• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية


علامة باركود

البعد النفسي لـ (قفا نبك)

د. خليل خلف سويحل


تاريخ الإضافة: 13/5/2015 ميلادي - 25/7/1436 هجري

الزيارات: 59651

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

البعد النفسي لـ (قِفا نبكِ)


• لعلَّ أشهر بيت عرَفتْه العرب جاء في مطلع معلقة امرئ القيس، وهو قوله:

قِفا نَبْكِ من ذِكرى حبيبٍ ومَنزلِ = بسِقْطِ اللِّوى بينَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

 

وسنحاول في هذه الأسطر أن نُزيح اللِّثام عن بعض أسرار البيان في هذا البيت، متلمِّسين الأبعادَ النفسية له، ومستوضحين بعضَ المعاني الكامنة فيه، ويكفي أن نعرف من حياة امرئ القيس أنه سليلُ أسرة عُرِفَتْ بالإمارة، ومن الطبيعي أن تكون حياتُه مترفةً، يَرفُلُ فيها في حلل المتعة، والانغماس في اللذة؛ فالكأسُ جليسُه، والمرأةُ أنيسُه، وعلى الدنيا السلام.

 

لكنَّ الدَّهر أنزله على مواقعة الحياة؛ فكانت الأيام حُبلى بما لا يحبُّ، فمقتلُ أبيه جعله في الواجهة والمواجهة، فقد مضى الزمن الذي يَتَّكئُ فيه على الآخرين، ويرمي بحِملِه على عاتقهم، وفاتَه أن يعلم أنَّ للحياة عبئًا ثقيلاً، وعناء طويلاً، سيحمله على عاتقه بمفرده في نهاية المطاف، فقد ظنَّ في لحظةٍ ما أنَّ أصحابه وأصدقاءه سيتكفَّلون له بحمل هذه الأعباء - لأنهم كُثُر كعدد شعر رأسه - ولكنَّ مفاجآت الأيام أثبتت له أنه كان أصلعَ الرأس؛ فالآخرون شاركوه المتعةَ واللذَّةَ، لكنَّهم لم يشاركوه الحزن والحسرة، فحاول لاهثًا أن يطارد لحظات الفرح؛ لعله يتشبَّث بلحظة منها، ولكن هيهات! فهي تمضي بعيدًا وتغيب، حتى لتبدو كالسراب.

 

يبدو لأول وهلة أن قوله: "قفا نبكِ" عبارةٌ كغيرها من عبارات الشعر وتراكيبه، والحقُّ أنها تختزن بين جنبات حروفها نفسًا محترقة، ومشاعرَ متوهجة، وأحاديثَ يطول المقام بذكرها؛ فهي الباب الذي نَلِجُ منه إلى عالم امرئ القيس، والنافذة التي نطلُّ منها على لواعج صدره، والمِرآةُ التي تنعكس فيها مكنونات نفسه.

 

حقًّا إنها أشبهُ بلمعة البرق التي لا تلبث أن يعقبها غيث من الأفكار والتساؤلات، فلماذا يستفتح معلقته بطلب الوقوف، والوقوف ضد الحركة، ومطلع المعلقة هو بداية الحركة والانطلاق؟ ثم لماذا يوجه خطابه لاثنين (قفا)؟ ولماذا يطالب بالوقوف من أجل البكاء؟ وهل يحتاج الإنسان إلى أن يقف لكي يبكي؟ ثم لماذا أشرَك الآخرين ببكائه (نَبْكِ) ولم يقل: (أَبْكِ)؟ ولماذا حدَّد علَّة الوقوف بالبكاء فقط دون سبب آخر؟... إنها عبارة مكثَّفة أشبه بقطرة عطر فوَّاح، يَنسابُ عبيرها في حنايا الضلوع.

 

(قفا): خطاب لاثنين، وهو أسلوب عربي عريق، ولكنَّ المراد بالاثنين هو حيرةُ الحير؛ فقد قيل: المقصود بالاثنين صاحباه، وقيل: الاثنان هما ذات الشاعر وآخر، وقيل: إنها خطاب لكل حبيبَيْنِ؛ لأن الحب أنانيَّة بين اثنين، وقيل: إنها خطاب للوالدين اللذين غابا جسدًا لا روحًا، وعلى كلٍّ: هو طلب بالوقوف، وهذا ظاهر السياق، ولكنَّنا عندما نقوم بإسقاط نفسي من خلال الواقع الذي عاينه، نجد أنه وقوف وتوقُّف لمسار محدَّد في حياته، وانطلاقة نحو أُفُق جديد، واتجاه آخر فيها.

 

ويتساءل المرءُ: لماذا لم يطالب بالتمهُّل لا بالوقوف؟ ولعلها إشارة غير واعية من امرئ القيس إلى توقف الحياة التي كان يحياها، فعندما دفَن والده، دفَن معه لهوَه ومتعتَه، فتصلَّبتِ الدماءُ الحارة في عروقه، وتملَّكه القنوط، واستبدَّ به اليأس، وكم من ذكرى جميلة ضاعت على هذا الدرب! ممَّا ضاعف الألم في النفس؛ فانهارت قواه النفسية والجسدية أمام الأهوال التي واجهته؛ فلم يمتلك القدرةَ على فعل أيِّ شيء سوى البكاء، وهي حالة نفسية اضطرارية لا مفرَّ منها، فالموقف الذي أصبح فيه لا يحتمل فرصةً للتأمل، أو برهة للتفكُّر، أو لحظة للتذكُّر؛ ولذا كان البكاء علَّةَ الوقوف، وإذا كان بكاء الرجل صعبًا، فكيف يكون بكاء الأمير؟! ولنا أن نتصوَّر حينئذٍ عمقَ المأزق النفسي الذي قادته إليه الأيام.

 

• وهو لم يستطع كبتَ جموحه العاطفي، لكنه حاولَ التخفيفَ منه بإشراك الآخرين في بكائه (نَبْكِ)، ولعل لنشأته الملكيَّة أثرًا كبيرًا في هذا المقام؛ فلا يرضى لنفسه أن يبكي وحيدًا، وإن كان في قرارة نفسه يشعر بهذه الحقيقة المُرَّة.

 

وبكاؤه في هذا السياق له ما يسوِّغه؛ فهو القائل:

وإن شفائي عَبرةٌ مهَراقة = فهل عند رسمٍ دارسٍ من مُعَوَّلِ

 

فالدمع يُخفِّفُ من وطأة الحزن الثقيلة؛ ولذا قيل:

فاثلج ببرد الدمع صدرًا واغرًا = وجوانحًا مسجورةَ الرمضاءِ

 

• وهذان العنصران اللُّغويَّان (قفا نبكِ) يرصدان - بدقة - التحوُّلَ النفسيَّ المُشبعَ بالقهر عند امرئ القيس؛ إذ هو انتقالٌ من عقدة نرجسية مشوبة بالسادية، ويجسِّدها قوله: (قفا)، إلى عقدة مازوشية توقع الألم بالذات، ويجسِّدها قوله: (نبكِ).

 

• ولم يتوقف امرؤُ القيس هنا، بل راح يُعلِّل انكسارَه النفسي بتذكُّر الأحبة ومنازلهم، ومن المعلوم أن التذكُّر يعيد تصوُّرات الماضي، لكن من دون قدرة على تغييره؛ لأنه ماضٍ قد انتهى كحدث، ولم ينتهِ من حيث التأثيرُ النفسيُّ، ولله درُّ من قال:

ذكراك حلَّتْ فدمع العين مهمورُ = والكون باكٍ حزين القلب مكدورُ

 

• فتجدُّدُ الذكرى هو تجددٌ للألم؛ وهذا ما يؤذي التفكير السليم، فلولا نعمةُ النسيان لأصبح الإنسان مختلاًّ نفسيًّا، ولامرئ القيس ذاكرةٌ مُثقلةٌ بأيام المراهقة والشرب والنساء لا يمكن محوُها بسهولة، وكم هو مؤلمٌ على الذات أن يتذكر الإنسان لحظات من فرحه، وهو في خضم الشقاء ومرارة الاغتراب!

 

• وكان امرؤ القيس ذكيًّا فيما يفعل؛ فلم يكن تقديمُ الحبيب على المنزل اعتباطيًّا، فما قيمة المكان إلا بأهله، وهذا تعبير عن الربط الوثيق بين المكان والحبيب، ولعل ابن الملوَّح كان أوضح معنًى عن هذه الفكرة، بأسلوب فصيح صريح، فهو القائل:

أمرُّ على الديار ديار ليلى
أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارَا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكنْ حبُّ من سكن الديارَا

 

• والوقوف على أطلال الديار يبثُّ في الروح مِسكَ الذكريات؛ فيتضوع في أرجائها الإحساسُ بحرقة الاغتراب ومرارة الغياب، وهذا ما يذكي جذوة الحنين، وهي لحظة نفسية مؤثِّرة أيَّما تأثير في الباثِّ والمتلقِّي، ولعلنا نجد تناصًّا مبدعًا خلاَّقًا عند شاعر محدث آخر، عندما وقف على الأطلال مناجيًا الروح:

يا لروحي التي أرهقتني
تسألين وما وجدت جوابَا
إن تحنِّي إلى الديار فأبكي
قد غصبنا على الرحيل اغتصابَا
من أنت ومن أنا ولماذا
نزرع الحب فنجني العذابَا
هل لنا عودة لست أدري
لم أجد للسؤال جوابَا

 

فالحنين إلى الماضي جذر ضارب في أعماق نفس امرئ القيس، ومُتَغلغِلٌ في سراديبها؛ لأنَّه اكتشف أن المستقبل الذي كان يرنو إليه اصطبغ بالسواد والموت، كالطفل الذي يأمل أن يكبر؛ ليعرف حقيقة الحياة، ولكنَّه عندما يكبر يتمنَّى أن يعود صغيرًا، فهناك هُوَّة سحيقة بين آماله وواقعه، ويحاول بهذه العبارة (قفا نبكِ) أن يملأ فراغ الروح، ويُرمِّمَ ثلمات النفس، لكن دون جدوى.

 

وبكلمة عابرة مختصرة:

إن قول امرئ القيس: (قفا نبك) عبارةٌ ملفَّعة بالرمز، ومتسربلة بالغموض، ومتبرقعة بالإيحاء، وما تقدَّم ما هو إلا كشعاع الشمس المتسلل من حنايا النافذة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة