مقدمة الطبعة الثانية لكتاب تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر

مقدمة الطبعة الثانية

لكتاب تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر[1]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين متمِّم الفضل، ومحيي العلم على أيدي العلماء أولي الإخلاص والفضل، والصلاة والسلام على رسوله المعروف بالجود والفضل، الذي تبِعه العلماء العاملون على التقوى والبَذْل للأصل والفضل، وبعد:

فقد لقي هذا الكتاب رواجًا خاصًّا؛ لعدة أسباب، منها: أنه يؤرِّخ للقرن الرابع عشر الهجري الذي عاشه كثيرٌ من القراء اليوم، وعرَفوا غالب المترجمين فيه، أو سمعوا بهم عمن لقِيَهم، ومنها: أنه يترجم لأعلام ملؤوا دمشق حياةً وعلمًا ومواقفَ متميزة، وشغلوا الناس، ومنها: أن فيه سِيَرًا ذاتية موثَّقة لجماعة لم يكتُبْ عنهم أحدٌ خارج هذا الكتاب؛ فغَدَا مرجعًا معتمدًا، اتكأ عليه وأخذ منه كلُّ مَن جاء بعده من مؤلِّفين، وبعضهم جعله مصدره الأساسي الأول مِن بين مصادره؛ ذلك لأن قِسمًا من مادته جُمع من أفواه الرجال، ومن معايشة مؤلفَيْهِ لعدد من المترجَم لهم، لولاهما لنُسيت، كما نُسي ناسٌ لا يُعرفون اليوم إلا بالاسم، وسيسقُط حتى هذا الاسمُ في الغدِ القريب، إن لم يدوَّنْ.

ولقد تعِب مؤلِّفَا الكتاب في جمعه أي تعب؛ سألا كثيرًا من الناس، زارَا المقابر، ووقفَا عند شواهد القبور، تجوَّلَا في ضواحي دمشق، فتَّشَا في ذاكرتيهما، بحثَا في الجرائد القديمة الصفراء والمهترئة، أصغيَا إلى أبناء المترجَمين، قاطعَا المعلومات بعضها مع بعض، حتى استوَتْ تلك السير الذاتية على نحو قريب جدًّا من الواقع، إن لم يكن كالواقع تمامًا.

هذا فضلًا عن أنهما التزمَا الصدق فيما كتباه؛ فلم تدفعهما عاطفة جامحة، ولا هوًى متَّبع، لا في مدح ولا في هجاء.

ولكن العجَب العُجاب أن ردود الفعل كانت مختلفة حين كان العملُ في أوراقه الأولى؛ بضعة أشخاص من ذوي المترجَمين أحجموا عن الإدلاء بما عندهم من معلومات، وآخرون شكُّوا في نيَّات المؤلفَيْنِ اللذينِ جعلَا يزوران كل جهة تفيدهما.. وظن فريق ثالث أن ما سوف يقدمونه من معلومات قد تسيء إليهم عند الجهات الأمنية، أو تضرُّ بعلاقاتهم الشخصية، وصلاتهم الاجتماعية.

صدر الكتابُ في جزأين، وصدرت لقاءَه كلماتٌ أساءت للمؤلفَيْنِ الاثنين، وتتبع ناسٌ عَوَارَه برأيهم، وأشاروا إلى عَوْراته افتراءً، وضخَّموا ما أسمَوْه سقطات.. وراج الكتاب، فأعيد طبعه غير مرة على حاله، ثم أُلحِق به جزءٌ ثالث استدرك ما سقط.. ونَفَقَتْ سوقُه.

ومع تراخي الزمن، ونفاد النسخ، وتوافر معلومات جديدة، واجتماع ملاحظات مختلفة وبعض نقد صحيح.. اقتضى الأمر إصدار طبعة جديدة تُدخل المستدرَك في مكانه من الجزأين الأوَّلين، وتضيف ما يلزم، وتعدِّل.. وهذا ما كان، حتى استوت الآن بحمد الله تعالى طبعةٌ متكاملة، بعد أن أخذنا فيها بالملاحظاتِ والتصحيحات اللازمة.

ووفَّقنا الله إلى عدد من الوثائق التي تُغْني الكتاب؛ من إجازات ورسائل وتراجم ووصايا، رفدنا بها عملنا، قدمتْ أسلوبَ العصر في الكتابة وفي التفكير والتوثيق؛ فقد تكشِف وثيقة واحدة عن تصور لا يُدرَك في ترجمة صاحبها؛ من ذلك مثلًا رسالة من السلطان عبدالحميد الثاني إلى الشيخ محمود أبو الشامات المتوفى سنة 1341هـ، تتعلق بفِلَسطين وتوطُّن اليهود بها.. وموقفه منهم، وهي إحدى الوثائق التاريخية المفيدة.

ولقد حذفنا من هذه الطبعة أشياءَ مِن قصص الكرامات التي ذاعت على ألسنة الدمشقيين، وتداولوها فيما بينهم، كنا سمعنا بعضها من أشخاص جرت معهم، وما رووها عن آخرين.. أو رووها عن ثقات. إلا أن ناسًا جابهونا مجابهةَ تقريعٍ أو استهزاء، مما أدى إلى أخذٍ وردٍّ ومشاحنات؛ فآثَرْنا ترك بعضها، مع أن الاعتقاد بالكرامات وارد في العقيدة، كما قال إبراهيم اللَّقَّاني في جوهرة التوحيد:

وأثبِتَنْ للأوليَا الكرامه ♦♦♦ ومَن نفاها فانبِذَنْ كلامَه

إلا أننا هنا نبرأ من الشطحات أو القصص الغريبة، والعُهدة على الراوي.

وكان في مستدرك الطبعة الأولى تراجم مكررة عما جاء في الجزأين الأولين، ولكنه تكرار زيادة معلومات عما جاء فيهما، لا تكرار حشو؛ ولهذا فقد أعَدْنا صياغة التراجم المتكررة.

وإذ تبيَّن لنا أخطاء في تواريخ الوفَيَات لبعض المترجَمين، فقد اقتضى التصحيحُ تغييرَ أماكن ورودهم في الكتاب.

ولا بد هنا من الإشادة بالأخ الأستاذ عمر النشوقاتي، الذي اهتم بهذا الكتاب منذ صدوره، وقدم عليه ملاحظات مهمة؛ فاستدرك على التراجم أكثر من مائة عَلَم، قدم سِيَرهم إلينا بتتبع علمي، وأضاف عناوين كتبٍ ألَّفها الأعلام المذكورون في الكتاب، وأشعارًا لهم، وصحَّح بعض تواريخ الوفَيَات اعتمادًا على ألواح القبور التي تتبعها بدقة، ودوَّن معلوماته منها، هذا غير مشاركته الأساسية في تصحيح تجارِبِ الكتاب، وتزويده بما توافر لديه من صور خطية؛ فجزاه الله عن العلم خيرًا.

كما نشكر الدكتور محمد شريف الصواف؛ فقد نظر فيه، وزوَّدنا ببعض تراجم، وصحَّح معلومات ضرورية، وأضاف إليه وثائقَ تخدُمه.

والشكر موصول إلى أخوينِ اثنين فاضلين، أحدهما فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عدنان المجد، أعان على تراجمَ مهمة، سعى للحصول عليها، والآخر الأستاذ محمد رياض المالح رحمه الله، وقد كانت له أيادٍ مبرورة في إعطائنا تراجمَ منذ الطبعة الأولى.

ولقد خدمَتْ دارُ الفكر هذا الكتاب، وعُنيت به عناية لائقة، ومنذ الطبعة الأولى، كدأبها في كتبها عمومًا، وهي التي كانت من وراء تشجيعه والاهتمام به، ممثلة في مديرها العام البحَّاثة المفكر الأستاذ محمد عدنان سالم، فلها شكر من القلب، وثناء باللسان.

ونذكر بالفضل مَن عاون في دار الفكر على هذه الطبعة الثانية بجُهد متميز وصبر على التعديل الذي لم يكن سهلًا، بل بُذِل فيه جهد فائق، وخصوصًا الأخت نهى علايا التي بذلت فائق جهدها في التصحيحات المتكررة، وكذلك الأخ الأستاذ حسام كشكية في مقابلته التجارِب.. فضلًا عن جهد الإخراج الفني بلمسات الأخ أنس الطرشان، جزاهم الله خيرًا كلهم.

اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك أن نتكلف ما لا نعلم، كما نعوذ بك من العُجْب فيما نعلم.

فأعذِنْا اللهم، ووفِّقْنا لكل ما تحب وترضى.. يا أللهُ.

دمشق، المحرم 1437هـ.

تشرين الثاني/ نوفمبر 2015م.

المؤلِّفان

د. محمد مطيع الحافظ، د. نزار أباظة