نقض النحويين لمعنى العطف

نقض النحويين لمعنى العطف

النحويون، وإن قالوا: إن الواو الداخلة على المضارع المنصوب تفيد العطف، نقضوا هذا المعنى بأنفسهم من وجوه عدة، وتوضيح ذلك فيما يأتي:

1- يذكر النحويون أن نحو قول العرب: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه: لا تجمع بينهما، لذا وجب نصب (تشربَ) على معنى المعية، ولو جزم لكان المعنى فاسدًا؛ لأنه سيعنى النهي المطلق، وهو على فساده غير مراد[1].

والمعروف أن العرب ذكرت المثال هذا، لاعتقادها أن الجمع بين أكل السمك وشرب اللبن، يولد أمراضًا خبيثة ومزمنة[2] وهذا المقصود لا يحصل إلا بتعيين معنى المعية.

2- بعد أنْ أكَّد الجرجاني صحة اجتماع معنيي العطف والمعية في الواو الداخلة على الفعل المضارع، قال لإثبات ذلك: إن هذه الواو هي "كما تقول: الشرح والمشروح خير من المشروح، تريد أنهما جميعًا خير من هذا الواحد، ولا تريد أن كل واحد من الشرح والمشروح خير من المشروح... كيف وفي ذلك استحالة؛ لأنه بمنزلة أن تقول: كل واحد من زيد وعمرو خير من زيد، وهذا كقولك: زيد خير من زيد، وذا محال"[3].

وهنا لا بد أن نسأل ما الدليل الذي استند إليه الجرجاني في أن الواو في قول القائل: الشرح والمشروح خير من المشروح، هي واو جمعت بين العطف والمعية؟ فحين ذكر أن المراد من المثال "أنهما جميعًا خير من هذا الواحد"، ألم يكن بهذا قد أثبت أن الواو في هذا المثال قد أفادت المعية دون العطف؟ أوَلم يكن قد نفى إرادة المعنى الثاني حين نفى أن يكون المراد "أن كل واحد من الشرح والمشروح خير من المشروح"؟

أوَلم يكن قد جعل العطف مستحيلًا وقوعه وقصده حين ذكر أن "في ذلك استحالة؛ لأنه بمنزلة أن تقول كل واحد من زيد وعمرو خير من زيد، وهذا كقولك: زيد خير من زيد".

فالذي قاله الجرجاني في المثال الذي ساقه، لم يؤيد ما ذهب إليه، فقد أكَّد استحالة العطف في هذه الواو، واستحالة أن يكون المتكلم قد أراده؛ لأنه مخالف للعقل والواقع والحساب.

والجرجاني وباقي النحويين لا يَملكون في هذا الباب أي دليل كان على أن واو المعية تفيد العطف أيضًا، سوى دليل شكلي يجب ألا يلتفت إليه بجنب المعنى، وهو كون الاسم وقع مرفوعًا، وما قبله مرفوع، وعندهم المفعول معه المفرد لا يكون إلا منصوبًا، فهذا ما ساعدهم على الظن بأن واو المعية هنا أفادت معنى العطف، والحقيقة أنها لم تُفده، وأن المثال الذي استشهد به والأمثلة المشابهة التي ذكرها النحويون، لا يكون دليلًا على أن هذه الواو أفادت العطف والمعية في آن واحدٍ، بل يكون دليلًا على جواز مجيء المفعول معه مرفوعًا؛ لأن الذي يعول عليه في الإعراب هو المعنى لا اللفظ، فلو سئلت مثلًا: ما دليلك على أن المفعول معه قد يأتي مرفوعًا؟ لكان دليلي المثال الذي استشهد به الجرجاني: الشرح والمشروح خير من المشروح؛ ذلك أن الاسم المرفوع بعد الواو في هذا المثال، لا يصح أن يكون إلا مفعولًا معه، لوقوعه بعد واو دلت على المعية حسب، ولا يجوز أن يكون معطوفاً على الرغم من رفعه، لاستحالة معنى العطف وفساده.

والجرجاني نفسه قد أثبت غيرَ مرة وجوبَ تعيين المعية دون العطف عند إرادة الأول، إذ يقول عن البيت المشهور:

ولُبْسُ عَباءَةٍ وتَقر عيني أحب إلي من لُبْسِ الشفوفِ

إن معناه هو: أن تجمع بين لُبس العباءة وقرة العين، فيقال أنهما جميعًا أحب من لبس الشفوف، وليس المقصود أن لبس العباءة [وحـدها] أحب من لبس الشفوف"[4]، فمثل هذا المعنى الأخير يجب ألا يكون محتملًا، وأنه سيكون محتملًا حصوله، بل يتعيَّن مراده، لو جعلنا الواو في (وتقر) واو عطف أيضًا، فيجب لمنع هذا الاحتمال جعل هذه الواو خالصة لمعنى المعية.

وذكر ابن يعيش مثل هذا عن البيت المذكور أن المقصود هو اجتماع لبس العباءة وقرة العين على لُبس الشفوف، "ولو انفرد أحدهما بطَل المعنى"[5].

3- كيف يجوز الجمع بين العطف والمعية، وهما معنيان متناقضان، فابن هشام يذكر أنه يمتنع العطف إذا كان المانع معنويًّا؛ "كقولك: لا تنهَ عن القبيح وإتيانه؛ ذلك أن المعنى على العطف: لا تنه عن القبيح وعنه إتيانه، وهذا تناقض"[6]، وهذا المثال كالبيت المشهور: لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله.

4- من الأمور الجديرة بالذكر في هذا الصدد أن جمهور النحويين حين يذكرون أن الواو الداخلة على المضارع المنصوب عاطفة، وحين يذكرون في الوقت نفسه أن هذا المضارع منصوب بـ(أن) مضمرة، يقولون هنا بما لم يقولوا به؛ لأن واو العطف، كما هو معروف، لا تنصب الفعل بعدها، لا بـ(أن) مضمرة ولا بغيرها، كما صرح بذلك ابن مالك حين قال: إن النصب يكون "بالواو المصاحبة على أنهما [يعني الواو والفاء]، إذا قصد بهما العطف لا ينصب الفعل بعدهما إلا بمقتضى العطف على منصوب"[7].

وإذا قالوا: إن الواو هي واو المعية، نقول: لِمَ إذًا تسمونها واو عطف؟ ولِمَ إذًا تُضمرون أن من أجل جعل المضارع صالحًا للعطف على ما قبله؟

يظهر أن في كلام النحويين تناقضًا، وأرى أن الذي أوقعهم فيه قولهم: إن الواو أفادت المعية والعطف في آن واحد، مع أنها للمعية حسب.

5- ينقض النحويون معنى العطف في الواو الداخلة على الفعل المضارع المنصوب حين يسمونها واو الجمع[8]، وينقضونه عندما يجعلونها بمعنى (مع)، وحين يذكرون أن نحو: ولبس عباءة وتقر عيني، ونحو: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، هو بتقدير: ولبس عباءة مع قرة عيني، ولا تأكل السمك مع شرب اللبن[9]، بل صرح ابن السراج[10] والأشموني[11] "بأن الواو في هذا بمعنى (مع) فقط"، وإنهم ينقضونه عندما يسمونها واو (مع)[12].

وينقضونه عندما يسمونها صراحة واو المعية[13]، وهذا يقضي تعيين معنى المعية فيها دون العطف؛ لأنه المصطلح نفسه الذي وضع على واو المفعول معه المفرد، في نحو: انتظرتك وطلوع الشمس، فهذه الواو جعلت كتلك تمامًا، فقد ذكر الغزالي (ت505هـ) أن الواو "تكون للجمع؛ كقولهم: جاء البرد والطيالسةَ، وكقولهم: لا تأكل السمك وتشربَ اللبن"[14]، وممن قصد إدخالهما في مصطلح واحد من النحويين السيوطي، فذكر أن من النواصب "واو، مع، فتنصب المفعول معه... والمضارع"[15]، ثم عرَّفها بأن معناها مصاحبة ما قبلها لما بعدها في زمان واحد، فقد شملهما التعريف، وهو نفسه الذي جعله أيضًا لتعريف المفعول معه المفرد[16]، وقد جعل صاحب المشكاة هذا التعريف أيضًا للواو الداخلة على المضارع المنصوب[17]، وكذلك المحدثون وحَّدوا بينهما في التعريف[18].

فواو المضارع المنصوب وواو المفعول معه المفرد مصطلحهما واحد، وتعريفهما واحد، والمعروف عند النحويين أن واو المفعول معه المفرد، لا يجوز أن تشاب بالعطف البتة؛ لأنه مناقض لمعناها، ووجوده يستلزم إلغاءها أو إفسادها.

6- ينقض النحويون معنى العطف في الواو الداخلة على المضارع المنصوب، حين يذكرون "أنها تنصب الفعل المستقبل إذا أردت بها غير معنى العطف"[19].

وعلى الرغم من أن ابن جني لم يُجز المفعول معه المفرد، إلا عند صحة عطفه، فإنه هنا في المضارع المنصوب أكَّد أن الفعل ينصب إذا كانت الواو "بمعنى الجمع... مجردة من العطف"[20].

وهذا ما اشترطه النحويون في الواو لنصب المضارع بعدها، ولهذا صرح الواسطي بأن "هذه الواو ليست العاطفة؛ لأنها لو كانت هي، لجعلت إعراب الثاني كإعراب الأول"[21]، وصرَّح بعضهم بأن العطف في مثل هذه الحالة، متعذر من هذه الجهة، ومن جهة أن الفعل الذي بعدها مخالف لما قبلها في المعنى أيضًا[22].

فحين يذكر النحويون أن الواو الداخلة على المضارع المنصوب واو عطف، فإن هذا يَلزمهم أن يُلغوا فيها معنى المعية، فمن التناقض أن يقال بهذا وهذا في وقت واحد، وهذا ما توصل إليه الرضي، فقال: "كذا نقول في الفعل المنصوب بعد واو الصرف... ليكون الصرف مرشدًا من أول الأمر أنها ليست للعطف، ولو جعلنا الواو عاطفة للمصدر على مصدر متصيد من الفعل قبله، كما قال النحاة، لم تكن فيه نصوصية على معنى الجمع"[23].

من المعروف أن النحويين متفقون على معية الواو الداخلة على المضارع المنصوب، والحديث السابق لم يكن لإثبات هذا، وإنما لإثبات تجريدها من معنى العطف، فهي واو معية خالصة لهذا المعنى.