• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    استراتيجيات المغرب في الماء والطاقة والفلاحة ...
    بدر شاشا
  •  
    طب الأمراض التنفسية في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الاستشراق والمعتزلة
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    زبدة البيان بتلخيص وتشجير أركان الإيمان لأحمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    مفهوم الصداقة في العصر الرقمي بين القرب الافتراضي ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / روافد / موضوعات طبية وعلمية
علامة باركود

فقه الطبيب وأدبه

د. عبدالستار أبو غدة

المصدر: مجلة المسلم المعاصر عدد 28 السنة: 1401هـ.
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 22/11/2007 ميلادي - 12/11/1428 هجري

الزيارات: 37933

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر
تمـهيد

الطب في الدراسات الإسلامية:
حين أردت أن أكتب موضوعًا يتناسب مع نشاط هذا المؤتمر للطب الإسلامي تساءلت عما يستحق أن يُدْعَى (الطب الإسلامي)؛ لتكون الكتابة في الصميم، وكان الباعث على التساؤل هو أن الطب أحد العلوم التي لا يتضح فيها وجه هذا الوصف بعيدًا عن جعل العلم يتعدد تبعًا للأديان والملل. ثم تأملتُ فرأيتُ أن المقصود من الوصف بهذه الصفة التنويهُ بما أسداه الإسلام لعِلْم الطب من اعتبار وتشجيع، وما أكْسَبه من عناية استتبعت استمراره ونموه على نحو لم يُشهد له مثيلٌ في ظل غيره، وقدْ يؤدِّي لإيضاح المراد تقليبُ هذين اللفظين بأن يقال: (إسلاميات الطب) أو (طبيات الإسلام)، فالغرض تصويب النظر إلى الموقع الذي اتخذه الطب في أرجاء الدراسات الإسلامية بأنواعها.

وقد تركتُ الحديث عن نمو الطب في ظل الإسلام، وجهودِ الأطباء المسلمين في تحرير ما وَرِثُوه، وإبداعِ ما ابتكروه من نظريات، بعضُها ظَلَّ محرِزًا له حقَّ السبق إليه، وبعضٌ منها استلبه الأدعياء في غفلة الانحطاط والاستضعاف، حتى قَيَّضَ الله من يشهد بالحقيقة، بشهود من أهلها أو من أعدائها "والفضل ما شهدت به الأعداء" وهذا يغلب عليه الطابَع الاختصاصي الفني، والجدير بجلائه هم الأطباء دون غيرهم. كما أمسكت عن التوسع في مجالين آخرين يستهويان الباحث في ظل ما في عنوان (الطب الإسلامي) من شمول:

أحدهما
: هو الاستعراض التاريخي للجهود التأليفية في الطب وعلومه من قِبَلِ المسلمين، وذلك له كتب عامة تُعْنَى بتاريخ العلوم من طب وغيره، وتهتم بتقويم الكتب (الببليوغرافيا)، والرجوع إليها أو الاقتباس منها – من خلال نظرات سريعة – كفيل بالمطلوب. والسبيلُ الأمثل لتخليد هذه الجهود تحقيقُ مخطوطاتها ونشرها وترجمتها إلى اللغات الحية؛ ليكون من مراجع الدراسات الطبية العالمية أمثال كتاب "الحاوي" للرازي المتوفَّى (311هـ - 923م) و "القانون" لابن سينا (348هـ - 959م) و "التصريف" للزهراوي (427هـ- 1035)، وكتب ابن رضوان المصري (453هـ - 1061م) وكتب ابن رشد (595هـ - 1198م) وكتب ابن زهر الأندلسي (557هـ - 1161م) و"الشامل" لابن النفيس (687هـ - 1288م) وغيرها مما تلاحق بعدها.. تمهيدًا لوصل حاضرنا العتيد بالماضي المجيد وانطلاقًا لرسم المستقبل المنشود.

والمجال الثاني:
الربط والتوفيق بين النظريات الطبية الحديثة وما ورد من نصوص فيها إشاراتٌ ذات صلة بها في القرآن والحديث. وهذا المجال أيضًا مما عُني به القدامى والجدد بكتابات شاملة للنظريات العلمية مطلقًا أو خاصة بالطبي منها.
ومع ما يتطلب هذا المجال من ازدواجية لابد منها للباحث فيه، فقد كان حظ الأطباء للإسهام في بيانه أكثر من حظ غيرهم لأنه يتطلب تمرسًا في الطب وتعمقًا في علومه في حين يكفي له الإلمام بالدراسات الدينية والعربية.

وبعدُ .. فإن وراء ما أشرت إليه مجالاً رحبًا لدراسة ما يمكن اعتباره أيضًا من مسمى (الطب الإسلامي) بَدْءًا من (الطب النبوي) المتضمن هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – في الطب الطبيعي، والعلاج الروحي والطب النفسي، والقواعد التي أرساها الإسلام لحفظ الصحة، ثم ما وراء ذلك من منارات منثورة في علوم الشريعة الغراء تتصل بفقه الطبيب (الأحكام الخاصة به)، وأدائه (أخلاقيات الطبيب)، ومعظم ذلك مذكور في غير مظانه، وقليل منه قد حظي بباب مفرد لدراسته في الكتب الشاملة أو بكتاب مستقل فيه.

وفيما يلي إشارات لأهم الجوانب التي كان لها حيزٌ في الدراسات الإسلامية بعيدًا عن الاسترسال في الصعيدين التاريخي، والتأويلي – المشار إليهما –؛ لتكون هذه الدراسة تقريرًا لأصالة الطب الإسلامي، ومَدخلاً لوضع مرتكزات للدراسات المفصلة فيه، وذلك يسهم في فتح المجال أمام من ينشط لتسليط أضواء البحث الكاشفة لما خفي منها. ولا يتسع المقام لِتَلَمُّس دور الطب في الدراسات الإسلامية – تأثرًا وتأثيرًا في جميع الزمر المستقرة لتلك الدراسات، بَدْءًا بالقرآن، ومرورًا بالسنة والسيرة، وانتهاءً إلى الفقه وعلومه المساعدة لاسيما الحِسْبَةُ والآداب الشرعية؛ لذا اقتصرت على لمحات في فقه الطبيب (الأحكام التي تتصل بمزاولته عملَه من حِلٍّ وحرمة) مع نُبَذ في الآداب التي ينبغي مراعاتها.

النظرة الشرعية للطب:
لابد من إلقاء هذه النظرة قبل الحديث عن فقه الطبيب وآدابه ثم أنتقلُ لبيان الخِصال التي أوجبت الشريعة الإسلامية على ممارس الطب المعرفةَ بها، لأنها من الأمور المتصلة بصميم عمله. وهي مما يختص بالقيام به غالبا، كما يشمل آثار تصرفاته في الأحوال العادية أو الطارئة؛ إذ من المقرر شرعا أنه يجب على المسلم - بالإضافة إلى معرفة الأحكام العامة في حق الجميع كالعبادة - اكتسابُ المعرفة بما يخصه في عمله لتكون تصرفاته موافقةً للشرع وليكون كسبه حلالاً.

ولعل أول ما يتعرض له الفقهاء في هذا المجال حكم (التداوي)، ويَستَتْبِع ذلك تعرضُهم لحكم (التطبيب).. ولا يخفى أن الحديث عن هذين الأمرين كان لهما قديمًا ما يبرره إزاء مواقف بعض المتصوفة أو الزهاد الذين توهموا أنَّ الإقدام على التداوي يخالف التوكل.. وقد اعتُبِرتْ هذه المواقف من باب التنطع بعدما ثبت تداوي النبي – صلى الله عليه وسلم – شخصيًّا، والأمرُ لغيره بالتداوي والمداواة.

ويستوقف النظر في المراجع التي تناولت هذه القضية حرص الفقهاء على اعتبار (مهنة التطبيب) إحدى فروض الكفاية[1] بمعنى أنه إذا لم يوجد من ينهض بها أثم المسلمون كلهم، وأن القيام بها من البعض يسقط الإثم عن البقية، ويكون الأجر خاصًا بمن يقوم بذلك.. ويظهر أثر هذا الاتجاه حين الموازنة بمحاربة الطب من خلال شن الحملة عليه من قِبَلِ محتكري الوصاية على الأديان والعقول قَبْلُ.

الفقه والخبرة الطبية:
تثور الحاجة إلى خبرة الطبيب في أكثر من موضوع في الفقه الإسلامي، وتلك المواطن إما أن تتصل بالمرض أو الأعذار المبيحة لبعض الرخص والتيسير في العبادة.. وإما أن تتصل بالفصل في المنازعات التي تنشأ من دعاوى مَحَلُّها جسم الإنسان، سواء أكان النزاع في شأن السلامة والبقاء على الفطرة وعدمها، أو من قبيل ادعاء العيوب والنشاز. ونظرا إلى أن الشريعة الإسلامية من منهجها العام في التشريع بناؤه على الأعم الأغلب فقد ندر - في غير مجال الطب - ربطُ الأمور بالخبرة الفنية وحدها، بل أقيمت أكثر الأمور على حصول الأمارات الظاهرة الميسورة كما هو الحال في أوقات الصلاة، ومطالع الأشهر وغيرها. أما في مجال الطب فلم يَعْدِلْ عنه إلى غيره إلا في الأمور الميسور إدراكُها بالتأمل أو بطول الأمد الكافي لظهور الأعراض واجتماع القرائن كما هو الحال في البلوغ وعلاماته الطبيعية.
وفي هذه الأحوال كان البديل ليس هو الشخصَ العادي، بل أصنافًا من ذوي الخبرة الآخذة من الطب بنصيب كالقابِلة .. أو مجموعة من النساء الثقات.

ومن أهم أمثلة الحاجة إلى خبرة الطبيب في تحقيق شروط العبادة لوجوب مزاولتها:
أ- التطهُّر لها بالوضوء والغسل - بحسب الحاجة- حيث ينتقل الواجب بحصول المرض من استعمال الماء، وهي الطهارة الحقيقية الأصلية إلى طهارة بديلة اعتبارية هي التيمم، وقد يكون الانتقال في جزء من البدن لا في جميعه، ومثاله الإعفاء من مساس الماء للبدن، بسبب وضع جبائر حيث يُستعاض عن ذلك بالمسح على الجبيرة.
ب- و(صلاة المريض) أحد الأبواب المعروفة في الفقه، حيث يصلي كما يطيق من قعود أو على جنب بحسب مقتضى مرضه.
جـ- والمرض أحد الأعذار التي يسقط بها وجوب الجمعة والجماعة، فيُستعاض عن حضور المسجد بالصلاة في البيت. ومناط ذلك المرض تعذر الوصول إلى مكان المسجد لما في الجسم من وَهْنٍ أو في القدم من ألم...
د- والمرض يبيح الفطر في رمضان ليكون الصوم في أيام أُخر هي أيام الشفاء والعافية إلاَّ إذا كان المرض مما لا يُرجى شفاؤه؛ فينتقل الواجب من الصوم إلى (الفدية) التصدقِ بطعام مسكين. ولا يخفى أن الحكم بالمرض أصلاً أو بكونه مزمنًا هو مهمة الطبيب دون غيره.
هـ- ومرض الموت له شأن آخر، فهو ليس ذاك المرض الميئوس من شفائه فقط، بل هو الذي يزداد أثره حتى ينتهي بالوفاة، وله أحكام فقهية مفصلة بشأن التصرفات ولاسيما الهبةُ والإقرار والطلاق. والذي يقرر أن المرض من هذا القبيل هو الطبيبُ. على أنه ليس من إعطاء الخبرة حقَّها في الدقة أن يُطلَقَ العَنانُ للمرض مهما كان نوعه ومقداره لِتُستباح به الرخصُ ويُعفى به الشروط؛ ولذا كان المرض عند الفقهاء أنواعًا لكل منها اعتباره.

وأكتفي بالإشارة إلى اختلاف الرأي في اكتفاء بعضهم بخوف زيادة المرض أو امتداد زمنه، واشترط بعضهم خوف الهلاك أو فوات العضو[2]، على أن بعض الفقهاء اكتفى للاستفادة من الرخصة الشرعية بأن يكون في استعمالها (كالفطر في الصوم مثلا) الظنُّ بحصول الصحة وبعضهم اشترط اليقين.. وفي هذه المعايير المختلفة دَلالةٌ واضحة على الدقة في تقدير الأمور والحاجة الماسة إلى الخبرة الفنية .. ويتأكد هذا المبدأ من استعراض نماذج من أشهر مجالات الرجوع للخبرة الطبية فيما يلي:
أ- ففي موضوع الزواج وثبوت المهر كاملا بالدخول أو الخلوة، لا يعتد بالخلوة ما لم تكن الموانع زائلة فالمرض أحد تلك الموانع لكنه (المرض الذي يمنع المعاشرة أو يلحقه به ضرر..)[3].
ب- والأمراض الجنسية التي تُمنح بها المرأةُ حقَّ الفرقة عن الزوج هي العُنَّة والجَبّ والخِصاء، لكنَّ المجبوبَ لا يُتَرَيَّثُ في اعتباره، أما العِنِّينُ والخَصِيّ فيؤجل معهما الزوج سنة؛ لتمر به الفصول الأربعة ويتبين هل ما به علَّةٌ معترضة أم آفَةٌ أصلية.
جـ- وكذلك المرجع للخبرة الطبيَّة في عُيوب الزواج المستوجبة للخيار: وهي بالنسبة لما يوجد في الزوجة مغتَفَرَة عند بعض الفقهاء؛ لوجود الطلاق الذي تمكن به الزوج من مفارقة الزوجة المصابة .. ويمنحه بعضهم حق الخيار ويحصر تلك العيوب في ثلاثة عامة (الجذام، والبرص، والجنون) وقد عمَّم بعضهم أثرها ليشمل حالة إصابة الزوج بها.. وعيبين نسائيين هما الرتق: التصاق يمنع من المعاشرة الجنسية، والقَرَنُ: حائلٌ عظْميٌّ أو لحْمي يمنع من المعاشرة.

ومن الواضح أن معرفة ذلك لابد فيه من خبرة الطبيب، وإن كان يُستعان في بعض الأحيان بالقابلة.. وهي صورة من صور الطب.. والأمثلة للتعويل على الخبرة الطبية كثيرة في شتى أبواب الفقه.
ولهذا وضع الفقهاء أساسًا لاعتبار المرض مرخصا في التيمم - وأمثاله من المواطن التي يتغير بها الحكم من حال إلى حالٍ أخفَّ أو أشد – وهو: أن يعتمد على معرفة نفسه إن كان عارفا (أي المعرفة الفنية) وإلا فله الاعتماد على قول طبيب واحد حاذق مسلم بالغ عَدْل. فإن لم يكن بهذه الصفة لم يَجُزِ اعتمادُه، ومفاد هذا أنه لا يُعتَمَد على من لم تتوافر فيه الصفات والقيود المشار إليها، على أن بعض الفقهاء رأى أنه يجوز اعتماد قول من كان فاسقًا، لعدم التهمة هنا؛ لذا اقتصر هؤلاء في وصف الطبيب بأنه (مسلم ثقة) مع تقييده بالحذق والفطنة.

كما صرحوا بقبول قول المرأة وحدها، لأنه من باب الأخبار وليس من قبيل الشهادة التي جاء في تنظيمها الآية الكريمة:
{وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [سورة البقرة: 282].
ومما يدل على إحالة الأمر إلى خبرة الطبيب منعُ بعض الفقهاء من التيمم إن لم يجد طبيبًا على الصفة المشروطة[4].

مسؤولية الطبيب (الضمان):
إن المسؤولية بالنسبة للطبيب وغيره نوعان: تعاقدية، وجنائية.
أ- المسؤولية التعاقدية:
ينطبق على التعامل بين المرضى والأطباء القواعدُ العامة للإجارة على الأعمال، وهي السائدة في كل المهن التي يلتزم فيها صاحب المهنة بأداء منفعة للمتعاقد محدودة بإنجاز معين مع تمكنه من تلقي مهام أخرى. وقد يكون التعامل على أساس الإجارة الخاصة التي يُسمى مُقدِّمُ المنفعة فيها (الأجيرَ الخاص)، وذلك حين يرتبط خلال مدة معينة بأن لا يعمل لغير من تعاقد معه، وهاتانِ الحالتانِ لا خصوصية فيهما للطبيب من غيره. على أن هناك حالتين لا تُتَصوران إلا في ممارسة الطب: تسمَّى إِحداهما: "المشارطة على البُرْء" وتسمى الأخرى: "اشتراط السلامة" وقد عُني بمعالجتهما الفقهاءُ على النحو التالي:

الحالة الأولى
(المشارطة على البرء):
الأصل في تقدير التعامل مع الطبيب أن يكون على مدة معينة، أو يكون على القيام بأعمال معينة، ويستحق الأجر بإنجاز ذلك ولو لم يبرأ، وهذا ما يُدْعَى في الاصطلاح القانوني "بذل العناية". وفي هذه الحالة احتمالاتٌ لها حلولُها التي تختلف فيها أنظارُ الفقهاء مثل حصول البرء أثناء المدة، أو حصول الوفاة، أو امتناع المريض من مواصلة العلاج.. على أنه قد يشترط في هذا التعاقد بالإضافة إلى بذل العناية "تحقيقُ غاية" وهي الشفاء من المرض (البُرْءُ) والفقهاء مختلفون في الحكم على هذا التعاقد:
فبعضهم مَنَعَه، لما فيه من الجهالة، لأن البُرْء غير معلوم متى يحصل، حتى لو أحاط الطبيب علمًا بأحوال مرضه ومريضه؛ لتدَخُّل أسباب خارجية. وجمهور الفقهاء على جوازه والدليل هو ما ورد من أن أبا سعيد الخدري عالج رجلا وشارَطَه على البُرْء، وعَلِمَ بذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأقر تصرفه. ويرى ابن قدامة أن هذه المعاملة ليست من باب الإجارة التي يُشترط فيها معلوميةُ مَحَلِّ التعاقد بالمدة أو العمل. وإنما هي من قبيل (الجَعَالَة) وهي تجوز على عمل مجهول، كما هو الحال في ردِّ اللُّقَطَة، ويكفي للجَعَالَة تحديدُ مقدار الجُعْل، وبيانُ الغاية المطلوبِ تحقيقُها بقطع النظر عن مقدار العمل .. ومن أحكام هذه المشارطة أنه لو ترك قبل البُرْء فلا شيء له إلا أن يتمم غيره؛ فله حساب نسبة من الاتفاق[5].
وقد تناول الفقهاء هنا مسائل أخرى ثانوية مثل اشتراط الدواء على المريض أو الطبيب وهذه القضايا الملحوظُ فيها أثر الأعراف والأوضاع الزمنية، والتي لا يوجد ما يلزم بمتابعتها مع تطور أصول التعامل في هذا المجال.

الحالة الثانية (اشتراط السلامة):
تناول الفقهاء ما لو تعاقد الطبيب مع مريضه واشترط أن يكون عمله مقترنا بالسلامة من السراية (المضاعفات)، فالشرط باطل؛ إذ ليس في وسعه ذلك، وما دام ما ينتج عن الفعل المعهود المستوفي للشروط معفًى من المسؤولية فلا تترتب بمجرد الاتفاق؛ للقاعدة القائلة: "ضمان الآدمي يجب بالجناية لا بالعقد"[6] ويُلحظ هنا أن الشارع قد تدخل لينقذ الطبيب الذي تورط بقبول هذه المغامرة، إمَّا مدفوعا بإقدامه على أكثر مما يطيق، وإما بدافع الحاجة لقطف ثمار عمله ولو كانت محاطة بمحاذيرَ، والشريعةُ جاءت لإقرار العدل أو لتحقيقه حين يُزْهِقُهُ جموح أو طغيان أحد الأطراف.

ب- المسؤولية الجنائية:
الكلام عن المسؤولية الجنائية المترتبة على الطبيب إنما هو في مجال ممارسته المهنةَ ؛لأن تصرفاته العمديةَ العدوانية خارجَ المهنة لا تختلف عن غيره. ولكن نظرا إلى طبيعة مهنته قد يلتبس فيها التصرف المعتاد المقصود به العلاج، بالتصرف الجنائي الناشئ عن جهل أو تجاوز أو خطأ، فقد تناول الفقهاء بالدراسة هذه التصرفات بإسهاب وتفصيل يمكن إيجازه على النحو التالي:

إن اعتبار التطبيب واجبًا كفائيًا يقتضي أن لا يكون مسؤولاً عما يؤدي إليه عمله قيامًا بواجب التطبيب؛ لأن القاعدةَ "أنَّ الواجب لا يتقيد بشرط السلامة"، لكن لما كانت طريقة أداء هذا الواجب متروكةً لاختيار الطبيب وحْدَه؛ لما له من السلطان الواسع في الطريقة وكيفية الأداء تبعا لاجتهاده العلمي والعملي، كان ذلك داعيًا للبحث عن مسؤوليته جنائيًا عن نتائج عمله إذا أدى إلى نتائج ضارة بالمريض، باعتباره أنه حين يؤدي واجب التطبيب أشبهُ بصاحب الحق منه بمؤدي الواجب، ولا يخفى أن صاحب الحق يُسأل في حال تجاوزه حقَّهُ. وبمناسبة الموازنة بين اعتبار الطبيب قائمًا بواجب، أو اعتباره صاحبَ حق، يهتم الفقهاء بالتأكيد على ضرورة الاستعانة بخبرة الطبيب في تنفيذ القِصاص الشرعي في حال وجوبه بالجناية على النفس (القتل)، أو الجناية على ما دون النفس (الجراح وإتلاف الأطراف أو الحواس). فلا شك عندهم أن قيامه بذلك هو من قبيل أداء الواجب. وقد صرح الفقهاء على أن مقتضى الإحسان في التنفيذ أن يُعْهَدَ به إلى ذوي الخبرة بعد أن يوكِّلَهم الأولياءُ المتمسكون بحق القِصاص إذا لم تَطِبْ نفوسهم بالعفو؛ لما يتطلبه ذلك من دقة وحذر لعدم مجاوزة الواجب، قصاصًا كان أو حدًّا، ولتحقيق البعد عن الظلم والتعذيب.. وقد تضمنت المراجع الفقهية القديمة بعضَ الأصول التي كانت تُراعى قبل التنفيذ، والوسائلَ التي كانت تستخدم في القياس وتحديد محل الاستيفاء، ليتم على أعدل وجه وأرفقه وأسهله[7].

وهناك إجماع على عدم مسؤولية الطبيب إذا أدَّى عملُهُ لنتائجَ ضارةٍ فيما إذا توافرت الشروط التالية:
1- أن يكون طبيبًا عن معرفة ودراسة لا عن زعم وادعاء، ولا يُفِيد أن تكون له شهرة لا تستند إلى خبرة حقيقية.
2- أن يأتي الفعل بقصد العلاج وبحسن نية (أو بقصد تنفيذ الواجب الشرعي).
3- أن يعمل طبقًا للأصول الفنية التي يقررها فن الطب وأهل العلم به، فما لم يكن كذلك فهو خطأ جسيم يستوجب المسؤولية.
4- أن يأذن له المريض أو من يقوم مقامه كالوالي.

والطريف في هذه القضية أن الفقهاء حين أجمعوا على رفع المسؤولية عن نتائج فعل الطبيب حين توافُر الشروط المشار إليها، اختلفت وجهات نظرهم في تعليل نفي المسؤولية على نحو يدل على التقدير لشأن هذه المهنة وخطورتها في آنٍ . فبعضهم يرى أن العلة هي الحاجة إلى ممارسة المهنة في جو يشجع على أدائها لاسيما حين يقترن ذلك بالإذن، وبعضهم يرى أن العلة بالإضافة للإذن أن الغرض من الفعل قَصْدُ العلاج لا الضرر، والقرينة على هذا القصد وقوعُه موافقًا للأصول الفنية، ويرى البعض أن العلة هي الإذن في صورته المزدوجة المركبة من إذن الحاكم بممارسة المهنة وإذن المريض بأداء ما تقضي به من أعمال.

العلاج بالفعل المَخُوف:
لعله لا يخرج عن دائرة ارتكاب أهون الضررين ما ذهب إليه بعض الفقهاء في قضية العلاج بالأفعال التي يُخافُ منها التلفُ أو السراية (المضاعفات)، بدَلالة ما أردفوا به هذه المسألةَ من تفصيلات بأنه إذا خِيفَ التلفُ من تَرْك الفعل كان القيام به جائزًا بل واجبًا.. كما صرحوا بِحِلِّ قطع عضو استقر فيه الداء وخُشِيَ انتشارُهُ في سائر الجسم.
ولا يخفى أن المعيار المُشار إليه هو المُحَكَّم، وما جاء على غير ذلك ربما كان من التأثر بالأوضاع الزمنية.
وكان مما ثار الجدل فيه- في غيبة مراعاة القاعدة-: الكيُّ[8].

تشريح بدن الإنسان:
كان لهذا الموضوع صداه قديمًا باقتصار البعض على التمسك بمبدأ تكريم بني آدم وتحريم المُثُلَة (وتحريم كسر عظم الميت في بعض الأحاديث) دون مراعاة المقاصد الأخرى من حفظ النفس بشتى الوسائل المؤدية لحفظها، ومن تلك المقاصد التي تُسعِف نصوصُ التشريع وعبارات الفقهاء بمراعاتها:
شقُّ بطن الأم الميتة لحفظ حياة الجنين، والتشريح لتعلم الطب، ولكشف جريمة. ومما جاء في ترجمة ابن النفيس (وهو فقيه مشهور فضلا عن أنه طبيب) وغيره أنهم كانوا يذهبون إلى المقابر فيلاحظون بعض العظام التي تنكشف عنها القبور القديمة، ويراقبون مفاصلها فضلاً عن تشريحهم بعضَ الحيوانات، ولا يخفى أن حرمة بدن الإنسان الميت موفورةٌ إذا كان تشريحه لمصلحة أكبر.
ومما يَتْبَع هذا قضيةُ الاستفادة من أعضاء الموتى لتعويض نقص أو تَلَفٍ في الأحياء، وهي مسألة مركبة من نواحٍ متعددة، ولا تخرج عن نصوص الأمر بالتعاون، وقاعدة ارتكاب أهون الضررين المشار إليها.

العلاج بالمُحَرَّم أو النجس:
الأصل المنع من ذلك لنفس المقاصد والغايات التي يَرمِي إليها الشارع في المنع من بعض الأشياء (غذاء كانت أو دواء) ،واعتبارها محرمة بالنص على تحريمها أو الحكم بنجاستها.
وقد اتجه جمهور الفقهاء هذا الاتجاه المنسجم مع علل المنع ما ظهر منها وما بطن. على أن بعضهم رأى فُسْحَةً في استعمال المحرم أو النجس فيما إذا تَعَيَّنَ ذلك دواءً للمريض، وأجرى هنا أحكام الضرورة التي يباح معها ارتكاب المحظور. في حين رأى الجمهور فرقًا بين الدواء الذي هو مظنون وله بدائل، وبين الغذاء الذي به قِوام البدن ولا غنى عنه مطلقًا فإذا اضْطُرَّ إليه الإنسان غير باغ ولا عاد فلا إِثْمَ عليه..

وقد استوفى ابن القيم وجوهَ الحكمة في المنع من التداوي بالمُحرَّمات بعد أن أورد الأدلة الصحيحة على هذا الاتجاه المشهور لدى الفقهاء، وهو يشير إلى أن المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلاً وشرعًا؛ لأن تحريمَهَا على الأمَّة ليس عقوبة بل هو لخُبْثِهَا؛ فحرمت صيانة عن تناولها وحفظًا من أخطارها فلا يناسب العودة إليها للاستشفاء، وفي اتخاذها دواءً ترغيب بها ينافي داعي التحريم إلى تجنُّبِها، والأخذُ بها يكسب النفس من خبثها بالانفعال البَيِّن الحاصل بالدوار، وإباحةُ التداوي بها يكون ذريعة لتناولها للشهوة واللذة، والشارعُ يَسُدُّ ذرائع الفساد، ولا يخلو الدواء المحرم من أضرار تزيد على ما يُظَنُّ فيه من الشفاء. ثم أشار إلى سر لطيف في كَوْنِ المُحرَّمات لا يُسْتَشْفَى بها هو افتقارها إلى عنصر التلقي بالقبول، واعتقاد المنفعة والبركة المجعولة للشفاء، واعتقاد تحريمها يَحُول بين المسلم وبين تلك العوامل.

ومما يُذكر عن ابن النفيس أنه في مرضه الأخير وَصَفَ له بعضُ الأطباء تناولَ شيء من الخمر، إذ كانت علته تناسب أن يتداوى بها على ما زعموا، فأبى أن يتناول شيئًا من ذلك وقال: "لا ألقَى اللهَ تعالى وفي باطني شيءٌ من الخمر". ولعل في هذه العُجالة غِنًى عن تفصيل الكلام في هذا الموضوع[9].

النظر للعورة للعلاج:
في ظل القاعدة الشرعية المعروفة: "الضرورات تبيح المحظورات"، والقاعدةِ الأخرى التي تَقْضِي بارتكاب أهون الضررين اتقاءً لأشدهما، اعتُبِرَ تحريمُ النظر إلى العورة قاعدةً لها مستثنيات لا تختص بطبيب دون غيره. لكنَّ التطبيق العملي كشف أن العلاج أشهر التطبيقات التي خرجت عن القاعدة وليست كلها، فهناك النظر لأداء الشهادة مثلا، وأمور أخرى قد آلت بالتطور إلى الطب نفسه كما سنرى.
ولا يخفى أن العورة من الرجل ما بين السُّرة إلى الركبة، ومن المرأة البدن كله عدا الوجه والكفين، والعورة المغلَّظة هي الفرج وما حوله. وعلى هذا فإن ما فوق السُّرة وما تحت الركبة هو القدر المباح للنظر إليه من الرجل بالنسبة للرجل ومن الرجل لمحارمه، ومن المرأة للمرأة، ومن المرأة للرجل، أما نظر الرجل إلى المرأة فالقدر المباح منه هو الوجه والكفان.

هذه هي القاعدة في الجملة، أما الاستثناءات التي نَوَّهْتُ بها فهي:
إباحة النظر إلى محل المعالجة - أو لمسه وهو في الأصل أشد حرمة من النظر - وذلك بالقدر الذي تدعو إليه الحاجة، حتى لو كان ذلك المحل هو السوءتين. ودواعي النظر التي مثلوا بها متعددة وهي قد آلت كما أشرت إلى الطبيب أو مساعديه والمُلحَقِين به في الحكم:
القابلة، الخاتن، الممرض، ولمن يعهد إليه بتعرُّف البلوغ (التسنين)، ولمن يُرجع إليه في معرفة العيوب الجنسية أو البكارة.
ومما حض عليه الفقهاء سترُ ما لا يحتاج لنظره من العورة بثوب، والاقتصار على النظر للمحل المُعالجَ.

علاج الرجل للمرأة وعكسه:
من القواعد الشرعية أن نظر الجنس – ذكرًا أو أنثى – إلى الجنس نفسه أخف؛ ولهذا كان الأصل أن تعالج المرأةَ امرأةٌ مثلُها. ومع هذا فقد نص الفقهاء على جواز الاستثناء، وهو معالجة الرجل للمرأة، وذلك حيث لم يوجد أحد من بني جنسها. ولهم تفصيلات في تقدير الضرورة بين أن يكون "تعذر تأتِّي المقصود من المرأة"[10].
وهذا يتيح المجال لاعتبار الحال الحاضر، فإذا لم يكن ساعةَ العلاج العاجل إلا رجلٌ، أو كان الاختصاص المطلوب أو مقدار المهارة فيه لم يتوافر في امرأة فذلك كله من الدواعي المشروعة، وصرح بعضهم بأن الرجل يستعينُ بامرأة فيطلب إليها فعل ما يريد فعله.

الخلوة بالمرأة:
أحكام الخَلْوة عامة لا إعفاء من مراعاتها إلا في الحالات الطارئة النادرة كما لو كانت المرأة مسافرة مع زوج أو مَحْرَم، ثم فارقها بالوفاة مثلاً.
والخَلْوة الممنوعة هي الانفراد بالمرأة من قِبَلِ رجل ليس زوجا ولا مَحْرَمًا. أما انفراد الرجل بالمرأتين فليس خَلْوة عند بعض الفقهاء وهذا طبعا إذا كان الغرض ليس سيئًا.
على أن في انفراد الرجلين بالمرأة وعكسه خلافًا لبعض الفقهاء، ويتعيَّن تفسيره وَفْقًا لما تدل عليه الوقائع الكثيرة من السنة وعمل السلف، بأنه نوع من الاحتياط الواجب إذا لم تُؤمن الفتنة، وأمَّا المتفق عليه فهو ما جاء به الحديثُ الصحيح: ((مَا خَلاَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا)).
ولا شك أن الخَلْوة – على ما صرح به الإمام أحمد وغيره – لا تتحقق إلا في بيت أو نحوه مما يُؤْمَنُ دخول ثالث إلا بإذنهما.
أما ما كان من الأماكن متاحًا دخوله لعامة الناس أو لصنف كالأطباء والممرضين مثلا فلا تتحقق فيه الخَلْوة.

استطباب غير المسلم:
التطبيب مهمة خطيرة، فإذا لم تَجْرِ في جو من الأمان والاطمئنان كانت ذريعة لإلحاق الأذى بالخصوم، كما أن لذلك أثرَهُ نفسيًا في شعور المريض نفسه[11].
من هذا المنطلق، ومما كان يقع مع بعض غير المسلمين من مكايد أو غش، ذهب بعض الفقهاء إلى كراهة استطباب غير المسلم إلا لضرورة. ويدل على مستندهم في الرأي ما أشاروا إليه بقولهم: "لعدم الثقة وافتقاد النصيحة" فإذا لم تَبقَ هذه العلة زال الحُكم المَنوط بها؛ ولذا يعارض ابن تيمية في القول بالكراهية قائلا:
"إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب، ثقةً عند الإنسان جاز له أن يستطبه، كما يجوز أن يودعه المال وأن يعامله. وقد رُوِي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر أن يستطب الحارث بن كَلْدَة – وكان كافرًا – وإذا أمكن أن يستطب مسلمًا فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله فلا ينبغي أن يَعْدِلَ عنه. وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكِتابيّ واستطبابه فله ذلك، ولم يكن من وِلاية اليهود والنصارى المنهي عنها".
كما نبهوا على التثبت مما يصفه من الأدوية المركبة؛ لئلا يكون فيها مُحَرَّمٌ ،كما قالوا بأنه لو أشار عليه بالفطر في الصوم، والصلاة جالسًا لا يُرجَع إلى قوله لأنه خبر متعلِّق بالدين فلا يُقبَل.

من آداب الطبيب:
يشير السبكي في بيان ما ينبغي أن يتحلى به الطبيب من آداب بعبارة مستوعبة بالنسبة لقلة ما جاء عن هذا في غيره من كتب الحِسْبَة التي توغلت في بيان ما يُكتَشَف به أهليةُ الطبيب، وما يُزاح به الغطاءُ عن الجهل أو الغش إن وجد، كما أشارت إلى ما يجب علمهم به، وما يقسمون عليه، ولزوم مراعاة الإذن من ولي الأمر، ومن المريض أو وليِّه[12] يقول السبكي عن آداب الطبيب[13]:
- من حقه: بذل النصح، والرفق بالمريض.
- وإذا رأى علامات الموت لم يُكْرَه أن يُنَبِّهَ على الوصية بلطف من القول.
- وله النظر إلى العورة عند الحاجة بقدر الحاجة.
- وأكثر ما يُؤْتَى الطبيب من عدم فهمه حقيقةَ المرض، واستعجالِه في ذكر ما يصفه، وعدم فهمه مزاج المريض، وجلوسه لطب الناس قبل استكماله الأهلية.
وعليه أن يعتقد أن طبه لا يَرُدُّ قضاء ولا قدرًا، وأنه إنما يفعل امتثالاً لأمر الشرع وأن الله تعالى أنزل الداء والدواء وما أحسن قول ابن الرومي:
غَلِطَ الطَّبِيبُ عَلَيَّ غَلْطَةَ مُورِدٍ        عَجَزَتْ مَوَارِدُهُ  عَنِ  الْإِصْدَارِ
وَالنَّاسُ يَلْحَوْنَ  الطَّبِيبَ  وَإِنَّمَا        غَلَطُ  الطَّبِيبِ  إِصَابَةُ   الْأَقْدَارِ
وهناك آداب أخرى ليس الشريعة مصدرُها الوحيدُ، بل هي من آداب هذه المهنة مثل كتمان أسرار المرض، والالتزام بمقتضى القسم الطبي مما هو معروف[14].

على أن من الآداب أمرًا يُخاطَب به الجميعُ ويُخَصُّ به الطبيبُ؛ لاتصاله المباشر بالمريض وهو آداب "عيادة المريض" ولا يقلل من شأن هذه المطالبة الخاصة أن يكون ذلك مقتضى مهنته. فإنه إذا نوى – بالإضافة إلى باعث الواجب الوظيفي – الأخذ بهذه الآداب التي هي من تمام حق المسلم على المسلم كان أداؤه أكمل؛ لصدور ذلك عن قناعة والتزام ديني ينمو معه الوازع الداخلي بعد رقابة الله عزَّ وجلَّ.

وقد جاء من التفصيلات لآداب عيادة المريض ما يجعل منها علاجًا نفسيًا للمريض فضلاً عن تحقيق المؤانسة والرعاية له في حال ضَعْفِه وقُعودِه، وأشير إلى أهم العناصر البارزة في عيادة المريض مما مصدره الشريعة قبل غيرها:
أ- عيادة المريض أدب ديني للأمر بها والأجر والفضل عليها فيما يلي من الأحاديث:
- "أمرنا – صلى الله عليه وسلم – بعيادة المريض"؛ أخرجه البخاري ومسلم.
- ((حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
- ((إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهْ؟))؛ أخرجه مسلم.
- ((إِنَّ المُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ المُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِِ الجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ))؛ (أي في جَنَاهَا) أخرجه مسلم.

ب- الدعاء للمريض، بمثل الأدعية المأثورة التالية:
- ((بِسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
- ((اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلاّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يِغَادِرُ سَقَمًا))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
- ((بِسْمِ اللهِ –ثَلاثًا- أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ-سَبْعَ مَرَّاتٍ-))؛ أخرجه مسلم.
- ((أَسْأَلُ اللهَ العَظِيمَ رَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ)).
- ((لا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللهُ)).
- ((بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ))؛ أخرجه مسلم.
- قراءة المعوذتين والإخلاص والفاتحة.
- ((اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا، أَوْ يَمْشِي لَكَ إِلَى صَلاةٍ)).

جـ- السؤال عن حال المريض.
ويكون الجواب في جميع الأحوال: (أصبح بحمد الله بارئًا) إلا إن كان السائل مَعْنِيًّا بعلاج المريض وهو يسأل عن تطور حاله لمتابعة علاجه بما يناسب تلك الحال.

د- الإحسان للمريض واحتماله والصبر على ما يشق من أمره: وذلك من باب الامتثال لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [سورة النحل:90]. وقوله – صلى الله عليه وسلم – ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ..)).

هـ- كراهيةُ تَمَنِّي المريضِ الموتَ:
لقوله – صلى الله عليه وسلم – (( لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لابُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ: ((اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا مَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي..)) والمراد أيضًا الطبيب الذي يعود المريض بعدم الوقوع في هذا المحذور.

و- تطييب نفس المريض:
لقوله – صلى الله عليه وسلم –: ((إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى مَرِيضٍ فَنَفِّسُوا لَهُ مِنْ أَجَلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَرُدُّ شَيْئًا وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ)). ويؤيده قوله – صلى الله عليه وسلم – لأحد من عادهم: ((لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ)).

ز- الثناء على المريض بمحاسن أعماله إذا رأى منه خوفًا ليُذْهِبَ خَوْفَهُ ويُحسن ظنه بربه:
وفيه أخبار عن ابن عباس مع عمر، وعبد الله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص، وابن عباس مع عائشة.. لا محل لسردها.

جـ- تشهية المريض:
دخل – صلى الله عليه وسلم – على رجل يعوده فقال: ((هَلْ تَشْتَهِي كَعْكًا؟)) "قَالَ: نعم فطلبه له" .. ابن ماجه.

ط- طَلَبُ العُوَّادِ الدعاءَ من المريض:
(إذا دخلت على مريض فمره فليدع لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة).
ولا شك أن طلب الدعاء منه يُشْعِرُهُ بالراحة النفسية من حسن نظرة الناس إليه وأن مَرَضَهُ كَفَّرَ عنه كثيرًا من ذنوبه وجعله يعيد النظر فيما سَلَفَ من أمره.

ي- تذكير المريض بعد عافيته بالوفاء بما عاهد اللهَ عليه:
ومما رُوِيَ في ذلك حوارٌ جرى بينه – صلى الله عليه وسلم – وبين الصحابي (خَوَّات) بعد أن عُوفي من مرضه، حيث قال له – النبي صلى الله عليه وسلم –: ((صَحَّ الجسمُ يا خوّات)) فأجابه: "وجسمك يا رسولَ الله فقال له النبي: ((فَفِ اللهََ بما وَعَدْتَهُ)) فقال خوات: "ما وَعَدْتُ اللهَ شيئا" قال: ((بلى، مَا مِنْ عَبْدٍ يمرض إلا وَعَدَ الله خيرا، فَفِ اللهَ بما وعدته)).

هذه لمحات في فقه الطبيب وأدبه، وهي للتنويه والتمثيل لا للاستيعاب فله مجال آخر. ومن ذلك يتبين ما للطب من منزلة في الشريعة، وما له من موقع في فقهها وآدابها .. ولا أجد للختام أروعَ من كلمة مأثورة عن الإمام الشافعي عن التواؤم بين علاج الأبدان، وعلاج النفوس ومشكلات الحياة حيث يقول: "لا تَسْكُنْ في بلد ليس فيه فَقِيهٌ وطبيبٌ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] معالم القربة لابن الأخوة 165 – 166.
[2] الهداية 1/126.
[3] الهداية 1/206.
[4] المجموع شرح المهذب للنووي 2/315 الفروع لابن مفلح 2/53.
[5] المغني لابن قدامة 5/400 المحلى لابن حزم 8/196 الشرح الصغير للدردير 4/75.
[6] الهداية 2/194 و 3/179 مجمع الضمانات 47 – 48 وفيه تفصيلات طريفة.
[7] المغني 4/351 وهناك كتاب مطبوع باسم "مقاييس الجراحات" فيه مزيج بين الرياضيات والطب كوسيلة لتحقيق عدالة التنفيذ.
المغني 5/398 ،بداية المجتهد لابن رشد 2/349 ، البدائع 7/305 ، الشرح الصغير 4/47 ،الخطاب 6/21 ،نهاية المحتاج 8/2. 
[8] غذاء الألباب 2/21 – 23. 
[9] لابن تيمية كلام دقيق في التداوي بالمحرم ومناقشته من زعم تعين الدواء في بعض المحرمات "مجموعة فتاوى ابن تيمية" 4/272 – 276.
[10] غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني 2/20 حاشية ابن عابدين 6/370. 
[11] يشير صاحب "معالم القربة في الحسبة" في معرض الحض على تعليم الطب بقوله: "هو من فروض الكفاية ولا قائم به من المسلمين، وكم من بلد ليس فيه طبيب إلا من أهل الذمة ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الطب .. (ص 166).
[12] معيد النعم ومبيد النقم، للتاج السبكي (ص 133).
[13] معالم القربة 159 – 169، نهاية الرتبة 89 – 102 وغيرهما. 
[14] يرجع إلى كتاب "علم آداب الطب" للدكتور شوكت الشطى طبع جامعة دمشق.
وكتاب "الطب العربي" للدكتور أمين أسعد خير الله المطبعة الأميركانية – بيروت.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • في مرض السكر .. الوقاية خير من العلاج دائمًا
  • الطب والعلاج بين الإسلام واليهودية والنصرانية
  • الطب الإسلامي وقاية وعلاجا
  • الطب البديل
  • الأطباء والفقهاء
  • الطبيب المسلم
  • الضوابط الشرعية للعاملات في المجال الطبي
  • فقه الشكوى
  • فقهنا تزكية
  • مقتطفات صحية نافعة من كتاب ( تسهيل المنافع في الطب والحكمة) (1)
  • فزادوهم رهقا
  • فقه الآن
  • فقه القرآن مع حفظه .. من وسائل الوحدة الثقافية
  • تطور مجال الطب
  • ضوء من فقه الصحابة
  • عندما يخذل الأطباء مرضاهم!
  • الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية
  • الطبيب ومهنته الإنسانية

مختارات من الشبكة

  • مما يستشار فيه الطبيب من مسائل الفقه الإسلامي(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • الطب في الشعر العربي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • نظرية البدائل بين فقه الأولويات وفقه الضرورة(مقالة - موقع د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري)
  • المقدمات في أصول الفقه: دراسة تأصيلية لمبادئ علم أصول الفقه (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (3) علم أصول الفقه علم إسلامي خالص(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (1) علم أصول الفقه يجمع بين العقل والنقل (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الفقهاء والأخذ بالسنة (رسالة موجزة في بيان مكانة السنة عند الفقهاء وأعذارهم في ترك العمل ببعضها)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • فقه الدعوة وفقه الرفق(مقالة - آفاق الشريعة)
  • العالم بالفقه دون أصوله، والعالم بأصول الفقه دون فروعه: هل يعتد بقولهما في الإجماع؟(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حقيقة مفهوم الفقه وأثرها في تدريس علم الفقه(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب