• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الشيخ عبدالرحمن الشثريالشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري شعار موقع الشيخ عبدالرحمن الشثري
شبكة الألوكة / موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري / مقالات


علامة باركود

أحكام البرد العقدية والفقهية (خطبة)

أحكام البرد العقدية والفقهية (خطبة)
الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري


تاريخ الإضافة: 28/1/2025 ميلادي - 28/7/1446 هجري

الزيارات: 1557

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أحكامُ البَرْدِ العَقَدِيَّة والفقهيَّة

 

(إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ ‌ونَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبهِ سلَّمَ.


أمَّا بَعْدُ:(فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و (لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).


عباد الله: اتقوا الله تعالى، وتذكَّرُوا ما أصابنا قبل أيامٍ مِن شِدَّةِ بَرْدٍ مُفاجئٍ، والذي يُذكِّرُكَ بأنه خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللهِ تحتَ تصريفهِ وتدبيرِه، فاللهُ سبحانهُ هو الخالِقُ للبَرْدِ والْحَرِّ والْمُدبِّرُ لَهُما في الأوقاتِ التي يَشاؤُها سبحانه وعلى الصِّفةِ الْمُرادةِ منه جلَّ وعلا لكلِّ واحدٍ منهما، ففي الصيفِ يَشتدُّ الْحَرُّ وفي الشتاءِ يَشتدُ البَرْدُ، وبين الصيفِ والشتاءِ يَتجاذبُ البردُ والحرُّ حتى يعتدلَ الجوُّ، وذلك يدلُّكَ على حِكمةِ اللهِ ورحمتهِ وقُدرتهِ ومشيئتهِ ولُطْفهِ بعباده وإحسانهِ إلى خلقهِ من الناسِ والدَّوَابِّ والنباتِ، فمن حِكمةِ اللهِ الحكيمِ ورحمتهِ بخلقهِ أن البردَ في الشتاءِ تَحْصُلُ به منافع كثيرة لجميع الخلقِ، قال ابنُ رَجَبٍ: (فإنَّ الله ‌بحكمتِهِ ‌جَعَلَ ‌الْحرَّ ‌والبَرْدَ في الدُّنيا لِمَصالِحِ عبادِهِ، فالْحرُّ لتحلُّلِ الأخلاطِ والبَرْدُ لجمودِها، فمتى لم يُصِبِ الأبدانَ شيءٌ مِن الْحرِّ والبردِ تَعَجَّلَ فسادُها، ولكنِ الْمأْمورُ بهِ اتِّقاءُ ما يُؤْذي البَدَنَ مِن ذلكَ؛ فإنَّ الْحرَّ الْمُؤْذِيَ والبَرْدَ الْمُؤْذِيَ مَعْدُودانِ مِن جُملةِ أعداءِ بني آدَمَ) انتهى، لذا سيكون الحديثُ إن شاء الله عن البردِ وأسمائهِ والْحِكْمةُ منه وعزائمُه ورُخَصُه وبِدَعُهُ وعن البردِ في القبر وفي الجنة والنار، ولم يرد الشتاء في القرآن إلا مرة واحدة في سورة قريش، [رحلةَ الشتاء والصيف]، قال مالك: (الشتاءُ نصفُ السنةِ والصيفُ نصفها)، ومن أسماء البرد: الصَّقيعُ، والجَّمَد، والضَّرِيب، والقَرْس، والقُرّ، والصِّرَّةُ، والزَّمْهَرِير.


فالصقيعُ والجَمَد والقَرْس مِن أسماءِ البردِ الشديد، والصِّرَّةُ والزَّمْهَريرُ هُما غايةُ البردِ وشِدَّتِه، قال تعالى: [كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ]، وقال سبحانه عن أهل الجنة: [لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا]، وقد يرتبطُ عند العَرَبِ الاسمُ بزمانٍ مُعيَّنٍ أو حالةٍ مُعيَّنةٍ، فالقَرْقَفُ: البَرْدُ في أولِ الليلِ، والْخَدَرُ: البردُ مَعَ الْمَطَرِ، والبُرودةُ الحِسيَّةُ كما تكونُ في الهواءِ وهو البَرْدُ تكونُ في الماءِ والشرابِ، وهي في الماء والشرابِ كذلكَ على دَرَجَاتٍ، فمنها الأخفُّ النافعُ الْمُحبَّبُ إلى النفوسِ، قالت عائشةُ رضي الله عنها: (‌كانَ ‌أَحَبُّ ‌الشَّرابِ ‌إلى ‌رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحُلْوَ البَارِدَ) رواه الحاكمُ وصحَّحه ووافقه الذهبيُّ.


ومِن الْحِكَمِ أن البردَ يأتينا مُتدرِّجاً فينتفع به الخلقُ، قال ابن القيم: (‌ثمَّ ‌تأمَّل ‌هذه ‌الحكمةَ ‌البالغةَ في الْحَرِّ والبردِ وقيامَ الحيوانِ والنَّباتِ عليهما، وفكَّرَ في دُخول أحدِهما على الآخرِ بالتَّدريجِ والْمُهْلَةِ حتى يبلُغَ نهايتَه، ولو دَخَل عليهِ مُفاجأةً لأَضرَّ ذلكَ بالأبدانِ وأهلكَها وبالنَّباتِ) انتهى.


ومِن الْحِكَمِ في البردِ أن تتذكَّر الجنة وسلامةَ أهلِها مِن شِدَّة البردِ والْحَرِّ، وتتذكَّر النارَ وما فيها من شِدَّةِ البردِ والحرِّ، قال تعالى عن أهل الجنةِ: [مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا]، وقال عن أهل النارِ: [لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا - إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا]، وقال عزَّ وجل: [فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ]، قال ابنُ عباسٍ: (‌الغساق الزَّمْهَرِيرُ الْبَارِدُ) رواه ابن أبي حاتمٍ، وعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: (قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «‌اشْتَكَتِ ‌النَّارُ ‌إلى ‌رَبِّها فقالَتْ: يا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضَاً! فأَذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ ونَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ») رواه البخاري ومسلم.


ومِن الحِكَمِ في البردِ أيضاً: أن تتذكَّر إخوانك المحتاجين من المسلمين والمسلمات وخاصةً المشرَّدين.


ومِن الحِكَمِ أيضاً: أن الله قد يُخالف عادَته في الحرِّ والبردِ فيجعل النار برداً وسلاماً مُعجزةً لنبيٍّ أو كرامةً لوليٍّ، قال الله في نصره لخليله إبراهيم عليه السلام: [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم - وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِين]، وقد أكرم الله بعض عباده بنحوِ ما حصل لإبراهيم عليه السلام وذلك في قصة أبي مسلمٍ الخولاني رحمه الله مع أبي الأسود العنسي الذي ادَّعى النبوَّة باليمن، فألقاه في نارٍ عظيمةٍ فخرجَ منها ولم تَضُرَّه، فنفاه من بلاده، فأتى ‌إلى ‌الْمدينةِ وقد قُبِضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم واستُخْلِفَ أبو بكْرٍ، قال الذهبيُّ: (وَدَخَلَ المَسْجِدَ يُصَلِّي، فَبَصُرَ بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: مِنَ اليَمَنِ، قَالَ: مَا فَعَلَ الَّذِي حَرَّقَهُ الكَذَّابُ بِالنَّارِ؟ قَالَ: ذَاكَ عَبْدُ اللهِ بنُ ثُوَبٍ، قَالَ: نَشَدْتُكَ بِاللهِ، أَنْتَ هُوَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَاعْتَنَقَهُ عُمَرُ، وَبَكَى، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ حَتَّى أَجْلَسَهُ فِيْمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّدِّيْقِ، فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مَنْ صُنِعَ بِهِ كَمَا صُنِعَ بِإِبْرَاهِيْمَ الخَلِيْلِ) انتهى، وعكسُ ذلك وهو كرامةٌ أيضاً: ما حصلَ لحذيفة رضي الله عنه في غزوة الأحزاب حيث أرسله النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبر الأحزاب، قال حذيفةُ: (فَرَجَعْتُ وَأَنَا ‌أَمْشِي ‌فِي ‌مِثْلِ ‌الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ) الحديث رواه مسلم، قال القرطبيُّ: (أي: لم يُصبه شيءٌ ‌مِن ‌ذلك ‌البرد ‌ببركة طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من كراماته، ألا ترى أنه لَمَّا فرغ من ذلك العمل أخذه البردُ كما كان أول مرَّة؟) انتهى.


ومن الْحِكَم في البردِ أيضاً: تيسيرُ الطاعاتِ فيه، (عن عامِرِ بنِ مَسعُودٍ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «‌الغَنِيمَةُ ‌البارِدَةُ ‌الصَّومُ في الشِّتاءِ») رواه الترمذي وقال: (حديثٌ مُرسل).


و(عَنْ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ:‌‌ ‌الشِّتاءُ ‌غَنِيمَةُ ‌العَابدِينَ) رواه أبو محمد البغدادي بإسنادٍ صحيحٍ.


وقالَ قَتادَةُ: (إنَّ الْملائِكةَ ‌تَفْرَحُ ‌بالشِّتاءِ للمُؤْمِنِ، يَقْصُرُ النَّهارُ فَيَصُومُهُ، ويَطُولُ اللَّيْلُ فَيَقُومُهُ، وبَلَغَنَا أنَّ عَامِرًا لَمَّا حُضِرَ جَعَلَ يَبْكِي، فَقَالُوا: ما يُبْكِيكَ يا عَامِرُ؟ قالَ: ما أَبْكِي جَزَعاً مِنَ الْمَوْتِ ولا حِرْصَاً على الدُّنيا، ولكِنِّي أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ وقِيَامِ الشِّتَاءِ) رواه الإمام أحمد في الزُّهد بإسنادٍ صحيحٍ.


قال ابنُ رجبٍ: (إنَّما كانَ الشِّتاءُ ربيعَ المؤمنِ لأنَّهُ يَرْتَعُ فيهِ في بساتينِ الطَّاعاتِ، ويَسْرَحُ في ميادينِ العباداتِ، ويُنَزِّهُ قلبَهُ في رياضِ الأعمالِ الْمُيسَّرةِ فيهِ كما تَرْتَعُ البهائمُ في مَرْعى الرَّبيعِ فتَسْمَنُ وتَصْلُحُ أجسادُها، فكذلكَ يَصْلُحُ دينُ المؤمنِ في الشِّتاءِ بما يَسَّرَ اللهُ تَعالى فيهِ مِن الطَّاعاتِ) انتهى.


و(عنْ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ قالَ: كانَ يَقُولُ إذا جاءَ الشِّتاءُ: «يا أَهْلَ ‌القُرآنِ ‌طالَ ‌اللَّيْلُ لِصلاتِكُمْ، وقَصُرَ النَّهَارُ لصِيَامِكُمْ فَاغْتَنِمُوا») رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح، و(عن أنسٍ عن أبي هُريرةَ قالَ: أَلا ‌أَدُلُّكُم ‌على ‌غَنِيمَةٍ ‌بارِدَةٍ؟ قالُوا: ماذا يا أبا هُريرةَ؟ قالَ: الصَّوْمُ في الشِّتاءِ) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزُّهد بإسنادٍ صحيح. قال ابنُ رجبٍ: (ومعنى كونِها غنيمةً باردةً: أنها غنيمةٌ حَصَلَتْ بغيرِ قتالٍ ولا تعبٍ ولا مشقَّةٍ، فصاحبُها يَحوزُ هذهِ الغنيمةَ ‌عفوًا ‌صفوًا بغيرِ كُلْفةٍ) انتهى.

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ حَمْدَاً كَثيرَاً طَيِّبَاً مُبَارَكَاً فيهِ، مُبَارَكَاً عليهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا ويَرْضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه.

 

أمَّا بعدُ: فإن شدَّة البردِ في الشتاءِ مِن تنفُّس جهنم ومزمهرِيرِها، فـ(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «‌إِذَا ‌اشْتَدَّ ‌الْحَرُّ ‌فَأَبْرِدُوا بالصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ ونَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ») رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، (قالَ الْحَسَنُ: كلُّ ‌بردٍ ‌أهْلَكَ ‌شيئًا فهوَ مِن نَفَسِ جهنَّمَ، وكلُّ حَرٍّ أهْلَكَ شيئًا فهوَ مِن نَفَسِ جهنَّمَ) انتهى، قال ابنُ رجبٍ: (وفُصولُ السَّنةِ تُذَكِّرُ بالآخرةِ: فشدَّةُ حرِّ الصَّيفِ يُذَكِّرُ بحرِّ جهنَّمَ وهوَ مِن سمومِها، ‌وشدَّةُ ‌بردِ ‌الشِّتاءِ يُذَكِّرُ بزمهريرِ جهنَّمَ وهوَ مِن زمهريرِها) انتهى.


عباد الله: وأمَّا عن عزائم البرد ورُخَصِه وبِدَعِه: فإنك تُؤجر على تَحَمُّل الْمَشاقِّ إذا أخذتَ بالعَزائم واحتسبتَ الْمشقَّةَ في سبيلِ اللهِ، ومِن تِلْكَ الْمَشاقِّ ما يَنالُكَ مِن مَشقَّة البردِ عند الوضوء والاغتسالِ في الشتاء، قال صلى الله عليه وسلم: (‌أَلا ‌أَدُلُّكُمْ ‌عَلَى ‌مَا ‌يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وكَثْرَةُ الْخُطَا إلى الْمَسَاجِدِ، وانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا الطويل: قال الله عز وجل: (يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: في الكَفَّارَاتِ، قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الأَقْدَامِ إلى الجَمَاعَاتِ، والجُلُوسُ فِي المساجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وإسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ) الحديث وفي آخره قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوها)) رواه الترمذي وصححه، قال ابن القيم: (‌الوضوءُ ‌بالْمَاء ‌الباردِ في شدِّة البردِ عبودية) انتهى.


ومِن الرُّخصِ الشرعيةِ الْمُتعلِّقةِ بالبردِ: التيمُّم عند اشتداد البرد أو عند خشية الضرر من الماء البارد: (عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: ‌احْتَلَمْتُ ‌في ‌لَيْلَةٍ ‌بَارِدَةٍ في غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بالذي مَنَعَنِي مِنَ الاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: [ولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا) رواه أبو داود وقوَّى إسنادَه ابنُ حجر.


ومِن الرُّخص: الصلاةُ في البيتِ في الليلة شديدة البرد: (عَنْ نَافِعٍ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاةِ في لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَالَ: ‌أَلا ‌صَلُّوا ‌في ‌الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إذا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: ‌أَلا ‌صَلُّوا ‌في ‌الرِّحَالِ») رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم، و(عَنْ نُعَيْمٍ النَّحَّامِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: نُودِيَ بِالصُّبْحِ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ، ‌وَأَنَا ‌فِي ‌مِرْطِ ‌امْرَأَتِي، فَقُلْتُ: لَيْتَ الْمُنَادِيَ يُنَادِي: وَمَنْ قَعَدَ فَلا حَرَجَ، فَنَادَى مُنَادِيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ قَعَدَ فَلا حَرَجَ») رواه ابنُ أبي شيبة وصحَّحه الألباني.


ومِن الرُّخص: جوازُ السدلِ في الصلاة عند اشتداد البرد، قال وائل بنُ حُجْر: (ثُمَّ جِئْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ جُلُّ الثِّيَابِ ‌تَحَرَّكُ ‌أَيْدِيهِمْ تَحْتَ الثِّيَابِ) رواه أبو داود وصححه الألباني.


ومِن الرُّخص: الجمع بين الصلوات لاشتداد البرد: (عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ ‌في ‌غَيْرِ ‌خَوْفٍ ‌ولا ‌مَطَرٍ».. قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: كَيْ لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ) رواه مسلم، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية: (‌وَأَوْسَعُ ‌الْمَذَاهِبِ ‌فِي ‌الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَذْهَبُ الإمامِ أَحْمَد.. ويَجُوزُ في ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) انتهى.


عبد الله: إن امتثال شرع الله في العزائم والرُّخص ومنها عزائمُ ورُخَصُ البردِ مما يُحبُّه الله، (عنِ ابْنِ عُمَرَ عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: إنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، ‌كَمَا ‌يُحِبُّ ‌أَنْ ‌تُؤْتَى عَزَائِمُهُ) رواه ابن حبان في صحيحه، و(قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ) رواه الإمام أحمد وصحَّحه مُحقِّقو المسند.


وأما عن البدع المتعلقة بالبرد، فمنها: تقصُّد البُروز للبرد والتعرُّض له ظنَّاً أنَّ ذلك من مجاهدة النفس، ومنها: إيقاد النيران في الشتاء احتفالاً بما يُسمُّونه عيد ميلاد المسيح.


عبد الله: وأما عن برد الآخرة، فأَوَّلُه: برد العيش بعد الموت، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم في الصلاة في الحديث الطويل: (وَأَسْأَلُكَ ‌بَرْدَ ‌الْعَيْشِ ‌بَعْدَ ‌الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ) الحديث رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.


وبرد العيش بعد الموت يتناول نعيم القبر، ويتناول برد تخفيفٍ من الألم أو العذاب في القبر بعد انقطاعه كما في قصة صاحب الدَّين، فـ(عَنْ جَابِرٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: نُصَلِّي عَلَيْهِ، فَخَطَا خُطًى ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: حَقَّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ، قَالَ: فَعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: لَقَدْ قَضَيْتُهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ‌الآنَ ‌بَرَّدَتْ ‌عَلَيْهِ ‌جِلْدَهُ) رواه الإمام أحمد وحسَّنه محققو المسند، قال الشوكاني: (فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُلُوصَ الْمَيِّتِ مِنْ وَرْطَةِ الدَّيْنِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَرَفْعُ الْعَذَابِ عَنْهُ، إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ لا بِمُجَرَّدِ ‌التَّحَمُّلِ ‌بالدَّيْنِ ‌بلَفْظِ الضَّمَانَةِ، ولِهَذَا سَارَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى سُؤَالِ أَبي قَتَادَةَ في الْيَوْمِ الثَّاني عَنْ الْقَضَاءِ) انتهى.


ومما يتعلق بالبرد في الآخرة أن الله نفى عن الجنة الْحرَّ والبردَ الشديد، فقال سبحانه: [مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا].


وأما أهل النار، فقد نفى الله عنهم البرد الذي يُبرِّد حَرَّ السعير عنهم، وأثبت لهم الغساق: وهو الزمهرير، فقال سبحانه: [لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا- إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا]، وقال سبحانه: [هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاق - وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاج]، قال ابن مسعود: (هو الزمهرير) رواه ابن جرير.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • مقالات
  • كتب
  • صوتيات
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة