مكانة الإمام الشاطبي العلمية ومباحثاته ومراسلاته

مكانة الإمام الشاطبي العلمية ومباحثاته ومراسلاته

حصَّل الشَّاطبي العلوم العقلية والنقلية، وبذلك تبوأ مكانة عظيمة بين علماء الأندلس، بل بين علماء المسلمين، وقد أشاد العلماء والكتَّاب القدامى والمعاصرون بما للشاطبي من علمية فذة، ومن عقلية نضة، وبما له من أيادٍ في مجالات العلوم، لا سيما في علم مقاصد الشريعة وأصولها، وعلم البدع والمحدَثات وأصولها.

ونعرض فيما يلي جملة من أقوال العلماء في الثناء عليه:

قال عنه تلميذه أبو عبدالله المجاري: "الإمام العلامة الشهير، نسيج وحده، وفريد عصره"[1].

وقال عنه ابن مرزوق الحفيد: "الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقق العلامة الصالح"[2].

وقال التنبكتي: "الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًّا، مفسرًا، فقيهًا، محدِّثًا، لغويًّا، بيانيًّا، نظارًا، ثبتًا، ورعًا، صالحًا، زاهدًا، سنيًّا، إمامًا مطلقًا، بحاثًا، مدققًا، جدليًّا، بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القدم الراسخ، والإمامة العظمى في الفنون؛ فقهًا وأصولًا وتفسيرًا وحديثًا وعربية وغيرها، مع التحري والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصًا على اتباع السنة، مجانبًا للبدع وأهلها"[3].

وقال: "اجتهد وبرع، وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالَغ في التحقيق، وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل"، وقال: "وبالجملة، فقدرُه في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر"[4].

وقال محمد مخلوف: "العلامة المؤلف المحقق النظار، أحد الجهابذة الأخيار، وكان له القدم الراسخ في سائر الفنون والمعارف، وأحد العلماء الأثبات، وأكابر الأئمة الثقات، الفقيه الأصولي المفسر المحدث، له استنباطات جليلة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، مع الصلاح والعفة والورع، واتباع السنة واجتناب البدع"[5].

أما ثناء المعاصرين على الشَّاطبي، فكثير يصعب حصره؛ ولذا فأكتفي بما تقدم من ثناء المذكورين عليه.

مباحثاته ومراسلاته:

كان الشَّاطبي مكثرًا من مباحثة أعلام عصره، ومراسلته لهم، وهذا يكشف لنا معلمًا من حياة هذا الإمام، وعن حرصه على العلم والاستفادة، لا سيما في المسائل المشكلة، كما أنها تكشف لنا مدى اهتمام الشَّاطبي ببيان الحق واستبيانه، وإيضاحه واستيضاحه، بأسلوب علمي مؤدب بعيد عن الألفاظ الجارحة، أو الانتصار للآراء، بل يتضح من خلال كثير من مراسلاته ومباحثاته قصده للحق واتباعه للكتاب والسنة، وبُعده عن التقليد الأعمى، كما أن بعض تلك الرسائل والمباحثات تكشف لنا شيئًا من محنة الشَّاطبي وغربته في محيط يستسهل أعلامه البدع، ويسمونها المصالح، أو يستدلون لها بما هو غريب عنها.

وهي أيضًا توضح قوة استدلال الشَّاطبي، وتمكنه من العلم، وتبين تأصيل الشَّاطبي علميًّا، حتى قال التنبكتي: "أجْلَتْ عن ظهوره فيها، وقوة عارضته وإمامته"[6].

وقد راسل الشَّاطبي جملة من أعلام عصره؛ كشيخه أبي سعيد بن لُب، وصاحبه أبي العباس القباب، وأبي عبدالله بن عرفه، وأبي عبدالله الفشتالي.

ومن المسائل التي كانت محورًا لجملة من مباحثاته ومراسلاته: مسألة مراعاة الخلاف.

قال الشَّاطبي: "ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب، وإلى بلاد إفريقية؛ لإشكال عرض فيها من وجهين... فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد، إلا أني راجعت بعضهم بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب - رحمة الله عليه..."، ثم ذكر جواب القباب[7].

ويبدو أن ممن أجابه على ذلك أيضًا ابن عرفة[8]، والفشتالي[9].

ومن المسائل أيضًا: حكم الدعاء الجماعي أدبار الصلوات؛ فقد كان الشَّاطبي يرى بدعية ذلك[10]، قال الشَّاطبي بعد أن ذكر نازلة لإمام ترك الدعاء الجماعي: "فبلغت الكائنة بعض شيوخ العصر، فرد على ذلك الإمام ردًّا أمرع[11] فيه على خلاف ما عليه الراسخون"[12].

ويبدو أن من أبهمه الشَّاطبي هو شيخه ابن لُب؛ فإنه قد اشتهر عنه إنكاره على من قال بأن الدعاء الجماعي أدبار الصلاة بدعة، وقد ألف رسالة صغيرة في استحسان ذلك[13]، وقد انتصر للشاطبي تلميذه أبو يحيى محمد بن عاصم، ورد على ابن لُب في رسالة مستقلة[14].

وممن ناقشه الشَّاطبي في هذه المسألة ابن عرفة، وقد رأى ابن عرفة استحسان ذلك أيضًا[15]، بل إن ابن عرفة لمز منكره لمزًا قويًّا؛ حيث قال في جواب له عن حكم الدعاء الجماعي بعد الصلوات: "وما سمعت من ينكره إلا جاهل غير مقتدى به، ورحم الله بعض الأندلسيين؛ فإنه لما أُنْهِيَ إليه ذلك ألَّف جزءًا في الرد على منكره، والله حسيب أقوام ظهر بعضهم ولا يُعلم لهم شيخ، ولا لديهم مبادئ العلم الذي يفهم به كلام العرب، والكتاب والسنة، يُفتون في دين الله بغير نصوص السنة"[16].

ولعل ابن عرفة لا يعني الشَّاطبي، ومع ذلك فكلامه كلام قوي جاف في مسألة مختلف فيها.

ومن جملة المسائل التي كانت مثار بحث ومراسلة بين الشَّاطبي وغيره: أسئلة وجهها إلى ابن عرفة حوت ثماني مسائل، منها استشكال في الفتوى بأحد قولي إمام مقلد، كمالك، دون تحقيق كونه المرجوع إليه، ومنها: هل يجوز للطالب أن يقول في طريق من طرق ناقلي المذهب: هذا مذهب، إلى غير ذلك، وقد أجاب عنها ابن عرفة جوابًا مفصلًا[17]، هذه جملة من المراسلات والمباحثات[18].