• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الشيخ ابراهيم الحقيلالشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل شعار موقع الشيخ ابراهيم الحقيل
شبكة الألوكة / موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل / خطب منبرية


علامة باركود

من أخبار الشباب (9) ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى

ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


تاريخ الإضافة: 5/9/2018 ميلادي - 24/12/1439 هجري

الزيارات: 19586

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من أخبار الشباب (9)

ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى


الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ ﴿ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [الْعَلَقِ: 4- 5]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِهِ؛ فَآيَاتُهُ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَمَخْلُوقَاتُهُ بُرْهَانٌ عَلَى صُنْعِهِ، وَأَقْدَارُهُ تُظْهِرُ عَدْلَهُ وَرَحْمَتَهُ وَحِكْمَتَهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، وَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ خَلْقَهُ؛ فَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَتْقَاهُمْ لَهُ، وَعَلَّمَ أُمَّتَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ حِرْصًا عَلَيْهَا، وَرَأْفَةً بِهَا، وَخَوْفًا عَلَيْهَا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَلَّمُوا مَا يَنْفَعُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُمْ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ عِزٌّ وَرِفْعَةٌ، وَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ بَلَغَهَا بِالْعِلْمِ، وَمَنْ أَرَادَهُمَا جَمِيعًا فَإِنَّ الْعِلْمَ يَجْمَعُهُمَا لَهُ ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: 11].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: هَيَّأَ اللَّهُ تَعَالَى لِحِفْظِ دِينِهِ وَنَشْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ رِجَالًا أَفْذَاذًا، رَضَعُوا لُبَانَةَ الْعِلْمِ أَطْفَالًا، وَأَتْبَعُوهُ بِالْعَمَلِ شُبَّانًا، وَزَكَّوْهُ بِالتَّعْلِيمِ كُهُولًا، وَهَرِمُوا وَهُمْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، وَيُفْتُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَيَكْتُبُونَ الْعِلْمَ لَهُمْ، حَتَّى فَارَقُوا الدُّنْيَا وَسُطُورُ أَحْبَارِهِمْ رَطْبَةٌ لَمْ تَجِفَّ، وَصُحُفُهُمْ مَنْشُورَةٌ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَمَكَاتِبُهُمْ لَمْ تُطْوَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَذَّتَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، فَانْتَقَلُوا مِنَ الْمَحْبَرَةِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ.

 

وَمِنْ أُولَئِكَ الْأَعْلَامِ الْأَفْذَاذِ، وَهُوَ مِثَالٌ لِلشَّابِّ الْمُتَعَلِّمِ الْجَادِّ: الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَوَالِدُهُ أَبُو حَاتِمٍ إِمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي الْحَدِيثِ، وُلِدَ فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِئَتَيْنِ، وَقْتَ فَوْرَةِ الْعِلْمِ وَقُوَّتِهِ، وَتَوَافُرِ الْأَكَابِرِ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ، وَكَانَ لِوَالِدِهِ مَنْهَجِيَّةٌ صَارِمَةٌ فِي تَرْبِيَتِهِ عَلَى الْعِلْمِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَكِتَابَتِهِ حَتَّى أَتْقَنَ الْقُرْآنَ، وَرَحَلَ مَعَ وَالِدِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَهُوَ دُونَ سِنِّ الْبُلُوغِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ: «كَانَ مِنْ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ قَمَاطِرِ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَاتِ، وَتَرَبَّى بِالْمُذَاكَرَاتِ مَعَ أَبِيهِ وَأَبِي زُرْعَةَ، فَكَانَا يَزُقَّانِهِ -أَيْ: يُطْعِمَانِهِ الْعِلْمَ- كَمَا يُزَقُّ الْفَرْخُ الصَّغِيرُ، وَيُعْنَيَانِ بِهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مَعَ جَوْهَرِ نَفْسِهِ: كَثْرَةُ عِنَايَتِهِمَا. ثُمَّ تَمَّتِ النِّعْمَةُ بِرِحْلَتِهِ مَعَ أَبِيهِ، فَأَدْرَكَ الْإِسْنَادَ وَثِقَاتِ الشُّيُوخِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَالثُّغُورِ، وَسُمِعَ بِانْتِخَابِهِ حِينَ عَرَفَ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، فَتَرَعْرَعَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَتْ رِحْلَتُهُ الثَّانِيَةُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ تَمَكُّنِ مَعْرِفَتِهِ، يُعْرَفُ لَهُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ بِحُسْنِ فَهْمِهِ وَدِيَانَتِهِ وَقَدِيمِ سَلَفِهِ» انْتَهَى كَلَامُهُ.

 

وَاحْتَلَمَ الشَّابُّ فِي رِحْلَتِهِ تِلْكَ، وَكَانَ هُوَ وَوَالِدُهُ مُتَّجِهَيْنِ لِلْمَدِينَةِ، فَفَرِحَ وَالِدُهُ بِذَلِكَ، وَأَحْرَمَا بِالْحَجِّ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَدْرَكَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فِي رِحْلَتِهِ تِلْكَ فَوْرَ بُلُوغِهِ، وَهَذَا مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ.

 

وَرَأَى الْغُلَامُ فِي رِحْلَتِهِ مَعَ أَبِيهِ الْعَجَائِبَ، وَكَانَ وَالِدُهُ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ مَوْقِفٍ يَمُرُّ بِهِمَا لِيُعَلِّمَهُ مَا يَنْفَعُهُ، يَقُولُ: «كُنْتُ مَعَ أَبِي فِي الشَّامِ فِي الرِّحْلَةِ فَدَخَلْنَا مَدِينَةً، فَرَأَيْتُ رَجُلًا وَاقِفًا عَلَى الطَّرِيقِ يَلْعَبُ بِحَيَّةٍ وَيَقُولُ: مَنْ يَهَبُ لِي دِرْهَمًا حَتَّى أَبْلَعَ هَذِهِ الْحَيَّةَ؟ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ أَبِي، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، احْفَظْ دَرَاهِمَكَ؛ فَمِنْ أَجْلِهَا تُبْلَعُ الْحَيَّاتُ!».

 

وَاسْتَمَرَّ الْغُلَامُ فِي مُلَازَمَةِ أَبِيهِ وَأَبِي زُرْعَةَ وَالْأَخْذِ عَنْهُمَا، وَلَمَّا كَبِرَ اسْتَأْذَنَ وَالِدَهُ فِي الرِّحْلَةِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ، وَكَانَ وَالِدُهُ شَحِيحًا بِهِ؛ إِذْ مَاتَ أَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَتَوَسَّطَ بِأَبِي زُرْعَةَ عِنْدَ وَالِدِهِ، فَأَذِنَ لَهُ وَالِدُهُ فِي الْبُعْدِ عَنْهُ، وَالرِّحْلَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، لَكِنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ مُدَّةً مُحَدَّدَةً ثُمَّ يَعُودُ، وَكَانَ الْوَلَدُ يُرِيدُ الْوَفَاءَ لِأَبِيهِ بِشَرْطِهِ، وَيُرِيدُ تَحْصِيلَ أَكْبَرِ كَمٍّ مِنَ الْعِلْمِ فِي رِحْلَتِهِ، فَأَتَى بِالْأَعَاجِيبِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَوَاصَلَ لَيْلَهُ بِنَهَارِهِ فِي السَّمَاعِ مِنَ الشُّيُوخِ، وَكِتَابَةِ الْعِلْمِ، وَكَانَ لَا يَأْبَهُ بِطَعَامٍ وَلَا يَهْنَأُ بِنَوْمٍ فِي سَبِيلِ الْعِلْمِ، وَمِنْ مَوَاقِفِهِ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ مَا حَكَاهُ بِقَوْلِهِ: «كُنَّا بِمِصْرَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ نَأْكُلْ فِيهَا مَرَقَةً، نَهَارَنَا نَدُورُ عَلَى الشُّيُوخِ، وَبِاللَّيْلِ نَنْسَخُ وَنُقَابِلُ، فَأَتَيْنَا يَوْمًا -أَنَا وَرَفِيقٌ لِي- شَيْخًا، فَقَالُوا: هُوَ عَلِيلٌ، فَرَأَيْنَا فِي طَرِيقِنَا سَمَكًا أَعْجَبَنَا، فَاشْتَرَيْنَاهُ، فَلَمَّا صِرْنَا إِلَى الْبَيْتِ حَضَرَ وَقْتُ مَجْلِسِ بَعْضِ الشُّيُوخِ، وَلَمْ يُمْكِنَّا إِصْلَاحُهُ، فَمَضَيْنَا إِلَى الْمَجْلِسِ فَلَمْ يَزَلِ السَّمَكُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَكَادَ أَنْ يَتَغَيَّرَ، فَأَكَلْنَاهُ نِيئًا لَمْ نَتَفَرَّغْ نَشْوِيهِ»، ثُمَّ قَالَ: «لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجَسَدِ!».

 

وَجَمَعَ مِنَ الْعِلْمِ بِمُثَابَرَتِهِ وَجِدِّهِ -بَعْدَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ- فِي رِحْلَتِهِ تِلْكَ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمُفِيدُ: «لَقَدِ اتَّفَقَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي رِحْلَتِهِ مِنَ السَّمَاعِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ مَا يَعْجِزُ عَنْ جَمْعِهِ غَيْرُهُ أَنْ يَكْتُبَ فِي سِنِينَ، وَدَخَلَ بَيْرُوتَ وَالسَّوَاحِلَ وَدِمَشْقَ وَالثُّغُورَ».

 

وَبَعْدَ عَوْدَتِهِ مِنْ رِحْلَتِهِ لَازَمَ أَبَاهُ، وَجَمَعَ عَلْمَهُ، وَكَتَبَ عَنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُتُبُهُ، وَقَدْ عَجِبَ النَّاسُ مِنْ كَثْرَةِ مَنْقُولَاتِهِ عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ مُجِيبًا: «رُبَّمَا كَانَ يَأْكُلُ وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَمْشِي وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ الْخَلَاءَ وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ الْبَيْتَ فِي طَلَبِ شَيْءٍ وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ». وَلَمَّا مَرِضَ أَبُوهُ مَرَضَ الْمَوْتِ لَزِمَ فِرَاشَ أَبِيهِ يَسْأَلُهُ وَأَبُوهُ يُجِيبُهُ، حَتَّى ضَعُفَ صَوْتُ أَبِيهِ وَانْعَقَدَ لِسَانُهُ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، فَكَانَ أَبُوهُ يُجِيبُهُ بِالْإِشَارَةِ، حَتَّى حَضَرَ الْمَوْتُ أَبَاهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ: هَلْ هُوَ صَحَابِيٌّ أَمْ تَابِعِيٌّ؟ فَأَجَابَهُ ثُمَّ مَاتَ، فَخُتِمَ لَهُ بِالْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ.

 

وَصَارَ الْوَلَدُ إِمَامًا كَبِيرًا بَعْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَنْكِفْ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَتَكَبَّرْ بِعِلْمِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَأَتْبَعَ الْعِلْمَ الْعَمَلَ، وَلَمْ تُحْفَظْ لَهُ صَبْوَةٌ مُنْذُ شَبَابِهِ إِلَى هَرَمِهِ حِينَ دَخَلَ عَشْرَ التِّسْعِينَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّازِيُّ: «كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ صِغَرِهِ، وَالسَّهَرِ بِاللَّيْلِ، وَالذِّكْرِ، وَلُزُومِ الطَّهَارَةِ، فَكَسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نُورًا، فَكَانَ يُسَرُّ بِهِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ». وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَرَضِيُّ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِمَّنْ عَرَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ذَكَرَ عَنْهُ جَهَالَةً قَطُّ، وَكُنْتُ مُلَازِمًا لَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً فَمَا رَأَيْتُهُ إِلَّا عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ أَرَ مِنْهُ مَا أَنْكَرْتُهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، بَلْ رَأَيْتُهُ صَائِنًا لِنَفْسِهِ وَدِينِهِ وَمُرُوءَتِهِ».

 

وَكَانَ أَبُوهُ يَقُولُ عَنْهُ: «وَمَنْ يَقْوَى عَلَى عِبَادَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟! لَا أَعْرِفُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ ذَنْبًا!». فَرَبَّاهُ الْعِلْمُ عَلَى الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ لِذَلِكَ. بَلْ إِنَّهُ حَرَمَ نَفْسَهُ مِنْ حُظُوظِ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ، وَفَضَّلَ بَعْضَ أَقْرَانِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ إِمَامٌ لَا يُجَارَى، وَعَالِمٌ لَا يُبَارَى، وَلَكِنَّهَا النَّفْسُ الْكَبِيرَةُ حِينَ تَقْمَعُ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةَ، وَتَجْعَلُ مُرَادَهَا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَقَدْ سُئِلَ هَذَا الْإِمَامُ عَنْ قَرِينِهِ الْإِمَامِ ابْنِ خُزَيْمَةَ فَأَجَابَهُمْ قَائِلًا: «وَيْحَكُمْ! هُوَ يُسْأَلُ عَنَّا وَلَا نُسْأَلُ عَنْهُ، هُوَ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ». فَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِنْصَافِ الْأَقْرَانِ، فَضْلًا عَنْ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى نَفْسِهِ إِلَّا أَفْذَاذُ الرِّجَالِ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْهُمْ.

 

وَلَمْ يَأْخُذْ هَذَا الْإِمَامُ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَهُ، وَلَا عَلَى كِتَابٍ صَنَّفَهُ، بَلْ جَمَعَ كُتُبَهُ الضَّخْمَةَ، وَجَعَلَهَا وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، وَجَعَلَ أَحَدَ الْقُضَاةِ الثِّقَاتِ وَصِيًّا عَلَيْهَا، وَحَفِظَ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَهُ بِبَرَكَةِ تَجَرُّدِهِ وَإِخْلَاصِهِ، فَوَصَلَتْ إِلَيْنَا بَعْدَ أَحَدَ عَشَرَ قَرْنًا مِنْ وَفَاتِهِ، وَطُبِعَتْ وَانْتَشَرَتْ فِي الْآفَاقِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَطُلَّابِ الْعِلْمِ؛ إِذْ تُوُفِّيَ هَذَا الْإِمَامُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِ مِئَةٍ. فَرَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَجَمَعَنَا بِهِ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ، وَهَدَانَا وَأَوْلَادَنَا لِمَا يَنْفَعُنَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 281].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي سِيرَةِ الْإِمَامِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ مَنْ جَدَّ وَجَدَ، وَمَنْ زَرَعَ حَصَدَ، وَمَنْ قَضَى صِبَاهُ فِي الْكُتَّابِ، وَأَمْضَى شَبَابَهُ عِنْدَ رُكَبِ الشُّيُوخِ، وَأَكْثَرَ الرِّحْلَةَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؛ حَازَ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا يَتَفَوَّقُ بِهِ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَيَبُزُّ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَكَمَا رَحَلَ فِي الطَّلَبِ سَيُرْحَلُ إِلَيْهِ، وَكَمَا أَضْنَى نَفْسَهُ فِي حِلَقِ الْعِلْمِ سَيَتَحَلَّقُ الطَّلَبَةُ عَلَيْهِ.

 

وَفِي سِيرَتِهِ: أَنَّ الْهِمَّةَ الْعَالِيَةَ يَبْلُغُ بِهَا صَاحِبُهَا مُرَادَهُ، وَتَتَحَطَّمُ دُونَهَا الْعَوَائِقُ وَالْحَوَاجِزُ، وَلَا مُحَالَ فِي الْحِفْظِ وَجَمْعِ الْعُلُومِ وَالتَّصْنِيفِ إِذَا صَحَّتْ فِيهَا النَّوَايَا، وَقَوِيَتْ فِيهَا الْعَزَائِمُ، وَبُذِلَتْ فِيهَا الْأَوْقَاتُ وَالْأَعْمَارُ.

 

وَفِي سِيرَتِهِ: أَنَّ زَكَاةَ الْعِلْمِ الْعَمَلُ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الْحِفْظِ وَالْفِقْهِ بِلَا عَمَلٍ يَعُودُ عِلْمُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ؛ إِذْ يَكُونُ عِلْمُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَتُمْحَقُ بَرَكَةُ عِلْمِهِ، وَلَا يَجْنَحُ لِذَلِكَ إِلَّا مَنْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِأَجْلِ الدُّنْيَا.

 

وَمَا أَحْوَجَ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ وَبَنَاتِهِمْ إِلَى قُدْوَةٍ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ؛ فَمَا أَكْثَرَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَمَا أَقَلَّ الْعَامِلِينَ!! وَيَجِبُ أَنْ يُرَسَّخَ فِي أَذْهَانِ الطُّلَّابِ وَالطَّالِبَاتِ أَنَّ الْعِلْمَ يُطْلَبُ لِيَبْقَى، وَأَنَّ الْمَحْفُوظَ يُحْفَظُ لِيَبْقَى، فَمَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَحَفِظَهُ لِيَبْقَى لَهُ فَذَلِكَ الْعَالِمُ، وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ وَالْحِفْظَ لِيَنَالَ بِهِ شَهَادَةً أَوْ يَتَرَقَّى بِهِ لِمَنْصِبٍ ثُمَّ يَنْسَاهُ، فَذَلِكَ الْأُمِّيُّ الَّذِي يَتَزَيَّا بِالْعِلْمِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَإِذَا تَحَدَّثَ الطَّلَبَةُ فِي أَسْهَلِ الْمَسَائِلِ فِي مَجْلِسِهِ انْزَوَى وَلَمْ يَفِهْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ قَدْ أَسِنَ مَعَ طُولِ الْعَهْدِ، وَنَسِيَ مَا قَدْ حَفِظَ، وَإِلَّا تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ فَفَضَحَ نَفْسَهُ، وَبَيَّنَ لِلنَّاسِ حَجْمَهُ.

 

وَلَنْ تَتَقَدَّمَ أُمَّةٌ إِلَّا إِذَا اسْتَشْعَرَ الطُّلَّابُ وَالطَّالِبَاتُ أَهَمِّيَّةَ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ، وَضَبَطُوا التَّخَصُّصَاتِ الَّتِي يَدْرُسُونَهَا، وَقَضَوْا أَوْقَاتَهُمْ فِي الْمَكْتَبَاتِ وَالْمُخْتَبَرَاتِ لَا فِي الْمَلَاعِبِ وَالِاسْتِرَاحَاتِ، وَيَجِبُ غَرْسُ حُبِّ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَبَيَانُ أَهَمِّيَّتِهَا لِدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزُّمَرِ: 9].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • مقالات
  • بحوث ودراسات
  • كتب
  • خطب منبرية
  • مواد مترجمة
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة