف السلوك الشاذّ ربَّما يكون بداية خاطئة "فالعلم لا يَنجَحُ دائمًا في إعطاء تعريفاتٍ معقولةٍ عنِ الظواهر الطبيعية، حتى يصل إلى درجة معقولة من الفهم المتقدِّم لأسبابها، فالأسهل هو أن نصف وأن نتعرف على فِيل مثلاً من أن نعرِّفه"[1] ولهذا فما سنقدمه هنا، يعتبر وصفًا للسلوك الشاذ، وليس تعريفًا بالمعنى الدقيق.

هناك مدخلان أو طريقان يمكن من خلالهما التعرف على الأشياء بشكل عامٍّ:
الطريق الأول: هو الذي يصف الأشياء من خلال أضدادها، فنحن نعرف الأبيض؛ لأنه غير الأسود[2]. ونصف الرجل بأنه ليس طفلاً، وبهذا المعنى يكون السلوك الشاذّ: ما هو ليس بسليم أو بسَوِيٍّ، ونحتاج هنا أيضًا لأن نتفق على أوصاف محددة لما نعتبره سليمًا وصحيحًا في الحياة.
أما الطريق الآخر: فهو تعريف الأشياء بالنظر إليها من الداخل، من خلال وصف متعلقاتها الأساسية، فنحن لا نكتفي بأن نصف الرجل بأنه ليس طفلاً (كما في المدخل الأول)؛ بل علينا أن نصف ما يتعلق بسُلوك الرجل من نُضوج انفعاليٍّ، وقدرة على استخدام اللغة، والاستقلال والقدرة على الضبط الحركيِّ والمشي، إلى غير ذلك، وفي هذه الحالة يجب التعرُّف على السلوك الشاذّ من خلال وصف أنواع معيَّنَةٍ منَ السُّلوك "تكون غالبية الناس مُستعدة للموافقة على أنها سُلوك مضطرب أو شاذّ". والآن إلى مَزِيد من التفصيل عن كل طريقة من طُرق التعرف على الاضطراب النفسيّ.

ونعتبر البدء بوصف السلوك السليم أو العادي مَدْخلاً طيبًا لفهم السلوك الشاذّ، بالرغم من صعوبته، فما مِن مفهوم يتحيَّر علماء النفس العلاجيّ في تعريفه؛ كمثل مفهوم السواء؛ ربما لأن كثيرًا من علماء هذا الفرع يتعاملون أساسًا مع اضطرابات ومشكلات؛ لهذا فهم يعتقدون بأن من واجبهم - أولاً - تقديمَ إجابة شافية "وبالتالي علاجًا" للمشكلات الرئيسة، والاضطرابات التي تواجه عملائهم، والناس لا يذهبون للمُعالجين النفسيين؛ لأنهم أسْوِياء أو عاديين؛ بل لأنهم يحتاجون أساسًا لخدمة الخبير النفسي، وإرشاده في مشكلات: كالقلق، والأرق، والعجز عن الفاعلية الاجتماعية، والشقاء، وغيرها، ومع ذلك فبِدُونِ وجود تَصَوُّر للسلوك الناجح، أو السَّوِيِّ، أو الصحيّ، قد لا ينجح المُعالِج أن يَهْدِي مَن يستشيرونه للطريق الصواب، فما هو السلوك العادي أو السليم؟

ليس ثَمَّةَ اتفاقٌ في الحقيقة بين الدارسين والمعالجين المختلفين حول قائمة الصفات التي تستتبعها عملية الصحة النفسية، ولكننا يمكن مع ذلك أن نستخلص عددًا من الأوصاف لا يثور حولها جَدَلٌ كثير، في أن من يتصف بها يعتبر على قدر لا بأس به من الصحة النفسية والنضوج:
فثمة أربع فئات من السلوك تظهر لدى الأشخاص بعد نجاحهم في العلاج النفسي؛ كما يمكن أن نلاحظها لدى من نطلق عليهم أسوياء، أو مُتكامِلِين، أو غير ذلك من ألفاظ الصِّحَّة النفسية.
فهناك النضوج، والمهارة في تكوين علاقات شخصية - اجتماعية فعالة, والدخول في علاقات اجتماعية دَافِئة وإيجابية على أن تكون مقبولة من الشخص نفسه، وغير مرفوضة، أو مستهجنة من الآخرين.

وهناك التوافق للعمل والمهنة، أو بتعبير آخر الفاعلية في أداء الدور، أو الأدوار الاجتماعية المنوطة بالشخص، مع البحث النَّشِطِ عن دَوْرٍ أو أدوارٍ ذاتِ معنى في الحياة، إذا ما ظهر - لأي سبب من الأسباب – أن المهنة التي يقوم بها الشخص لا تقدم له الإشباع الذي يَسْعَى إليه.
وهناك التوافُق مع الذات، وما يتبع ذلك من قدرة أو قدرات على تعلُّم خبرات جديدة، والاستبصار بالذات بما فيها من ضعف وقوة، وبقدرة على تحقيق النفس والأهداف، وتوظيف الإمكانيات الفردية؛ لتحقيق الإشباع المعنويّ، والجسميّ، والجنسيّ، وما يرتبط بذلك من نمو في القدرات الابتكارية، واتخاذ القرارات، وضبط الانفعالات السلبية الهدامة: كالقلق، والعدوان، والاكتئاب، والمخاوف التي لا معنى لها.

وهناك أخيرًا قدرة الشخص على أن يتبنى لنفسِه فلسفة عامَّة في الحياة، تسمح له بأن يتصرَّف بِكفاءة ونجاح يتناسبان مع إمكانيَّاتِه، وأن يُوظِّف تفكيره؛ لتحقيق التوافق بجوانبه الثلاثة السابقة: الاجتماعيَّة، والسلوكية، والنفسية، وعندما نقول فلسفة عامة لا نعني بالطبع أنَّ الشخص السَّوِيَّ يجب أن يكون "كبرتراند راسل"، أو "سارتر"[3]؛ وإنما نعني بأن يكون للفرد مجموعة من التصوّرات، والقِيَمِ، والاتجاهات، والمعتقدات الشخصية التي تُساعده على حُبِّ الحياة، والناس، والذات، وتحقيق السعادة، والحياة الاجتماعية الفعَّالة.
ولسنا نقصِدُ من وضع هذه الصفات أن نستعرض قائمةً مُفصَّلة لما نعتبره سلوكًا ناضجًا أو سليمًا، ونحن لا نذهب إلى أنَّ هذه الصفات تُمَثِّل كُلَّ ما يعتبر سليمًا؛ وإنَّما ركَّزنا على أَهمِّها، وعلى العناصر البارزة في السلوك السَّوِيِّ؛ كما قد يتفق عليها المُعالجون النفسيون بمدارسهم المختلفة، ونحن نؤمن عن يقين بأنَّ أي مُعالِج نفسي مهما اختلفتِ النظرية التي يَتَبَنَّاها، سيجد في هذه القائمة صفة أو أكثر يطمح أن يراها تتطور في مريضه، ويعتبرها مقياسًا لنجاحه في العلاج.

إلى هنا ولم نتعرَّض لهذه الحالات التي نُعطيها - بلا تردُّد - صفة الشذوذ، أو المرض؛ لكن ربما كان من أهمِّ ما يمنحنا إياه هذا العَرْضُ السابق، هو أن يوضح لنا بصورة غير مباشرة، ما نعنيه بالسلوك الشَّاذّ أو المريض.
فالعجز عن التوافق في أيّ جانب من الجوانب الأربعة التي ذكرناها، قد يعتبر علامة على الشذوذ والمرض، والواقع أن كلمة شذوذ ككلمة سواء، من حيث إنها مفهوم، أو كلمة مجازية نطلقها على بعض التصرّفات والأفعال، التي تصدر عن الشخص في مواقف متعددة، والمُطَّلِع على مراجع الطب النفسي، وعلم النفس المَرَضِيِّ المتعدِّدَةِ كلِّها، لا يجد تعريفًا لأمراض شاذَّة؛ إنما يجد قائمة طويلة تتضمَّن أسماءً ومفاهيمَ لاضطرابات نفسية؛ كالفِصام؛ والقلق؛ والاكتئاب؛ لكل منها أعراضٌ محددة تختلف عن مجموعة الأعراض، والتصرفات، التي تظهر عند الشخص الذي يَنْتَمِي لفئةٍ أوْ لأُخْرَى، وهكذا فمجموعة الاضطرابات والتصرُّفات التي تشير إلى الخلل في تحقيق التوافق الاجتماعي، والاندماج في أفعال اجتماعية غير مناسبة ومرفوضة، يسهل وصف صاحبها بالجنوح والسيكوباتية، أكثر من وصفه بالاكتئاب أو السلبية... إلخ.

بعبارة أخرى: فإنك لن تجد في كُتُب العلم ما يريح إن كنت تتصور بأن المرض النفسي على غِرار المرض الجسمي، يرتبط بنوعيَّة شاذَّة في تركيب وظائف العقل أو الأعصاب، فلقد توقف رجال العلم اليوم عن هذا؛ كما توقَّفوا منذ فترة غير قصيرة عن تصوُّر السلوك الغريب؛ (سواء سلوك عباقرة أو مجانين) بأنه مدفوع بقوة شيطانية، أو أرواح غريبة تحكم الجسم على نحو ما، وتحرك الإنسان فلا يملك لها ردًّا.
وربَّما تُسْهِمُ كلمة مرض نَفْسِيٍّ - في بعض الأحيان - في إثارة غُموض لا يقلُّ عنِ الغموض الذي تركته لنا التفسيرات الشيطانية القديمة للأمراض النفسية؛ فكما أن تلك التفسيرات القديمة نقلت لنا أن السلوك الشاذ عمل من أعمال الشيطان، ولم تمنحنا بذلك أي معرفة ذات قيمة فيما يتعلَّق بفهم هذا السلوك، أو ضبطه، أو علاجه، كذلك تثير كلمة المرض النفسي التي تستخدم بكثرة في تلك الأيام.

"فالمعنى التقليديّ لكلمة المرض: هو أنه حالة تتملَّك شخصًا فتحوِّله إلى شخص مختلِفٍ جَذْريًّا عن حالته السَّوِيَّة؛ فهو قد يُعانِي من الملاريا، أو منَ الحُمَّى، أوِ الجلطة... إلخ، ونجد في كل حالة انفصالاً بين السَّوِيِّ والمريض، والأكثر من ذلك هناك سبب معين لكل مرض؛ كأنْ نُصاب بجرثومة أو تَلحق بنا أضرارٌ مادية ما"[4]، ولا شيء من هذا يصحّ مع الاضطرابات النفسية، والأحرى أن نُصَوِّرَ الشخص المُضطرب بأنه لا يختلف في طبيعته عن الشخص العادي، وليس هناك فرقٌ بين المضطربين والأسوياء إلا في مقدار ظهور السلوك الذي نعتبره شاذًّا، والفصامي والعصابي والجانح - بهذا المعنى – ليسوا من طبيعة بشرية مختلفة؛ ولكنهم بشرٌ يختلفون في بعض أَوْجُه السلوك فقط، وفي أن التصرفاتِ التي لا تحقق لهم، ولا لِمَنْ حولهم السعادة والرضاء أكثرُ بكثير عما هي عليه بين من نطلق عليهم أصحاء، وينقلنا هذا إلى الحديث عما نسميه بالتصرفات أو السلوك الشاذِّ، وهو الجانب الثاني من تعريف السلوك الشاذ.

الحقيقة أن جوانب السلوك الشاذّ، أو المضطرب متسعة في غاية الاتساع، وتشمل طائفة كبيرة من الاضطرابات النفسية والعقلية، على أن بعض هذه الاضطرابات نادر (كحالات المرض العقلي، أو الجنون)، على حين أن بعضها يشيع شيوعًا كبيرًا في المجتمع مما يجعلها موضوعًا جديرًا بالاهتمام؛ كالقلق؛ والكآبة؛ والجريمة.
ونحن في مجال المُمارسة العملية نجد أن الاضطراباتِ النفسيةَ تتفاوت، فتشمل تلك الحالاتِ التي تتراوح من مشاعر الكدر والضِّيق، والتَّعاسة والملل، وتمتدُّ لتشمل الحالاتِ العقليةَ الخَطِرةَ التي تتطلَّب عادةً اللجوءَ للطبيب النفسيّ، أو إلى المِصَحّات للعلاج النفسي والعقلي، والشخص المضطرب نفسيًّا - بشكل عام - ضعيف الفاعلية في عمله، وفي عَلاقاته الاجتماعية، ولو أنَّ هذا لا يمنعه في كثير من الأحيان منَ ابتكار كثير من الأفكار الجديدة الهامَّة، ومن أن يكشف عن بعض الجوانب من التصُّرفات لا تختلف عن العاديين.

وهناك طريق تقليدي يتبَّناه طائفةٌ من الأطباء النَّفسيين في تقسيم الاضطرابات النفسية، فينظرون إليها على أنَّها تنقسم إلى مرض نفسيّ (عصاب)، أو عقلي (ذهان)، والعصابيون: أشخاص يتميزون بسهولة الانفعال، وتعساء تُسيطر عليهم بعض الأعراض المُحدَّدة، كالخوف من بعض الموضوعات، أو الخوف الشديد من المرض الجسمي، مِمَّا يصبغ حياتهم دائمًا بعدم الاستقرار والتهديد، وتوقّع الشر عندما لا يكون هناك شر؛ لكنهم في العادة قادرون على مواصلة النشاط بالرغم من القيود الداخلية، التي يفرضونها على أنفسهم، ويقال: إننا جميعًا نتعرض لبعض اللحظات العصابية في حياتنا، إثر أزمة أو خبرة من الخبرات المُؤْلِمَة في الحياة.

أما الذهانيون: فهم من طائفة أخرى، نطلق عليهم أحيانًا اسم المَرْضَى العقليين، أو المجانين، وهم باختصار: طائفة من الناس التُّعساء، ولكنهم خَطِرُون، وعديمو الفاعلية، وعادةً ما يعجِزون عن العمل والتكيف للحياة دون عون من الآخرين، اضطراباتهم حاسمة وخَطِرَة، وتَمَسُّ التفكير، أوِ السلوكَ الاجتماعيَّ، أو المِزَاجَ، أو هذه الأشياء كلها مجتمعة.

والعصاب والذهان شيئان مختلفان، نوعان منفصلان من الاضطرابات:
فالاضطرابات الانفعالية التي تصيب المريض النفسيَّ (العصابي) لا يفترض فيها بالضرورة أن تحرم المريض من الاستبصار بحالته، فهو يعرف أنه "غير سعيد"، وأن "حساسيته مبالغ فيها"، وأن "مخاوفة من الناس والأشياء لا مبرر لها"... إلخ، ولكنه لا يستطيع أن يحمي نفسه من هذا.
أما المريض العقلي (الذهاني) فقضيته مختلفة، فالاضطراب يصيب حياته الانفعالية والعاطفية والعقلية، ويصل هذا الاضطراب إلى درجة كبيرة من الاختلال في بعض الحالات، مما يجعله غير مسؤول من الناحية القانونية عما يصدر منه من أفعال خطرة بالذات أو بالآخرين، إن الذهانيين بَشَر فقدوا صلتهم بالواقع، وتحولوا إلى مجانين بالمعنى القانوني، ويفترض بالطبع أن الاختلال الذي يصيب الذهاني يحرمه من الاستبصار بحالته[5].

ويعد الفصام أو الشيزوفرينيا من أهم الفئات التي تنتمي لهذا النوع من الاضطراب العقلي، ويكون الفصاميون 80 % تقريبًا من الذهان، والفصامي – كأي مضطرب ذهاني آخر - يفقد صلته المعقولة بالواقع، وكثيرًا ما يعزف عن الاتصالات الاجتماعية، ويستخدم أساليب شاذَّة في تواصله الفكري مع الآخرين، فكلماته غير مترابطة، ومبهَمَة وغامضة، ويبدو من الناحية الوجدانية وكأنه عاجز عن اختبار أي من الانفعالات الوجدانية، بسبب ما يتملكه من تَبَلُّدٍ وجداني، ومعتقداته الزائفة (هواجس) كثيرة وقوية، وتتخذ عدة صور؛ كالشك، والغَيْرَةِ، والتوَجُّس، وفي الحالات الشديدة تتملكه هواجسُ قويةٌ من العظمة أو الاضطهاد.
وفي بعض حالات الفصام تكون المعتقدات الزائفة سواء بالعظمة، أو الاضطهاد هي الغالبة، وفي هذه الحالة يسمى هذا النوع من الفصام بالبارانويا، وبالرغم من التناقض بين العظمة والاضطهاد فغالبًا ما يتلازمان لدى الفِصامِيِّينَ؛ مما يُحَيِّر الطبيب النفسي في فهم السلوك الفِصامي مثل ما تُحَيِّره غرائبُ أخرى في سلوك الفِصاميين.

وتتملك بعضَ الفِصاميين إدراكاتٌ حِسِّيَّة زائفةٌ، يطلق عليها الأطباء العقليون هلاوس ذهانية، وأكثر أنواع تلك الهلاوس شيوعًا الهلاوس السمعية، التي يصر من خلالها الشخص على أنه يسمع أصواتًا حقيقية (لا يسمعها من حوله)، قد تكون واضحة أو مبهمة، وقد تكون لأناس ميتين أو أحياء، أو مشاهير.. إلخ، وهناك الهلاوس البصرية التي تختلف عن الخداعات البصرية التي نتعرض لها، في أنها تأخذ شكل يقين لدى الشخص بأنه يرى أخيلة أمامه، يتحدث معها بصوت مسموع دون أن يراها من يحيطون به من الآخرين.
ومن أنواع السلوك المرتبطة بالذهان ما يسمى بالهوس، والشخص المهووس تجده في حالة استثارة تامة، لا يكف عن الكلام، والانتقال من موضوع إلى موضوع آخر، وهو يشابه الفصامي في أن سلوكه مضطرب، وتفكيره تسيطر عليه الهواجس، إلا أن هواجسه تتركز حول القوة والعظمة، مما تجعله يعتقد بأنه قادر على كل شيء بدءًا من الغزوات الجنسية إلى الانقلابات السياسية[6].

وقد يضفي البعض صورة وردية على المرض العقلي والجنون بأن يتصورهما مهربًا من وقائع الحياة الصارمة ومُنَغِّصاتها، ويشجع على ذلك بعض التصورات التي يَحِيكُها الخيال الشعبي عن سعادة المجانين وهنائهم؛ لكن الحقيقة أن المرض العقلي أبعدُ ما يكون عن السعادة والنعيم، لقد أتاحت لنا الخبرة أن نعرف منهمُ المئات، منهم من كان يأخذ المظهر السعيد المنشرح، يطلق النكات هنا وهناك (كما في حالات الهوس)، ومنهم من كان يجلس وحيدًا ويبدو راضيًا (كالاكتئاب)؛ ولكن ما أن يبدأ الحديث معهم حتى كان يتكشف بأن هذا الغطاء يخفي من التوتر والشقاء الكثير، يقول واحد من المشتغلين بالدراسات الاجتماعية من المهتمين بدراسة الفصام: "إن الذهان أبعد ما يمكن عن أن يكون حالة من النعيم والسعادة كما يصوره البعض؛ بل قد يكون في بعض الأحيان وسيلة وأسلوبًا من أساليب التعامل مع الحياة، وإن الذهانيين لديهم أسباب وجيهة تحملهم على الهرب من مصاحبة البشر، لكنهم يتوقون في نفس الوقت إلى ذلك أشد التوق"[7].

أما أنواع العصاب فهي تتضمن القلق، والمخاوف المرضية، والهيستريا، والاكتئاب، وهناك أيضًا الوساوس الفكرية، والأفعال القهرية (القهار)، وهي عبارة عن أفعال أو طقوس لا يملك الشخص إلا أن يفعلها، منها غسل اليد مئات المرات، وعد الأشياء التافهة؛ كمصابيح الإضاءة، والسيارات، ورغم أن بعض الوساوس في صورها الحقيقية أحداث عادية قد تكون مفيدة (كالتأكُّد مثلاً من غلق صنبور المياه)، إلا أنها في الحالات الشديدة غالبًا ما قد تشلّ المريض عن القيام بوظائفه اليوميَّة بنجاح[8].
أما القلق فيُعتبر من الأمراض العصابية الشائعة، إلا أنه يعتبر سِمَةً رئيسة في معظم الاضطرابات، نجده بين الأسوياء في مواقف الأزمات، كما نجده مصاحبًا لكل الأعراض العصابية والذهانية على السواء، ويرى كثير من المفكرين أنَّ القلق هو سمة العصر الحديث بأزماته، وطموحاته، ومنافساته الحادَّة، وقد يكون هذا صحيحًا، لكن مع هذا نجد أن الحالات الشديدة من القلق توجد في كافَّة المجتمعات، ولم يخلُ منها عصر من العصور.

والقلق هو انفعال شديد بمواقف أو أشياء، أو أشخاص لا تستدعي بالضرورة هذا الانفعال، وهو يبعث في الحالات الشديدة على التمزّق والخوف، ويحوِّل حياة صاحبه إلى حياةٍ عاجزةٍ، ويشلُّ قُدْرَته على التَّفاعُلِ الاجْتِماعي والتكيُّف البنَّاء، ويشمل الاضطرابات في حالات القَلَق – مَثَلُهُ في ذلك مَثَل أيِّ اضطراب انفعالي آخَرَ – الكائن بجوانبه الوجدانية والسلوكية، والتفكير، فضلاً عن تفاعلاته الاجتماعية، فمن حيث النواحي الشعورية (أو الوجدانيَّة) تُسيْطِرُ على الشخص في حالات القلق مشاعر بالخوف، والاكتئاب، والشعور بالعجز عن اتخاذ قرارات حاسمة، أو سرعة اتخاذ قرارات لا تنفذ.
والشخص في حالات القلق غالبًا ما تظهر اضطراباته الفكرية في شكل تبنّي اتّجاهاتٍ وأفكار لا منطقيَّة، وقد تبيَّن أنَّ القلقِينَ والعصابيين غالبًا ما يتبنَّون أفْكارًا مطلقة، متطرّفة، وغير واقعيَّة، ويميلون إلى نقد الذات الشديد، ويَضَعُونَ متطلَّباتٍ صارمةً على ما يجب أن يفعلوه وما لا يفعلوه، أمَّا الجانب السلوكي من القلق فيتعلَّق بالتورّط والانغماس في سلوك ظاهر من الخوف والتوتّر عند اختبار موضوعات القلق، ففي الحالات الشديدة من القلق يبدأ الشخص في معاناة تغيّرات فسيولوجية؛ كسرعة دقات القلب، والتشنّج، وتقلّصات البطن، والإسهال، والدَّوار، والعرق البادر.. إلخ.

ولأسباب عمليَّة يعتبر هذا الجانب من أكثر جوانب القلق أهمية؛ لأن جزءًا من العلاج النفسي السلوكي الحديث يركز على التعديل من هذا الجانب السلوكي الظاهر، وينجح في تعديله، ويؤدي هذا التعديل في هذا الجانب إلى تعديلٍ في الجانِبَيْنِ الآخَرَيْنِ منَ القلق، وهما جانبا الشعور والتفكير. وطرق التفاعل الاجتماعي للشخص في حالة القلق تتأثَّر أيضًا، فيميل إلى التناقض، والحمق، والتطرف في علاقاته بالآخرين، والمثال الآتي يُوَضّح صورة الاضطراب التي تتملك الشخص في الحالات الشديدة من القلق.
"أقبلت زوجة محامٍ ناجح في السادسة والعشرين من العمر إلى عيادة نفسية في حالة من الفزع والإنهاك، كانت تعاني من الصداع المستمر، والإنهاك والتوتر، ومن نوبات تقلصات في البطن والإسهال، تعرَّضت لنوبات من التشنّج يصيبها فيها الدوار والعَرَق البارد، وقلبها يأخذ في الدق العنيف، والألم يَسْتَبِدُّ بِرأْسِها (اضطراب في الشعور)، وقد انتابَتْهَا إحدى هذه النوبات في منتصف الليل عندما كان زوجها في خارج المدينة (موقف خارجي لا يستثير بالضرورة الفزع)، واستيقظت وهي تبكي وترتعد بعنف (اضطراب في السلوك الظاهر)، وتذكَّرتْ أنَّها فكَّرت (جانب فكري لا منطقي)، هأنذا مريضة وحيدة بينما زوجي بعيد عني، ولا أحد يعلم من أنا، وكانت تُردّد وهي تسرد أعراضها أن سلوكها أحمق، وتقول إنني أثير ضجة لا مبرّر لها؛ ولكن الأمر خارج عن إرادتي[9] (جانب اجتماعي)". (التعليقات بين الأقواس من وضعنا).

وقريبٌ من حالات القلق ما يُسمى بالمخاوف المَرَضِيَّة (فُوبْيَا)، والحقيقة أن كثيرًا من الأطباء النفسيين يعتبرون الخواف المَرَضِيَّ جزءًا من القلق، ولو أن الخوف في حالة الخواف ينشأ مرتبطًا ببعض الموضوعات، أو الأشخاص، أو المواقف المحددة والانفعال الشديد، والفزع والارتياع الذي يتملك الطفل أو البالغ في حالات المخاوف المَرَضِيَّة، يُشبِه القلق وكل الاضطرابات العصابية من حيث إن الخوف الشديد ليس له ما يبرره، وأن الشخص يعرف ذلك، ولكنه يَعْجِز عن التحكُّم في مخاوفه، أو ضبط انفعالاته بصورة بنَّاءةٍ، بما ينتهي به أيضًا إلى العجز عن ممارسة حياته العملية والاجتماعية.
والخوف المرضي يُمكنُ أن ينشأ كاستجابة لطائفة واسعة من الموضوعات التي لا تكون مفزعة في ذاتها في العادة، وقد تكون هذه الموضوعاتُ حيواناتٍ، أو أماكنَ، أو أشخاصًا أو مواقفَ اجتماعيةً، وتُعتبر القطط، والكلاب، والأماكن المرتفعة، والمغلقة، والظلام، والدم، والموت، ومواجهة الناس أو الحديث أمامَهم، والرفض والنقد، والجنس الآخَر، والوَحْدَة، والجنس.. إلخ ضمن الأشياء التي كثيرًا ما تكون موضوعات للمخاوف المَرَضِيَّة.

أما الاكتئاب فهو مَرَضٌ عصابي آخَرُ نُصادِفُه كثيرًا هذه الأيَّام، وما من شخص منا إلا وانتابتْهُ لحظاتٌ مِنْ عُمُرِه – إِثْرَ أزْمة خارجيَّة، أو فِقْدان قريب أو صديق - شَعَرَ فيها بالحُزْنِ والضَّياع، مثل هذا الشعور نجده يُسَيْطِر على البعض بصورة أَقْوَى وأطولَ مِمَّا هو معتاد، لهذا نسمي مثل هؤُلاء مصابين بالاكتئاب، ويكون الاكتئاب مصحوبًا في كثير من الأحيان بالقلق واليأس، والأرق، ومشاعر الذنب المبالغ فيها، وفِقدان الشهية، والبكاء المتكرر، وانعدام الثقة بالنفس، والتأْنِيب المستمرّ لِلذَّات، وعند نشأة الاكتئاب (وهو عادة ما ينشَأُ في سنّ متأخّرة) نجد أنَّ نشاط الشخص يَضْعُفُ ويبلد، وعلاقاته الاجتماعية تتقلَّص، ويتقوقَعُ الشخص على ذاته في خيبة أمل، وعجز، ويتجنب المكتئبون التعبير عن العدوان والكراهية، إمَّا بسبب شُعورهم الشديد بالذنب في التعامل مع الناس، أو لخشيتهم من أن ذلك قد يؤدّي إلى رفضهم من قِبَل الآخرين، فهم أيضًا يخافون من الرفض الاجتماعي، ويهلعون منه هلعًا شديدًا، ويتصيَّدون رِضاء الناس، وينتهون بالرغم من هذا، أو بسبب هذا إلى إدانة الآخرين، وإدانة أنفسهم؛ لأنهم يُدينون الآخَرين، وهكذا.

وتسيطر على المكتئبين أفكار بأن حياتهم عديمة الجدوى، وليس نادرًا أن تنتهي حياتهم في الحالات الشديدة بالانتحار، ذلك التصرف اليائس الذي يبدو في نظر المكتئب وكأنه البديل الوحيد لأحزانه وتعاسته.
ولعلكم تلاحظون أن الاكتئاب - كالقلق - يُمَثِّل استجابةً انفعاليةً مبالغًا فيها؛ لكنه بعكس القلق الذي يتَّجِهُ إلى الأمام، ويتعلَّق بِمخاوفِ وأخطارِ المستقبلِ، نجد أن المكتئب يتجه إلى الماضي وأحزان ما فات، لكنهما عادة ما يكونان متلازِمَيْنِ.
وبعض أشكال الاكتئاب - بسبب ما فيها مِن عُزلة وحزن، وعدم فاعلية وقلق أيضًا - تؤدي إلى تخريب وظائف الشخصية الأخرى كالتفكير، وعندئذ قد يتحوَّل الاكتئاب العصابي إلى ذهاني، وهذه هي الحالات التي تنتهي بسيطرة الهواجس، تلك الأفكار الثابتة التي تسيطر على بعض المكتَئِبين، مُبَيِّنَةً لهم بأنهم عديمو النفع والجدوى، وفي هذه الحالات الشديدة من الاكتئاب يقيم الشخص اعتِقادَه بِأنَّ الحياةَ عديمةُ الجدوى بالرغم من كل الحجج التي يحاول الآخرون بها إقناعَهُ بأنَّ ما يفكّر فيه غير صحيح.

والقَلَقُ الوُجوديُّ شكلٌ آخَرُ من الاضطرابات الانفعالية التي دخلت مسرح علم النفس حديثًا، وهو مثل الاكتئاب من حيث إنَّ الشخص تَتَمَلَّكُهُ مشاعِرُ بأن الحياةَ عَبَثٌ ولا قيمة لها، ويَفقد إحساسه بقِيمَةِ كُلِّ ما يفعله، وهو أيضًا - كغيره من أنواع العصاب الأخرى - له اضطراباته الوجدانية، والفكرية، والسلوكية؛ فمن الناحية الوجدانية يكون الشعور الغالب هو الإحساسَ بالمللَ والفراغ، ومشاعرَ بالاكتئاب المتقطع، ومن الناحية الفكرية تسيطر على الشخص أفكارٌ بأنَّ الحياة لا معنى ولا ضرورة لها، أما من الناحية السلوكية فإن الشخص يصبح غير مكترث للقيام بأي نشاط، أو أن يمضي في حياته، ولكن أهم من هذا هو التبريرات الفلسفيَّة التي يَحيكها الشخص بمهارة، مبرِّرًا بها إحساسه ومشاعره، وتقاعُسَه عن أداء نشاطاته المعتادة.
والقلق الوجودي كالاكتئاب من حيث إن كِلَيْهِما يحكمهما الإغراق في الحزن ومشاعر الاغتراب، واللا جدوى؛ لكن ما يغلب في حالات القلق الوجودي هو اللا اكتراث، وغياب المشاعر القويَّة، وفِقدان الإحساس بوجود أيِّ معنى للحياة، أمَّا ما يغلب على المكتَئِب العاديِّ فهو الحزن والانقباض، وهما شعوران على أية حال، وكما في القلق العصابي والاكتئاب، فإن القلق الوجوديَّ دائمًا ما يكون مصحوبًا بأعراض الاكتئاب، ومن المحتمل أن تكون الاختلافات بينهما أقل من التشابه.

ويسمى القلق الوجوديُّ كذلك؛ لأن إبرازه تم بفضل كتابات الأدباء والفلاسفة الوجوديين من أمثال" ألبرت كامو"، و"جان بول سارتر"، و"أرثر ميلر"... إلخ، ولعل القارئ الذي يودُّ أن يتأمَّل في حالاتٍ نموذجيَّة من القَلَقِ الوجوديِّ، أن يقرأ رِوايَتَيِ "الغريب" لألبير كامي، ومسرحية " بعد السقوط" لأرثر ميلر؛ فكلا البطلينِ: "ميرسول" في رواية الغريب، "وكوينتين" في مسرحية بعد السقوط، يعتبران تجسيدًا طَيِّبًا لهذا العرض.
وفي الأدب العربي ولجت حالات القلق الوجوديِّ في روايات مثل : "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح، ويبدو أن من العسير علينا أن نقدم للقارئ حالةً من القلق الوجوديّ؛ لأن العيادات النفسية لا تشاهد كثيرًا من هؤلاء الأشخاص، ربما بسبب مشاعر اللا اكتراث الحادة التي تجعل من هؤلاء الأشخاص ينظرون شذرًا لأي خدمة مهنية.


وإذا كانت الأنماط السابقة من العصاب، يسيطر فيها القلق والخوف والاكتئاب، فإن هناك نوعًا آخر من العصابيين يظهر وكأنه قد خلا من كل هذه الهموم، ولو أن مشاكلهم النفسية تبدو لهم ولغيرهم حقيقية وواضحة ولا تقبل الجدل، وفي هذه الطائفة يوجد الهستيريون:
والهستيريا شكلٌ آخَرُ من العصاب تتبلْوَرُ أعراضُها في شكايات جسمية ليس لها أساس فعلي يمكن للطبيب علاجُه، ولا شكَّ أن الهروب من الأشياء بالتظاهر بالمرض من أحد الأعراض الشائعة لدى الأطفال، لِهذا تُوجد الأعراض الهستيرية بين الأشخاص غير الناضجين والمنخفضين في الذكاء، ومع ذلك فإنَّ الهستيريا تختلف عن التظاهر بالمرض؛ لأن الاستجابة الهستيرية تحدث دون تحكُّم المريض، وبرغم إرادته؛ فالفرد المصاب بالعمى الهستيريِّ مثلاً يكون بالفعل عاجِزًا عن الرؤية، ولو أنَّ السبب يضرب بجذوره في أسباب نفسيَّة، دون أن يكون هناك اختلال عضوي في مراكز الإبصار، والفتيات أكثر استهدافًا للإصابة بالهستيريا من الذكور، خاصَّة عندما تكون الأم من النوع المسيطر، المسرف في الرعاية، ومن ثَمَّ تهتمّ اهتمامًا بالغًا بالشكاوى الجسمية والأمراض، ومن أشكال الهستيريا العمى الهستيري، والصَّمم الهستيري، والتشنّج، وفقدان الذاكرة، ولعل هذه الأنواع وغيرها قليل من كثير من الأعراض التي تتألَّفُ مِنها الهستيريا. والهستيريا غالبًا ما تخدم هدفًا ثانويًّا، فهي تُساعِدُ الشخص على تجنّب المشكلات، وتجعله مركزًا للاهتمام والرعاية، ويؤدي التَّركيز على الشكاوى الجسمية في نفس الوقت إلى إبعاد الشخص عن التفكير في المصادر الحقيقيَّة للقلق والإحباط في العالم الخارجي؛ لذلك تؤدي إزالة الأعراض الهستيرية إلى ظهور القلق في بعض الحالات.

وهناك أيضًا السيكوباثيون أو من يسمَّون أحيانًا بالجانحين، وهؤلاء لا تبدو عليهم أعراض نفسية أو جسمية بالمعنى السابق؛ لكن سلوكهم لا يمكن أن يكون من وجهة نظر المجتمع سلوكًا متزنًا أو عاقلاً على الإطلاق، وهم أناس مندفعون، ضعاف في إحساسهم بآلام البشر، وعدوانيون، وضعاف الضمير، ويعجزون عن حساب نتائج أفعالهم، وقد أمكن باستقصاء عدد كبير من البحوث التي قارنت بين شخصيات الجانحين وغير الجانحين، التوصل إلى أربعة فروق رئيسة، هي أنَّ الجانحين يختلفون عن العاديين في:
1 – ضعف الضمير، واختفاء مشاعر الذنب، والفشل في اكتساب الضوابط الداخلية.
2 – البطء في بعض أنواع التعلّم، خاصَّة التعلّم الذي يحتاج للوعي بمعايير وقيم المجتمع.
3 – مواجهة الإحباط بالاندفاع والعدوان دون حساب للنتائج.
4 – ضعف المشاركة الوجدانية، والعَجْز عن تقدير مشاعر الآخرين.

ولأن السلوك الجانح دائمًا يظهر في شكل معادٍ للمجتمع، فإنهم يُدْعَوْنَ أحيانًا بالمَرْضَى الاجتماعيينَ (سوسيوباثيين)، وبالرغم من أن الجريمة هي السلوك الذي تلجأ إليه هذه الفئة لحل صراعاتها عادة، فإن هناك أنواعًا أخرى من الانحرافات التي تشيع في هذه الفئة كالسرقة والكذب، ويظن خطأ بأن المدمنين على الخمور والعقاقير من هذه الفئة؛ غير أن للمدمنين مشكلاتٍ خاصةً، وبواعثَ مختلفةً، ولو أن الجانحين والسيكوباثيين غالبًا ما يتشيعون لهذه الاضطرابات، ونسبة الجناح بين الذكور ترتفع عن نسبة الإناث الجانحات ثمانِيَ مرَّات على الأقلّ، وتثبت البحوث على عصابات الجناح التي تضمّ الذكور والإناث، أنَّ الذّكور يتَّجِهون إلى الخشونة والاقتحام، واختراق القانون، بينما يقوم الإناث بعملية التشجيع.
وسلوك الجانحين متنوّع من حيث الاضطراب النفسي، ففيهم من العصاب: القلق، والتوتر، والصراعات الداخلية، وفيهم من الذهان: العدوانية، وعدم الاستبصار بنتائج السلوك، ولكن هناك ما يسمَّى بِالجناح الاجتماعي الكاذب، ويسمَّى هكذا لأن الشخص يسلك نحو أعضاء الجماعة الَّتي ينتمي إليها سلوكًا لائقًا؛ لكنَّه لا يسلك نفس السلوك نحو من هم خارجها، وقد تبين في دراسة لـ 500 طفل جانح، أن بينهم مَن هم أسوياء من الناحية النفسية؛ لكنهم يحملون قدرًا مرتفعًا من الكراهية نحو السلطة، ويرفضون قِيَمَ المجتمع الخارجيّ التي لا تنتمي له جماعة الجانح، ولا شكَّ أنّ من قرأ رواية "الجريمة والعقاب" لديستوفسكي فسيشده التشابه لبطل الرواية بهذا النوع من الجناح الكاذب[10].

نحن نكتفي إلى هنا بأهم الشكاوى والأعراض البارزة في ميدان الاضطرابات النفسية والعقلية؛ ولكننا نبادر فنقول: إن ما عرضناه لا يشمل في الحقيقة كل الاضطرابات والشكاوى التي نقرأ عنها أو نسمع بها من الآخرين، فهناك أيضًا الشكاوى التي بدأت تغزو ميدان علم النفس حديثًا، وتلك التي تتحول فيها صراعات الحياة والقلق إلى إصابة وظائف الجسم بالخلل؛ كارتفاع ضغط الدم، والربو، والقرحة، وغيرها من طائفة الاضطرابات التي تسمى بالأمراض السيكوسوماتية.
ولعل القارئ يغفر لنا قصور هذا العَرْضِ، ولعله أيضًا يُقَدِّرُ بأننا لم نقصد من هذا العَرْض البسيط كتابةَ مؤلف عن الطب العقلي والسلوك الشاذّ، بقَدْرِ ما نَهْدُف إلى الاستبصار ببعض المفاهيم الرئيسة الممهِّدة للفصول الرئيسة من كتاب عن تعديل السلوك البشري، ولعل القارئ الذي يود مزيدًا من الاستبصار عن هذه الموضوعات أن يرجع إلى المراجع رقم 5.1 (ب) المسجلة في قائمة المراجع العربية.
ويبقى الآن سؤال نشعر بأن إثارته تخدم أيضًا مبرراتنا في تخصيص كتاب من هذا النوع للمكتبة العربية، ويتعلق بمدى انتشار هذه الاضطرابات، فإلى أي مدى تنتشر الاضطرابات النفسية والعقلية؟

يعتقد كثير من الأطباء النفسيين أن عدد العصابيين يتراوح ما بين 30 : 35 % من عدد سكان أي دولة، والحقيقة أن نسبة التعساء بسبب الاضطرابات النفسية والعقلية أو الاجتماعية قد تكون أكبر من هذا إذا ما لاحظنا بأن في حياة كل شخص تقريبًا لحظات محددة - طويلة أو قصيرة - يشعر فيها بالاضطراب، وأن الأمور أفلتت من يده، أو يعاني من حالات يوشك فيها على الانهيار العصبي، وأن أسلوبه في الحياة لم يعد يجدي معه.
ويقرر مركز الخدمات الصحية في إحدى الجامعات الإنجليزية أن 4 % من الرجال و5 % من النساء يعانون من أعراض نفسية (أو ذهانية لفترة قصيرة) أثناء حياتهم الدراسية، وإذا اتخذنا من هذه النسبة محكًّا، فإن نسبة العصاب ستزيد عن هذا دون شك، وفي دراسة مَسْحِيَّة على خمسة آلاف أمريكي وُجِدَ أن 4 % منهم كانوا يعانون من الاضطراب المزمن، و11 % يشعرون بالاكتئاب النفسي والتعاسة، و19 % تتملكهم مخاوف من الانهيار العصبي بين لحظة وأخرى، 23 % صادفتهم مشكلات احتاجت لتدخل مختصين نفسيين أو اجتماعيين، أما نسبة الذهان: فهي تصل إلى أكثر من 1 % في المجتمع، والنساء أكثر عُرضة للإصابة بالأمراض النفسية من الرجال، وكبار السن يرتفعون أيضًا بمقارنتهم بالصغار في جوانب معينة من الاضطرابات النفسية؛ كالاكتئاب[11].

وقد يتبادر لذِهْن القارئ أن هذه النِّسَبَ تنطبق على المجتمعات الغربية، وهي ليست مقياسًا لمجتمعاتنا العربية، وقد نتوهم بأن المجتمعات النامية، التي تقل فيها ضغوط الحياة تخلو من الاضطرابات النفسية؛ لكن هذا غير صحيح، فعلماء النفس الأنثروبولوجي[12] يُؤكدون أن الأمراض النفسية توجد في كل المجتمعات التي درست، بالرغم من أن هناك بعض الاضطرابات التي قد يقل ظهورها في المجتمعات البدائية؛ كالأمراض السيكوسوماتية، (ارتفاع الضغط، والقرحة.. إلخ)، التي ترجع إلى اضطرابات العمل وضغوطه، إلا أن هناك اضطرابات أخرى تَسُود في المجتمعات الإفريقية، ولا تسود في المجتمعات الغربية؛ كجنون السعار في بعض المجتمعات الإفريقية؛ لكن الذي لا شك فيه أن الاضطرابات النفسية والعقلية ليست حكرًا على المجتمعات الغربية، وأنها تشكل في الحقيقة مُشكلة لكل المجتمعات الإنسانية؛ ففي مَسْحٍ اجتماعيٍّ لحالات الفِصام المُزْمِنِ في مناطق "غانا" الإفريقية، وُجِد أن نسبة الفِصاميين (والفِصام يشكل 80 % من حالات الذهان) تصل إلى 9 % من عدد السكان، في مقابل 8 % من عدد السكان في أوربا وأمريكا، وفي دراسة حديثة أُجْرِيت في ثلاث قُرَى هندية تتكون من تسعة آلاف نَسَمَة تبين أن 37 % من السكان صرحوا بأنهم يعانون من أحد الاضطرابات النفسية بشكل أو بآخر، وزادت هذه الأعراض بين النساء أكثر من الرجال، وبين الفقراء أكثر من الأغنياء، صحيح أن نسبة من هذه الاضطرابات لم تكن خطيرة، ولم تستدع الإيداع في المصحات العقلية إلا أن من الشيّق أن نلاحظ مع هذا أن نسبة الـ 37 % تقترب من الإحصاءات الواردة من الغرب.

أما في العالم العربي: فإننا نعتقد بأن الأمر لا يختلف كثيرًا، صحيح أنه لا تُوجَد مثل هذه الدراسات المسحية الشاملة؛ ولكن بعض الدراسات المحدودة قد تَفِي بالغَرَض، ففي دراسة مُقارِنَة أجراها الكاتب على ثلاث مجموعات من الطلاب في أمريكا، وبريطانيا، ومصر[13]، تبين أن نسبة العصابية، والقلق، تزداد بين الطلاب المصريين، يتلوهم الأمريكيون، ثم الإنجليز، كذلك أجري غالي دراسة على 1883 فردًا من المقيمين في الكويت، من بينهم 450 من الكويتيين الذكور، 557 من الكويتيات، و575 من غير الكويتيين الذكور، و296 من غير الكويتيات، أمكن سؤالهم جميعًا أسئلة أو استفتاءات مماثلة تمامًا لاستفتاءات استخدمت في إنجلترا، وكان هدفها أن تبين مدى شيوع القلق، وعدم الاستقرار الانفعالي في داخل المجتمع الكويتي[14].
وقد سمحت لنفسي أن أقارن النتائج المستخلصة من هذا البحث بنتائج بحوث مماثلة في المجتمعات الغربية (الإنجليزية – والأمريكية)؛ لكي تتضح لنا بعض الفروق، وكما في بحثنا السابق تبين هنا أيضًا أن حظَّ الكُوَيْتِيِّينَ لا يقل عن حظِّ المصريين من حيث ارتفاع مستويات القلق والاضطرابات العصابية، فلقد ازداد شيوع العصاب بينهم أكثر من المجتمع الإنجليزي، وفي داخل المجتمع الكُوَيْتِيّ ترتفع (ولأسباب غير معلومة) الميولُ العصابية بين المواطنين الكويتيين عن الوافدين من الدول العربية الأخرى.

كما أن الإناث عامَّةً، سواءٌ كُنَّ كُوَيْتِيَّاتٍ أو وافِداتٍ، كُنَّ أكثرَ عصابية، وقد أبرزتِ الدِّراسة أنَّ أكثر المجموعات عصابية هي فئات تلاميذ المرحلة الثانوية، وأصحاب المهن، أمَّا المشتغلون بالتدريس فهم أَمْيَلُ لعدم الاستقرار والعصابية من غيرهم من أفراد المِهَنِ الأُخْرى، وتنبع أهَمّيَّة هذه النتائج في أنها تساعد على تخطيط أي برامج وقائية لمواجهة الاضطرابات النفسية قبل استفحالها.
والآن هل تتجه الاضطرابات العقليَّة والنفسيَّة إلى الزيادة بسبب تزايد ضغوط الحياة الحديثة؟:
أجل، فتزايد المعرفة بالموضوع والتيسيرات التي تقدمها الدول للبحث العلمي والعلاج، تؤدي إلى زيادة في اكتشاف الاضطرابات والتوصية بها للعلاج، لكن الزيادة بالطبع تلمس بعض جوانب الاضطرابات النفسي أكثر من الجوانب الأخرى.

ففي حالة الذهان لا تحدث الزيادة بشكل مطَّرد؛ بل إنَّ هناك هبوطًا في معدَّلات الالْتِحاق بِالمُستشْفَيات العقليَّة الأمريكيَّة بعد سنة 1955، وقد جاء هذا مواكبًا للنجاح في اكتشاف بعض العقاقير والمهدئات؛ لكن بَيْنَمَا نقص عدد النزلاء الذهانيين في المستشفيات زاد عدد زياراتهم للعيادات الخارجية، ويدلُّ هذا على أن العقاقير تُهَدِّئُ من شدَّة الأعراض؛ ولكن آثارها غير حاسمة، ومن ناحية أخرى فهناك زيادة في عدد الذهانيين بعد سن الخامسة والخمسين في الدول الغربية؛ غير أن هذه الزيادة ترتبط فيما يبدو بظروف الرعاية التي بدأت تقدم بكرم نحو المسنين.
أما بالنسبة للأمراض النفسية: القلق والاكتئاب، فيبدو فعلاً أنها في تزايد مستمر بالرغم من ازدياد تعاطي العقاقير المهدئة، وهناك دلائلُ واقعيةٌ على أن القلق أوِ النَّزَعات العصابية تتزايد في دول العالم النامي، ويبدو أن ضغوط الحياة ومَيْل المواطنين في هذه الدول لتبني قِيَمَ المجتمعات الغربية المادية، يخلق ضغوطًا على الأفراد مما يَسِمُ حياتهم بالصراع والقلق، ويؤكد هذه النظرية أن هناك أيضًا زيادة في الجريمة والجناح، بصفتهما نتيجة للفرص غير المتكافئة من النجاح في مجتمع رأسمالي.

ويُقَرِّرُ عزت حجازي[15] أن الاتجاه نحو الإدمان وشُرب الخمور، وتعاطي العقاقير أصبح الآن مشكلةً تُوَاجِهُ بعض القِطاعات في المجتمعات العربية، صحيح فيما يلاحظ حجازي أن التعاطيَ والإدمانَ ما زال محدودًا، إلا أنه بدأ ينتشر، وفي الازدياد منذ أوائل السبعينيات، شاملاً الذكور، وبعض فئات من الإناث، وطلبة الجامعة، وأبناء الطبقات الدنيا والوسطى والعليا على السواء.
وبالرغم من أن حجازي يريد أن يُوحِيَ بأن تلك الاضطراباتِ وغيرها من مشكلات اجتماعية ترتبط بالاغتراب، والتغير الاجتماعي، وغيرها من العوامل الاجتماعية، فإن الملاحظة تشير إلى أن الجُنوح والإدمان يظهر عند البعض، ولا يظهر عند البعض الآخر، فتحتْ نفس الظروف الاجتماعية السيِّئَة قد يتحول البعض إلى جانح، وبعضهم قد يختار القلق، ويبقى لبعضهم الثالث الاتجاه إلى بعض السُّبل البناءة.
مما يدل على أن هناك عوامل أخرى نفسية، تحكم حتى الاضطرابات في السلوك الاجتماعي؛ كالجناح، والجريمة، والإدمان، ويشير هذا إلى ضرورة أن تساير الخططَ الاجتماعية في الوقاية والعلاج، خِطَطٌ نفسيَّة تُولِي اهتمامها للفرد واضطراباته، ويقودنا هذا إلى الحديث عن مصادر الاضطرابات النفسيَّة، والسلوك الشاذ.

آنَ الآنَ أوانُ الحديث عن مصادر الاضطرابات النفسية، وسنعرض لثلاثة مصادر هي: الوراثة، والتعلم الاجتماعي، والضغوط أو الأزمات البيئية.
وبالرغم من أن كل مصدر من هذه المصادر كفيل وحده بإحداث الاضطرابات النفسية، إلا أن الاضطراب النفسيَّ يَحدُث عادة بسبب التقاء هذه العناصر الثلاثة مجتمعة، أو اثنين منها على الأقل؛ لهذا فالحديث عن أنَّ الوراثة هي السبب، أو أنَّ التعلُّم من البيئة هو السَّبب، أشْبَه بالحديث عن أيِّهما يُؤدِّي إلى زيادة نِسبة حوادث السيارات بالكويت: ضعف التدريب على القيادة، أم تزاحُم السيارات في الطرق والميادين؟!
أ – والحقيقة أن الشخص يولد ولَدَيْهِ استعدادٌ وِراثيٌّ ضعيف لتحمُّل الضغوط، والتداعي أمام الكوارث، وتساعد البيئة - خاصة خبرات الطفولة السيئة - على تعميق هذا الاستعداد، فيحدث الانهيار بسبب صعوبات الحياة الحديثة.

ومن المعروف أنَّ بعض الأُسَر يَشيع فيها نَمَط مُعَيَّن من الاضطراب: الفِصام، أو القلق، أو الميل للجُنوح؛ لكن هذا لا يعني أن تلك الاضطراباتِ مَوْرُوثَة، فقد تكون بسبب أنَّ الأبوين يخلُقان مُناخًا مضطربًا، مُؤَثِّرينِ بذلك تأثيرًا مباشرًا على الطفل في اختيار هذا الأسلوب المضطرب من الحياة.
ومن أفضل الطرق للحَسْم في تأثير الوِراثة دراسة التوائم الأخوية (غير المتطابقة) والتوائِم المُتطابقة، والتَّوائم المتطابقة هي التي تحدث بسبب انقسام بويضة واحدة؛ لهذا فالخصائص الوِراثية تتساوَى، بحيْثُ إنَّ الاختلاف الذي يحدث في سلوك توأمَينِ يمكن أن يكون راجعًا لعوامل التعلُّم الاجتماعي، أمَّا التوائم الأخوية فهي تنشأ نتيجة لتخصيب مُستقل لبويضَتَينِ، لهذا فالمتشابه بينَهُما لا يزيد عن التشابه بين الإخوة في الرضاعة.
وعلى هذا فإذا قارنَّا سلوك التَّوائم المتطابقة بسلوك التوائم الأخوية في ظروف اجتماعية مختلفة، فوجدنا أنَّ التَّوائم المتطابقة أكثر تماثُلاً من التوائم الأخوية في جانب معين، فإن هذا يعني أن هذا الجانب موروث إلى حد ما، ويبين الجدول الآتي النسبة المئوية لانتشار الاضطرابات النفسيَّة بين التوائم، وهي مُثيرة للتأمُّل بحق:

جدول يبين نسبة الاضطرابات العقلية بين التوائم:
 
نوع الاضطراب                   نسبة التشابه بين التوائم المتطابقة %               بين التوائم غير المتطابقة %
الفصام                                        67 : 86                                            10 : 15
الهوس والاكتئاب                          70: 100                                            29 : 15
الانحرافات السيكوباثية                       25                                                   14
العصاب (القلق والهستريا)                    53                                                  25  

 
هذا الجدول مأخوذ عن أرجايل: "علم النفس ومشكلات الحياة الاجتماعية"، مرجع رقم 5 (ب)، والجدول يعبر عن متوسط النتائج في عديد من الدراسات.

والذي نَستنتجه بوضوح من الجدول أنَّ كلَّ الاضطرابات النفسية تَخضع للوراثة جزئيًّا، دون أن يلغي هذا دور العَوامِل البيئية، وإلا بلغت نِسبة التشابُه بين التوائم المتطابقة مائة في المائة، غير أن هناك بعض الاضطرابات تمنح الوراثة فيها استعدادًا قويًّا للاضطراب، ويزداد تدخُّل الوراثة في الأمراض العقلية (الفِصام والهوس والاكتئاب) يَتْلُوها العصاب، ثم الانحرافات السيكوباثية والجنوح.
ب – يُقَرِّر الجدول على أيَّة حال، أن الوِراثة وَحْدَهَا لا تُحدِث الاضطراب السُّلُوكِيَّ، وأن الخبرات البيئية التالية يجب حسابها بقوة، ويزداد تأثير الخبرات البيئية في مراحل الطفولة، هناك ما يُؤكد عن يقين بأن ظهور الاضطراب النفسي – السلوكي، يرتبط بأساليب محددة من تنشئة الأطفال، وأنَّ كل اضطراب يرتبط بخاصية مستقلة من خصائص التنشئة لا تظهر في الاضطرابات الأخرى[16].

فدِراسة الأشخاص المُصابين بالقلق بينت أنهم وُلِدُوا لآباء يتميزون بالضبط الشديد، وأن علاقتهم بأبنائهم تميزت بالتوتر والتخويف في المواقف الاجتماعية، وتنتهي هذه الخبرات بالشخص فيما بعد إلى سهولة تعلمه واكتسابه للمخاوف المرضية، تلك المخاوف التي تعتبر السمة الأساسية لكل جوانب القلق، والعصاب.
أما حالات الجناح: فترتبط بالرفض، والعقاب البدني، مما يدل على أنه ينشأ من نوعية مختلفة من التنشِئة.
وقد أشرنا إلى أن طفولة الهستيريين ذات طبيعة مختلفة, فوالدة الهستيري (أو الهستيرية) تكون من النوع الذي يسرف في الرعاية، والسيطرة، وتولي اهتمامها للشكاوى الجسمية، والأمراض البدنية، ويؤدي هذا إلى اللجوء إلى الحيل، والأمراض الجسمية؛ في مواجهة الإحباطات والصراعات، وهذا هو جوهر ما نسميه بالهستيريا.

والفِصام يظهر غالبًا لدى الأشخاص الذين يتعرَّضون في طفولتهم للكَفِّ، والعُزلة عن الأطفال الآخرين، ولم يتمكن العلماء حتى الآن من اكتشاف ما إِذَا كانت هذه العُزلة ترجع إلى فَشَلَ الشخص في اكتساب، وتعلم المهارات الاجتماعية، التي تساعد الشخص على التكيُّف الفعَّال، أم تعكس سمات مَوْروثة من الشخصية، وهناك دراسات شَيِّقَة تبين أن الفِصاميين يأتون من أمَّهات كثيرات الغضب؛ ولكنهن مُسْرِفات في الرعاية في نفس الوقت، كما توضح هذه الدِّراسات أن تَخَلُّف الفِصاميّ في فَهْم العلاقات الاجتماعية وعجزه عن التواصل بالناس، إنما يتسبب عن اضطراب التواصل بينه وبين الأبوين في الفترات المُبكّرة؛ أي: أنَّ الفِصاميَّ لم يجد نماذج من الاتصال الاجتماعي الجيد في داخل الأسرة يمكن أن يُحاكِيَها في تفاعُله مع المواقف الاجتماعية المختلفة، وهناك نظرية تثبت أن الاتصال بين الأم والفِصامي يأخذ ما يسمى بشكل الرسائل المزدوجة[17]، فالأم تتصرف بطريقة معينة؛ ولكنها تتوقع استجابة مختلفة، بحيث إن الطفل يتلقى رسائل (أو منبهات) بأنه يجب أن يسلك على نحو معين؛ ولكنها رسائل تتضمن في الوقت عينه بعض المعلومات التي تتناقض مع ذلك تناقُضًا ملحوظًا؛ لذلك يصبح الطفل كالضحية المحكوم عليها بالفشل، مهما كان قرارُها أوِ اختيارها، ولعلَّ نظرية الرسائل المُزدوجة وما تسببه من حيرة نلاحظه في الحادثة الآتية، التي حدثت على مشهد من الكاتب نفسه في أحد مستشفيات الطب العقلي بالولايات المتحدة:

مريض فِصامي في السابعةَ عَشْرَةَ من عمره كان في أسبوعه الخامس في المستشفى عندما حدث ذلك، فبعد أن أجمعت مُلاحظاتنا الاجتماعية والنفسية أنه قد بدأ يتحسن ويسلك سلوكًا اجتماعيًّا إيجابيًّا جاءت أمه في نهاية الأسبوع لزيارته، فلما رآها وذهب لتحيتها صاحت: "ألا تخجل من نفسك بعد هذه الفترة ألاَّ تسرع بتقبيلي"، ولَمّا قام بذلك احمر وجه الأم وأبعدت جسمها عنه بحذر، احمَرَّ وجه الشابِّ، وبدت عليه علامات الحرج والعجز عن التصرُّفِ، وقد لاحَظْنا بعد ذهاب الأُمّ أنَّه انتكس واتَّجه من جديد للإغراق في ذاته، والبعد عمن حوله.
ها هنا مثال واضح للغموض في الاتصال المحير، فالرسائل التي ترسلها الأم متناقضة فهي في الظاهر تعني المحبَّة والمودَّة، ولكنها في مضمونها تحمل معنى مضادًّا[18]، فتكون استجاباتُ الشخص فاشلة إذا لم يظهر المودَّة، وفاشلة إذا أظهرها، ومثل هذه الأنماط من السلوك الاجتماعي تعد الطفل؛ لكي يسلك على نحو فِصامي في مرحلة الرُّشْد، وتحدث الانهيارات الفصامية غالبًا في المراهقة المتأخِّرة، بعد استعداد للفشل (من مصدر وِراثي واجتماعيٍّ) في علاج المشكلات المتعلقة بالمدرسة أوِ العمل، وبهذا البناء الضعيف الهَشِّ يتكون الأسلوب الفِصامي لمواجهة إحباطات الحياة في شكل الانسحاب، من مصادر القلق إلى عالم ضيق تسوده الخيالات، والإشباعات الفصامية البديلة عن الأساليب الجيدة والواضحة.

أما الاكتئاب: فيحدث عندما يكون الوالدان من ذوي الضمير القوي الصارم، يتَّجِهون لِلَوْم النفس الشديد، عند حدوث أشياء خاطئة، وتتضمن أُسَرَ المُصابين بالبارانويا (هواجس العظمة والاضطهاد) هذا النوع الأصمُّ من الآباء والأمهات، الذين يفتقرون لِلُغة التواصُلِ الاجتماعيِّ والحساسية للآخرين، والذين لا يشجّعون أبناءهم على مواجهة الواقع بِطريقةٍ إنْسانيَّة سليمة؛ بِسبَبِ افْتِقَارِهِم لذلك، أو بسبب التدليل الشديد لهؤلاء الأبناء، ويبدو أنَّ المعتقدات الثابتة التي يتبنَّاها المُصاب بهواجس البارانويا، فيما بعد تكون في الأصل تبريرًا للتضخّم في إدراك الذات، ويزدادُ رُسوخ هذه المعتقدات والهواجس عندما يتعرَّض هؤلاء المرضى لأزمات فشل، بحيث تبدو تلك الأزمات عديمة الأذى وضعيفة التأثير إزاء الهواجس، وأفكار العظمة القوية.
جـ - وتعجل الأزمات البيئية بظهور الاضطرابات، ولو أنَّ بعض الأزمات البيئية القوية تكفي وحدها لظهور الاضطرابات السلوكية؛ كما يحدث في معسكرات الاعتقال؛ ولكن الاضطرابات التي تستثيرها تلك الأزمات لا تكون دائمة في الشخصية.

ويتحدَّدُ شكل الاضطراب السُّلوكي بطبيعة الأزمات البِيئِيَّة، فأنواع الانهيارات التي تَحدُث أثناء الخدمة العسكريَّة تختلف عن أزمات الامتحانات الدراسيَّة، وتعتبر حالات الوفاة، أو الطَّلاق، أوِ الهِجرة، أوِ الحروب، مصدرًا من مصادر الاضطراب النفسي؛ ففي الحرب العالمية الثانية تحوَّل ثلاثة أرباع مليون جندي أمريكي إلى مرضى لأسباب نفسية، أما معسكرات الاعتقال فهي أيضًا مصدر خصيب للاضطرابات السلوكية، ففي معسكرات الاعتقال النازية يسجل لنا "بتلهايم" أن كل المعتقلين تقريبًا تعرَّضوا لاضطرابات نفسية بشكل أو بآخر، بدءًا من حالات النفاق والكذب، وانتهاء بالانهيارات الشبيهة بالذهان؛ كالاكتئاب والسلوك الفصامي، وتكون العزلة الاجتماعية، وضعف حجم الاتصالات الاجتماعية والهجرة تكون سببًا للاضطراب السلوكي، ونتيجة له في نفس الوقت، فنسبة الفصام بين العُزّاب تبلغ أربعة أضعاف نسبتها بين المتزوجين، وتصل بين الأرامل إلى النصف، وبينما نجد أن كل الاضطرابات السلوكية تصاحبها عزلة اجتماعية، فإن نسبة العزلة تزداد لدى الفصاميين والحالات الانتحاريَّة، وغالبًا ما يعتبر ظهور العزلة الاجتماعية علامةً على أنَّ الاضطراب يزداد لدى الشخص؛ لهذا فإنَّ تقوية الروابط الاجتماعية، وتشجيع الانتماء يُعْتَبران من وسائل علاج كثير من الاضطرابات النفسية في الوقت الراهن.

وتُحَدِّدُ الشخصيةُ شَكْلَ الاستجابة بالاضطراب السلوكيِّ الشديد للأزمات البيئية؛ فقد يَتَعَرَّض شخصانِ لخطر؛ (كالاعتقال)؛ لكن أحدهما يستجيب لها بالاضطراب والانهيار، بينما تكون استجابة الشخص الآخر مختلفةً عن ذلك، وقد يُتَرْجَمُ النجاح المتوسط أو العاديّ إلى فشل ذريع عند بعض الأشخاص؛ نتيجة لأنهم يضعون مستوًى مرتفعًا من الطموح، أو الخوف من الفشل، وتساعد الخبرات الطِّفْلِيَّة المبكرة للشخص في رسم استجاباته في مواقف الأزمة، فقد يستجيب الشخص بالقلق الشديد لنقد من رئيسه في العمل؛ بسبب خبرات طُفولية سيئة بالعلاقة بالأبوين، أو بالمدرسين، أو بمن يمثلهم من نماذج السلطة، فالأشخاص عندما يتعرضون لموقف واحد، أو أزمة يستجيبون بدرجات مختلفة من الاضطراب، أو بأنواع مختلفة منه، وكل هذا يَدُلُّ على أن جزءًا من الاضطراب لا تُسَبِّبُهُ الأزماتُ البيئية - الاجتماعية بقدر ما تسببه طريقة إدراكنا وإحساسنا النفسي بها.

ومِن المُشكلات المتعلقة بتأثير البيئة الاجتماعية: أنَّ ذَوي الاستعداد النفسي السريع للانهيار، غالبًا ما يستجيبون أكثر من غيرهم بالاضطراب لأزمات الحياة: كالعُزلة، أو الطلاق، فهل يكونُ الانْهِيار نتيجةً لهذه الأزمات؟ أم أن الفرد بسبب استعداداته للانهيار، وبنائه الهش يدرك هذه المواقف، ويراها على أنَّها مثيرةٌ لِلاضطراب بينما هي ليست كذلك، وتتطلَّب إجابة هذه الأسئلة توضيح ما يسمى بمفهوم (الحلقة المُفْرَغَة) في تفسير الاضطرابات النفسية، خذ مثلاً حالة الزوجة (أو الزوج) السلبي الذي يشكو من عدوانية، وتهجّم القرين، فهل سلبيَّة الأوَّل تشجِّع على إثارة عُدوان الثاني؟ أم أنَّ عدوان الثاني هو الذي يشكل سلبية الطرف الأول وانسحابه؟:
وبالرَّغم من أنَّ إجابة هذا السؤال لم تتحدَّد بعد في مجال البحث العلمي، فإنَّ هُناكَ ما يُشْبِه الاتفاق على وجود (حلقة مفرغة) في تفسير أي اضطراب نفسي، وممارس العلاج النفسي غالبًا ما يبدأ بتشجيع كسر هذه الحلقة المفرغة من أي زاوية مُمكِنَةٍ، فهو قد يشجع المريض على اتخاذ موقف إيجابي وواثق، دون النظر إلى عدوانية الطرف الآخر، على أمل أنَّ هذا سيخلق حَلْقَةً أخرى من التغيير البنّاء (ظهور السلوك الإيجابي سيوقف عدوانية الطرف الآخر، وتوقف العدوانية يؤدي إلى مزيد من تدعيم السلوك الإيجابي والبعد عن السلبيَّة... إلخ)[19]. وتأثير العُزْلة الاجتماعية (كالهجرة، والعُزُوبيَّة، والطلاق) على ظهور المرض العقلي يثير حلقة مفرغة من هذا النوع، فهل العزلة هي التي تؤدي إلى ذلك؟ أم أن المضطربين نفسيًّا غالبًا ما ينتهون إلى العزلة؛ بسبب إثارتهم للاشمئزاز والنفور في الآخرين، واتخاذهم لقرارات خرقاء؟ المرجح فيما أوضحنا من قبل: أن العزلة الاجتماعية تكون سببًا للاضطراب العقلي، ونتيجة له في نفس الوقت.

الخلاصة
يعبر الاضطراب النفسيّ والعقليّ عن مفهوم لجانب من السلوك، يتعارض مع ما نطلق عليه سلوكًا سليمًا، أو عاديًّا أو ناضجًا، والاضطراب أو المرض النفسي لا يحقق الرضا والتقبل للشخص، أو لمن حوله أو لكيلهما معًا، ويؤدي المرض النفسي إلى إثارة اضطرابات شاملة في سُلوك الإنسان، قد تشمل حالته الانفعالية أو تفكيره، أو سلوكه الاجتماعي، أو وظائفه العضوية والجسمية، أو كل هذه الأشياء مجتمعة في وقت واحد، وإذا غلب الاضطراب على الناحية الانفعالية أو الوجدانية، كان هناك ما يسمى بالاضطرابات العصابية؛ كالقلق، والهستيريا، والمخاوف المرضية، والاكتئاب، وإذا كان مصدر الشذوذ اضطرابًا في التفكير تكون ما يسمى بالمرض العقلي (الذهاني) بأشكاله المختلفة مِن فصام، وهوس، وبارانويا، وتنشأ الجريمة والجناح (الانحرافات السيكوباثية)؛ بسبب اضطراب السلوك الاجتماعي، وتعتبر الأمراض السيكوسوماثية؛ كالارتفاع في ضغط الدم، والربو، والقُرحة، علامة على أن الاضطراب النفسي يؤثر في الوظائف العضوية والبدنية للإنسان، وفي كل نوع من أنواع هذه الاضطرابات، يشمل الاضطراب الوظائف الأخرى، فالاضطراب في حالة القلق مثلاً يصيب الجوانب الوجدانية، والجسمية، والسلوكية، والعقلية، ولو أن مصدر الاضطراب هو الوجدان أساسًا.

وتشكل الأمراض النفسية بؤرة لمشكلات اجتماعية وعقلية أخرى، تعاني منها المجتمعات المتقدمة الغربية، والاشتراكية، ودول العالم الثالث على السواء، وقد بينَّا - بالاعتماد على نتائج البحوث المَسْحِيَّة، والدراساتِ التجريبيَّة - مدى انتشار الاضطرابات العقلية في العالم العربي والغربي.
وتحدث الاضطرابات النفسية بسبب التقاء الوِراثة، والأساليب الخاطئة في التنشئة فضلاً عن الضغوط والأزمات البيئية، وقد أوضحنا كم يتمُّ الالتقاء بين هذه العناصر الثلاثة، والتقاء هذه العناصر يرسم دون شك خِطَطَ العلاج الفعَّال لتلك المشكلات؛ كما يمنحنا البصيرة بالسبل والأشكال التي يجب أن تتطور نحوها أساليب العلاج، وهذا هو موضوع الفصل القادم.


[1]   انظر: هانز أيزنك، الحقيقة والوهم في علم النفس، ترجمة قدري حفني، ورؤوف نظمي، القاهرة. دار المعارف، 1969. 
[2]   عبدالستار إبراهيم، السلوك الإنساني بين النظرة العلمية والنظرة الدارجة، في كتاب: السلوك الإنساني: نظرة علمية، تأليف عبدالستار إبراهيم، ومحمد فرغلي فراج، وسلوى الملا، القاهرة: دار الكتب الجامعية، 1977.
[3]   هكذا تمثَّل الكاتب بهذين الرجلين كنموذج أعلى للرجل السوي صاحب الفلسفة في الحياة، وهو ما لا نوافقه عليه؛ فلنا أسوتنا الحسنة. المراجع.
[4]   للمزيد من الفروق بين العصاب والذهان انظر: Hans Eysenck' You and neurosis. Britain Glasgow: William, Collins Sons 1978. 
انظر بشكل خاص الفصل الأوَّل من هذا الكتاب الذي يخصّصه المؤلف لأنواع المرض النفسي العصابي، وما يميّز الذهاني (المريض العقلي) عن العصابي، ويتبنى المؤلف وجهة نظر مخالفة لوجهة نظر الطب النفسي التقليدية، التي ترى أن الذهان درجة أقسى من العصاب، أي أن الفرق في الدرجة، غير أن المؤلف يعرض لوجهة نظر ترى بأنها نوعان مختلفان من الأمراض.  
[5]   انظر:
Milton Rokeach , The Three Christs of Ypsilanti New York: Alfred Knopf, 1964 
[6]   للمزيد من الأعراض المصاحبة للعصاب والذهان وأشكال الاضطرابات النفسية الأخرى، انظر:
أ – أيزنك: الحقيقة والوهم في علم النفس، مرجع سبق ذكره في "1".
ب – شيلون كاشدان: علم نفس الشواذ، ترجمة أحمد عبدالعزيز سلامة، ومراجعة محمد عثمان نجاتي، الكويت: دار القلم، 1977، انظر بشكل خاص: الفصل الثاني من هذا الكتاب الخاص بمجموعات أعراض السلوك الشاذ.
[7]   تبين دراسة حديثة أن المخاوف المرضية يمكن إرجاعها إلى سبعة موضوعات، أو فئات رئيسة:
أ- مخاوف من الحيوانات؛ كالعناكب، والقطط.... إلخ.
ب- مخاوف من مشاهدة العداوة لدى الآخرين، وذلك؛ كالخوف من الأصوات المرتفعة، أو الخوف من الناس الغاضبين، أو الخوف من المشادات.... إلخ.
 ج – الخوف من الموت، والأذى؛ كالخوف من الدم، والجروح، والموتى، ورائحة العقاقير، وحوادث السيارات.
وهناك أيضًا
د- المخاوف ذات الشكل الأخلاقي؛ كالخوف من الانتحار، والعادة السرية، والعذاب في الآخرة، والجنس.
وهناك
هـ- الخوف من النقد الاجتماعي؛ كالخوف من التجاهل، والنبذ، والنقد.. إلخ
و- الخوف من الظلام، وما يرتبط به من مخاوف أخرى؛ كالخوف من الوحدة أو الدخول إلى الأماكن المظلمة..
ثم هناك أخيرًا:
ز- الخوف من الأماكن الخَطِرة مثل: الخوف من المرتفعات، ومن الأماكن المغلقة، والأماكن المزدحمة، والأماكن الفسيحية... إلخ، للمزيد من التفاصيل انظر: Eysenck' You and neurosis. Op. cit. p   73.
[8]   – للمزيد من القلق الوجودي انظر بالإنجليزية:
Salvator Maddi, The existential neurosis, In David Rosen – Hahn and Perry London) Eds. (.Theory and Research , IN AB normal behavior, New York: Holt, Rinehart and Winston.   1969   (pp,  222   –   239).
[9]   شلدون كاشدان، علم نفس الشواذ، ص 65 (مرجع رقم 5 في قائمة المراجع في آخر الفصل). 
[10]   هناك أيضًا انحرافات يطلق عليها انحرافات "ذوي الياقات البيضاء"، وهي تشيع في أفراد من الطبقات المتوسطة والعليا، وتتمثل في الهروب من دفع الضرائب، ومتطلبات الإنفاق الزائف، والمخاوف في مجال العمل؛ كالاختلاسات وغيرها، انظر: الفصل الخامس عن الجريمة والجناح من كتاب ميشيل أرجايل، علم النفس ومشكلات الحياة الاجتماعية، ترجمة عبدالستار إبراهيم، الكويت: دار القلم، 1978 (الطبعة الثانية).
[11]   انظر ميشيل أرجايل، المرجع السابق، الفصل السادس، الصحة النفسية والاضطراب العقلي، ص 117 – 118. 
[12]   يهتم علماء النفس الأنثروبولجي بدراسة السلوك البشري في المجتمعات والحضارات المختلفة، دراسة مقارنة. 
[13]   انظر:
Abdul Sattar Ibrahim Extroversion and neuroticism across cultures. Psychological Reports,   1979  ,   44  ,   709  -   803 
[14]   انظر: محمد أحمد غالي، دراسة مقارنة لبعض أبعاد الشخصية باستعمال مقياس أيزنك في البيئة الكويتية، الكويت مطبعة حكومة الكويت، 1975.
[15]   عزت حجازي، الشباب العربي والمشكلات التي يواجهها، الكويت عالم المعرفة، 1978
[16]   لمن يود أن يستبصر بتأثير أساليب تنشئة للأطفال على سلوكهم عندما يتحولون إلى بالغين انظر:
مصطفى أحمد تركي، الرعاية الوالدية وعلاقتها بشخصية الأبناء: دراسة تجريبية على طلبة جامعة الكويت، القاهرة: دار النهضة العربية 1974.
[17]   كاشدان، علم نفس الشواذ، مرجع سبق ذكره.
[18]   يجنح بعض الآباء والأمهات إلى إظهار النفور والعقاب للابن باسم المحبة أحيانًا، وهذا نموذج آخر للوسائل المزدوجة. 
[19]   قد يبدأ العلاج أيضًا من الشخص العدواني نفسه بأن نطلب منه التقليل من عدائه. 




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • علاج الاكتئاب في الصيدلية الإسلامية
  • القلق (بواعثه – وعلاجه)
  • الإرشاد النفسي: خطواته وكيفيته (نموذج إسلامي)
  • أنشطة أوقات الفراغ لدى الشباب الجامعي وعلاقاتها ببعض جوانب الصحة النفسية
  • المرونة النفسية.. كيف السبيل إليها؟
  • الاسترخاء.. علاج التوتر والقلق
  • أربعُ تقنيات نفسية فعالة!
  • مهاراتٌ نفسية في آيات قرآنية (1)
  • البوية والإيمو ظواهر تهدد شباب وفتيات المسلمين (1)
  • الضغوط النفسية وعلاقتها بالصحة (عرض)
  • فريق المساندة النفسية.. قلب كبير يسع الجميع
  • الاضطرابات النفسية وعلاجها في القرآن الكريم (1)
  • إنذار للغافلين: طفلك في خطر
  • الحفاظ على نعمة العقل
  • الاعتداء على العقل
  • القيام بأكثر من عمل في وقت واحد وضرره على المخ
  • بين النفس والعقل (1)
  • النفس
  • فرصة لإعادة النظر ومراجعة النفس
  • العقلية الإسفنجية
  • أعظم أسباب النجاة من الاضطراب (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • أضرار التدخين النفسية والعقلية والاجتماعية(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر)
  • أهمية التربية النفسية للطفل (الأطفال والتربية النفسية)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • صحتك النفسية ومقاومة الضغوط .. كيف تعزز مناعتك النفسية؟(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • اضطراباتي النفسية دمرتني(استشارة - الاستشارات)
  • الاضطرابات النفسية وعلاجها في القرآن الكريم (3)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الاضطرابات النفسية وعلاجها في القرآن الكريم (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة فائدة في هل قول العلوم الشرعية والعقلية وقول السمعية والعقلية أيهما أصح(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • للصيام أثر ملموس في علاج الأمراض المزمنة مثل تشنج القولون والاضطرابات الهضمية(مقالة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • البواعث النفسية في شعر فرسان عصر ما قبل الإسلام (دراسة نفسية تحليلية)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • مراعاة أحوال المدعوين النفسية (جوانب نفسية في الدعوة)(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
5- Discussion
Saso 15-03-2016 11:23 PM

Very good article

4- أوجه الشبه بين السلوك العلمي والسلوك العادي
ساهرة - الجزائر 02-12-2015 08:40 PM

ما هي أوجه الشبه بين السلوك العلمي والسلوك العادي؟

3- جهد مميز
حنان - الأردن 24-06-2009 07:37 PM

شكرا جزيلا دكتور عبد الستار
جهد متميز جدا
جزيتم خير الجزاء
فضول :الفصاميون لا يمكن أن يفرقوا بين أوهامهم وبين الحقيقة أبدا وإن عرفوا أنهم فصاميون؟
وهل ممكن أن يشفى الطفل المصاب بالفصام وحده؟
لماذا لا تصنف متلازمة "تود" أو "أليس في بلاد العجائب" على أنها فصام؟

2- أهلا وسهلا
Ibrahim - Egypt 24-11-2008 04:55 PM
السلام عليكم

اللغة العربية جيدة جدا..

كثير من الناس يحب اللغة العربية..

اللغة العربية تكون جيدة بالحروف العربية..

أنا أكتب اللغة العربية جيدا على الكمبيوتر الخاص بي..

أنا أتكلم اللغة العربية جيدا مع أصدقائي وزملائي وأسرتي..

شكرا
1- mal7oda
nihad - maroc 16-12-2007 01:27 PM
aslamo 3alaykom wara7mato alahi wabarkatoh ama ba3d fa9ad a3jabani maw9i3 fahowa mofid jidan wachokran
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب