قراءة في كتاب السنن الكبرى للبيهقي

قراءة في كتاب "السنن الكبرى" للبيهقي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، وبعد:

فهذا بحثٌ مختصر في كتاب "السنن الكبرى" للبيهقي، تناولتُ فيه الحديث عن الإمام البيهقي، وسبب تأليفه لكتاب السنن، والشروطِ التي اشترطها في قَبول الرواية، ثم عرض الأبواب التي يتكوَّن منها الكتاب والمناسبة بينها، مع بيان عددِ الأحاديث الواردة في الكتاب.

وتفصيل هذه المسائل جاء على الشكل التالي:

• ترجمة الإمام البيهقي:

يقول فيه الإمام الذهبيُّ رحمه الله في كتابه سير أعلام النبلاء: "هو الحافظ العلامة، الثبَت الفقيه، شيخ الإسلام، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي الخراساني؛ ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة (384 هـ) في شعبان.

له مؤلَّفاتٌ عِدَّة؛ منها: السنن الكبرى في عشرة مجلدات، ليس لأحدٍ مثلُه، وألَّف: كتاب السنن والآثار في أربع مجلدات، وكتاب الأسماء والصفات في مجلدين، وكتاب المدخل إلى السنن الكبرى في مجلد، وكتاب مناقب الشافعي مجلد، وكتاب مناقب أحمد مجلد، وكتاب فضائل الصحابة مجلد...

وبلغنا عن إمام الحرمينِ أبي المعالي الجويني قال: ما مِن فقيه شافعيٍّ إلا وللشافعي عليه مِنَّة، إلا أبا بكر البيهقيَّ، فإن المنةَ له على الشافعي؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه.

قلتُ (أي الذهبي): أصاب أبو المعالي، هكذا هو، ولو شاء البيهقي أن يعمَل لنفسه مذهبًا يجتهد فيه، لكان قادرًا على ذلك؛ لسَعَة علومه ومعرفته بالاختلاف؛ ولهذا تراه يلوِّح بنصر مسائل مما صح فيها الحديث، توفي رحمه الله سنة 458 هـ"[1].

• سبب تأليف كتاب السنن الكبرى:

إن كتاب "السنن الكبرى" للإمام البيهقي رحمه الله، مِن الكتب التي جاءت خاليةً مِن المقدمة، وهذا مما يجعل الأمر صعبًا في تحديد سبب التأليف عند المؤلِّف، وشروط تخريجه للأحاديث، لكن من خلال الاستعانةِ ببعض كتبه استطعتُ أن أُحدِّد سببَ تأليفه لهذا الكتاب، وشروطَ تخريجه للأحاديث فيه، يقول رحمه الله في هذا الصدد:

"قال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي غفر الله له ولوالديه: ... وإنما أشرت في هذا الكتاب إلى ما يظهر منه مرادي، ويتَّضح به مقصودي، وهو أنِّي منذ نشأت وابتدأت في طلب العلم أكتبُ أخبار سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، وأجمَعُ آثار الصحابة الذين كانوا أعلامَ الدين، وأسمَعُها ممَّن حمَلَها، وأتعرَّف أحوال رواتها مِن حُفَّاظها، وأجتهد في تمييز صحيحها من سقيمها، ومرفوعها من موقوفها، وموصولها من مرسلها، ثم أنظر في كتب هؤلاء الأئمة الذين قاموا بعلم الشريعة وبنَى كلُّ واحد منهم مذهبَه على مبلغ علمه من الكتاب والسُّنة، فأرى كل واحد منهم رضي الله عنهم جمعيهم قصدَ الحق فيما تكلَّف، واجتهد في أداء ما كلف...، ثم خرَّجت بعونِ الله عز وجل سننَ المصطفى صلى الله عليه وسلم وما احتجنا إليه من آثار أصحابه رضي الله عنهم، على هذا الترتيب، في أكثر من مائتَي جزءٍ بأجزاء خِفافٍ، وجعلت له مدخلًا في اثنَي عشر جزءًا؛ ليَنظُر إن شاء في كلِّ واحد منهما مَن أراد معرفةَ ما عرفته مِن صحة مذهب الشافعي رحمه الله على الكتاب والسُّنة...، ووقع الكتاب الثاني وهو كتاب (السنن)[2] إلى الشيخ الإمام أبي محمد عبدالله بن يوسف الجويني رضي الله عنه بعدما أنفق على تحصيله شيئًا كثيرًا، فارتضاه وشكَر سَعْيِي فيه؛ فالحمد لله على هذه النعمة حمدًا يوازيها، وعلى سائر نعمته حمدًا يكافيها"[3].

مِن خلال هذا النص يتَّضِحُ بجلاءٍ سببُ تأليف الإمام البيهقي لكتبِه بصفةٍ عامة، فذكر فيه أنه منذ نشأته وهو يهتمُّ بالحديث، يميز صحيحه مِن سقيمه، ثم ينظر فيما ذكره أصحاب المذاهب، من حيث مدى ارتباط اجتهاداتِهم بالنص الشرعيِّ، فاقتنع في الأخيرِ بمذهب الشافعي؛ لكونه الأكثر ارتباطًا بالنص الشرعيِّ من الكتاب والسُّنة.

• شروط تخريج الأحاديث عند الإمام البيهقي:

يقول رحمه الله:

"وعادتي - في كتبي المصنَّفة في الأصول والفروع - الاقتصارُ مِن الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييزُ بين ما يصح منها وما لا يصح؛ ليكونَ الناظر فيها من أهل السُّنة على بصيرةٍ مما يقع الاعتماد عليه، لا يجد مَن زاغ قلبُه مِن أهل البدع عن قَبول الأخبار مَغْمَزًا فيما اعتمد عليه أهل السُّنة من الآثار.

ومَن أنعم النظرَ في اجتهاد أهل الحفظ في معرفة أحوال الرواة، وما يُقبَل مِن الأخبار وما يُرَدُّ - علم أنهم لم يألوا جهدًا في ذلك، حتى إذا كان الابن يقدح في أبيه إذا عثر منه على ما يوجب ردَّ خبره، والأبُ في ولده، والأخُ في أخيه، لا تأخذه في الله لومةُ لائم، ولا تمنَعُه في ذلك شِجْنةُ رحمٍ ولا صلة مال، والحكايات عنهم في ذلك كثيرة، وهي في كتبي المصنَّفة في ذلك مكتوبة، ومَن وقف على تمييزي في كتبي بين صحيح الأخبار وسقيمها، وساعده التوفيقُ، علم صدقي فيما ذكرتُه"[4].

ويقول أيضًا:

"ويعلم أن كلَّ حديثٍ أوردتُه فيه قد أردفتُه بما يشير إلى صحته، أو تركتُه مبهمًا، وهو مقبولٌ في مثل ما أخرجتُه، وما عسى أوردته بإسناد فيه ضعفٌ أشرتُ إلى ضعفه، وجعلت الاعتماد على غيره"[5].

هذا النص يُبيِّن فيه الإمام البيهقيُّ شروطَه في تخريج الأحاديث في كتبه عامةً، والدليلُ على أنه شرطٌ عامٌّ، ما ذكره بقوله: "وعادتي في كتبي المُصنَّفة"، بصيغة الجمع، وإذا كان كذلك، فإن ما ذكره من الأحاديث في كتابه "السنن الكبرى"، تنطبق عليها هذه الشروط.

• عدد الكتب التي يتألف منها كتاب "السنن الكبرى":

عدد الكتب التي ذكرها الإمام البيهقي في كتابه السنن الكبرى، وصلت إلى اثنين وسبعين (72) كتابًا، وهي على الترتيب التالي:

• المناسبة بين ترتيب كتب الكتاب:

الحديث النبوي الشريف بصفة عامة أخذ طريقتين في الترتيب عند أهل هذا الفن:

الطريقة الأولى: ترتيبه على الأبواب الفقهية.

والثانية: ترتيبه على أسماء الرجال.

ومعلومٌ أن كتب السنن تندرج ضمن الطريقة الأولى، والدليلُ على هذا الأمر كتابُ السنن الكبرى للبيهقي، الذي هو محل الدراسة؛ حيث نجدُه افتتح بكتاب الطهارة الذي يُحيلنا على التصنيف الفقهيِّ المعهود عند الفقهاء، وثنَّى بمجموعةٍ مِن الكتب اندرجت كلُّها تحت قسم العبادات؛ من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وثلَّث بقسم المعاملات الذي اشتمل في مُجمَله على المعاملات المالية، والأسرية، والجنائية، والقضائية.

والذي يظهر مِن خلال النظر في هذه الكتب أن العَلاقة واضحة بين كتاب الطهارة وكتاب الصلاة الذي جاء بعده؛ من حيث كون الأولى وسيلةً إلى الثانية، فقُدِّمت عليها تنظيرًا وتطبيقًا.

وأما فيما بين العبادات نفسها، فقدم الصلاة على غيرها اقتداءً بالقرآن الكريم، وبحديثِ النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمع أركان الإسلام.

وأما العَلاقة بين العبادات والمعاملات، فتتجلَّى في كون هذه الأخيرة نتيجةً للأولى، وهذه العَلاقة مُستفادة من قول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، فإذا صلَحتِ الأولى كانتِ الثانيةُ مِن باب التأثر تابعةً لها؛ ولهذا تأتي المعاملات في التصنيف الفقهيِّ بعد العبادات.

• عدد الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب:

عدد الأحاديث الموجودة بكتاب السنن الكبرى للبيهقي - حسب طبعة دار الكتب العلمية، بتحقيق عبدالقادر عطا - هي اثنا عشر وثمانمائة وإحدى وعشرين ألف (21812) حديث.

• الكتب المُؤلَّفة حول السنن الكبرى:

لقد حَظِي كتاب "السنن الكبرى" بعنايةِ العلماء واهتمامهم؛ وذلك بالإقبال عليه سماعًا وإسماعًا، وتهذيبًا واختصارًا، واستخراجًا لزوائده، وكلامًا في رِجاله، إلى غير ذلك مِن ألوان العناية والاهتمام، ومِن بين المختصرات عليه ما يلي:

1- "المهذب في اختصار السنن الكبير للبيهقي"؛ تأليف الإمام أبي عبدالله الذهبي الشافعي (ت: 748 هـ)، تحقيق دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف: أبي تميم ياسين بن إبراهيم، طبعَتْه دار الوطن للنشر في عشرة مجلدات.

قام المؤلِّف في هذا الكتاب بحذف أسانيد الأحاديث، واقتصر فقط على ذِكر مَن خرَّج الحديث، مع بيان درجته مِن حيث الصحة والضعف، كما حذَف المتون المكرَّرة التي وقعت قريبة بعضها مِن بعض.

2- "الجوهر النقي في الرد على سنن البيهقي"؛ تأليف علاء الدين المشهور بابن التركماني، (ت: 750 هـ)، طُبِع هذا الكتاب بهامش السنن الكبرى، وله انتقادات عديدة على البيهقي تتفاوت في قيمتها العلمية قوةً وضعفًا.

3- "إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال"؛ تأليف أبي عبدالله علاء الدين مغلطاي، تحقيق عادل أبو محمد - أسامة أبو محمد، طبعتُه الأولى صدرَتْ في اثني عشر مجلدًا، سنة 2001م، ذكرت هذا الكتاب هنا؛ لكونه اهتمَّ بترجمةِ رجال السنن الكبرى.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات