• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن اللويحقالشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق شعار موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن اللويحق
شبكة الألوكة / موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق / محاضرات علمية مكتوبة


علامة باركود

الوسطية معيار

الوسطية معيار
الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق


تاريخ الإضافة: 9/2/2016 ميلادي - 29/4/1437 هجري

الزيارات: 17960

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الوسطية معيار


يعد لفظ (الوسطية) من الألفاظ الشائعة التي تحمل مدلولات كبيرة، هذه الكلمة نسمعها في نصوص القرآن، وفي كلام الفلاسفة، وفي عبارات المثقفين، وفي كلام السياسيين، بل سميت بذلك مؤسسات وتيارات وتوجهات.

 

وكل أولئك: مجمعون على مدح الوسطية وعدّها علمًا على ما يرونه حسنًا من التصرفات والتوجهات، والآراء والأفكار.

 

ولكن كلمة (الوسطية) أصبحت من الألفاظ التي يحملها كل قوم على ما يريدون مما يرغبون ويحبون من المبادئ والآراء والأفكار.

 

ويسلبون هذا الوصف عمن يبغضون أو يخالفون منها.

 

وابتغاء تحرير الأمر، والوصول إلى إجابة عن سؤال هذا اللقاء؛ أحب أن أقدم بمقدمة تتعلق بالألفاظ والمصطلحات:

إن العلم بحقائق الأشياء، والوعي بالمفاهيم يعد مدخلًا رئيسًا لتضييق دائرة الخلاف أو إزالته، إذ تجد جذور الخلاف عائدة في كثير من الأحوال إلى اختلاف المفاهيم، أو الجهل بحقائق الأمور، وهذا أمر يقع في كل الأمم.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (إن كثيرًا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة، ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلًا عن أن يعرف دليله)[1].

 

إن تحديد المعاني مطلب أساسٌ لوضوح المراد، وتضييق دائرة الاختلاف، وليس منشأ الخطأ في الفهم إلا الغلط في تحديد الألفاظ أو غموضها وتعقيدها، والتباسها.

 

لذلك كان (فولتير) يبدأ المناقشة دائما بقوله: (حدِّد ألفاظك، فالعلم بمعاني الألفاظ علما صحيحا لا يستغنى عنه للتفكير الصحيح ولا للحكم الصحيح)[2].

 

إن أحكام الناس على الأفكار، أو على الأشخاص عائدة - فيما تعود عليه - إلى التصور، وفي المأثور من أقوال العلماء (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)[3].

 

ولذلك عني العلماء المسلمون بالألفاظ الشرعية، والمصطلحات الإسلامية اهتماما بالغًا وحرصوا على تحديدها.

 

قال ابن تيمية - رحمه الله -: (ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها، ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم وعادتهم في الكلام، وإلا حرَّف الكلم عن مواضعه. فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة، فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله، ورسوله، والصحابة خلاف ذلك. وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام، والفقه، والنحو، والعامة وغيرهم.

 

وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معان أخر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم، ويقولون: إنَّا موافقون للأنبياء! وهذا موجود في كلام كثير من الملاحدة المتفلسفة والإسماعيلية، ومن ضاهاهم من ملاحدة المتكلمة والمتصوفة)[4].

 

وهذا الأمر اتضح وضوحًا تامًا في العصر الحديث؛ لما للإعلام من أثر في تغيير المصطلحات بكثرة استعمالها مرادًا بها معان غير المعاني التي كانت لها أصلًا.

 

استخدام المصطلحات في الصراع الحضاري:

لقد أصبحت المصطلحات أدوات في الصراع الحضاري والفكري بين الأمم، وفي داخل الأمة الواحدة، إذ يهتم أعداء أي مبدأ أو فكر في صراعهم مع المبادئ الأخرى بالألفاظ والمصطلحات، وحين يكون القوم معادين للحق؛ فإنهم يحرفون الألفاظ والمعاني، ويغيبون القول الحقَّ فيها.

 

وإنما كان المصطلح أداة في الصراع؛ لأنه الوعاء المعبر عن العقيدة، أو الفكر، أو الرأي، ولذلك فإن كسر ذلك الوعاء غرض رئيس للمعادين، كما أن إفساد المصطلح، أو تغييره يمثل خطورة كبرى على العقائد، أو الآراء أو الأفكار لأي أمة، وبهذا كان الحفاظ على مصطلحات الأمة من جهة، وكشف مصطلحات الأمم المعادية من جهة أخرى ركنين أصيلين في عملية الصراع.

 

إن استخدام أعداء المبادئ للمصطلحات في الصراع الحضاري يقوم على محورين:

المحور الأول: جلب الألفاظ، والمصطلحات التي هي أعلام على معان سيئة، وإسقاطها على العقيدة أو الفكر أو المذهب أو الرأي الذي يعادونه، لتنفير الناس بجرس هذه الألفاظ - ناهيك عن معانيها - من ذلك الاعتقاد، أو المذهب أو الرأي أو مما يتضمنه من الحق، وممن حورب بهذا الرسل - عليهم الصلاة والسلام -: (فأشدُّ ما حاول أعداء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من التنفير عنه سوء التعبير عما جاء به[5]، وضرب الأمثال القبيحة له، والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين فوصلت إلى قلوبهم فنفرت منه، وهذا شأن كل مبطل)[6].

 

المحور الثاني: أخذ الألفاظ السليمة والصالحة، وجعلها أعلامًا على ما ينفر منه أصحاب الفكرة المعادية؛ ليسهل دخول أفكارهم، وعقائدهم دون حصول النفرة والكراهة، ومن أمثلة ذلك في الصراع الفكري بين مذاهب الإسلاميين أن التوحيد (الذي حقيقته إثبات صفات الكمال لله عز وجل وتنـزيهه عن أضدادها وعبادته وحده لا شريك له، اصطلح أهل الباطل على وضعه للتعطيل المحض، ثم دعوا الناس إلى التوحيد؛ فخدعوا به من لم يعرف معناه في اصطلاحهم)[7].

 

المرجع في بيان معاني الألفاظ الشرعية:

إن مصدر العلم بمعنى قول الشارع هو إلى أمرين:

الأول: اللغة التي تكلم بها.

الثاني: مقصود الشارع من الألفاظ.

 

(فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون انه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك)[8].

 

وفهم مراد الشارع بالألفاظ إنما يكون بمعرفة عادته في الخطاب، بجمع النصوص والنظر فيها.

 

يقول ابن تيمية - رحمه الله -:( ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث أن يذكر نظائر ذلك اللفظ ماذا عنى بها الله ورسوله، فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث)[9].

 

وهذه قاعدة مطردة حتى في معرفة كلام البشر؛ إذ لا يعرف المعنى من اللفظ ابتداءً، ولكن يعرف منه، ومن قرائن أخرى.

 

قال الإمام ابن أبي العز الحنفي:( دلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، فلا يعرف باللفظ ابتداءً، ولكن يعرف المعنى بغير اللفظ؛ حتى يعلم أولًا أن هذا المعنى المراد بذلك اللفظ ويعنى به)[10].

 

والمخاطب لا يفهم معنى اللفظ؛ حتى يعرف عين المقصود، ولا يعرف عين المقصود في كلام الشارع إلا بجمع النصوص.

 

قال ابن أبي العز: (واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها، أو ما يناسب عينها، ويكون بينهما قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط)[11].

 

وهذا البحث عن المعاني اللغوية، والمقاصد المعنوية إنما احتيج إليه بعد عهود الصحابة - رضي الله عنهم - الذين كان لهم من صفاء الذهن وثاقب الأفهام - فضلًا عن معايشتهم لصاحب الشرع وعلمهم بلغته - ما يساعدهم على العلم بمعاني قول الشارع دون تكلف؛ لأنهم رأوا عين المقصود من المتكلم ذاته صلى الله عليه وسلم ورؤية عين المقصود أبلغ درجات فهم المعنى.

 

وللعلامة اللغوي ابن فارس في كتابه (الصاحبي) كلام تطبيقي نفيس يؤكد ما أسلفت من أن قيام فهم الألفاظ والحقائق الشرعية على معناها اللغوي واستعمال الشارع لها على المعنى الذي يقصده وقد ذكر في كلامه أن (مما جاء فِي الإسلام: ذكر المؤمن، والمسلم، والكافر، والمنافق.

 

وأنَّ العرب إنَّما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق.

ثُمَّ زادت الشريعة شرائطَ وأوصافًا بِهَا سُمِيَ المؤمن بالإطلاق مؤمنًا)[12].

 

ومما يؤكد أهمية الرجوع إلى قصد الشارع عند الاختلاف في المعنى الشرعي ما يلي:

1- إن من المتفق عليه عند الاختلاف سواء في الأحكام أم المعاني رد الأمر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء:59].

 

خصوصًا إذا كان اللفظ المختلف فيه منسوبًا إلى الدين، مثل قضية هذا البحث (الوسطية) إذ نسبته إليه تؤكد أهمية مراجعة نصوصه؛ لفهم الحقيقة وتصورها تصورًا سليمًا، ومن ثم يكون الحكم في ضوء ذلك.

 

2- إن الألفاظ والمصطلحات التي وقع فيها الخلاف - مثل: الوسطية - لا بد فيها من الرجوع إلى معيار ثابت؛ إذ لو وكلت القضية إلى البشر لأصبحت نسبية بحسب اختلاف أهوائهم، ومشاربهم، وانتماءاتهم، واتباع الهوى يفضي لاختلاف غير متناه، وفساد غير منقضٍ ﴿ وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ [المؤمنون:71].

 

فثبات المعيار الذي ينظر بواسطته، وتفهم الحقائق في ضوئه أمر لا محيد عنه، وتركه يفضي إلى فساد عريض.

• • •

 

وابتغاء تطبيق هذا المنهج على لفظ الوسطية نقول:

إن لفظ الوسطية يقصد به:

في اللغة: كما يقول ابن فارس - رحمه الله -:( الواو والسين والطاء: بناءٌ صحيح يدلُّ على العَدل والنِّصف. وأعْدلُ الشَّيءِ: أوسَطُه ووَسَطُه. قال الله عزّ وجلَّ: ﴿ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة 143].

 

ويقولون: ضربتُ وَسَط رأسهِ بفتح السين، ووَسْطَ القوم بسكونها. وهو أوسَطُهم حَسَبًا، إذا كان في واسطة قومه وأرفعِهِم محلًا)[13].

 

ووسَطُ الشيء ما بين طرَفَيْه، أَوسط الشيء أَفضله وخياره كوسَط المرعى خيرٌ من طرفيه وكوسَط الدابة للركوب خير من طرفيها، وسَطُ الشيء أَفضلَه وأَعْدَلَه[14].

 

أما في الشريعة:

فإن لفظ (الوسط) جاء في نص القرآن، يقول الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة:143].

ومعنى وسطًا هنا: أي: عدولًا خيارًا.

 

ويدل على ذلك:

1- قوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران:110].

 

والقرآن يفسر بعضه بعضًا، بين وصف الأمة بالخيرية، ووصفها بالوسطية تلازم؛ إذ أن الوسط في لغة العرب الخيار.

 

يقول الشنقيطي - رحمه الله- على الآية السابقة:( أي: خيارًا عدولًا، ويدل لأن الوسط الخيار العدول قوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران:110] وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم. إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم)[15].

 

2- قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة:143].

 

والشهادة لا تقوم إلا بالعدل، ولا تقبل إلا من عدل.

 

قال ابن بطال:( وشرط قبول الشهادة العدالة وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله: وسطًا والوسط العدل)[16].

 

وقال الطبري:( الوسط: العدلُ، وذلك معنى الخيار؛ لأن الخيارَ من الناس عُدولهم)[17].

 

قال ابن كثير: (والوسط هاهنا: الخيار والأجود)[18].

 

ويقول الشنقيطي - رحمه الله -:( أنكم أمة وسط عدول خيار مشهود بعدالتكم، لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة)[19].

 

3- من السنة ما جاء عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يجاء بنوح يوم القيامة، فيقال: له هل بلغت؟ فيقول نعم يا رب فتسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143] - قال: عدلًا - ﴿ كُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ "[20].

قال ابن حجر:( قوله:" والوسط العدل " هو مرفوع من نفس الخبر، وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم)[21].

 

وقال ابن بطال:( الوسط: العدل عند أهل التأويل)[22].

 

4- أن هذا هو تفسير السلف ومن ذلك:

عن أبي سعيد الخدري: "وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا" قال: عدولًا.

عن ابن عباس: "وكذلك جعلناكم أمة وَسَطًا"، يقول: جعلكم أمةً عُدولًا.

عن مجاهد في قول الله عز وجل: "وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا" قال: عدولًا.

عن قتادة في قوله: "أمة وسَطًا" قال: عُدولًا.

عن الربيع في قوله:"أمة وسَطًا" قال: عدولًا.

عن عبد الله بن كثير:"أمة وَسَطًا"، قالوا: عُدولًا[23].

 

5 - أنه هو الجاري على كلام العرب، قال الطبري - رحمه الله -: (وأما الوسط، فإنه في كلام العرب: الخيار، يقال منه: فلان وسط الحسب في قومه. أي: متوسط الحسب؛ إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه).

 

وقال أيضًا: (الوسط العدل وذلك معنى الخيار؛ لأن خيار الناس عدولهم)[24].

وهو الذي قال به علماء اللغة كالخليل، وقطرب - رحمهما الله - وغيرهما[25].

وبهذا يتبين أن الوسطية بمعنى: (العدل) و(الخيار).

 

ومعنى العدل:

في اللغة:

العَدْل ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم وهو ضِدُّ الجَوْر، والعَدْلُ الحُكْم بالحق.

 

والعَدْل من النَّاس: المرضيّ المستوِي الطّريقة. يقال: هذا عَدْلٌ، وهما عَدْلٌ والعَدْل: الحكم بالاستواء، والعَدْل: قِيمة الشيء وفِدَاؤُه[26].

 

والعدل في اصطلاح الفقهاء: من تكون حسناته غالبة على سيئاته، وهو ذو المروءة غير المتهم[27].

 

ويقول القاضي أبو بكر بن العربي - رحمه الله -: (العدل بين العبد وربه بامتثال أوامره واجتناب مناهيه. وبين العبد وبين نفسه بمزيد من الطاعات وتوقي الشبهات والشهوات. وبين العبد وبين غيره بالإنصاف)[28].

 

ومعنى الخيار:

الخِير بالكسر: الجود والكرم، والنسبة إليه (خِيرِيٌّ) وفلان (ذُو خَيْرٍ) أي ذو كرم و(الخِيَرَةُ) بفتح الياء معناه (الخِيَارِ) و(الخِيَارُ) هو (الاخْتِيَارُ) ومنه يقال له (خِيَارُ) الرؤية.

 

و(الخَيْرُ) بالفتح: ضد الشر وجمعه (خُيُورٌ) و(خِيَارٌ) مثل بحر وبحور وبحار، ويأتي (خَيْرٌ) للتفضيل فيقال هذا خير من هذا أي يفضله[29].

 

والخير هو:( كل ما أقره الشرع ودعا إليه ونبه عليه) والدعوة إليه تقتضي الدعوة إلى الوسطية التي هي جوهر الإسلام.

• • •

 

وكما كان النص في وصف الأمة - أمة الإجابة - بأنها عدل، الخيار، فذلك عائد إلى دينهم الذي يدينون به، فهو دين العدل.

 

يقول ابن تيمية - رحمه الله -: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل، الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر ما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم.

 

ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة)[30].

 

وإذا عمل الناس بالشرع - الذي هو الوسطية - تحقق العدل: (فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع. فإن هذا الشرع المنزل كله عدل، ليس فيه ظلم ولا جهل)[31].

 

قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾[المائدة:8].

 

يعلق ابن تيمية - رحمة الله - بقوله: (وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو بهوى نفس؟ فهو أحق أن لا يظلم، بل يعدل عليه)[32].

 

وقال تعالى: ﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ﴾ [المائدة:2].

وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [الأنعام:152].

وقال تعالى: ﴿ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [الشورى:15].

 

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 90، 91].

• • •

 

وليس بين القول بأن الوسط هو العدل، والقول بأنه الجزء بين الطرفين تعارض؛ إذ أن الجزء بين طرفين في موضع اعتدال عن جانبي الانحراف.

 

قال الطبري - رحمه الله -: (وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم"وسَط"، لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها)[33].

 

والعدل يأتي في غالب الأمر وسطًا بين طرفين ذميمين، قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما-: (اتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من كان قبلكم، والله إن سبقتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا)[34].

 

وكتاب عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - كتابًا إلى عامل من عماله فقال - بعد أن أوصاه بلزوم طريق من سلف -: (ما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، لقد قصر دونهم أقوام فجفوا، وطمع عنهم قوم آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدي مستقيم)[35].

 

وهذا متقرر في كلام أهل العلم، قال ابن القيم - رحمه الله -: (ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو.

 

ودين الله وسط بين الجافي عنه، والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد)[36].

 

وبهذا:

فإن سمة الحق، والعدل، والوسط أنه حائد عن الطرق المتقابلة في الضلال، واعتبر ذلك في أمور كثيرة:

1- الموقف من الدنيا:

فقد زاغت طائفة فرأت أن المال هو الهدف الأسمى والغاية القصوى، وهم اليهود الذين وصفهم الله - عز وجل - بقوله: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ [البقرة:96].

 

وزاغت طائفة أخرى وهم النصارى الذين حرموا أنفسهم حقها من الحياة، فابتدعوا الرهبانية ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد:27].

 

وأمام هذين الانحرافين جاء الإسلام بالعدل، وأعطى كل ذي حق حقه، فقال: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا ﴾ [القصص:77].

 

وقال: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف:32].

 

ونهى عن الإفراط في حب المادة: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد:20].

 

كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشديد على النفس والترهب كما يفعل النصارى فقال:" لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ [الحديد: 27] "[37].

 

2- الحكم على الناس:

وكما ظهر الضلال والزيغ في مسألة أخرى، وهي الحكم على الناس ومن ذلك:

انحرافان خطيران تجاه شخص مازال التنازع فيه حتى هذه اللحظة، فطرف لخسته ولئمه وبغيه أنزله بأحط منزلة، وطرف لجهله وضلاله رفعه إلى مرتبة ليست له، بل لم يطلبها.

 

فقد انحراف اليهود في حكمهم على عيسى - عليه السلام - حين قالوا: ﴿ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 27، 28]

 

وكان في مقابل هذا الانحراف ضلال النصارى حين ألهوا عيسى - عليه السلام - وزعموا أنه ابن الله وقد حكى الله عنهم ذلك في كتابه فقال: ﴿ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة:30]

 

وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [المائدة:116].

 

وكان موقف الإسلام في هذه القضية عدلًا وسطًا، حيث قرر على لسان ابن مريم قوله: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ [المائدة:117].

 

فهو عبد مرسل له جانب التعظيم والتوقير الذي يستحقه بكونه نبيًا مرسلًا، مع إثبات إنسانيته وعبوديته لله.

 

فسمة الدين أنها وسط عدل خيار.

• • •

 

أما مفهوم الوسطية عند الفلاسفة:

فنجد أن الوسط (ميزوتاس mesótes في اللغة الإغريقية) منذ العهد الذهبي للفلسفة اليونانية، معبّرا عن الحق بين طرفين، حتى إنّ الفيلسوف أرسطو بنى عليه فلسفته الأخلاقية وجعله أساس الفضيلة حيث يقول: "الفضيلة وسط بين رذيلتين".

 

فأرسطو يرى أن الطريق لبلوغ السعادة والمرشد لبلوغ الفضل هو "الطريق الوسط، أو الوسط الذهبي، حيث تنتظم الأخلاق في شكل ثلاثي يكون الطرفان الأول والأخير فيه تطرفا ورذيلة، والوسط فضيلة أو أفضل.

 

وهكذا يكون بين التهور والجبن فضيلة الشجاعة، وبين البخل والإسراف فضيلة الكرم، وبين الكسل والجشع فضيلة الطموح، وبين الخضوع والعتو فضيلة الاعتدال، وبين الكتمان والثرثرة فضيلة الأمانة، وبين الكآبة والمزاح فضيلة البشاشة، وبين محبة الخصام والتملق فضيلة الصداقة)[38].

 

ويقول ول ديورانت: (من الواضح أن مبدأ الوسط والاعتدال هذا يميز تقريبا كل منهج من مناهج الفلسفة اليونانية.

 

لقد كان هذا الوسط في ذهن أفلاطون عندما عرّف الفضيلة بأنها انسجام في العمل، وسقراط الذي عرّف الفضيلة بالمعرفة، لقد أوجد الحكماء السبعة تقليد الاعتدال والوسط هذا عندما نقشوا على معبد أبولو في دلفي عبارة: لا شيء في إفراط)[39].

 

وقد أدخل توماس الأكويني فلسفة أرسطو إلى تعاليم المسيحية، وأصبح فكره هو المعتمد رسميا لدى الكنيسة الكاثوليكية منذ القرن 13م.

 

وبما أن الأكويني كان متأثرا بمقولات أرسطو مدافعا عنها، وموفقا بينها وبين اللاهوت المسيحي، فقد أقحم بديهيًا فكرة الوسط الذهبي في الفكر المسيحي الوسيط.

 

إلا أن توما الأكويني بحكم خلفيته الدينية لا يرى انطباق مقياس الوسطية إلا على الفضائل البشرية، أما الفضائل الإلهية فلا ينطبق عليها المقياس[40].

 

كما يرى الأكويني أن الوسط الذهبي لا يحدّ كميا، إنما يحد عقليًّا[41].

 

ونجد أثر هذه الفلسفة في الكنيسة الأنجليكانية، فقد ابتدأت أول ترجمة للإنجيل إلى لغة الشعب (أي إلى الإنجليزية) سنة 1544م في إنجلترا مقدّمتها بالكلمات التالية: (إنّ حكمة الكنيسة الأنجليكانية منذ شرعت في أداء طقوسها العامة، أن تتبع الطريق الوسط بين طرفين متضادّين)[42].

 

وقد تأثرت السياسة لدى الغرب بهذا المفهوم الفلسفي للوسطية، يقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل واصفًا روح التوسط عند الإنجليز ومبيّنا خلفيتها: (إنّ النزاع بين الملك والبرلمان أثناء الحرب الأهلية 1688م أعطى الإنجليزي بصفة حاسمة عشقه للحلول الوسطى والاعتدال، وأخافه من دفع أي نظرية إلى أقصى نتائجها، وهو ما لا يزال يسيطر على الفكر الإنجليزي حتى الوقت الراهن)[43].

 

ورغم التغير الذي حصل في لفظ الوسطية عبر الزمن، إلاّ أن معناه لم يتغير، فقد يعبر عنها بالطريق الثالث، ويعبّر عنها أحيانا بالوسط الجديد، أو المعاصر؛ تميزًا له عن الوسط الذهبي القديم (الكلاسيكي).

• • •

 

إن الوسطية بهذا ممدوحة عند الفلاسفة وفي الشريعة، ولكن الفلاسفة يجعلون الوسطية معيارًا بشريًا للحكم على الرذائل والفضائل، وهم مع ذلك يرون أن تحديد الوسط صعب.

 

يقول أرسطو: (إن إدراك الوسط في كل شيء أمر صعب جدًّا)[44].

ويقول ابن سينا: (ليس وسط الشيء عينه، بل الوسط بالنسبة إلينا)[45].

 

وقال لافايات في اجتماع لمجلس النواب في 20/ 02/ 1831م منتقدا المصطلح: (إنّ لفظتي الوسطية والاعتدال لا يعطيان البتة أيّ معنى محدد)[46].

 

ويقول الغزالي عن معرفة الوسط بأنه: (من أعقد الأمور وأصعبها)[47].

وفي كلام بعض المعاصرين ما يدل على هذا.

 

حيث قال أحدهم:(حين الحديث عن الوسط والوسطية تثار أسئلة مثل: من يحدد ما هو الوسط الذهبي المبتغى؟ وبأي معيار يكون التحديد؟ وهل أن هذا الوسط كمي أو كيفي؟ وما هو الفيصل بين الكمي والكيفي، وغير ذلك من أسئلة لا بد أن تثار حين نحاول تجسيد ما هو مجرد وعام).


ويضيف (ولكن تبقى تلك الأسئلة المقلقة التي تدور كلها حول محور واحد، أو لنقل حول سؤال جوهري واحد: ما هو المعيار الموضوعي الذي يتحدد به الوسط وتتبلور به الوسطية، بعيدًا عن حكم الذات وزهوها بنفسها. ففي نهاية المطاف، فإن الوسطيةمفهوم غامض، حين نهبط من سماء التجريد، ونسبي حين الحديث عن الدنيا المحسوسة لا المثال المتوخى. فالوسطية الأميركية ليست هي ذاتها الوسطية الهندية أو العربية).


ويضيف (قد يتساءل أحدهم عن ماهية هذا المعيار الموضوعي والملموس الذي يمكن من خلاله الحكم على صلاح أو فساد الدول والمجتمعات، بعيدًا عن أوهام تلك المفاهيم المبهمة غير القابلة للتجسد الفعلي، فأقول إني لست في مقام التنظير المجرد هنا، فأفعل ما أنا منتقد له.


كل ما يمكن قوله في هذا المجال إن مثل هذا المعيار ليس من الثوابت، أو يجب أن يكون كذلك وليس له أن يكون، فلا ثابت في هذه الدنيا إلا الثبات نفسه.


صلاح المجتمعات وفسادها يعتمد على موقعها في بعدي الزمان والمكان، فما كان صالحًا بالأمس قد يصبح هو الفساد بعينه اليوم، وما كان جميلًا في ذاك الزمان أو ذاك المكان، قد يتحول إلى عين القبح في هذا الزمان وهذا المكان)[48].

• • •

 

إن الوسطية هي سمة الشريعة وليست معيارًا للفضائل والرذائل، لأمور:

1- إن تحديد الفضيلة والرذيلة هو حق لله تعالى، وليس الأمر متروكًا للبشر.

 

2- إن هذه الوسطية هي بالهبة والجعل الإلهي قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143].

 

3- حاجة الناس إلى الوحي، لأنه لا يرفع النزاع بينهم في أية قضية من القضايا معايير يضعونها بعقولهم؛ لأنه لا يمكن التسليم بمعيار أحد دون آخر.


لذلك لابد من مرجع يرجع إليه الجميع فيقفون عند أحكامه، وهذا المعيار أو المرجع لا بد من الاتفاق عليه من أن يكون صادقًا صوابًا عدلًا، وإذا أردنا ذلك لا نجد غير الوحي المنزل؛ (لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا رُدُّوا إلى عقولهم، فلكل واحدٍ منهم عقل)[49].

 

فبني آدم إذا فقدوا الصلة بالوحي، وأرادوا تحكيم عقولهم ضاعوا.

 

4- إن تحديد الوسط أمر صعب، اعترف بصعوبته القائلون بأن الوسطية معيار، حيث يقول أرسطو: (إن إدراك الوسط في كل شيء أمر صعب جدًّا)[50].

 

ويقول الغزالي - رحمه الله- عن تحديد الوسط بأنه: (من أعقد الأمور وأصعبها)[51].

 

5- إن تحديد الوسط أمر نسبي، يختلف باختلاف الأشخاص ولذلك يقول ابن سينا: (ليس وسط الشيء عينه، بل الوسط بالنسبة إلينا)[52].

 

6- أن الوسطية هي الشريعة بكل ما تحويه من أحكام،فالوسطية كمفهوم يلاحظ في جميع جوانب الإسلام، وجزئياته، فهي تشمل الحياة في كل جوانبها ومعانيها، كما أنها تترك أثرًا في نفسية المسلم الحق، فتصبغه بصبغتها؛ ليتصرف بعد ذلك وفق ضوابطها وأهدافها وهذا ما جعل للإسلام ذلك الانتشار السريع وأخذه المكانة العالية في السلم الحضاري.

 

وبهذا يتبين أن الوسطية ليست معيارًا بشريًا تحدد من خلاله الفضائل، لكنها خاصية أختص بها دين الإسلام، وتميزت بها شرائعه، فالدين وأهله بُراء من الانحراف، سواء الجانح إلى الغلو، أو الجانح إلى التقصير[53].



[1] الفتاوى (12 / 114).

[2] مبادئ الفلسفة (39)؛ ترجمة أحمد أمين.

[3] قول مشهور في كتب الأصول، والمنطق لم أقع على اسم قائله.

[4] مجموع الفتاوى (1/ 243).

[5] في الأصل (كما جاء به)، ولعل الصواب ما أثبت.

[6] ابن القيم؛ الصواعق المرسلة (3/ 944).

[7] ابن القيم؛ الصواعق المرسلة (3 / 929).

[8] الفتاوى: 7/ 116.

[9] الفتاوى: 7/ 115.

[10] شرح الطحاوية:1/ 65.

[11] شرح الطحاوية: 1/ 64.

[12] ص: 79.

[13] معجم مقاييس اللغة:6/ 82، مادة (وسط).

[14] انظر: ابن منظور: لسان العرب:7/ 426 مادة (وسط).

[15] أضواء البيان:1/ 87.

[16] فتح الباري:13/ 316.

[17] جامع البيان:3/ 142.

[18] تفسير القرآن العظيم:1/ 454.

[19] أضواء البيان:5/ 308.

[20] رواه البخاري: كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً):6/ 26.

[21] فتح الباري:8/ 172.

[22] شرح ابن بطال:18/ 103.

[23] ينظر: تفسير الطبري: 2/ 7-8،، و تفسير القرطبي:2/ 153-154، و تفسير ابن كثير:1/ 190، و تفسير الرازي:4/ 97

[24] جامع البيان: (2/ 7).

[25] ينظر: الرازي: التفسير الكبير: (4/ 97).

[26] انظر: معجم مقاييس اللغة:4/ 201، ولسان العرب:11/ 430.

[27] انظر: مغني المحتاج 4 / 427، كشاف القناع 6 / 418، القوانين الفقهية ص303، ومجلة الأحكام العدلية ص344 مادة 1705، ومعين الحكام ص82.

[28] ابن حجر: فتح الباري: (10/ 589).

[29] انظر: الفيومي: المصباح المنير:1/ 185، والمناوي: التوقيف على مهمات التعاريف:330.

[30] مجموع الفتاوى: (28/ 146).

[31] المصدر نفسه: (35 / 366).

[32] منهاج السنة: (5/ 127).

[33] جامع البيان: (2/ 6).

[34] رواه البخاري: كتاب: الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (6/ 115).

[35] رواه أبو داود: كتاب: السنة، باب: لزوم السنة (برقم: 4612) وينظر في معنى الحديث: العظيم آبادي: عون المعبود: (12/ 369 - 370).

[36] مدارج السالكين (2/ 496).

[37] رواه أبو داود: كتاب: الأدب، باب: الحسد برقم( 4904)، وأبو يعلى برقم (3694)، وفي سنده: ( سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء) وثقه ابن حبان، وقال ابن حجر في التقريب:( مقبول)، وقال الهيثمي:( رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير: سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة) مجمع الزوائد:6/ 256.

[38] ينظر: لول ديورانت: قصة الفلسفة: 87،و محمد بدوي: الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع) ص54-55).

[39] ينظر: قصة الفلسفة: 88-89.

[40] ينظر:: POUR CONNAÎTRE LA PENSÉE PHILOSOPHIQUE DE SAINT THOMAS D'AQUIN, Par LOUIS JUGNET Edition numérique http:/ / docteurangelique.free.fr 2004

[41] ينظر: L’autre Thomas d’Aquin, Martin Blais, p.64, Les Éditions du Boréal, 1990

[42] ينظر: علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب: 371.

[43] ينظر: راسل (تاريخ الفلسفة الغربية): 625.

[44] نقلاً عن أحمد إبراهيم: الفضائل الأخلاقية: (272).

[45] علم الأخلاق: (245) وينظر: أحمد إبراهيم: الفضائل الأخلاقية: (272).

[46] ينظر: Gutzkow-Lexikon

[47] ميزان العمل: (273).

[48] مقالة لـ: تركي الحمد: وهم الوسطية، عن موقع جريدة: الشرق الأوسط.

[49] ابن تيمية: درء التعارض (1/ 229).

[50] نقلاً عن أحمد إبراهيم: الفضائل الأخلاقية: (272).

[51] ميزان العمل: (273).

[52] علم الأخلاق: (245) وينظر: أحمد إبراهيم: الفضائل الأخلاقية: (272).

[53] ينظر: عبد الرحمن اللويحق: الغلو في الدين: (32).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • المؤلفات
  • محاضرات علمية
  • المقالات
  • صوتيات
  • مرئيات
  • الغلو والإرهاب
  • الأسرة والمجتمع
  • الأوقاف
  • الأمن الفكري
  • السياسة الشرعية
  • بحوث مترجمة بلغات ...
  • خطبة الجمعة
  • تعريف عام بدين ...
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة