• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / الشيخ عبدالله بن محمد بن سعد آل خنين / بحوث في القضاء


علامة باركود

من فقه المرافعات (9) خطاب عمر بن الخطاب إلى قاضيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما (PDF)

الشيخ عبدالله بن محمد بن سعد آل خنين

عدد الصفحات:15
عدد المجلدات:1

تاريخ الإضافة: 18/6/2015 ميلادي - 1/9/1436 هجري

الزيارات: 29039

 نسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تحميل ملف الكتاب

من فقه المرافعات (9 / 10)

خطاب عمر بن الخطاب إلى قاضيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما

والقواعد والأحكام المقرّرة للمرافعات في هذه المُدَوَّنَة


 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن الحديث تحت هذا العنوان يرتكز حول ثلاثة أمور:

• نص الخطاب.

• تخريجه.

• ما اشتمل عليه من القواعد الإجرائيَّة.

 

أولاً: نصّ خطاب عمر بن الخطاب إلى قاضيه أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما -:

توطئة:

لقد ولَّى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما على قضاء الكوفة بعد عزلِه عمارَ بن ياسر رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين للهجرة، فأقام أبو موسى على قضائها سنةً، ثم إن عمر ولاَّه على البصرة بعد المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قاضياً ووالياً، ثم أبقاه على الولاية فقط وعَيَّن لها قاضياً سواه، وكان قد كتب له كتاباً في القضاء، اعتنى بهذا الكتاب المحدِّثون، والفقهاء، والأدباء، والمؤرخون، وأوردوه في مصنفاتهم، وشرحه بعضهم، وقد تُرْجم هذا الكتاب إلى عدة لغات أجنبيَّة، فتُرْجِم إلى الفرنسيَّة، والإنجليزيَّة، والألمانيَّة، ولا تخلو هذه الترجمات من تحريف[1].

 

ونَصُّ هذا الكتاب:

عن سفيان بن عيينة قال: حدثنا إدريس الأودي عن سعيد بن أبي بردة - وأخرج الكتاب - فقال: هذا كتاب عمر، ثم قرئ على سفيان من ههنا: "إلى أبي موسي الأشعري:

أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنَّة متبعة، فافهم إذا أُدْلي إليك؛ فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له، آسِ بين الناس في مجلسك، ووجهك، وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حَيْفِك، ولا يخاف ضعيف جَوْرَك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً، لا يَمْنَعَنَّك قضاءٌ قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهُدِيت لرشدك أن تُرَاجِع الحق؛ فإن الحق قديم، وإن الحق لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن والسنَّة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قِس الأمور عند ذلك فاعْمِدْ إلى أحبِّها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة وإلا وجهت عليه القضاء؛ فإن ذلك أجلى للعمى، وأبلغ في العذر، المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حدٍّ، أو مجرَّباً في شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة؛ فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبينات، ثم إياك والضجرَ، والقلقَ، والتأذيَ بالناس، والتنكُّرَ للخصوم في مواطن الحق التي يُوجِب الله بها الأجر ويُحْسِن بها الذكر، فإنه من يُخْلِص نِيَّتَه فيما بينه وبين الله يَكْفِه الله ما بينه وبين الناس، ومن تَزَيَّنَ للناس بما يعلم الله منه غير ذلك شانه الله".

 

أقوال العلماء في هذا الكتاب واعتناؤهم به:

يسمي بعض العلماء كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه -: "كتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم"[2].

 

قال عنه ابن تيميَّة (ت: 728هـ): "ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبنوا عليها، واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه"[3].

 

وقال عنه ابن القيّم (ت: 751هـ): "وهذا كتاب جليل القدر، تَلَقَّاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه"[4].

 

وقال عنه ابن المناصف (ت: 620هـ): "مما يكاد أن يكون في هذا الباب [يعني: في آداب القضاء] أصلاً كافياً في معناه، وغير محوج إلى سواه: ما اشتملت عليه الرسالة المتداولة المنقولة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -... وقد اعتنى بها الأدباء والعلماء، واقتدى بوصاياها البارعة الفقهاء والفضلاء؛ لأنها أصل في كثير من مراتب الأحكام، وآدابِ الولاية والحُكَّام"[5].

