• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب موقع الأستاذ الدكتور محمود بن أحمد بن صالح الدوسريد. محمود بن أحمد الدوسري شعار موقع الأستاذ الدكتور محمود بن أحمد بن صالح الدوسري
شبكة الألوكة / موقع د. محمود بن أحمد الدوسري / مقالات


علامة باركود

مقاصد القرآن (4): تقرير كرامة الإنسان وإسعاده

مقاصد القرآن (4): تقرير كرامة الإنسان وإسعاده
د. محمود بن أحمد الدوسري


تاريخ الإضافة: 26/10/2021 ميلادي - 19/3/1443 هجري

الزيارات: 18562

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مقاصد القرآن الكريم (4)

تقريرُ كَرامةِ الإنسانِ وإِسْعَادُه

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أمَّا بعد: فالحديثُ عن "تقرير كَرامةِ الإنسانِ وإِسْعَاده" يُجمَع في مطلبين:

المطلب الأول: تقرير كرامة الإنسان وحقوقه.

المطلب الثاني: إسعاد المكلَّف في الدَّارَين.

 

المطلب الأول: تقرير كرامة الإنسان وحقوقه:

إن من أعظم مقاصد القرآن العظيم ما يتعلَّق بتقرير كرامة الإنسان، ورعاية حقوقه، ويتَّضح ذلك من خلال النِّقاط الآتية:

أولًا: تقرير كرامة الإنسان: طالما يؤكد القرآن العظيم - مرارًا وتكرارًا - أنَّ الإنسان مخلوقٌ كريم على الله تعالى، حيث خَلَقَ آدم بيده، ونَفَخَ فيه من روحه، وجعله خليفةً في الأرض، واستخلف أبناءه من بعده، وهي منزلة تطلَّعت إليها أنظار الملائكة الكرام، فلم تُمنح لهم، حكمةً من الله تعالى القائل: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، والقائل أيضًا: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]، ويقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20].

 

ومِنْ أجْلِ ذلك أنكر القرآن العظيم على بعض البشر انتكاسَ فطرتهم حيث جعلوا القُوَى المسخَّرة لهم آلهةً يعبدونها من دون الله، فقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37].

 

وأنكر على صنف آخر من البشر فقدان كرامتهم، وكونهم أذنابًا لغيرهم، وهم الذين حكى الله تعالى قولهم: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ [الأحزاب: 67].

 

وأنكر على آخرين غُلوَّهم في تقديس البشر حين أطاعوهم في معصية الله، فقال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ﴾ [التوبة: 31].

 

بل ردَّ القرآنُ على مَنْ نَسَبَ إلى بعض الأنبياء أنه دعا الناس إلى عبادة نفسه، فقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 79].

 

ثانيًا: تقرير حقوق الإنسان: إنَّ ما تتغَنَّى به الإنسانية اليوم، وتُطلِقُ عليه اسم (حقوق الإنسان)، قد اعتمده القرآن وقَرَّر ما هو أشمل منه وأعدل منذ (أكثر من أربعة عشر قرنًا).

 

فقرَّرَ القرآن العظيم حَقَّ كُلِّ إنسان في الحياة، ما لم يرتكب جرمًا موجبًا إباحةَ دمه شرعًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 151].

 

وحقَّ الإنسان في احترام مسكنه الخاص، وعدم دخوله إلَّا بإذنه، قال تعالى: ﴿ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ﴾ [النور: 27، 28].

 

وحقَّ الإنسان في صيانة دمه وماله، وحماية ملكه الحلال، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29].

 

وحقَّ الإنسان في صيانة عرضه وكرامته، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [الحجرات: 11].

 

وحقَّ الإنسان في الزَّواج وتكوين الأسرة، رجلًا كان أو امرأة، قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].

 

وحقَّ الإنسان - بعد الزَّواج - في الإنجاب، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ [النحل: 72].

 

وحقَّ الذُّرية في الحياة، بنين كانوا أو بنات؛ ولهذا أنكر القرآن العظيم على أهل الجاهلية فَعْلَتَهم الشَّنيعة في وأدهم البنات، وقتلهم أولادهم لأيِّ سبب كان، وعدَّ ذلك جرمًا عظيمًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ [الأنعام: 151]، ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31]، ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 8، 9].

 

وحقَّ الإنسان في كفاية العيش إن كان عاجزًا أو فقيرًا، في أموال الأغنياء، قرَّره القرآن بقولِه تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [المعارج: 24، 25]، وقوله: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، وفي أموال الدَّولة من الغنائم والفيء، ففي كُلٍّ منها حقٌّ لليتامى والمساكين وابن السبيل.

 

وحقَّ الإنسان في إنكار المنكر، ورفض الفساد، ومقاومة الظُّلم البَيِّن، والكفر البواح، قرَّره القرآن بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴾ [هود: 113]، وقوله تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].

 

ولقد ارتقى القرآن العظيم بهذه الحقوق إلى مرتبة الفرائض والواجبات؛ لأنَّ ما كان من الحقوق يمكن لصاحبه أن يتنازل عنه، أمَّا الواجبات المفروضة فلا يجوز أبدًا التَّنازل عنها [1].

 

كما قرَّر القرآن حقًّا المساواةَ بين البشر جميعًا، فلا فرق بين جنس وجنس، ولا بين لونٍ ولون، أو عِرقٍ وعرق، وجعل هناك معيارًا واحدًا للتَّمايز هو معيار التقوى، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].

 

كما قرَّر القرآن حقًّا هو أعظم الحقوق على الإطلاق، وهو الحريَّة؛ فالحريَّة مكفولة للإنسان، فلا جَبْرَ ولا قَهْرَ، ولكنَّه في مقابل هذه الحريَّة أيضًا هو مسؤول عن اختياره، وأعلى من شأن حريَّة الرَّأي والفكر والاعتقاد، فلم يجبر أحدًا أو يُكرهه على اعتناق الدين، فقال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، ولن تجد حقًّا - يقبله العقل - نادت به البشريَّة إلَّا والقرآن الحكيم قد سبقها إلى إقراره وإعطائه للبشر. فما أعظمه من كتاب!

 

المطلب الثاني: إسعاد المكلَّف في الدَّارَين:

لا شكَّ أنَّ اتِّباع القرآن العظيم يقود الإنسانَ إلى الهداية في الدُّنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 120]، وإنَّ كتابًا هذا شأنه هو وحده المتكفِّل بإسعاد الإنسان.

 

والمؤمنون في كُلِّ ركعة من ركعات صلاتهم - فرضًا كانت أو نفلًا - يسألون ربَّهم تعالى الهدايةَ إلى الصراط المستقيم، كما حكى الله تعالى دُعاءَهم: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، "فسؤالُ الهدايةِ متضمنٌ لحصولِ كلِّ خَير، والسَّلامةِ من كلِّ شرٍ، ولا تكون الطريقُ صراطًا حتى تتضمن خمسةَ أمور: الاستقامةَ، والإيصالَ إلى المقصودِ، والقربَ، وسعتَهُ للمارِّينَ عليه، وتعيُّنه طريقًا للمقصود. ولا يخفى تضمُّنُ الصراطِ لهذهِ الأمورِ الخمسة.

 

فَوَصْفُهُ بالاستقامةِ يتضمَّنُ قربَهُ؛ لأن الخطَّ المستقيمَ هو أقربُ خطٍّ فاصلٍ بين نقطتين، وكلَّما تعوَّجَ طالَ وبَعُدَ. واستقامتُهُ تتضمَّنُ إيصالَهُ إلى المقصود، ونَصْبُهُ لجميعِ مَنْ يمرُّ عليه يستلزمُ سَعَتَهُ. وإضافتهُ إلى المنعَمِ عليهِم، ووصفهُ بمخالفةِ صِراط أهلِ الغضبِ والضلالِ، يستلزم تَعَيُّنَه طريقًا"[2].

 

ومن اتَّبع هدى الله المتمثِّل في القرآن العظيم، لا يعتريه ضلال في هذه الدنيا، وينتفي عنه الشَّقاء في الآخرة، والشَّقاءُ ضد السعادة، قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123].

 

وهذه الهداية إلى الصِّراط المستقيم تستلزم سعادةَ الدنيا والآخرة، فقد جمعَهُما الله تعالى في كثير من الآيات، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، فقد نصَّت الآيةُ الكريمة على السَّعادة الدنيوية نصًا أفاده قولُه تعالى: ﴿ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾، كما نصَّت على السَّعادة الأُخروية المستفادة من قوله تعالى: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.

 

فقد ضَمِنَ الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة "لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاءَ في الدُّنيا بالحياة الطَّيبة، وبالحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين، وهم أحياء في الدَّارين، ومتاع الآخرة أبقى وأنقى، قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ [النحل: 30، 31]، ونظيرها قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 3]، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدُّنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطَّيبة في الدَّارين، فإنَّ طِيبَ النَّفس، وسرورَ القلب وفرحَه ولذَّته وابتهاجَه وطمأنينتَه وانشراحَه ونورَه وسعتَه، وعافيته من الشَّهوات المحرَّمة والشُّبهات الباطلة - هو النَّعيم على الحقيقة، ولا نسبةَ لنعيم البدن إليه"[3].

 

السَّعادة في مَنْطِق البشر: كثيرًا ما يُخطئ السَّوادُ الأعظم من البشر في مفهوم السَّعادة، فظنوا أنَّ السَّعادة في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح، ولذة المال والتَّفنن في أنواع الشهوات، ولا ريب أنَّ هذه متعةٌ ولذَّة؛ تُشاركهم فيها البهائم التي لا تعقل، بل قد يكون حظُّ البهائم أوفر من حظِّ هؤلاء.

 

وهذه الألوان والمُتع وصُنوف الشَّهوات قد جُرِّبت من ذي قبل فلم تُحقق السَّعادةَ المنشودة، وليست عنَّا ببعيدٍ تلك المجتمعات التي يَسَّرت لأفرادها مطالب الحياة الماديَّة وكمالياتها، ومع ذلك أُحيطت بسياجٍ مُحكمٍ من التَّعاسة والنَّكد، وظلَّت تشكو وتحس بالضِّيق والانقباض، وتبحث عن طريق تلتمس فيه السَّعادة!

 

وقد أخبرنا الله تعالى عن تعاسة هؤلاء، وعذابهم في الحياة الدنيا، بسبب بُعدهم عن هداية القرآن العظيم، ومن أجل ذلك يحذِّرنا الله تعالى من بريق متاعهم؛ لأنه زائل، فقال تعالى: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [التوبة: 55][4].

 

قال ابن القيم رحمه الله تأكيدًا لهذا المعنى: "ولا تظنَّ أنَّ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14] مختصٌّ بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيمٍ في دُورهم الثَّلاثة، وهؤلاء في جحيمٍ في دُورهم الثلاثة، وأيُّ لذةٍ ونعيم في الدُّنيا أطيب من بردِ القلب، وسلامةِ الصَّدر، ومعرفةِ الرَّب تعالى ومحبته، والعمل على موافقته؟

 

وهل العيش في الحقيقة إلَّا عيش القلب السَّليم؟! وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قَلْبِه، فقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 83، 84]"[5].

 

ولا شكَّ أنَّ الحياة الطَّيبة - في منظور القرآن - تكمن في سكينة القلب واطمئنانه، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]. وقال أيضًا: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وصيغة المضارع في قوله: ﴿ تَطْمَئِنُّ ﴾ توحي بتجدد هذا الاطمئنان وديمومته، وهو في حاجة إلى مَنْ يرعاه ويحضنه، ولا سبيل إلى ذلك إلَّا بالعبادات، وعند ذلك يصبح صاحبه في أطيب حال في الدنيا، وفي نعيم دائم في الآخرة[6].

 

وهذا ما أكده أيضًا العزُّ بن عبدالسَّلام رحمه الله بقوله: "ومن السَّعادة أن يختار المرء لنفسه المواظبة على أفضل الأعمال فأفضلها، بحيث لا يضيع بذلك ما هو أَولى بالتَّقديم منه، والسَّعادة كلُّها في اتباع الشَّريعة في كلِّ ما ورد وصَدَرَ، ونبذ الهوى فيما يخالفها"[7].

 

وهذا الكلام النَّفيس من هذا العالم الجليل ليؤكد لنا مرارًا وتكرارًا أنَّ في القلب شَعَثًا لا يلمُّه إلَّا الإقبال على الله تعالى، ووحشةً لا يزيلها إلَّا الأُنس بالله، وحزنًا لا يُذهبه إلَّا السُّرور بمعرفةِ الله، وصِدْق معاملته، وقلقًا لا يسكنه إلَّا الاجتماع عليه والفرار إليه، وهو المتوافق مع فطرة الله عز وجل التي فَطَر النَّاس عليها.

 

نسألُ الله القدير أن يجعلنا من أهل السَّعادة في الدُّنيا والآخرة، من الذين قال فيهم: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 108].

 

الخلاصة:

من خلال استعراضنا - بإيجاز - لأهمِّ المقاصد التي جاءت في كتاب الله العظيم، نصل إلى إقرار حقيقةٍ هامَّة، وهي: شموليَّةُ نظرةِ القرآن الكريم واتِّساعُ رؤيتِه، لما يحقِّقُ السَّعادةَ والحياة الطَّيِّبةَ للفرد والمجتمع على السَّواء، ومن هنا تبرز: عظمة المقاصد النَّبيلة التي رمى إليها القرآن العظيم، وهي على النَّحو الآتي:

1- إصلاح العقائد: عن طريق إرشاد الخَلْق إلى حقائق المبدأ والمعاد وما بينهما.

 

2- إصلاح العبادات: عن طريق إرشاد الخَلْق إلى ما يُزكِّي النفوس ويُغذِّي الأرواح ويقوِّم الإرادة.

 

3- إصلاح الأخلاق: عن طريق إرشاد الخَلْق إلى فضائلها، وتنفيرهم من رذائلها.

 

4- إصلاح الاجتماع: عن طريق إرشاد الخَلْق إلى توحيد صفوفهم، ومحو العصبيات، وإزالة الفوارق التي تُباعد بينهم؛ وذلك بإشعارهم أنهم جنس واحد، من نفس واحدة، ومن عائلة واحدة، أبوهم آدم، وأُمُّهم حواء، وأنَّه لا فضل لشعب على شعب، ولا لأحد على أحد إلَّا بالتقوى؛ وأنهم متساوون أمام الله ودينه وتشريعه، متكافئون في الأفضلية وفي الحقوق والتَّبعات، من غير استثناءات ولا امتيازات، وأنَّ الإسلام عَقَد إخاءً بينهم أقوى من إخاء النَّسَب والعَصَب، وأنَّهم أُمَّة واحدة لا تفرِّقها الحدود الإقليمية، ولا الفواصل السِّياسية والوضعية: ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52].

 

5- إصلاح السِّياسة الدولية: عن طريق تقرير العدل المطلق والمساواة بين الناس، ومراعاة الفضائل في الأحكام والمعاملات: من الحقِّ، والعدل، والوفاء بالعهود، والرَّحمة، والمواساة، والمحبَّة. واجتناب الرذائل: من الظُّلمِ، والغدر، ونقض العهود، والكذب، والخيانة، والغشِّ، وأكل أموال الناس بالباطل: كالرِّشوة، والربا، والتِّجارة بالدِّين والخرافات.

 

6- الإصلاح المالي: عن طريق الدَّعوة إلى الاقتصاد، وحماية المال من التَّلف والضَّياع، ووجوب إنفاقه في وجوه البِرِّ، وأداء الحقوق الخاصَّة والعامَّة، والسَّعْي المشروع.

 

7- الإصلاح النِّسائي: عن طريق حماية المرأة، واحترامها، وإعطائها جميع الحقوق الإنسانية، والدِّينية، والمدنية.

 

8- محاربة الاسترقاق: عن طريق تحرير الرَّقيق الموجود بِطُرق شتَّى، منها التَّرغيب العظيم في تحرير الرِّقاب، وجعله كفارة للقتلِ، وللظِّهارِ، ولإفسادِ الصيام بطريقةٍ فاحشة، ولليمينِ الحانثة، ولإيذاء المَمْلوك باللَّطْم أو الضَّرب.

 

9- تحرير العقول والأفكار: عن طريق منع الإكراه، والاضطِهاد، والسَّيطرة الدِّينية القائمة على الاستبداد والغطرسة: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [الغاشية: 21][8].



[1]انظر: الوحي المحمدي (ص173).

[2]مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 10، 11).

[3]الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (ص84).

[4]انظر: الكليات الشرعية في القرآن الكريم (1/ 192).

[5] المصدر السابق (ص85).

[6]انظر: التحرير والتنوير (12/ 182).

[7]قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 17).

[8] انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 322).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • كتب وبحوث
  • خطب
  • مقالات
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة