دراسة في الإجماع على نجاسة الدم وما جاء في كتاب الفروع من نسبة القول بطهارة الدم للإمام أحمد رحمه الله

دراسة في الإجماع على نجاسة الدم وما جاء في كتاب الفروع

من نسبة القول بطهارة الدم للإمام أحمد رحمه الله

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، أما بعد:

فقد نُقل الإجماع على نجاسة الدم، وممن نقل الإجماع الإمام أحمد - رحمه الله -، فقد قال: "الدم لم يختلف الناس فيه"[1]، وقال ابن حزم - رحمه الله -: "واتفقوا على أن الكثير من الدم أي دم كان حاشا دم السمك وما لا يسيل دمه نجس"[2]، ونقل الإجماع غير واحد من الفقهاء[3]، وقد أوصلهم بعض الباحثين إلى خمسة وعشرين عالمـًا نقلوا الإجماع من مختلف المذاهب الفقهية، وعلى رأسهم الإمام أحمد - رحمه الله -، وآخرهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[4].

ولم ينقل خلاف عن أحد من المتقدمين إلا ما جاء عن بعض المتكلمين، قال النووي - رحمه الله -: "والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافًا عن أحدٍ من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر. ولكنَّ المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف على المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الاصول من أصحابنا وغيرهم لاسيما في المسائل الفقهيات"[5].

وجاء الخلاف متأخرًا، فقد خالف في ذلك الشوكاني والقنوجي وابن عثيمين والألباني - رحمهم الله -، فقالوا بطهارة الدم إلا دم الحيض باتفاق بينهم، والخارج من السبيلين على خلاف بينهم، وكلام الشوكاني والقنوجي والألباني في عموم الدماء، وأما كلام ابن عثيمين فهو خاص في دم الآدمي[6].

وبعدما نقل الباحث في موسوعة الإجماع إجماعات العلماء، وخلاف المتأخرين، قال: "الحقيقة أن المسألة مشكلة عندي؛ وذلك لأنني لم أجد مخالفًا من المتقدمين، إلا ما ذكره النووي من مخالفة بعض المتكلمين دون تسمية، وهو من أهل القرن السابع، ثم لما وجدت مخالفة من ذكرت قبلُ من المتأخرين، ولسمو منزلتهم العلمية لم أستطع أن أجزم بعدم اعتبار مخالفتهم، ولذا أقول بأن المسألة محل إشكال عندي، خاصة وأني لم أجد مخالفًا متقدمًا، واللَّه تعالى أعلم"[7].

وتقدير العلماء شيء طيب، ودلالة على أثر العلم على صاحبه، ولكن الكلام هنا في العلم دون قدح في مكانة أحدٍ من العلماء، وكلٌ راد ومردود عليه إلا من كان قولهم حجة، وفي النظر لهذه المسألة، ومراجعة كلام العلماء في انعقاد الإجماع، فإنه إذا أجمع العلماء، وانقرض عصرهم فقد انعقد الإجماع، وبعضهم لم يشترط انقراض العصر[8]، وأما المتكلمون فلا يعتد بقولهم في مخالفة الإجماع في المسائل الفقهية[9]، فإن كان الباحث لم يجد مخالفًا متقدمًا فهذا كافٍ في ثبوت الإجماع.

ثم يلتمس العذر للمخالف المتأخر، فالشوكاني والقنوجي لا يريان الإجماع حجة[10]؛ لذا لا يحتج عليهم به، وأما ابن عثيمين فإنه يرى أن الإجماع حجة، لكنه يرى أنه لا إجماع في هذه المسألة، فقد قال: "وليس هناك إجماع ـ كما ادعاه بعضهم ـ على نجاسة دم الآدمي"[11]، لكنه في جميع المواضع التي ذكر هذه المسألة لم يذكر واحدًا من الأئمة المتقدمين ممن قال بطهارة دم الآدمي.

وقرأت عددًا من بحوث المعاصرين، وبعضهم انتصر لطهارة دم الآدمي بقوة، ولم ينقل أحد منهم عن أحدٍ من المتقدمين أنه قال بطهارة دم الآدمي؛ إلا ما جاء في كتاب الفروع لابن مفلح، قوله: "وعنه: طهارة قيح ومدة، وصديد، ودم"[12].

وقد استند على هذا النقل عدد من الباحثين، وجعلوا على رأس القائلين بطهارة الدم الإمام أحمد - رحمه الله - في رواية عنه، ولكن منهم من ضعف هذه الرواية، ورجحوا أن لفظة: "دم" مقحمة، وليست من الكتاب؛ بحجة أنها لم تنقل في غير هذا الكتاب، وأن الإمام أحمد ممن نقل الإجماع، فكيف يخالف الإجماع[13]؟!، وبعضهم لم يشر إلى شيء من ذلك، وإنما اكتفى بذكر الرواية والإشارة إلى المرجع[14].

وللتحقق من هذه الرواية قمت بمراجعة كتب الحنابلة فلم أجد من ذكر هذه الرواية، والذين نقلوا عن الفروع كالمبدع وحاشية ابن قندس والفواكه العديدة لم يذكروا لفظة الدم، بل في الفواكه العديدة كان ينقل نصًا من الفروع مبتدأ بقوله: "من (الفروع)" منتهيًا بـ"انتهى"[15].

فهذا يدل على أنها ليست من كلام ابن مفلح أيضًا، وليست من النسخة التي نقل منها صاحب المبدع، ولا التي حشى عليها ابن قندس، ولا التي أخذ منها المنقور في الفواكه العديدة.

ثم بعد ذلك يسر الله لي الوقوف على مخطوطة لكتاب الفروع لابن مفلح، ووجدت النص هكذا: "وعنه: طهارة قيح، ومدة، وصديد، ودم عرق المأكول طاهر"[16]، فالكلمة إذًا: "ودم عرق المأكول"، ومعلوم أن دم عرق المأكول طاهر في المذهب، قال المرداوي: "في الدماء الطاهرة المختلف فيها والمتفق عليها؛ منها: دم عرق المأكول طاهر، على الصحيح من المذهب، ولو ظهرت حمرته. نص عليه، وهو الصحيح من المذهب. وهو من المفردات؛ لأن العروق لا تنفك عنه، فيسقط حكمه؛ لأنه ضرورة"[17].

فيظهر - والله أعلم - أن الخطأ في تحقيق النص، ففي الكتاب المطبوع الذي وقفت عليه وقد وقفت على تحقيقين أحدهما: للدكتور عبدالمحسن التركي وهو المشهور، والآخر: لرائد صبري. وقد فصَلا بين لفظة "دم" و "عرق"، فجاء النص هكذا: "وعنه طهارة قيح ومدة، وصديد، ودم. وعرق المأكول طاهر"[18].

وقد فصَل الدكتور التركي بين الكلمتين بصفحات، وأما رائد ففصل بينهما بسطر.

وبعد: يظهر - والله أعلم - عدم صحة هذه اللفظة، وأنها ليست لابن مفلح ولا للإمام أحمد - رحمهما الله -، وقد نقل الإمام الإجماع على نجاسة الدم، ونقله غيره من جميع المذاهب الفقهية، ولم يُنقل خلاف عن أحد من المتقدمين ممن يعتد بهم، فيبقى الإجماع قائمًا، وثابتًا، حتى يُنقل عن أحدٍ ممن يعتد به قول مخالف، ويكون في عصر الإجماع أو سابقًا له.

مع التنبيه على أن الأدلة التي ذكرها من يقول بطهارة دم الآدمي قوية، ولكن من يرى أن الإجماع حجة، فعليه أن يلتزم به أو يثبت عدم صحته، أما أن يحتج به حينًا، ويتركه حينًا فهذا ليس منهجًا علميًا.

هذا والله أعلم وأحكم، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.