 

وقال عنه التسولي (ت: 1258هـ): "[قال] ابن سهل: هذه الرسالة أصل فيما تضمنته من فصول القضاء ومعاني الأحكام، قال في التوضيح[6]: فينبغي حفظها والاعتناء بها"[7].

 

وقد أورد هذا الأثرَ كثيرٌ من العلماء في مؤلفاتهم من محدّثين، وفقهاء، ومؤرخين، وأدباء، من ذلك: أخبار القضاة لوكيع 1/ 70، 283، ونصب الراية للزيلعي 4/ 63، 81، والتلخيص الحبير لابن حجر 4/ 196، وكن-ز العمال 5/ 806، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 1/ 200، وأدب القاضي للخصاف وشرحه للجصاص 44، 47، وأدب القاضي للخصاف وشرحه لابن مازه 1/ 213-234، والمبسوط 16/ 60 وَشَرَحَه شَرْحاً متوسطاً، وبدائع الصنائع 7/ 9، ومُعِين الحُكَّام للطرابلسي 14، وتنبيه الحُكَّام 55، وتبصرة الحُكَّام 30، والبهجة 1/ 63، والذخيرة 10/ 71، وأدب القاضي لابن القاصّ 1/ 168، والأشباه للسيوطي 6، والأحكام السلطانيَّة للماوردي 71، والمغني 11/ 394، 415، والشرح الكبير 11/ 401، 413، 441، وإعلام الموقعين لابن القيم وَشَرَحَه شَرْحاً مُطَوَّلاً، ومنهاج السنَّة لابن تيميَّة 6/ 71، وصبح الأعشى للقلقشندي 10/ 196، ومقدمة ابن خلدون 2/ 627، والكامل للمبرد 1/ 9 وَشَرَحَه لُغويًّا، وعيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 266.

 

ثانياً: تخريجه:

رواه الدارقطني في سننه 2/ 111، وهو برقم 4426، واللفظ له، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 150، وصححه الألباني، وقال: "وهذا إسناد رجاله ثقاتٌ رجالُ الشيخين، لكنه مرسل؛ لأن سعيد ابن أبي بردة تابعي صغير روايته عن عبدالله بن عمر مرسلة فكيف عن عمر؟ لكن قوله: "هذا كتاب عمر" وجادة، وهي جادة صحيحة من أصح الوجادات، وهي حجة"[8].

 

وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المحلى: "وخير هذه الأسانيد فيما نرى إسناد سفيان بن عيينة عن إدريس... أن سعيد ابن أبي بردة ابن أبي موسى أراه الكتاب وقرأه لديه، وهذه وجادة جيدة في قوة الإسناد الصحيح إن لم تكن أقوى منه، فالقراءة في الكتاب أوثق من التلقي عن الحفظ"[9].

 

كما قد روى هذا الأثر مسنداً الدارقطني في سننه 2/ 111، وهو برقم 4425، بسندٍ لا يخلو من مقالٍ في بعض رجاله.

 

ولعبد الفتاح أبو غدة دراسةٌ عن سند هذا الحديث منشورة في مجلة كليَّة أصول الدين بالرياض، العدد الرابع.

 

وقد ردَّ هذا الأثر ابنُ حزمٍ في المحلى[10]، وَوَصَفَ هذه الرسالة بأنها مكذوبة موضوعة على عمر، ورجَّح قولَه محمود عرنوس[11]، وقولُهما مردودٌ بثبوت هذه الرسالة بسندٍ صحيح مصرَّح فيه بالوجادة، وذلك حجة كما سلف.

 

وقد أثار بعض المستشرقين شبهات حول هذا الكتاب سنداً ومتناً، وهي شنشنة نعرفها من أخزم، وقد تولى الردّ عليهم بعض الباحثين المعاصرين[12].

 

ثالثاً: القواعد والأحكام المقرّرة للمرافعات في هذه المُدَوَّنَة:

لقد اشتمل خطاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما على قواعد وأحكام إجرائيَّة في المرافعات تُعدُّ أصولاً في هذا الباب، وهي كما يلي:

1- مرجع الأحكام القضائيَّة الكتاب والسنَّة:

فمرجع القاضي في شريعة الإسلام فيما يقضي به كتابُ الله وسنَّة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم الاجتهاد لإفادة الأحكام غير المنصوص عليها بجزئها من المنصوص عليه عن طريق القياس، وأصول الشريعة، وقواعدها، ومقاصدها العامة، والاستعانة على ذلك بالمشاورة العلميَّة مكاتبةً أو مشافهةً، وهذا مما دَلَّ عليه قول عمر رضي الله عنه في خطابه: "الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن والسُّنَّة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قِس الأمور عند ذلك فاعْمِدْ إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى".

 

2- تمكين الخصم من الإدلاء بحجته:

من أصول المرافعة المقررة لسير الدعوى في الشريعة: تمكين الخصم من الإدلاء بحجته واستيفائها.

 

والمراد به: التوسعة للخصمين بسماع واستيفاء ما لديهما من دعوى، وإجابة، ودفوع، وطعنٍ في البيّنات.

 

فإن القاضي إذا جلس أمامه الخصمان وجب عليه الإقبال عليهما والإصغاء إليهما وتمكينهما من الإدلاء بأقوالهما من دعوى، وإجابة، ودفوع، ويستقصي ذلك منهما، فلا يدع للخصم حجة إلا سمعها واستفسر عن مغلقها، ولا بينة إلا تلقاها، ويُعْذِر إليهما في البيّنات بطعنٍ أو معارضة[13].

 

وهذا مما دل عليه خطاب عمر رضي الله عنه بقوله: "ثم إياك والضجر، والقلق، والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق..."، وما النهي عن ذلك إلا ليتمكن الخصم من الإدلاء بحجته من أقوال وبيِّنات.

 

وأصل ذلك مما جاءت به السنّة المشرّفة، فعن عليِّ رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له حين بعثه إلى اليمن: "...فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تَقْضِيَنَّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء"[14].

 

قال ابن فرحون (ت: 799هـ): "وهذا الحديث هو أُمُّ القضايا، ولا إعذار فيه"[15].

 

وقد اختصم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - عليٌّ وزيدٌ وجعفر في حضانة ابنة حمزة رضي الله عنهم، وأدلى كل واحد منهم بحجته على نحو ما يلي:

قال عليٌّ: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي.

وقال جعفر: ابنة عمي، وخالتها تحتي.

وقال زيد: ابنة أخي.

 

فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم"[16].

 

فقد أفسح النبي - صلى الله عليه وسلم - للخصوم الإدلاء بحججهم، ولم يقض إلا بعد سماعها.

 

قال ابن حجر (ت: 852هـ): "وفيه من الفوائد... أن الخصم يدلي بحجته"[17].

 

3- المساواة بين الخصوم:

والمراد به: أن يعامل القاضي الخصوم بالسويَّة في تصرفاته وإجراءاته القضائيَّة معهم.

 

وهذا أصلٌ من أصول المرافعات الشرعيَّة؛ فإن العدل بين الخصوم هو مهمة القاضي الأولى، وإذا كان متعيناً في الحكم فإنه يجري على سائر تصرفات القاضي مع الخصوم في سائر الحقوق والواجبات، لا فرق بين كبير وصغير، ولا سوقة وأمير، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين رعيّة ووالٍ، فكلهم أمام القضاء سواء، القوي فيهم هو الضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف هو القوي حتى يؤخذ الحق له، فيعدل القاضي بين الخصوم في كل شيء من أمور مجلسه، وإجراءات محاكمته، سواء في جلوسهما لديه، أو في الإقبال عليهما، والنظر إليهما، ولا يخصُّ أحدهما بسلام، ولا ترحاب، ولا سؤال عن حاله وخبره أو شيء من أموره ويدع الآخر، ولا يرفع صوته على أحدهما دون الآخر وغير ريبة[18].

 

ومما يدل على وجوب المساواة بين الخصوم من خطاب عمر رضي الله عنه قوله: "آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك، وعدلك؛ حتى لا يطمع شريف في حَيْفِك، ولا يخاف ضعيف جَوْرَك".

 

وأصل ذلك قوله - تعالى -: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]، ففي الآية أَمْرٌ بالقسط على كل حال، ومنه التسوية بين الخصوم، وفيها النهي عن ضده من الإعراض عن الخصم والصدود عنه، ومطله بالكلام حتى يفوت عليه فصل القضاء[19].

 

4- اعتدال حال القاضي عند نظر الدعوى:

والمراد به: أن يكون القاضي عند نظر الدعوى على حال معتدلة، حاضر الذهن، صحيح الفهم.

 

وهذا أصلٌ من أصول المرافعات، وذلك أن يكون القاضي عند المرافعة على وجهٍ تسكن فيها طبيعته، ويجتمع فيه عقله، ويتوفر فيه فهمه، فعلى القاضي أن يتطلب كل ما من شأنه حضور قلبه، واستيفاء فكره، وصحة فهمه، ويتجنَّب كل ما يهوّش[20] عليه مما يحصل به فساد الفهم، والعدول عن الحق، فلا يقضي وهو ماشٍ أو راكب، ولا ضَجِرٌ، ولا وهو جائع أو عَطِشٌ، ولا في حال شِبَعٍ مفرط، ولا وهو يدافعه الأخبثان أو أحدهما، ولا في حال هَمٍّ، أو غَمٍّ، أو حُزْنٍ، أو خوفٍ، أو فرحٍ، أو مرضٍ، أو كسلٍ شديدٍ، أو ذهولٍ، أو تأذٍّ، أو ملالةٍ، أو غضبٍ، ونحوها مما يخل بالفهم أو يمنع من اسيتفاء الفكر والنظر[21]؛ وكل ذلك حتى يتوفر للقاضي فهم الواقعة وتصورها التصور التام، وفهم حكمها الكلي، واستبانة تنزيله على الواقعة.

 

وقد دلَّ خطاب عمر رضي الله عنه على ذلك بقوله: "فافهم إذا أُدْلي إليك" وفيه - أيضاً - "الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك..."، والأمر بالفهم أمرٌ بكل ما يستدعيه من اعتدال حال القاضي عند نظر الدعوى مما فيه وفور الذهن وصحة الفهم، كما في خطاب عمر رضي الله عنه -: "ثم إياك والضجرَ، والتأذيَ بالناس"، وهو نهي للقاضي عمّا يفسد اعتدال حاله عند نظر الدعوى مما يفسد عليه فهمه، ويدخل فيه النهيُ عن كل ما يُخِلُّ باعتدال حال القاضي عند نظر الدعوى.

 

وأصل ذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القضاء حال الغضب في قوله: "لا يحكمْ أحدٌ بين اثنين وهو غضبان"[22]؛ لأن الغضب يخل باعتدال حال القاضي، ويفسد فهمه، ومثله كل ما كان بمعناه.

 

5- طلب البينة من المدّعي وسماعها، وجعل اليمين على المُنْكِر:

هذا أصلٌ من أصول تسيير الدعوى، وطرقِ إثباتها، والفصلِ فيها، فيسأل القاضي المدعي عن كل ما يُثْبِتُ دعواه من البينات، فإن أحضر بينة سمعها ورفق بالشهود عند استشهادهم، واستجوبهم عن كل ما يتعلَّق بالدعوى مما له تأثير في الحكم وتعلُّقٌ به، فإن عُدِمَت البينة من المدعي أو لم تكن موصلة للمدعى به أُفْهِمَ المدعي بأن له يمين خصمه متى طلبها.

 

وعِبْءُ الإثبات يكون على المدَّعي، وليس المدَّعي هنا هو رافع الدعوى، ولا المدعى عليه المرفوعة عليه الدعوى، بل المدَّعي: من كان قوله أضعف؛ لخروجه عن معهودٍ، أو لمخالفته الأصل، والمدَّعى عليه: من ترجح قوله بأمر من الأمور المرجحة من موافقة أصل، أو بقرينة، أو عادة، فتكون البينة على من ضَعُفَ قوله، واليمين على من قوي قوله[23].

 

وقد دلَّ خطاب عمر رضي الله عنه على ذلك بقوله: "البينة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر".

 

وأصل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل ادَّعى: "بينتك، أو يمينه"[24].

 

6- الإعذار في البينة وتعديلها:

معنى الإعذار في البينة: أن يقول القاضي للخصم بعد سماع البينة: هل لك مدفع في البينة أو مطعن فيها؟

 

فإذا سمع القاضي البينة فإن كانت موصلة للحق لم يُعْمِلْها إلا إذا أعذر فيها للخصم القائمة ضده، وذلك بأن يسأله: هل له ما يدفع هذه البينة، أو يطعن فيها بما يسقط الاحتجاج بها من تزوير في كتابةٍ، أو طعنٍ في شاهد بأمر مُفَسِّقٍ أو غيره مما يوجب ردَّ الشهادة؟ فإن ذكر شيئاً من ذلك سَمِعَه وأجرى ما يلزم نحوه، وإن لم يذكر شيئاً من ذلك زُكِّيَت البينة إذا كانت شهادة وحكم بها[25]، وجرى العمل بأن يقول القاضي للمشهود عليه بعد سماع الشهادة: ماذا تقول في الشاهد وشهادته؟

 

وذلك مما يدل عليه خطاب عمر رضي الله عنه في قوله: "المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حدٍّ، أو مجرَّباً في شهادة زور، أو ظَنِيناً [أيْ: مُتَّهماً] في ولاء أو قرابة".

 

وأصل ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [الطلاق: 2]، ففي الآية أنه لا يُقْضَى بشهادة الشاهد إلا إذا بانت عدالته[26].

 

7- الإمهال لسماع حجة أو بيِّنة ونحوهما:

والمراد به: ضرب الحاكم مُدَّةً للمترافعين أو أحدهما لموجبٍ شرعي.

 

إن بعض المحاكمات لا تنتهي في فور واحد، بل تحتاج إلى مجالس عدة، ويستوجب نظرُها تأجيلها، إما لتحرير دعوى وإجابة، أو لإحضار بينة، أو لمراجعة وكيل لموكله للاستيضاح منه، أو غيرها من موجبات التأجيل.

 

ولا يكون التأجيل إلى الأبد، بل إلى أمدٍ يضربه الحاكم حسب اجتهاده مراعياً كل قضيَّة بحسبها، وهذا من تمام العدل الذي أوجبه الله - عزّ وجلّ - فلا يُفَوِّتُ على ذي حق حقه[27].

 

وقد دلَّ خطاب عمر رضي الله عنه على ذلك بقوله: "واجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه...".

 

8- تعجيز الخصم والحكم عليه:

والمراد بالتعجيز: أن يَعُدَّ القاضي الخصم عاجزاً عن البينة بعد استيفاء المُهَلِ المقررة شرعاً ويقضي عليه.

 

فالخصم إذا ادّعى له بينة فإنه يُمْهَلُ لإحضارها ثلاث مُهَلٍ متفرقة حسب العمل الجاري، فإذا لم يحضر بينة بعد الثانية أمهله القاضي ثالثة وأنذره بأنه إذا لم يُحْضِر البينة فيها فإنه سوف يَعُدُّه عاجزاً عن البينة ويقضي عليه، فإن أحضرها وإلا عدَّه القاضي عاجزاً عن البينة وقضى عليه، وهكذا لو أقرَّ بعجزه عن إحضار البينة فإنه يُعَدُّ عاجزاً ويُقْضَى عليه[28].

 

وقد دلَّ على ذلك خطاب عمر رضي الله عنه في قوله: "واجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة وإلا وجَّهْتَ عليه القضاء؛ فإن ذلك أجلى للعَمَى، وأبلغ في العذر".

 

9- سعي القاضي للإصلاح بين المتخاصمين قبل الحكم عند الاقتضاء:

الصلح: معاقدة يُتَوصَّل بها إلى الإصلاح بين المختلفين[29].

 

وهو مشروع بين المتخاصمين، ويتأكد عند الإشكال في الحكم بسبب عدم وضوح الواقعة أو عدم ثبوتها أو حُكْمِها الكلي، ولتجنب مُرّ القضاء بين الأقارب، والأصدقاء، والصلحاء.

 

وهو مشروع ولو مع استنارة الحجة على الراجح - كما حققه ابن تيميَّة (ت: 728هـ)[30].

 

يقول السرخسي (ت: 490هـ): "ويدعوهم إلى ذلك [أي: إلى الصلح]، فالفصل بطريق الصلح يكون أقرب إلى بقاء المودة والتحرّز عن النفرة بين المسلمين"[31].

 

ويتأكد على القاضي عند إجراء الصلح أن يكون على أمر مباح، وأن يكون عادلاً، وعن رضا منهما[32].

 

وقد دلَّ خطاب عمر رضي الله عنه على مشروعيَّة الصلح عند القاضي، فقد جاء فيه: "الصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً".

 

وأصل ذلك قوله - تعالى -: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114].

 

وما حدَّث به الزبير رضي الله عنه: "أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شِرَاجٍ[33] من الحرة كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير: اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله، آنْ كان ابن عمتك؟ فلتوَّن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: اسق، ثم احبس حتى يبلغ الجَدْر[34]"[35].

 

10- المبادرة بالحكم بعد الظهور والبيان:

يجب على القاضي الكشف والبيان عند نظر القضيَّة المستغلقة حتى تتضح له الواقعة، ولا يحكم مع الإشكال، فليس الإسراع بالحكم قبل اكتمال القضيَّة براعة، ولا الإبطاء منقصة إذا كان ذلك للتثبت من القضيَّة وإزالة لَبْسِها، ولكن متى اتّضحت القضيَّة وَجَبَ على القاضي المبادرةُ إلى الحكم في الوقت المألوف، وَحَرُمَ عليه تأخير ذلك، فالتعجيل بفصل القضاء بعد اتّضاحه مقصد مُعْتَدٌّ به في الشرع؛ لإزالة الظلم عن المظلوم، والإثم عن الظالم، ورفع التهمة عن القاضي بقصد إملال الخصم ليترك حقه، أو عجزاً منه وتردُّداً في إنفاذ الحكم[36].

 

ويدل على ذلك من خطاب عمر رضي الله عنه قوله: "واجعل للمدَّعي أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة وإلا وَجَّهْتَ عليه القضاء؛ فإن ذلك أجلى للعَمَى، وأبلغ في العذر"، فقوله: "وَجَّهْتَ عليه القضاء" أمرٌ بالمبادرة بالحكم بعد الظهور والبيان.

 

11- تمييز الأحكام القضائيَّة:

والمراد به: دراسة الحكم القضائي من قِبَلِ قاضٍ مختصٍّ، ومن ثَمَّ إمضاؤه أو إظهار بطلانه.

 

فإجراءات المرافعة القضائيَّة في الشرع تقرر دراسة القضيَّة، والنظر في الحكم، ومن ثَمَّ تأييده أو نقضه، سواء كان ذلك من قِبَلِ حاكمه، أم من قِبَلِ قاضٍ آخر مختص في ذلك[37].

 

ويدل على ذلك خطاب عمر رضي الله عنه في قوله: "لا يَمْنَعَنَّكَ قضاءٌ قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم، وإن الحق لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل".

 

وقد بوَّب البيهقي على خطاب عمر هذا بقوله: "باب مَنْ اجتهد ثم رأى أن اجتهاده خالف نصًّا أو إجماعاً أو ما في معناه يَرُدُّه على نفسه وعلى غيره"[38].

 

تنبيه:

ما ذكرناه سابقاً من الأصول التي وردت في الكتاب المذكور آنفاً ليست شاملة لجميع فروع المرافعات، بل هناك تفصيلات دقيقة لأحكام المرافعات قد أوردها الفقهاء في كتبهم، سواء في الاختصاص، أو إحضار الخصوم، أو الوكالة في الخصومة، أو صفة سير الدعوى، أو الإدخال فيها ووقفها، أو أحكام إصدار الحكم القضائي حتى تنفيذه، وليس هذا موضع تعدادها ولا بسطها، وإنما التنبيه على ذلك.

 

وبالله التوفيق، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



[1] تاريخ الطبري 4/ 262، الكامل لابن الأثير 1/ 20، 31، نظام الحكم للقاسمي 2/ 451، التنظيم القضائي لابن دريب 191 وما بعدها.

[2] المبسوط 16/ 60.

[3] منهاج السنَّة 6/ 71.

[4] إعلام الموقعين 1/ 86.

[5] تنبيه الحُكَّام 55.

[6] المراد به: "التوضيح" لخليل، وهو شرح لجامع الأمهات لابن الحاجب [حاشية البناني على الزرقاني 1/ 2، دليل السالك للمصطلحات والأسماء في فقه الإمام مالك لحمدي شلبي 87-88]، ويختصر للتوضيح بلفظة: "ضيح".

[7] البهجة 1/ 63.

[8] إرواء الغليل 8/ 241.

[9] المحلّى 1/ 60.

[10] 1/ 59.

[11] تاريخ القضاء 15.

[12] انظر: تعليق عبدالعزيز المراغي على أخبار القضاة لوكيع 1/ 74، نظام الحكم للقاسمي 2/ 450-464، التنظيم القضائي لابن دريب 204، 207.

[13] تنبيه الحُكَّام 197، الذخيرة 10/ 76، أدب القاضي لابن القاصّ 1/ 168، 195.

[14] رواه أبو داود 3/ 301، وهو برقم 3582، وسكت عنه، والترمذي 2/ 395، وهو برقم 1346، وحسنه، وأحمد [الفتح الرباني 15/ 213].

[15] تبصرة الحُكَّام 1/ 199.

[16] رواه البخاري [الفتح 5/ 303]، وهو برقم 2699.

[17] فتح الباري 7/ 507.

[18] شرح أدب القاضي لابن مازه 1/ 342، 69، 84، تبصرة الحُكَّام 1/ 46، 47، أدب القاضي للماوردي 1/ 250، 2/ 240، 241، 249، المغني 11/ 441، 444.

[19] شرح أدب القاضي لابن مازه 2/ 93، 94، تفسير القرطبي 5/ 514.

[20] هَوَّشْتُ عليه الأمر: أي خلطتُه عليه، ولَحَّنَ بعضهم استعمال التشويش لهذا المعنى [القاموس المحيط: مادة ش و ش، وهـ و ش، مختار الصحاح 327، 642].

[21] بدائع الصنائع 7/ 9، شرح أدب القاضي لابن مازه 1/ 341، 2/ 3، 6، تبصرة الحُكَّام 1/ 40، أدب القاضي للماوردي 1/ 214، فتح الباري 13/ 137، المغني 11/ 394، مغني ذوي الأفهام 229.

[22] متفق عليه من حديث أبي بكرة عن أبيه، فقد رواه البخاري [فتح الباري 13/ 136]، وهو برقم 7158، ومسلم واللفظ له 3/ 1342، وهو برقم 1717.

[23] عقد الجواهر 3/ 200، الفروق 4/ 74، مجموع فتاوى ابن تيميَّة 35/ 392، الطرق الحكيمة 130، جامع العلوم والحكم لابن رجب 298.

[24] متفق عليه من حديث عبدالله بن مسعود، فقد رواه البخاري واللفظ له [فتح الباري 8/ 212]، وهو برقم 4549، 4550، ومسلم 1/ 122، وهو برقم 138/ 221.

[25] شرح أدب القاضي لابن مازه 3/ 79، تبصرة الحُكَّام 1/ 194، نهاية المحتاج 8/ 257، المغني 11/ 452، فتاوى ورسائل 12/ 424.

[26] السيل الجرار 4/ 177.

[27] شرح أدب القاضي لابن مازه 1/ 226، المبسوط 16/ 63، الكافي لابن عبدالبر 2/ 955، البهجة 1/ 808، شرح عماد الرضا 1/ 186، 238، تحفة المحتاج 10/ 301، الإنصاف 11/ 266، 287، إعلام الموقعين 1/ 110، فتاوى ورسائل 12/ 423.

[28] تبصرة الحُكَّام 1/ 208، الإتقان لمياره 1/ 50، فتاوى ورسائل 8/ 61، 12/ 417.

[29] المغني 5/ 2.

[30] مجموع الفتاوى 35/ 356.

[31] المبسوط 20/ 136.

[32] مجموع الفتاوى 28/ 377، إعلام الموقعين 1/ 108، مزيل الملام 115، 116، فتح الباري 5/ 207.

[33] شِرَاج: جمع شَرْج، والمراد بها: مسيل الماء [ فتح الباري 5/ 36].

[34] الجَدْر: ما وضع بين شربات النخل كالجدار [فتح الباري 5/ 37].

[35] رواه البخاري [فتح الباري 5/ 34، 309]، وهو برقم 2359، 2360، 2708.

[36] أشباه ابن نجيم 226، الإحكام للقرافي 75، تبصرة الحُكَّام 1/ 74، أدب القاضي للماوردي 2/ 68، شرح المنتهى 3/ 483، مقاصد الشريعة 200.

[37] أحكام القرآن لابن العربي 3/ 266، تفسير القرطبي 11/ 312، شرح النووي على مسلم 12/ 16، فتح الباري 13/ 181، التمهيد لابن عبدالبر 9/ 76، 91.

[38] السنن الكبرى 10/ 119.





 نسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • مواقع المشرفين
  • مواقع المشايخ ...
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة