هجر أصحاب الفواحش والمنكرات

هجر أصحاب الفواحش والمنكرات

هل يجوز للإنسان أن يغضب ويكره ويهجر ويتجنب أقاربه وغيرهم من الرجال والنساء لأجل منكر فعلوه أو أصروا عليه كشرب الخمر ولعب الميسر، وإظهار الزينة من النساء كالرأس والشعر والوجه والعنق والصدر والذراعين والساقين وغيرهما ولبس الثياب القصيرة والرفيعة أو الضيقة التي تظهر وتصف جرم أجسامهن وأعضائهن والضرب على البيانو والعود والرقص والغناء وغيرها أمام الرجال والأجانب أو غيرهم كأولاد الأعمام، ولم يقبلوا الوعظ والنصح بالمعروف أو بالشدة؛ أم لا؟

هجر الذين يقترفون الفواحش والمنكرات، أو يتركون الفرائض والواجبات من الأقارب أو الأجانب مطلوب شرعاً متى ترتب عليه مصلحة راجحة كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم: الثلاثة الذين تخلفوا عنه في غزوة تبوك، وأرجئوا لأمر الله، وهجروا خمسين ليلة في المجالسة والمحادثة والتحية حتى تاب الله عليهم؛ وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].

وقد أخرج أحمد والشيخان وأصحاب التفسير المأثور حديث كعب بن مالك حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو حديث طويل، وفيه أكبر موعظة، وإليك شذرة منه: قال كعب: «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس - أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة؛ فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام، فقلت له يا أبا قتادة، أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت قال فعدت فنشدته فسكت فعدت فنشدته؛ قال الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي؛ وتوليت حتى تسورت الجدار، ولما تاب الله عليهم أقبل الناس فوجا بعد فوج يبشرونهم بالتوبة ويهنئونهم. إنما شرع الهجر في الإسلام بالسلام والكلام والمكان لردع المبطلين عن باطلهم، وحمل مقترفي الرذائل على ترك رذائلهم. أما إذا كان اعتزالهم يدعوهم إلى الإصرار والاستمرار على فسقهم وكانت مخالطتهم مأمونة الفتنة، ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة مرجوة الإجابة، أو لم يمكن تحصيل المصالح الدينية إلا بذلك فلا حرج في هذه المخالطة بل ربما تتأكد وتستحب.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظ المسلمين والمشركين والمنافقين ويكتب إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام؛ وعلى هذا سار الخلفاء الراشدون والملوك العادلون، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وحمل العرب إلى الأمم اللغة مع الدين، فصاروا مسلمين عربا، وهذه تونس والجزائر ومراكش وطرابلس الغرب وغيرها كلها شواهد عيان بالإسلام وأهلها.

والحاصل: أن الذي يكون مبتلى بالاختلاط بهذه الأصناف من الناس ينبغي أن يكون فيهم واعظاً ناصحاً داعياً إلى الله مذكرا به، فهذه هي البركة المشار إليها بقوله تعالى عن المسيح عليه السلام ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31] نسأل الله العظيم أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً رافعاً.