• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / د. محمود بن أحمد الدوسري / مقالات


علامة باركود

طعن المستشرقين في السنة النبوية

طعن المستشرقين في السنة النبوية
د. محمود بن أحمد الدوسري


تاريخ الإضافة: 5/6/2022 ميلادي - 5/11/1443 هجري

الزيارات: 26171

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

طَعْنُ المُسْتشرقين في السُّنة النَّبوية

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

السُّنة في مفهوم المستشرقين:

شكَّك المستشرقون في مصطلح "السنة" وعدُّوها قصصاً ورواياتٍ تُروى للتسلية، رواها الصحابة والتابعون ومَنْ بعدهم، واخترعها المُحدِّثون والفقهاء لأغراض متعدِّدة، فأصبحت تُمثِّل وجهات نظر أشخاص مُعيَّنين، وادَّعوا بأن السنة عبارة عن أقوالٍ متناقضة ومُزوَّرة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ وُضِعَتْ لِتُعالِجَ القضايا المستجدة في المجتمع الإسلامي، فَنَمَتْ وتكاثرت الأحاديث، ثم زعموا أنَّ السنة عنصر غريب على الإسلام، وأنها خليطٌ من ثقافاتٍ ودياناتٍ مُتعدِّدة؛ لأنَّ الأحاديث النبوية مأخوذة من أهل الكتاب؛ اليهود والنصارى، ومنقولة من الثقافات والدِّيانات والنِّحل والفلسفات القديمة؛ كالفارسية، والبوذية، واليونانية، والهندية وغيرها، وزعموا أيضاً أنَّ السنة نتيجة للاختلافات العقدية والمذهبية والفقهية والسياسية.

 

ومن أجل ذلك أباحوا لأنفسهم أن يُحكِّموا أهواءهم ومعاييرهم الخاصة وميولهم الشخصية واجتهاداتهم الخاطئة في السنة النبوية، وفي الوقت ذاته أبعدوا منهج المُحدِّثين تماماً عن القضية، بل طعنوا فيه وفي أُسسه وقواعده، وفي الرجال الذين كان لهم الفضل في تقعيد قواعده وبيانها[1].

 

وقد ادَّعى المستشرق "جولد تسيهر" بأنَّ مفهوم السنة: (هي جوهر العادات وتفكير الأمة الإسلامية قديماً، وتُعدُّ شرحاً لألفاظ القرآن الغامضة التي جعلتها أمراً عملياً حياً)[2].

 

ويزعم أيضاً: (ما من أمرٍ أو فِعل يوصف عندهم بالفضل أو العدالة إلاَّ إذا كان له أصل في عاداتهم الموروثة أو كان مُتَّفِقاً معها، وهذه العادات التي تتألُّف منها السُّنة تقوم عندهم مقام القانون أو الديانة، كما أنهم كانوا يرونها المصدر الأوحد للشريعة والدين، ويعدون اطِّراحها خطأً جسيماً، ومخالفةً خطيرة للقواعد المعروفة والتقاليد المرعية التي لا يصح الخروج عليها، وما يصدق على الأفعال يصدق أيضاً على الأفكار الموروثة، والجماعةُ يتحتَّم عليها ألاَّ تَقبل في هذا المجال شيئاً جديداً لا يتَّفق مع آراء أسلافها الأقدمين). ثم يضيف قائلاً: (فِكرة السُّنة يمكن إدراجها بين الظواهر التي سمَّاها "سبنسر" بـ العواطف القائمة مقام غيرها، وهي النتائج العضوية التي جمعتها بيئةٌ من البيئات خلال الأجيال والأحقاب، والتي تركَّزت وتجمَّعت في غريزة وراثية، تتألف منها الصفة أو الصفات التي يتوارثها أفراد هذه البيئة)[3].

 

الفرق بين السُّنة والحديث:

يتطَّرق "جولد تسيهر" إلى تحديد مفهوم "الحديث" الذي يفصله عن مفهوم "السنة" بقوله عن الحديث أنه هو: (الشكل الذي وصلت به السُّنة إلينا، فَهُما ليسا بمعنى واحد، وإنما السنة دليل الحديث، فهو عبارة عن سلسلة من المحدِّثين الذين يُوصِلون إلينا هذه الأخبار والأعمال المشار إليها طبقةً بعد طبقة، مما ثبت عند الصحابة أنه حاز موافقةَ الرسول [صلى الله عليه وسلم] في أمور الدين أو الدنيا، وما ثبت أيضاً حسب هذا المعنى من المُثُل التي تُحتَذى كلَّ يوم)[4].

 

وأما "شاخت" فيقول: (إنَّ الأحاديث ليست هي السُّنة؛ بل هي تدوين السُّنة بالوثائق)[5].

 

خلاصة مفهوم السُّنة عند المستشرقين:

1- السنة هي جوهر العادات والتقاليد الموروثة.

2- السنة شرحٌ لألفاظ القرآن الغامضة.

3- السنة وحدها هي القانون أو الديانة، وهي المصدر الوحيد للشريعة.

4- السنة غير الحديث، وأنهما ليسا بمعنى واحد[6].

 

مظاهر "مطاعن المستشرقين" في السُّنة:

وبناءً على هذا المفهوم وذلك التَّصوُّر، فقد وجَّه المستشرقون المطاعن في السُّنة النبوية والحديث الشريف، ومن مظاهر هذه المطاعن:

أ- ادعاؤهم بأنَّ السُّنة جماعٌ للعادات والتقاليد الوراثية: ادَّعى المستشرقون بأنَّ السنة النبوية - ومنها أحاديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم القولية والعملية والتقريرية - هي جماع العادات والتقاليد الوراثية في المجتمع العربي الجاهلي فنُقِلت إلى الإسلام، ثم عُدِّلت تعديلاً جوهريًّا عند انتقالها، ثم أنشأ المسلمون من المأثور من المذاهب والأقوال والأفعال والعادات لأقدم جيلٍ من أجيال المسلمين سُنَّةً جديدة[7].

 

ويزعم "كولسون" أنَّ (السُّنة – في القرن الهجري الأول - تعني: مجموعَ الآراء الفقهية المُتَّفق عليها بين علماء مدرسةٍ فقهيةٍ مُعيَّنة، ثم نُسِبت بعد قليل إلى أسماءٍ معدودةٍ من الشخصيات المشهود لها بالفضل والتُّقى؛ فعُمَرُ [رضي الله عنه] يُذكَر باعتباره مُؤَسِّس سُنَّة المدينة، وعبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] في الكوفة، ثم وصل الأمرُ في النهاية إلى نِسبة تلك الآراء إلى النبيِّ [صلى الله عليه وسلم] نفسِه)[8].

 

ب- زعمهم أنَّ الحديث مُقتبس من اليهودية والنصرانية: يقول "كارل بروكلمان": (وأغلب الظن أنَّ محمداً قد انصرف إلى التفكير في المسائل الدِّينية في فترة مبكرة جداً، وهو أمر لم يكن مستغرباً عند أصحاب النفوس الصافية من معاصريه الذين قصرت العبادة الوثنية عن إرواء ظمئهم الروحي.

 

وتذهب الروايات إلى أنه اتَّصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى، أمَّا في مكة نفسها فلعله اتَّصل بجماعاتٍ من النصارى، كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حدٍّ بعيد)[9].

 

ويقول "جولد تسيهر": (لكي نُقَدِّر عمل محمدٍ من الوجهة التاريخية، ليس من الضروري أنْ نتساءل عمَّا إذا كان تبشيره ابتكاراً وطريفاً من كل الوجوه ناشئاً عن روحه، وعمَّا إذا كان يفتح طريقاً جديداً بحتاً. فتبشير النبي العربي ليس إلاَّ مزيجاً منتخباً من معارف وآراء دينية، عَرَفَها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها، التي تأثَّر بها تأثُّراً عميقًا، والتي رآها جديرةً بأنْ تُوقظ عاطفةً حقيقية عند بني وطنه)[10].

 

ويرى "ريتشارد بل": (أنَّ النبي [صلى الله عليه وسلم] قد اعتمد في كتابته للقرآن على الكتاب المُقدَّس، وبخاصة على العهد القديم في قسم القصص، فبعض قصص العقاب؛ كقصص عاد وثمود مستمد من مصادر عربية، ولكن الجانب الأكبر من المادة التي استعملها محمدٌ ليفسر تعاليمه ويدعمها قد استمدَّه من مصادرَ يهوديةٍ ونصرانية، وقد كانت فرصتُه في المدينة للتَّعرُّف على ما في العهد القديم أفضل من وضعه السابق في مكة؛ حيث كان على اتصالٍ بالجاليات اليهودية في المدينة، وعن طريقها حصل على قسطٍ غيرِ قليلٍ من المعرفة بِكُتُبِ موسى على الأقل)[11].

 

حجَّتُهم داحضة في الدنيا والآخرة:

ولو كانت رسالة الإسلام مقتبسة من تلك اليهودية والنصرانية؛ لَمَا جاء في القرآن الكريم الأمر بمخالفتهم، وعدم موالاتهم، ولَمَا كان القرآن العظيم مهيمناً على ما سبقه من كتب بسبب ما تعرَّضت له من التحريف والزيادة والنقصان، هذا فضلاً عمَّا اتصف به الصحابة رضي الله عنهم من صدقٍ وإخلاص لهذا الدين، فلو كان للقرآن علاقةٌ بالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية من حيث الاقتباس؛ لبادر الصحابة إلى نقل ذلك، ولكن لم يحدث شيءٌ من هذا، وهذا دليل على بطلان قولهم من أنَّ السنة النبوية مزيج من العقائد والأديان السابقة[12].

 

وهم مُلتَزِمون أخلاقياً وعلميًّا أنْ يُدلِّلوا على ما ذهبوا إليه، فليخبرونا عن المصادر اليهودية والنصرانية التي أخذ عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وليخبرونا عن أسماءٍ من تلقَّى عنهم، ومكثه عندهم، ومدة مكثه، وليخبرونا بأسماء الجاليات اليهودية التي حَصَّلَ عن طريقها قصَّة موسى عليه السلام؟ ومن أين استَقَوا هذه الأقاويل؟ وما مستندهم فيها؟ هذا ابتداءً، فإذا أمكنهم ذلك فليأتونا به، وهيهات لهم، ولكن نفرض المستحيل معهم، فإذا تحقَّق لهم ذلك، فليأتوا ولدينا من الحجج العقلية، والتواريخ العلمية، والشواهد الواقعية ما يدحر حُجَجَهم، ويبطل زعمَهم.

 

ج- زعمهم أنَّ الأحاديث هي نتيجة للتطور الدِّيني: يقول "جولد تسيهر": (إنَّ القِسم الأكبر من الحديث ليس إلاَّ نتيجةً للتطور الديني والسياسي والاجتماعي للإسلام في القرنين؛ الأوَّل والثاني، وأنه ليس صحيحًا ما يقال من أنه وثيقةٌ للإسلام في عهده الأوَّل؛ عهدِ الطفولة، ولكنه أثرٌ من آثار جهود الإسلام في عهد النُّضوج)[13].

 

ويقول "بروكلمان": (كان محمدٌ وأصحابه يُصَلُّون مرتين في اليوم في مكة، أو ثلاث مرات في المدينة كاليهود، ثم جَعلت الطقوسُ المتأخرة المتأثرة بالفرس عددَ الصلوات في اليوم خمساً)[14].

 

ويقول "برنارد لويس": (لقد استُحدِثت طرق جديدة في الحياة مع مرور الزمن وتوسُّع البلاد الإسلامية، وظهرت حاجاتٌ أدَّت إلى أوضاع غريبة تماماً على الحياة البسيطة، والفكر الذي كان سائداً في عصر الصحابة، وبالإضافة إلى ذلك فإن الأحداث الغريبة والتأثيرات الأجنبية التي كان لا بد من استيعابها وهضمِها كان لا بد أنْ تُحدِث خللاً في التمسك بالمفهوم الجامد للسُّنة على أنها المعيار الوحيد للصدق والعدل)[15].

 

د- ادِّعاؤهم بأن الحديث نتيجة للجدل الديني: يقول المستشرق الأمريكي "ماكدونالد": (من الواضح أنَّ هناك أحاديث كثيرة لا يمكن أنْ تكون قد صدرت عنه [يعني: النبيَّ صلى الله عليه وسلم]، كما أننا لن نستطيع أنْ نعرف أبداً الأحاديث التي صدرت عنه حقًّا.

 

وقد بيَّن لنا "جولد تسيهر" أنَّ الأحاديث ليست في الواقع إلاَّ سجلاً للجدل الديني في القرون الأُولى، ومن ثم كانت قيمتها التاريخية، لكن هذا السجل مضطربٌ، كثيرُ الأغلاط التاريخية، وفيه معلومات مُضَلِّلة لم تؤخذ من مصادرها الأُولى، حتى أنه أصبح لا يصلح إلاَّ لتكملة المصادر الأُولى الأخرى وتوضيحها.

 

ولهذا ينبغي أن نُوجز الكلام في الأحاديث باعتبار أنها تُعبِّر عن آراء محمدٍ أو آراء المسلمين في صدر الإسلام، ولا يقتصر الأمرُ على هذا، فإنَّ الأحاديث التي نجد فيها مشابهةً لما ورد في القرآن مشكوكٌ فيها كذلك!)[16].

 

إنَّ زعم المستشرقين وادِّعاءهم أنَّ الحديث نتيجةٌ "للتطور الديني" خلال القرون الأُولى أو نتيجة "للجدل الديني" في القرون الأُولى فيه كثير من المغالطات والافتراءات؛ لأنَّ وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم تكن في منتصف طريق دعوته إلى الله، وإنما كانت بعد أن أدى الرسالة وبلغ الأمانة، حتى نزل قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ)[17]. وهذا يدل على أن التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كان بعد أدائه رسالة ربه للناس، وهذا يعني: أن هذا الدِّين أُرسيت أصوله وأحكامه الثابتة في الحياة، وكان شريعةً واضحةَ المعالم، لم تكن فيه مبهمات أو غموض أو أسرار، وإنما كانت بيضاءَ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاَّ هالك، والتطور الذي حدث بعد عهد الرسالة كان في بعض الفروع والجزئيات التي ظهرت عندما توسعت رقعة الخلافة الإسلامية، وعندما فتح المسلمون البلاد الأخرى، فكان لا بد أن تعتريهم بعض الحوادث الجديدة التي لم يكن لها نص في القرآن أو السنة، فتعامل العلماء معها بطرق علمية متينة وقواعد راسخة تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ كالإجماع والقياس وغيرهما من مصادر التشريع الإسلامي.

 

وفي هذا العنصر نلاحظ أنَّ المستشرقين الْتَبَسَ عليهم الفقهَ بالحديث، فخلطوا بينهما، وهذا خطأ فاحش، فالحديث نصٌّ ثابت لم يَطرأ عليه تطوُّر، وإنما حُفِظَ كما هو منذ أنْ تلقَّاه الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقتنا الحاضر، ولكن ما دار من تطوُّرٍ أو جدلٍ - في زعمهم - إنما هو واقِعٌ في الفقه، وما اسْتُحْدِثَ من مظاهر وقضايا في المجتمع المسلم كانت بحاجة إلى رأي، فاختلف العلماء فيها؛ فذهب بعضهم إلى رأي، وآخرون إلى رأي، فهذا من قبيل الخلافات الفقهية، وهذا التطور الفقهي الذي واكب حاجات العصور المتلاحقة دليل على مرونة الإسلام وقدرته على استيعاب أحداثٍ وقضايا الزمان والإجابة عليها، في إطار الوحي؛ كتاباً وسُنَّة، ثم في إطار الأدلة الأُخرى؛ من القياس والاجتهاد وغيرها، فالتطور والجَدَل - كما يُعبِّرون عنه - لم يَسْتَحْدِثْ نَصًّا نبويًّا؛ نَسَبوه إليه وسَمُّوه سُنَّتَه، وإنما اسْتَحْدَثَ رأياً، وافَقَ قواعدَ الاجتهاد وأصولَ الدِّين.

 

ومن ناحية أخرى فإنَّ وحدة المسلمين في أداء الشعائر التعبدية، في جميع أرجاء العالم - رغم تباين أقطارهم، واختلاف لغاتهم، وتمايز أعراقهم وأجناسهم - فلو كانت الأحاديث النبوية نتيجة التطور الدِّيني والاجتماعي كما يدعي هؤلاء القوم، لوجدنا المسلمين في كل بلد يختلفون في كيفية أداء الصلوات وعدد ركعاتها وأوقاتها. وكذلك الصيام والحج وغيرها من العبادات، ولكن الله تعالى أراد لهذا الدين أن يستمر إلى يوم القيامة؛ لأنه جل ثناؤه تكفل بحفظه من الانحراف والتزييف والتضليل[18].

 

هـ- شبهة تأخُّر تدوين الحديث: يدَّعي ويزعم المستشرقون أن الحديث لم يُدوَّن ويجمع إلاَّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرون، ما أدى إلى تحريفه وكثرة الوضع فيه، وعدم الثقة به، ومن هذه المزاعم:

ما قاله "برنارد لويس" بأنَّ (جَمْع الحديث وتدوينه لم يَحدثا إلاَّ بعد عدة أجيال من وفاة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وخلال هذه المدة فإنَّ الأغراض والدوافع لتزوير الحديث كانت غير محدودة، فأوَّلاً يكفي مجرد مرور الزمن، وعجز الذاكرة البشرية وحدهما لأنْ يلقيا ظلالاً من الشك على بيِّنَةٍ تُنقَل مشافهة مدةً تزيد على مائة عام)[19].

 

ويزعم أيضاً: (ثمة دوافع للتحريف المُتعمَّد؛ لأن الفترة التي تلت وفاة الرسول [صلى الله عليه وسلم] شهدت تطورًا شاملاً في حياة المجتمع الإسلامي، فكان تأثُّر المسلمين بالشعوب المغلوبة، بالإضافة إلى الصراعات بين الأسر والأفراد، كلُّ ذلك أدَّى إلى وضع الحديث)[20].

 

ويقول "بروكلمان": (القِسم الأعظم من الحديث المُتَّصل بسُنَّة الرسول لم ينشأ إلاَّ بعد قرنين من ظهور الإسلام، ومن هنا تعيَّن اصطناعه كمصدرٍ لعقيدة النبيِّ نفسِه)[21].

 

وقال "كولسون": (القدر الأعظم من المادة التشريعية المنسوبة إلى النبي منحولةٌ وناتجة عن نسبة الآراء الفقهية إلى فترةٍ سابقةٍ على ظهورها)[22].

 

ولقد كان من فضل الله تعالى على هذه الأمَّة أن هيَّأ لهذا الدِّين أئمة أعلاماً يُهتدى بهم في الليلة الظلماء، فرغم تتابع القرون، وتعاقب الأجيال، وكثرة الزنادقة والمفسدين، إلاَّ أنَّ الله تعالى حَفِظَ سُنَّةَ نبيِّه من التبديل والتحريف، وقد بَذَل أئمة الإسلام جهوداً عظيمة جداً في حِفْظِها ورعايتها، ووقفوا سدًّا منيعاً في وجوه الزنادقة والعابثين قديماً وحديثاً، وهذه منَّة جليلة على هذه الأمة، نحمد الله تعالى عليها حمداً كثيراً، وما يُقال إنَّ السنة النبوية نُقلت عن طريق الرواة المُعرَّضين للخطأ والنسيان، فهو مجرَّد ادِّعاء باطل، لا يقوم على دليل علمي صحيح[23].

 

ولقد حرص الصحابة الكرام رضي الله عنهم على جمع الحديث وتدوينه بكل ضبط وأمانة؛ خلافاً لما يدَّعيه المستشرقون الأفَّاكون، فقد دُوِّنت السُّنة في نهاية القرن الأول الهجري، في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وفي ذلك يقول ابن حجر رحمه الله: (اعلم - علمني الله وإياك - أنَّ آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن في عصر أصحابه وكبار مَنْ تَبِعَهم مُدوَّنةٌ في الجوامع، ولا مُرَتَّبةٌ؛ لأمرين:

أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نُهوا عن ذلك، كما ثبت في صحيح مسلم[24]؛ خشيةَ أنْ يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.

 

وثانيهما: لسعة حفظهم وسيلان أذهانهم، ولأنَّ أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة. ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار، لَمَّا انتشر العلماءُ في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار.

 

فأول مَنْ جَمَعَ ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عَرُوبَة وغيرهما. وكانوا يُصنِّفون كلَّ باب على حِدة، إلى أنْ قام كبار أهل الطبقة الثالثة، فدونوا الأحكام)[25].

 

وكان اهتمام السلف الصالح بحفظ الحديث وضبطه اهتماماً بالغاً؛ بل هم قد جعلوا ذلك من شروط الرواية، كما قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: (يحرم على الرجل أنْ يروِيَ حديثاً في أمر الدِّين حتى يُتقِنَه ويَحفظَه كالآية من القرآن، وكاسم الرجل، والمستحب له أن يورد الأحاديث بألفاظها؛ لأن ذلك أسلم له)[26].

 

الفرق بين الكتابة والتدوين:

1- الكِتابة: قال ابن سِيده رحمه الله: (كَتَبَ الشَّيءَ يَكتُبُه كَتْباً، وكِتاباً، وكَتَبَه: خَطَّهُ) [27]، فكتابة الشيء خطُّه.

 

2- التَّدوين: قال الفيروزآبادي رحمه الله: (الدِّيوان: مُجتمع الصُّحُف. وجَمْعُه: دَوَاوين، ودَيَاوِين)[28]. و(دَوَّنَهُ تَدْوِيناً: جَمَعَهُ)[29].

 

فالفرق بين الكتابة والتدوين: أنَّ الكتابة: مُطلق خطِّ الشيء، دون مراعاةٍ لجَمْعِ الصُّحُف المكتوبة في إطارٍ يجمعها. أمَّا التَّدوين: فمرحلةٌ تاليةٌ للكتابة، ويكون بجمع الصُّحف المكتوبة في ديوان يحفظها.

 

وعلى ذلك؛ فقول الأئمة: إنَّ السُّنة دُوِّنت في نهاية القرن الأوَّل، لا يُفيد أنها لم تُكتب طيلة هذا القرن، بل يُفيد أنها كانت مكتوبةً، لكنها لم تصل لدرجة التدوين - أي: جمع الصُّحف في دفتر - بل كان أكثر العلماء يكتب ما يسمع من غير ترتيب، وعندما جاءهم أمرُ الخليفةِ عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله أخَذَ الصِّفة الرَّسمية، وأخذ التَّدوينُ أشكالاً مُتعدِّدة، وما فهمه المعاصرون - من أنَّ التدوين هو الكتابة - فهو خطأٌ، منشؤه عدم التمييز بين الكتابة والتدوين[30].

 

مراحل جمع السنة وتدوينها:

قال ابن حجر رحمه الله: (أوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الحديثَ ابنُ شهابٍ الزهري على رأسِ المائة بأمرِ عمرَ بنِ عبد العزيز، ثم كَثُرَ التَّدوين، ثم التَّصنيف، وحصل بذلك خيرٌ كثير فللَّه الحمد)[31].

 

و- زعمهم التعارض في الأحاديث: يقول "جولد تسيهر": (لا توجد مسألة خلافية سياسية أو اعتقادية إلاَّ ولها اعتماد على جملة من الأحاديث ذات الإسناد القوي)[32].

 

إن تعارض الأحاديث وقوة صحتها لا تعني بأيِّ حالٍ أنها موضوعة أو غير صحيحة، فمن المعلوم أنَّ التعارض الظاهري بين بعض الأحاديث إنما نتيجة لأسباب كثيرة معروفة في "علم مصطلح الحديث" وقد بيَّن العلماء أسباب اختلاف الحديث؛ فما كان سببه الوضع بَيَّنوه، وما كان سببه شيئاً آخر بينوه أيضاً، وقد صنفوا في ذلك كتبًا ومراجع[33].

 

وإذا وُجِدَ تعارض، بيَّن أهلُ العلم حَلَّ هذا التعارض وَفق قواعد معلومة لدى أئمة الحديث، عُرِفت بــ "مختلف الحديث" وخلاصتها: أن يُنظر في الأحاديث المتعارضة هل يمكن الجمع بينهما؟ فإن كان كذلك؛ فيُحْمَل كلٌّ واحد منهما على محمل خاص؟ فإن لم يمكن الجمع بينهما نُظِرَ في التاريخ، هل أحدهما متأخر والآخر مُتقدِّم، فيكون المتأخر ناسخاً، والمتقدم منسوخاً، وإنْ لم يُعلم المتأخر من المتقدِّم عُمِلَ بترجيح أحدهما على الآخَر وَفق المرجحات المعروفة عند المحدثين، وإنْ لم يمكن الترجيح بحيث تساوت طرق الحديثين فيتوقف فيه، وهو الذي يسمَّى "بالحديث المضطرب" إلى حين يتبين الترجيح[34].

 

ز- النقد المباشر للأحاديث: ومن نماذج نقد المستشرقين للأحاديث[35]:

1- ادعاء "جولد تسيهر" بأنَّ الإمام الزهري رحمه الله وضع حديث: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ)[36]. مع أنَّ الحديث تعدَّدت طرقه عن غير الزهري.

 

2- زعم "نيكلسون" أنَّ حديث شق الصدر أسطورة نشأت عن تفسير قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]. ولو صحَّ؛ لدلَّ على الصرع.

 

3- زعم "واط" أنَّ قصة الغرانيق صحيحة؛ لأنها في غاية الغرابة فلا بد أن تكون حقيقية في جوهرها، إذ لا يُتصوَّر أنْ يخترعها واحد ثم يقنع جماعة ضخمة بقبولها. وقد أنكر قصة الغرانيق عدد كبير من علماء المسلمين؛ كابن خزيمة والبيهقي وعياض وابن العربي والقرطبي والعيني والآلوسي والشوكاني.

 

4- تكذيب "كيب" لحديث: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)[37]. بحجة أنه وُضِعَ للرد على حركة الوضع! مع أنَّ الحديث متواتر، رواه مائتان من الصحابة، وله أكثر من أربعمائة طريق[38].

 

5- ادَّعى "فنسنك" أنَّ حديث: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ على خَمْسٍ)[39]. موضوع بعد الالتقاء مع نصارى الشام، والتَّأثُّر بهم!

 

6- شكَّك "موريس بوكاي" ببعض أحاديث "صحيح البخاري" كتاب "بدء الخلق" وكتاب "الطب"؛ لأنها لا تُوافق العلمَ الحديث.



[1] انظر: منابع المستشرقين في دراسة السنة النبوية، د. مصطفى بن عمر حلبي (ص 574).

[2] العقيدة والشريعة في الإسلام، جولد تسيهر (ص 41).

[3] المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، د. عجيل جاسم النشمي (ص 81-82).

[4] المصدر نفسه، (ص 83).

[5] المصدر نفسه، (ص 84).

[6] انظر: الاستشراق وموقفه من السنة النبوية، (ص 18).

[7] انظر: العقيدة والشريعة في الإسلام، (ص 42)؛ دائرة المعارف الإسلامية، (7/ 330).

[8] مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، جماعة من العلماء (ص 269) بتصرف.

[9] افتراءات المستشرق "كارل بروكلمان" على السيرة النبوية، (ص 22-23).

[10] العقيدة والشريعة في الإسلام، (ص 5-6).

[11] الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، (ص 102).

[12] انظر: الاستشراق وموقفه من السنة النبوية، (ص 41).

[13] نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي، علي حسن عبد القادر (ص 127).

[14] تاريخ الشعوب الإسلامية، (ص 73).

[15] الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي: دراسات تطبيقية على كتابات "برنارد لويس"، د. مازن مطبقاني (ص 156).

[16] دائرة المعارف الإسلامية، (2/ 570).

[17] رواه الدارمي في (سننه)، (4/ 245)، (ح 149)؛ والحاكم في (المستدرك)، (1/ 172)، (ح 319). وصححه الألباني في (صحيح الجامع)، (1/ 566)، (ح 2937).

[18] انظر: الاستشراق وموقفه من السنة النبوية، (ص 49).

[19] الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي: دراسات تطبيقية على كتابات "برنارد لويس"، (ص 157).

[20] المصدر نفسه، (ص 157).

[21] تاريخ الشعوب الإسلامية، (ص 74).

[22] مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، (1/ 273).

[23] انظر: جهود الأئمة في حفظ السنة، (ص 15)؛ اهتمام المحدثين ومنهجهم في حفظ السنة النبوية، د. عبد العزيز بن أحمد الجاسم، مجلة البحوث الإسلامية، (عدد: 67)، (1423 هـ)، (ص 257).

[24] يُشير إلى ما جاء عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ). رواه مسلم، (4/ 2298)، (ح 3004).

[25] هدي الساري مقدمة فتح الباري، (ص 6).

[26] الكفاية في علم الرواية، (ص 167).

[27] المحكم والمحيط الأعظم، (6/ 775).

[28] القاموس المحيط، (ص 1545).

[29] تاج العروس، (35/ 35).

[30] انظر: السنة النبوية: مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها، (ص 97).

[31] فتح الباري، (1/ 208).

[32] انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 203).

[33] انظر: المصدر نفسه، (ص 204).

[34] انظر: علوم الحديث، لابن الصلاح (ص 284، 286).

[35] انظر: موقف الاستشراق من السيرة والسنة النبوية، (ص 44-45).

[36] رواه مسلم، (1/ 566)، (ح 3450).

[37] رواه البخاري، (1/ 242)، (ح 1303)؛ ومسلم، (1/ 6)، (ح 5).

[38] انظر: فيض القدير، المناوي (6/ 216).

[39] رواه البخاري، (1/ 12)، (ح 8)؛ ومسلم، (1/ 45)، (ح 16).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • مواقع المشرفين
  • مواقع المشايخ ...
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة