• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    بلقيس وانتصار الحكمة
    حسام كمال النجار
  •  
    مجالات التيسير والسماحة في الشريعة الإسلامية
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    تحريم إنكار مشيئة الله تعالى أو مشيئة المخلوق
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    أشهد أن نبيـنا وسيدنا محمدا قد بلغ رسالة ربه ...
    الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع
  •  
    هل تحدثت عن نعم ربك؟
    حسين أحمد عبدالقادر
  •  
    وقفات تربوية مع سيد الأخلاق
    د. أحمد عبدالمجيد مكي
  •  
    حسن الظن بالمسلمين (خطبة)
    د. عبد الرقيب الراشدي
  •  
    تعظيم شعائر الله تعالى (درس 1)
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    وحدة الصف (خطبة)
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    الهدوء لغة الأرواح الجميلة
    د. سعد الله المحمدي
  •  
    الموازنة بين دعائه صلى الله عليه وسلم لأمته وبين ...
    د. أحمد خضر حسنين الحسن
  •  
    سلسلة شرح الأربعين النووية: الحديث (36) «من نفس ...
    عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت
  •  
    فضل كلمة «لا حول ولا قوة إلا بالله»
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    فوائد من طلب العلم وتعليمه والدعوة إليه
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    الأربعة الذين أدخلوا رواية الحديث في الأندلس
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    عيش النبي صلى الله عليه وسلم سلوة للقانع وعبرة ...
    السيد مراد سلامة
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / أخلاق ودعوة
علامة باركود

بلقيس وانتصار الحكمة

بلقيس وانتصار الحكمة
حسام كمال النجار

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 29/9/2025 ميلادي - 7/4/1447 هجري

الزيارات: 183

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

بلقيس وانتصار الحكمة


في تاريخ البشر مواقف عظيمة خلدها الوحي، لا لأنها قصص للتسلية، بل لأنها دروس خالدة للقلوب والعقول. ومن بين تلك المواقف قصة ملكة عظيمة جلست على عرش سبأ، تملك القوة والجاه والمال، لكنها اختارت أن تجعل الحكمة قائدها، والعقل رائدها، والقلب سبيلها إلى نور الإيمان. إنها بلقيس التي نقلها القرآن من بين غياهب السجود للشمس إلى نور التوحيد، ومن أسر العرش الذهبي إلى الحرية تحت عرش الرحمن.

 

إنها القصة التي انتصر فيها صوت الحكمة على كبرياء المُلك، وانتصر فيها نور العقل على تقاليد العادة، وانتصر فيها التواضع على الغرور. ولهذا خلدها الله في كتابه لتكون مدرسة في القيادة، والبحث، والتأمل، والإيمان.

 

حين نتأمل في قصص القرآن الكريم، نكتشف أنه لا يورد الأحداث لمجرد الحكاية أو السرد التاريخي، بل يختار من وقائع الأمم ما يصلح أن يكون آية للقلوب وعبرة للعقول. ومن بين تلك القصص البديعة التي امتدت عبر الزمان، قصة ملكة سبأ بلقيس، التي تحوَّلت من ملكة ترفل في القوة والسلطان، إلى مؤمنة خاشعة تقر بربوبية الله الواحد.

 

لقد وردت قصتها في سورة النمل، في سياق الحديث عن نبي الله سليمان عليه السلام، الذي آتاه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وسخَّر له الريح والجن والطير. وكان الهدف من عرض القصة أن يبيِّن القرآن كيف تتلاقى الحكمة مع الإيمان، وكيف يقود التدبر والبحث عن الحقيقة صاحبه إلى السجود لله، مهما بلغ من عزة أو ملك.

 

يقول الله تعالى في مطلع المشهد: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: 20 - 24].

 

هذا الخبر الذي حمله الهدهد لم يكن خبرًا عاديًا، بل كان بداية خيط يقود إلى واحدة من أعجب قصص الإيمان. يقول الطبري في تفسيره: إن الهدهد رأى ما لم يره سليمان من أرض اليمن، وأخبره أن هنالك أمة عظيمة تحكمها امرأة، وأن هذه الأمة تضل بعبادة الشمس. وفي ذلك إشارة إلى أن الله قد يجري الحق على لسان أصغر خلقه، كما أجراه على لسان طائر ضعيف.

 

والمثير أن القرآن وصف بلقيس بقوله: ﴿ أُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾، أي أعطاها الله من أسباب الملك والثراء والقوة ما يجعلها مضرب مثل في العظمة، حتى أن عرشها كان موصوفًا بالعظمة. لكن هذه العظمة المادية لم تمنع من وجود خلل روحي: إذ هي وقومها يعبدون الشمس. ومن هنا يبدأ درس عظيم: قد يبلغ الإنسان أقصى ما يمكن في الدنيا من سلطان، ولكنه إذا لم يهتدِ إلى التوحيد يبقى في ضلال مبين.

 

أرسل سليمان عليه السلام كتابًا مع الهدهد، فيه دعوة واضحة: ﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 30-31]. رسالة قصيرة موجزة، لكنها تحمل كل معاني الرسالة: التوحيد، الخضوع لله، وترك الاستعلاء.

 

هنا تتجلى حكمة بلقيس. فقد جمعت القوم واستشارتهم، كما قال تعالى: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ [النمل: ٣٢]. امرأة في قمة السلطة، ومع ذلك لم تستبد برأيها. وهذا وحده يكشف عن عقل راجح. يقول ابن عاشور: في هذه الآية دليل على كمال عقلها، إذ لم تجعل رأيها فوق رأي مستشاريها، بل أشركتهم في القرار.

 

لكن المستشارين أجابوها بلغة القوة: ﴿ نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ [النمل: 33]. أرادوا القتال، لكنهم ألقوا الكلمة الأخيرة إليها.

 

جاء جوابها مختلفًا: ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 34]. هنا يظهر بُعد نظرها، فهي تعرف أن الحرب ليست مجرد استعراض قوة، وإنما هي خراب للبلاد وإذلال للشعوب.

 

ابن كثير في تفسيره قال: "كان في كلامها إنصاف وعقل"، فهي لم تندفع وراء الغرور، بل رأت أن الملوك إذا غزوا دمَّروا، وأدركت أن درء المفاسد أولى من جلب المنافع. وهنا نلمس كيف أن امرأة وثنية نطقت بحكمة خالدة، حتى صار قولها آية تُتلى.

 

ثم أتبعت ذلك باقتراح إرسال هدية: ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 35]. لم يكن ذلك استسلامًا، بل كان أسلوبًا سياسيًا بديعًا، لاختبار نية سليمان: هل هو ملك يبحث عن الغنائم أم نبي مرسل بدعوة ربانية؟

 

يعلِّق الطاهر ابن عاشور على هذا الموقف بقوله: "هذا من أبلغ ما يكون في السياسة، لأنها أرادت أن تدرأ عن نفسها الحرب، وفي الوقت نفسه تختبر عزيمة سليمان".

 

فلما وصل الرسل بالهدية، رفضها سليمان قائلًا: ﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ [النمل: 36]. عندها أدركت بلقيس أن الأمر ليس أمر دنيا، وإنما هو أمر رسالة، وأن أمامها نبيًا لا يُشترى بالمال.

 

بعد أن ردَّ سليمان عليه السلام الهدية، وبيَّن أنه ليس مَلِكًا طامعًا في مال أو غنيمة، بل نبي مرسل بآية من الله، انتقل المشهد إلى طور جديد من التحدي والبيان. أراد سليمان أن يُري قوم سبأ، وعلى رأسهم ملكتهم، أن سلطان الله فوق كل سلطان، وأن ما عند البشر – مهما بلغ من عظمة – يبقى صغيرًا أمام قدرة الله.

 

فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 38]. سؤال يبدو في ظاهره استعراضًا للقوة، ولكنه في حقيقته آية يراد بها إقناع قلب الملكة أن ملكها كله بيد الله.

 

قال عفريت من الجن: ﴿ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ [النمل: 39]. عرضٌ سريع وقوي، لكن هناك ما هو أعجب: ﴿ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ [النمل: 40]. فإذا بالعرش العظيم ينتقل من أرض اليمن إلى أرض فلسطين في لحظة لا تكاد تُقاس بالزمن.

 

هنا سجَّل القرآن رد فعل سليمان: ﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [النمل: 40]. وهذا مشهد بديع، إذ لم ينسب الفضل إلى نفسه، ولا إلى الجن، ولا إلى صاحب العلم، بل أرجع الفضل كله إلى الله، ورأى في هذه الآية اختبارًا لشكره.

 

ابن كثير يعلّق قائلًا: "هذا دأب الأنبياء والأولياء، إذا رأوا خوارق العادات نسبوها إلى فضل الله لا إلى أنفسهم، ليكونوا قدوة في التواضع والشكر".

 

بعد ذلك قال سليمان: ﴿ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 41]. أراد أن يختبرها: هل تدرك الحقائق إذا عرضت عليها بشكل مختلف؟ هل عقلها مرن يقودها إلى الاعتراف بالحق، أم جامد أسير للشكليات؟

 

فلما جاءت، قيل لها: ﴿ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ [النمل: 42]. لم تُنكر ولم تكابر، بل قالت: ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾. عبارة موجزة تحمل دلالات عظيمة؛ فهي لم تجحد الواقع، ولم تُسلّم تسليمًا أعمى، بل نطقت بما يدل على أنها رأت الشَّبه الكبير، ووقفت موقفًا وسطًا بين الاعتراف والتدبر. وهذا من أعظم دلائل حكمة عقلها.

 

يقول ابن عاشور: "جوابها دليل على فطنة وذكاء، فإنها لم تُكذِّب بصرها، ولم تتهوَّر في الجزم، بل اختارت لفظًا يحتمل، فكأنها تعلن استعدادها للنظر من جديد".

 

ثم انتقلت إلى المشهد الأعجب: دخولها الصرح. يقول تعالى: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ﴾ [النمل: 44]. كانت أرضية القصر من زجاج صافٍ يُرى من تحته الماء، فظنته ماءً وكشفت عن ساقيها لتخوضه. فإذا بها تكتشف أن ما تراه عينها أرفع من قدرتها على التصور.

 

عند هذه اللحظة تجلَّى لها أن سليمان مؤيد من الله، وأن ملكه ليس كملك البشر. فسقط الحجاب الأخير عن قلبها، وقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].

 

هذه الكلمات تختصر مسيرة كاملة من البحث والتفكر. بدأت ملكة قوية معبودة من قومها للشمس، ثم صارت امرأة متواضعة أمام رب العالمين. لم تُسلم خوفًا من السيف، ولم تُسلم طمعًا في سلطان، بل أسلمت عن قناعة قلبية بعد أن رأت آيات الله الباهرة.

 

الطبري في تفسيره قال: "إنما قالت ذلك تواضعًا وخضوعًا لله، وإقرارًا بأنها كانت في ضلال بعبادتها الشمس". وابن كثير أضاف: "في كلامها شرف لسليمان عليه السلام، إذ جعلت إسلامها معه، إشارة إلى أنها لم تُرِد التفرُّد، بل الالتحاق بركب الأنبياء".

 

وهنا تبرز دلالة روحية عميقة: فالحكمة الحقيقية ليست في حسن التدبير السياسي فحسب، بل في القدرة على الانتقال من باطل إلى حق، ومن شرك إلى توحيد. بلقيس لم تَفُتْها الآيات حين ظهرت، ولم تأنف أن تعترف بخطئها، بل أسرعت إلى التوبة. وهذا هو الفرق بين القلب الحي والقلب الميت: القلب الحي إذا جاءه النور استجاب، أما القلب الميت فيبقى أسير عناده.

 

ولعل أجمل ما يميز إسلام بلقيس أنها قالت: ﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ ﴾، أي أنها لم تنسب الفضل لنفسها وحدها، ولم تتعالَ بملكها، بل وضعت نفسها في موضع التلميذ أمام نبي الله، تشاركه الخضوع لله. وفي هذا درس بليغ: أن القيادة الحقيقية ليست أن يظل القائد متشبثًا بكبريائه، وإنما أن يتواضع أمام الحق ولو جاء على يد غيره.

 

إن المتأمل في مسيرة بلقيس يكتشف أن القصة ليست مجرد حكاية عن ملكة أسلمت، بل هي نموذج متكامل عن رحلة العقل الباحث عن الحقيقة، وعن كيف يمكن للإنسان – أيًّا كان جنسه أو منصبه أو مكانه – أن ينتقل من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان.

 

من أعمق ما يلفت النظر أن القرآن قدَّم لنا بلقيس كامرأة وملكة في آن واحد. كثير من الناس إذا بلغوا منصبًا أو جاهًا يظنون أنهم فوق النصيحة، وأنهم أقدر الناس على اتخاذ القرار. لكن بلقيس كانت على العكس: استشارت قومها، لم تتعالى على مشورتهم، بل قالت: ﴿ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾. هذه الجملة تحمل قيمة أخلاقية وسياسية كبيرة: أن القائد لا يستبد برأيه، بل يحترم عقول من حوله.

 

وهذا الدرس ما يزال صالحًا لكل زمان. فكم من حاكم أهلك شعبه بالاستبداد لأنه لم يعرف قيمة المشورة، وكم من مدير خسر مؤسسته لأنه ظن أنه أعلم من الجميع. بلقيس هنا تُذَكِّرنا أن المشاورة ليست ضعفًا، بل هي عين الحكمة.

 

لكن المثير أن قومها ردوا عليها بلغة القوة: ﴿ نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ ﴾، أي نحن أصحاب جيوش وأسلحة. وهذه صورة متكررة في التاريخ: الشعوب كثيرًا ما تنخدع بالقوة المادية وتظن أنها كافية لحل الأزمات. غير أن بلقيس أدركت أن القوة وحدها لا تصنع نصرًا إذا كان الحق غائبًا. فقالت كلمتها الخالدة عن الملوك وخرابهم.

 

ابن عاشور يرى في هذا الموقف أن بلقيس كانت أعمق نظرًا من رجالها، لأنها لم تُسحر ببريق القوة، بل فكرت في عواقب الحرب. وهذه ميزة القائد الحقيقي: أن لا ينجر وراء الحماس الأجوف، بل يقيس الأمور بميزان العقل والواقع.

 

ومن لطائف القرآن أنه نقل كلامها: ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ﴾ في صيغة العموم، وكأنها قاعدة كلية. يقول القرطبي: "هو خبر أريد به التحذير، وهو جارٍ على الغالب من حال الملوك إذا استولوا على بلاد غيرهم". فكأن بلقيس لم تتحدث فقط عن سليمان، بل عن كل ملك يطغى إذا غزا.

 

هذه الحكمة تجعلنا نفكر في حاضرنا: كم من الحروب قامت بدعوى نشر الحضارة أو الدفاع عن الحقوق، فإذا هي تنتهي بخراب البلدان وإذلال أهلها. فكلام بلقيس هنا ليس تاريخًا مضى، بل قاعدة تتكرر عبر العصور.

 

ثم إن موقفها من إرسال الهدية يكشف عن ذكاء سياسي فريد. لم ترد أن تستفز سليمان بالرفض المطلق، ولم ترد أن تسلم بلا اختبار، فاختارت طريقًا وسطًا: ترسل هدية لترى رد فعله. هذا السلوك فيه درس عميق: أن القائد الحكيم لا يتعجل المواقف، بل يختبر خصمه أولًا.

 

فلما رد سليمان عليه السلام ردَّه القاطع، عرفت أنه نبي، لا يطلب مالًا ولا دنيا. وهنا بدأت القناعة تنمو في قلبها. لكن الانتقال الكامل لم يتم إلا حين واجهت الآيات بنفسها: العرش الذي جاءها من اليمن إلى فلسطين، والصرح الذي حسبته ماء.

 

في هذا المشهد الأخير، نرى كيف يتدرج القرآن في بناء القناعة: لم يُرِد الله لها أن تؤمن بمجرد خطاب، بل هيَّأ لها أن ترى بعينيها آيات محسوسة. وهذا منهج رباني في الدعوة: أن يُؤتى للإنسان من الباب الذي يفهمه ويستوعبه.

 

ولما أعلنت إسلامها قالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾، وهذا أول اعتراف بالتقصير. فالحكمة الحقيقية تبدأ من الاعتراف بالخطأ. كثيرون يعرفون الحق، لكن يمنعهم الكبر أن يقولوا "أخطأت". أما بلقيس فقد بدأت بتواضع شديد: أنا ظلمت نفسي.

 

ثم قالت: ﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ ﴾، فجعلت إسلامها مع نبي الله لا أمامه ولا فوقه. هذا يعني أنها لم تضع نفسها ندًّا لنبي، بل أقرَّت بأنها تابعة للحق. وهذا قمة التواضع.

 

هنا يطرح القرآن سؤالًا ضمنيًا علينا: إذا كانت ملكة عظيمة كهذه لم ترَ في التوحيد غضاضة، فهل يليق بالإنسان العادي أن يتكبَّر عن السجود لله؟ وإذا كانت ملكة متبوعة من قومها استطاعت أن تعترف بخطئها، فهل يعجز أحدنا أن يقول: "رب اغفر لي"؟

 

ابن كثير ذكر أن إسلامها لم يكن خسارة لها، بل إن الله أبقى لها ملكها، لكنها من يومها صارت تحت راية الإيمان. وكأن الرسالة هنا أن الإيمان لا يُسلب الإنسان دنياه، بل يرفعها إلى معنى أعلى.

 

ولو تأملنا أكثر، لوجدنا أن قصة بلقيس تعلمنا التوازن بين العقل والسياسة والإيمان. فهي استخدمت عقلها في المشاورة، وسياساتها في اختبار سليمان عليه السلام، ثم أطلقت قلبها ليتبع النور حين تبيَّن لها الحق. وهذا التوازن هو ما يحتاجه الإنسان في حياته كلها: أن لا يلغي عقله، ولا يغتر بقوته، ولا يغلق قلبه عن نور الله.

 

واللافت أن القرآن لم يذكر مصيرها بعد الإسلام، ولم يذكر تفاصيل حياتها بعد ذلك. كأن الغاية أن يبقى المشهد مفتوحًا أمام القارئ: ليست العبرة بالتفاصيل التاريخية، بل بالدرس الإيماني.

 

إن قصتها تشبه رحلة كل إنسان يبحث عن الحق: يبدأ في ظلمات العادة والتقاليد، ثم يسمع دعوة تناديه، فيتردد بين القوة والمشورة، ثم يرى آية تفتح قلبه، فيسجد لله. وهذه هي سنة الله في القلوب.

 

الدروس المستفادة للإنسان المعاصر

قصة بلقيس ليست مجرد حدثٍ تاريخي نقرأه للتسلية أو التثقيف، بل هي مرآة تعكس واقعنا، وتقدِّم لنا دروسًا تصلح لكل إنسان في أي زمان.

 

(1) التواضع أساس الهداية:

أول ما نتعلمه أن التواضع يفتح أبواب الحق. بلقيس كانت ملكة عظيمة، تحت يدها جيوش وأموال، ومع ذلك لم يمنعها ذلك أن تعترف بالحق. لم تقل: "أنا ملكة متبوعة، فكيف أسجد لله؟" بل قالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾. هنا درس خطير: الكبرياء هو الحاجز الأكبر أمام الهداية. كم من عالم ضلَّ لأنه تكبَّر على مراجعة نفسه! وكم من غني استكبر عن الإيمان بحجة أنه مكتفٍ بدنيا! أما التواضع، فهو الذي يفتح القلب لنور الله.

 

(2) قيمة المشاورة:

القرآن سجَّل لنا مشاورة بلقيس مع قومها: ﴿ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾. هذا الموقف يعلمنا أن القيادة ليست تسلطًا، بل هي فن إدارة العقول. ومن هنا قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها". إن أسوأ ما يفعله القائد أن يعزل نفسه عن آراء من حوله. والاستشارة ليست فقط في السياسة، بل في كل جوانب حياتنا: في الأسرة، في العمل، في التربية.

 

(3) الحكمة في التعامل مع الأزمات:

حين واجهت رسالة سليمان، لم تتسرع بلقيس في قرار الحرب أو الاستسلام، بل اختارت خطوة وسطية: أرسلت هدية تختبر بها نوايا سليمان. هذا تصرف يعلِّمنا أن إدارة الأزمات تحتاج إلى عقل بارد وخطوات مدروسة، لا إلى قرارات انفعالية. كم من مشكلات في حياتنا يمكن حلها بسياسة هادئة بدلًا من المواجهة المباشرة! وكم من أزمة عائلية أو عملية تفاقمت فقط لأننا لم نفكر بهدوء كما فعلت بلقيس!

 

(4) خطورة الاغترار بالقوة:

حين قال قومها: ﴿ نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ ﴾، ردَّت بحكمة عن عاقبة الملوك إذا غزوا. وكأنها أرادت أن تقول: "القوة ليست ضمانًا للنصر، بل قد تكون طريقًا للدمار". القرآن يريدنا أن ندرك أن القوة وحدها ليست حلًا، بل يجب أن تُضبط بالقيم. اليوم نرى قوى عظمى تمتلك جيوشًا وأسلحة، لكنها عاجزة عن كسب احترام الناس لأنها تفتقد للعدل.

 

(5) الاختبار قبل الحكم:

بلقيس لم تسلِّم نفسها فورًا، ولم ترفض فورًا، بل اختبرت الأمر. هذا يذكِّرنا بقول الله تعالى: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾. الإيمان نفسه ليس مجرد تقليد أعمى، بل هو اقتناع بعد اختبار. وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم: يبحثون ويجادلون حتى يطمئنوا.

 

(6) التدرج في الهداية:

القرآن صوَّر لنا كيف تدرج إيمان بلقيس: من المشاورة، إلى الهدية، إلى رؤية العرش، إلى اختبار الصرح، ثم إلى الإسلام الكامل. هذا التدرج يعطينا درسًا مُهمًا في الدعوة: أن الناس لا يُطلب منهم القفز مباشرة إلى الكمال، بل يُعطون الفرصة ليتدرجوا في الفهم والإيمان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله…" الحديث. أي التدرج في الدعوة.

 

(7) الاعتراف بالخطأ:

أعظم لحظة في القصة هي قولها: ﴿ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾. هذا الاعتراف يساوي عند الله أكثر من كل ما كانت تملكه من مُلكٍ وسلطان. لأن الاعتراف بالخطأ بداية التصحيح. كثير من الناس يضيِّع عمره لأنه لا يملك الشجاعة ليقول: "أنا أخطأت".

 

(8) الدنيا لا تُعارض الدين:

من عجيب لطف الله أن بلقيس لم تُسلب ملكها بعد الإسلام، بل بقيت ملكة ولكنها صارت مؤمنة. وكأن الرسالة أن الإيمان لا يعني ترك الدنيا، بل يعني أن نُخضعها لله. كثير من الناس يتوهمون أن التدين يعني الفقر أو الحرمان. لكن قصة بلقيس تقول: يمكنك أن تكون ملكًا وتبقى عبدًا لله. المهم أن يكون قلبك لله، لا لعرشك.

 

(9) الهداية لا تُفرِّق بين رجل وامرأة:

البعض يظن أن العظمة لا تكون إلا للرجال، لكن القرآن قدَّم لنا امرأة جعلها قدوة في العقل والإيمان. كما قدَّم لنا في مواضع أخرى امرأة فرعون ومريم ابنة عمران. وكأن الله يقول للبشرية: الكرامة عند الله لا بالذكورة ولا بالأنوثة، بل بالتقوى.

 

(10) أثر المعجزات الحسية في الهداية:

العرش الذي نُقل والصرح الذي حسبته ماء، لم يكونا للعرض أو الاستعراض، بل كانا وسيلة لتثبيت يقينها. وهذا يفتح بابًا للتأمل: الله ينوِّع في طرق هداية عباده؛ فمنهم من يهتدي بكلمة، ومنهم من يهتدي برؤية آية، ومنهم من يهتدي بمحنة، ومنهم من يهتدي بنعمة.

 

رحلة القلب من الوثنية إلى التوحيد:

حين نتأمل قصة بلقيس من بدايتها إلى نهايتها، ندرك أننا لسنا أمام حكاية عابرة عن ملكة في اليمن، بل نحن أمام رحلة قلب بشري من أسر الوثنية إلى رحابة التوحيد.

 

في أول الأمركانت بلقيس أسيرة بيئة غارقة في عبادة الشمس، نشأت بين قوم يظنون أن الشمس بما فيها من نور وعظمة وقوة هي الإله المستحق للسجود. وربما كان إيمانها في تلك المرحلة ليس عن قناعة، بل عن وراثة وتقاليد اجتماعية. وهذا ما يشير إليه قول الهدهد: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: 24].

 

وهذا المشهد الأول يذكِّرنا بكثير من الناس الذين يُولدون في بيئة مشبعة بمعتقدات معينة، فينشأون عليها من غير بحث أو سؤال، حتى إذا جاءتهم البصيرة من الله اهتزت قلوبهم وتحررت عقولهم. بلقيس لم تُجبر على الكفر، وإنما وجدت نفسها في محيط يعبد غير الله، فاستجابت في البداية لسلطان العادة.

 

ثم تأتي المرحلة الثانية: مرحلة الصدمة الفكرية. حين وصلتها رسالة سليمان: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 31]. هذه الرسالة قلبت الموازين، لأنها لم تكن مجرد دعوة سياسية للخضوع، بل كانت نداءً للتسليم لله وحده. هنا بدأ عقل بلقيس يتحرك، وبدأ قلبها يتساءل: أيمكن أن يكون وراء هذا الملك نبيٌّ مؤيَّد من الله؟

 

ومن هنا دخلت في مرحلة البحث: لم تتعجل قرار الحرب، ولم تندفع وراء الكبرياء الملكي، بل جمعت الملأ واستشارتهم. وفي هذه المرحلة أظهرت الحكمة، فهي تعلم أن القرارات المصيرية لا تُبنى على عاطفة لحظة، بل تحتاج إلى نظرٍ أوسع.

 

ثم جاءت المرحلة الثالثة: اختبار الحقيقة. حين قررت إرسال هدية إلى سليمان، لم تكن مجرد خطوة سياسية، بل كانت وسيلة لاختبار صدق رسالته: هل هو ملك باحث عن المال؟ أم نبي مرسل يحمل رسالة أعظم من الذهب والجواهر؟ وعندما رفض سليمان الهدية وقال: ﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُمْ ﴾ [النمل: 36]، أدركت أن الأمر أكبر من دنيا وذهب.

 

ثم جاءت المرحلة الرابعة: آية العرش. حين رأت عرشها أمامها، وقد نُقل من سبأ إلى الشام في طرفة عين، اهتز كيانها الداخلي. هذا ليس سحرًا، وليس من فعل البشر. وهنا بدأ الإيمان يتسلل إلى قلبها بقوة. ومع ذلك، لم تُعلن إسلامها بعد، لأنها كانت تحتاج إلى يقين أكبر.

 

ثم جاءت المرحلة الخامسة: اختبار الصرح. دخلت القصر الزجاجي الذي يبدو كأنه ماء، فرفعت ثوبها خشية أن تبتل قدماها، ثم فوجئت بأن الأمر خداع للبصر، فبهتت وقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ [النمل: 44]. هذه اللحظة لم تكن مجرد انبهار بمعجزة معمارية، بل كانت صدمة روحية: إذا كان البشر يستطيعون أن يصنعوا ما يَخدع العين، فكيف بعظمة الله الذي خلق البصر نفسه؟

 

وهنا سقطت آخر جدران الكبرياء، وأعلنت إسلامها: ﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.

هذه الكلمة الأخيرة تلخِّص الرحلة كلها. لم تقل: "آمنت بسليمان"، بل قالت: "أسلمت مع سليمان لله رب العالمين". أي أنها لم تُسلِم خضوعًا لسلطة نبي، وإنما استجابت لله نفسه. وهنا عظمة الموقف: إيمانها لم يكن تبعيةً، بل كان وعيًا وبصيرة.

 

ولو تأملنا هذه الرحلة نجد أنها تمر بكل أطوار النفس البشرية:

التقليد الأعمى في عبادة الشمس.

الصدمة الفكرية برسالة الحق.

مرحلة البحث والتجربة بالهدايا والمشاورات.

اليقين بالآيات الحسية كقصة العرش والصرح.

الاعتراف بالخطأ والتوبة.

الوصول إلى التوحيد الكامل.

 

وهذا المنهج في الهداية يؤكد أن الله يفتح لعباده أبوابًا متعددة للوصول إليه. البعض يهتدي بعقل متأمل، والبعض بمعجزة بصرية، والبعض بتجربة روحية، والبعض بصدمة تهزه من داخله.

 

وفي رحلة بلقيس نرى أن الهداية لم تكن قهرًا من سليمان، بل كانت اقتناعًا داخليًا منها. سليمان لم يُجبرها على الإسلام، بل أراها الآيات، وترك لقلبها أن يختار. وهذا درس عظيم في الدعوة: أن وظيفة الداعية هي البيان، وأما الهداية فهي من الله.

 

إن ما يجعل قصة بلقيس خالدة في القرآن أنها ليست مجرد مثال على حكمة امرأة، بل هي مرآة لكل إنسان يسير في رحلة البحث عن الحقيقة. كل واحد منا فيه شيء من بلقيس: وراثة لعادات، صدمات فكرية، اختبارات، لحظات تردّد، ثم لحظة يقين صافية يُسلم فيها القلب لله.

 

وهكذا تنتهي رحلة بلقيس التي بدأت بعرشٍ مزيَّن بالذهب والجواهر، وانتهت بعرشٍ أعظم وأبقى: عرش الإيمان الذي لا يزول. لم يكن انتصارها في ملكٍ عريض ولا في جنودٍ مدجَّجين، بل كان انتصارها في لحظة صدق مع نفسها حين قالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].

 

لقد غلبت الحكمةُ الكبرياء، وغلب التواضعُ الغرور، وغلب نور اللهُ ظلمة الشرك. وبقيت القصة لتعلِّمنا أن القوة بلا حكمة ضعف، وأن المُلك بلا إيمان هباء، وأن أعظم انتصار يحققه الإنسان هو أن ينتصر على نفسه، فيختار طريق الحق مهما كلَّفه.

 

إن بلقيس لم تُخلَّد لأنها ملكت عرش سبأ، بل لأنها ملكت زمام نفسها حين استجابت لله. وهنا يكمن سر العظمة: أن تنحني النفس لبارئها في لحظة صدق، فيُكتب اسم صاحبها في سجل الخالدين. وهذا هو حقًا انتصار الحكمة.

 





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • بلقيس .. ملكة سبأ
  • قصة نبي الله سليمان وبلقيس (خطبة)
  • عرش بلقيس

مختارات من الشبكة

  • قصة سليمان بن داود عليه السلام (2) بلقيس والمعجزة الكبرى(مقالة - موقع د. محمد منير الجنباز)
  • القول النفيس فيما يخص نقل عرش بلقيس (PDF)(كتاب - آفاق الشريعة)
  • بلقيس ملكة سبأ(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • نساء تحدث عنهن القرآن (3)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • من أسباب الانتصار ... رمضان شهر الانتصارات(مقالة - ملفات خاصة)
  • شكرا أيها الهدهد (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تشابه طريقة الطاعنين في القرآن الكريم وطريقة الطاعنين في صحيح البخاري(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تشابه طريقة الطاعنين في القرآن والطاعنين في السنة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • ملكة سبأ: المرأة العاقلة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • وبلي جمال شيرين(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مبادرة "زوروا مسجدي 2025" تجمع أكثر من 150 مسجدا بمختلف أنحاء بريطانيا
  • متطوعو كواد سيتيز المسلمون يدعمون آلاف المحتاجين
  • مسلمون يخططون لتشييد مسجد حديث الطراز شمال سان أنطونيو
  • شبكة الألوكة تعزي المملكة العربية السعودية حكومة وشعبا في وفاة سماحة مفتي عام المملكة
  • برنامج تعليمي إسلامي شامل لمدة ثلاث سنوات في مساجد تتارستان
  • اختتام الدورة العلمية الشرعية الثالثة للأئمة والخطباء بعاصمة ألبانيا
  • مدرسة إسلامية جديدة في مدينة صوفيا مع بداية العام الدراسي
  • ندوة علمية حول دور الذكاء الاصطناعي في تحسين الإنتاجية بمدينة سراييفو

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 7/4/1447هـ - الساعة: 12:32
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب