• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الشيخ زيد الفياضالشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض شعار موقع الشيخ زيد الفياض
شبكة الألوكة / موقع الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض / مقالات


علامة باركود

هل هي دعاية يهودية؟

الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض

المصدر: أرسلت لمجلة المفكر العربي في بيروت في 26/3/89.

تاريخ الإضافة: 10/7/2010 ميلادي - 28/7/1431 هجري

الزيارات: 10185

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

نُشِر في مجلة العربي العدد (124) الصادر في ذي الحجة 1388هـ سؤالٌ جوابه على النحو التالي:

"نسمي - نحن العربَ - عيسى ابنَ مريم بالمسيح، وفي القرآن الكريم: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 116]

ما معنى كلمة "المسيح"، وهل هي عربية الأصل؟

محمد علي ربيع 

طنطا. ج.ع.م 

 

- كلمة المسيح هي في الأصل كلمةٌ عِبرية، بمعنى الرجل المختار، وقد أطلقها اليهودُ على الرجل الذي زعموا أنَّه يأتي آخِرَ الدهر، كي يقوم فيهم بدَور القائد، ويخلصَهم مما هم فيه، فهو المخلِّص، وهو الذي يُقيم مملكة تسع الأرض كلَّها.

 

أمَّا المسيحيُّون فيؤمنون بأنه عيسى ابن مريم - عليه السلام - هو المسيح الذي انتظرَه اليهود، ولكن اليهود أنكروا ذلك، وسبب إنكارهم يتلخص في الأمور الآتية:

(أ) أنَّ عيسى ابن مريم ليس له السمات التي خالَها اليهود لمسيحهم المنتظر.

(ب) أنَّ عيسى ابن مريم جاء مسالِمًا لا محاربًا، وأراد أن يخلِّص الناس مِن ذنوبهم، لا مِن أعدائهم، في حين أنَّ المسيح الذي خاله اليهود خالوه رجلاً قويًّا محاربًا، يفتك في الأعداء فتكًا.

(ج) أنَّ عيسى ابن مريم حَمَل رسالة إلى أهل الأرض أجمع، في حين قال اليهود: إنَّ مسيحهم المنتظر إنما يكون يهوديًّا صميمًا، يجيء ليخلص بني إسرائيل وحدَهم دون سواهم". م. ط

هذا ما جاء في مجلَّة العربي بحروفه وألفاظه، والذي عَنوَن له بما يأتي: "المسيح بين التوراة والإنجيل".

 

وهذا الجوابُ غريب كما لا يخلو السؤال مِن غرابة، ووجه الغرابة في الجواب تركيزُه على دعاوي اليهود، والإعراض عن حُجج النصارى، والأشدُّ غرابة الصمتُ عن رأي المسلمين في المسيح المستند إلى النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، مع أنَّ السائل لم يطلب إجابةً مقتصرة على رأي اليهود كما فَعَل المجيب.

 

وكأنَّ هذا الجواب قد صِيغ بطريقة تخدم الأهداف اليهودية، متوسلاً إلى ذلك: بسؤالٍ يبدو فيه التعمُّد للغمز من السيِّد المسيح - عليه السلام - وذلك بإيراد آية ليست نصًّا في موضوع السؤال، وإغفال آخرها، مع أنَّ هناك آياتٍ صريحةً في أنَّ المسيح هو عيسى ابن مريم، نبيُّ الله ورسوله، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ ورُوح منه، وشيء يدلُّ على الرِّيبة في الجواب، وهو الرمز للمجيب، بدلاً من أن يذكر اسمه الصريح.

 

فما معنى ذلك كلِّه؟ وهل هناك أهداف خفيَّة تكمن وراءَ مثل هذه الدسائس، التي اعتدناها من المشرِفين على المجلَّة المترفة - بعض كتابها؟

 

ولنا على هذا الجواب ملاحظات عدَّة:

1 - إنَّ اقتصار المجيب على رأي واحد في معنى كلمة المسيح، وجزمَه بأنها عِبرية جوابٌ ناقص، ففيه قولان شهيران: أحدهما أنَّها عربية، والثاني أنها عِبرية، وكان الأجدر بالمجيب أن يذكر القولَين، بدلاً من الاقتصار على واحد، ومِن العلماء مَن رجَّح هذا، ومنهم مَن رجع ذلك.

 

2 - انحيازه في ذِكْر حجج اليهود المزعومة، في أنَّ المسيح هو المسيح الدجَّال، وإعراضه عن ذكْر النصارى في أنَّ المسيح ابن مريم هو المقصود بالبشارة بمجيئه، دون مسيح الضلالة، والصواب هو مع النصارى في هذا.

 

3 - قول المجيب: إنَّ عيسى ابن مريم حَمَل رسالة إلى أهل الأرض أجمع، وذلك غلط واضح، فإنَّ عيسى - عليه السلام - رسول إلى بني إسرائيل، ولم يُبعث برسالة عامَّة شاملة إلى جميع الناس إلاَّ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي بعثه الله للناس كافَّة، كما جاءت بذلك النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية الصريحة.

 

ولذلك وجَبَ على جميع الناس الإيمانُ به واتِّباعه، بما فيهم اليهود والنصارى، والمجوس والوثنيُّون وغيرهم، ومن لم يؤمنْ برسالته ممَّن بلغتْه دعوته فهو كافِر، وكذلك مَن جحد عمومَ رسالته، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصَّة، وبُعِث محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الناس عامَّة.

 

ونذكر بيان هذه الملاحظات بالتفصيل إزالةً للوهم، وتوضيحًا للحقيقة التي جاءتْ مشوَّهة محرَّفة في إجابة "مجلة العربي"، التي نرجو ألاَّ تكون دسيسة متعمَّدة، وترويجًا لبضاعة اليهود وأحلامهم، وتشكيكًا في رسالة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

وقد أبان الدكتور محمد عزت نصر الله - جزاه الله خيرًا - شيئًا مِنْ خلْط رئيس تحرير مجلة العربي، وتحذيره للعرب بما يثبِّط به هِممَهم عن المبادرة إلى مقاتلة اليهود، بذريعة أنَّ العرب غير مستعدين عسكريًّا وفنيًّا لمقاومة اليهود، وعليهم - تبعًا لذلك - الانتظار طويلاً (انظر العدد 3 من مجلة المفكر العربي).

 

وشيء يدعو للغرابة في إجابة العربي، هو لواذه بالاختفاء والاكتفاء بالرمْز المبهَم، فهل يعني ذلك أنَّه توطئة لدعايات مشبوهة، أم ماذا؟! وقد اعتدنا مِن إجابات مفتي العربي الغرائب والعجائب، وما طعنهم في صحيح البخاري، وتعريضهم بأبي هريرة الصحابي الجليل، وترويجهم للخَلاعة والإلحاد إلاَّ أمثلة تدلُّ على أن الدسائس في مجلة العربي لم تكن وليدةَ الصُّدفة، أو الذهول!!

 

وقد ردَّ على بعض ما نشر في العربي عددٌ من العلماء وذوي الغَيْرة:

1 - وها أنا أبدأ بالملاحظة الأولى، وأورد مِن كلام علماء اللغة والتفسير أنموذجًا للبحث العلمي الدقيق، وبه يُعرف أنَّ القول بأن المسيح كلمة عِبرية محلُّ خلاف بين علماء اللغة، واقتصار مجيب العربي يوهِم أنَّ الأمر ليس مختَلفًا فيه، مع أن العكس هو الواقع، ففي تاج العروس شرح القاموس (ج2 ص224) نقلاً عن الفيروزآبادي ما يلي: وبيانه: أنَّ العلماء اختلفوا في اللفظة، هل هي عربية أم لا؟ فقال بعضهم: سريانية، وأصلها مشيحًا بالشين المعجمة، فعربتها العرب، وكذا ينطق بها اليهود.

 

قال أبو عبيدة: وهذا القول الأول، والذي قالوا: إنَّها عربية اختلفوا في مادتها من (س ي ح)، وقيل: من (م س ح)، ثم اختلفوا، فقال الأولون: مفعل من ساح يسيح؛ لأنَّه يسيح في بلدان الدنيا وأقطارها جميعها، أصلُها يسيح فأُسكنت الياء، ونُقلت حركتها إلى السين؛ لاستثقالهم الكسرةَ على الياء، وهذا القول الثاني.

 

وقال الآخرون: مسيح مشتقٌّ مِن مسح، إذا سار في الأرض وقطعها، فقيل: بمعنى فاعل، والفرق بين هذا وما قبله: أنَّ هذا يختص بقطع الأرض، وذاك بقطع جميع البِلاد، وهذا الثالث...

 

ثم سرد الأقوال كلَّها، وقد ذكر الزبيدي شارح القاموس: أنَّ الفيروزآبادي قد ذكر خمسين قولاً في معنى المسيح في كتابه "بصائر ذوي التمييز في لطائف كتاب الله العزيز".

 

وذكر ابن منظور في لسان العرب (ج2 ص 594 – 595) بعضَ ما قيل في معنى المسيح، ثم قال: قال الأزهري: وروي عن أبي الهيثم أنَّ المسيح: الصِّدِّيق: قال أبو بكر: واللغويون لا يعرفون هذا، قال: ولعلَّ هذا كان يُستعمل في بعض الأزمان، فدرس فيما درس من الكلام، قال: وقال الكسائي: قد درس من كلام العرب كثير.

 

وقال ابن سِيده: والمسيح عيسى ابن مريم - صلى الله على نبينا وعليهما - قيل: سمِّي بذلك؛ لأنَّه كان يمسح بيده على العليل والأكمه والأبرص فيبرئه - بإذن الله.

 

قال الأزهري: أُعرِب اسم المسيح في القرآن، كما قيل: موسى، وأصله موشى، وأنشد:

إِذِ الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا

يعني: عيسى ابن مريم يقتل الدجَّال بنيزكه.

 

2 - الملاحظة الثانية:

أنَّا نستغرب إيرادَ مزاعم اليهود أنَّ المسيح هو شخص آخرُ غير عيسى، مع أنَّ الأدلة الدالة على أنَّ عيسى ابن مريم - عليه السلام - هو المسيح الحق كثيرة جدًّا، وقد دلَّ القرآن والحديث على ذلك، ولكن اليهود لِعِنادهم واستكبارهم يجحدون هذا؛ بغيًا وحسدًا، وإمعانًا في المكابرة كعادتهم في تمرُّدهم على الأنبياء؛ ولذا قتلوا كثيرًا من أنبيائهم، وآذوهم وعاندوهم، ولذلك فهم يتبعون المسيحَ الدجَّال، ويعادون المسيحَ الحق، وليس ذلك لافتقارهم الصفاتِ المعلومةَ عنه، بل لأنَّه لا يكون على مزاجهم، وما تهواه نفوسهم الشريرة، خاصَّة وأنه يحكم بشريعة الإسلام، ويصلِّي خلف إمام المسلمين، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويقاتل اليهود ودجَّالهم الضال؛ انتصارًا للحقّ، ودحرًا للباطل.

 

وهذا شبيه بجحْد اليهود لنبوة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وافترائهم بقولهم: إنَّه ليس الموصوفَ عندهم في التوراة، مع استيقانهم أنَّه رسول الله، ولكن البغي والاستكبار منعاهم من الإيمان به واتباعه.

 

وفي "تاج العروس": والمسيح الدجَّال لشؤمه، ولا يجوز إطلاقه عليه إلاَّ مقيدًا، فقال: المسيح الدجال، وعند الإطلاق إنَّما ينصرف لعيسى - عليه السلام - كما حقَّقه بعضُ العلماء، أو هو؛ أي: الدجال مِسِّيح كسِكِّين؛ رواه بعض المحدِّثين.

 

وفي "تاج العروس شرح القاموس": "ومن المجاز المسيح هو الرجل الكثير السياحة، قيل: وبه سُمِّي عيسى - عليه السلام - لأنَّه مسح الأرض بالسياحة، وقال ابن السيد: سمِّي بذلك لجولانه في الأرض، وقال ابن سِيده: لأنَّه كان سائحًا في الأرض، لا يستقر كالمسِّيح كسكِّين - راجع للذي يليه، وهو يصلح أن يكون تسميةً لعيسى عليه السلام، كما يصلح لتسمية الدجَّال؛ لأنَّ كلاًّ منهما يسيح في الأرض دفعة - كما هو معلوم - وإن كان كلام المصنِّف يوهِم أنَّ المشدد يختصُّ بالدجال؛ لأنَّه لم يكن لرجله أخمص، نقل ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنها".

 

قال الزبيدي في "تاج العروس": "وقيل: سمِّي عيسى مسيحًا اسم خصَّه الله به، ولمسح زكريا إياه؛ قاله أبو إسحاق الحربي في غريبه الكبير، وروي عن أبي الهيثم: أنَّه قال: المسيح ابن مريم الصِّديق، وضد الصديق المسيح الدجال؛ أي: الضليل الكذاب، خلق الله المسيحين أحدهما ضدَّ الآخر، فكان المسيح ابن مريم يُبرئ الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى - بإذن الله - وكذلك الدجال يُحيي الميت، ويُميت الحي، وينشئ السحاب، وينبت النبات - بإذن الله - فهما مسيحان.

 

وفي الحديث: ((أمَّا مسيح الضلالة فكذا))، فدلَّ هذا الحديث على أنَّ عيسى مسيح الهدى، وأنَّ الدجال مسيح الضلالة".

 

فإذا أُطلِق اسم المسيح انصرف إلى نبي الله عيسى ابن مريم - عليه السلام - أما الدجال الذي يتبعه اليهود على ضلالته، فهو يُذكر مقيدًا، فيقال: المسيح الدجال، أو مسيح الضلالة.

 

وقال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [النساء: 171].

 

وقال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدً ﴾ [النساء: 155-159].

 

قال الفخر الرازي في "تفسيره" (8/52): "وأما قوله تعالى: ﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ [آل عمران: 45]، ففيه سؤالات: السؤال الأول: المسيح هل هو اسم مشتقٌّ أو موضوع؟ والجواب: فيه قولان: الأول: قال أبو عبيدة والليث: أصلُه بالعبرانية مشيحًا، فعربتْه العرب وغيَّروا لفظه، وعيسى أصلُه يشوع، كما قالوا في موسى أصله موشى أو ميشا بالعبرانية، وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق، والقول الثاني: إنَّه مشتق، وعليه الأكثرون، ثم ذكروا فيه وجوهًا".

 

3 - الملاحظة الثالثة على دعواهم أن المسيح عيسى - عليه السلام - أرسل إلى جميع أهل الأرض. فهذا زعم باطل، فهذه من خصائص الرسول محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم. كما أن من مزاياه أنه خاتم النبيين ومن عَدَاه من الأنبياء كان يبعث إلى قوم مخصوصين.

 

وقد دلَّت النصوص من القرآن والسُّنة على عموم رسالته - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى جميع أهل الأرض، ومن لم يؤمن بنبوته أو جحد عموم رسالته فهو كافر، فهو رسول الله إلى الناس أجمعين، ونسخت بشرعته الشرائع السابقة.

 

وقد ورَد في الحديث الصحيح قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وكان النبيُّ يبعث إلى قومِه خاصَّة، وبُعثِت إلى الناس عامَّة)).

 

وقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].

وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28].

وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [التوبة: 33].

وقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]

وقال تعالى: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾ [ص: 86-88].

وقال تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 79].

﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19].

وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

 

أمَّا المسيح - عليه السلام - فهو مبعوثٌ إلى بني إسرائيل، وناسخٌ بعض ما في شريعة التوراة من أحكام شديدة عاقب الله بها اليهود جزاءَ تعنُّتهم وبغيهم.

 

قال تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 48-50].

وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6].

 

وقال المسيح: كما في الإنجيل:

"ومَا بُعثِت وأرسلت إلاَّ لبني إسرائيل".

وقوله: "ما بعثت إلا لهذا الشعب الخبيث" - يعني اليهود.

 

قال الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ (8/58): "هذه الآية تدلُّ على أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان رسولاً إلى كلِّ بني إسرائيل، بخلاف قول بعض اليهود أنَّه كان مبعوثًا إلى قوم مخصوصين منهم". أهـ.

 

ومَن لم يؤمن بمحمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وزعم أنَّه على شريعة سابقة، وأنَّ ذلك يُغنيه عن الإيمان بنبوَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّه ليس مكلفًا باتباعه، فهو كافِرٌ بإجماع المسلمين.

 

وقد دلَّت على ذلك الآياتُ والأحاديث، وعملُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

 

وروى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أنَّه قال: ((والذي نفسي بِيَده، لا يسمع بي أحدٌ مِن هذه الأمَّة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمنْ بالذي أُرسلتُ به، إلاَّ كان مِن أصحاب النار)).

 

وعن جابر: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أُعْطِيت خمسًا لم يُعطهنَّ أحد قبلي: نُصرتُ بالرعب مسيرةَ شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل مِن أمَّتي أدركتْه الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعطِيت الشفاعة، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُبعث إلى قومِه خاصَّة، وبُعثِت إلى الناس عامَّة))؛ متفق عليه.

 

وقال المناوي في "فيض القدير شرح الجامع الصغير": قال المصنف (السيوطي): والحديث متواتِر.

 

وفي الصحيحَيْن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيَدِه، ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابنُ مريم حَكمًا عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخِنزير، ويضع الجِزية، ويُفيض المال، حتى لا يقبله أحد، وحتى تكونَ السجدة خيرًا له من الدنيا وما فيها)).

 

وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ليهلنَّ عيسى ابن مريم بفجِّ الرَّوْحاء بالحج أو العمرة، أو ليثنيهما جميعًا)).

 

وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الأنبياءُ إِخوة لعلاَّت، أمهاتهم شتَّى، ودينهم واحد، وإنِّي أوْلى الناس بعيسى ابنِ مريم؛ لأنَّه لم يكن نبيٌّ بيني وبينه، وإنَّه نازِل، فإذا رأيتموه فاعْرفوه: رجل مربوع إلى الحُمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأنَّ رأسه يقطر وإن لم يُصبْه بلَل، فيدقُّ الصليب، ويقتل الخِنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويُهلِك الله في زمانه المِللَ كلَّها إلاَّ الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيحَ الدجَّال، ثم تقع الأمانة على الأرض، حتى ترتع الأسودُ مع الإبل، والنمارُ مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصِّبيان بالحيات لا تضرُّهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يُتوفَّى، ويُصلِّي عليه المسلمون)).

 

وقد كَتَب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى ملوك النصارى وأمرائهم وغيرهم، يدعوهم إلى الإسلام، فكتب إلى هرقل، وإلى النجاشي والمقوقس، وإلى ابني الجلندي ملكي عمان، وهذا نصُّ كتابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليهما:

((بسم الله الرحمن الرحيم - من محمَّد بن عبدالله إلى جيفر وعياذ ابني الجلندي، سلامٌ على مَن اتبع الهدى، أما بعد:

فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلِما تَسْلمَا، فإني رسول الله إلى الناس كافَّة؛ لأنذر مَن كان حيًّا، ويحقَّ القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتُكما مكانكما، وإن أبيتما أن تقرَّا بالإسلام، فإنَّ ملككما زائل عنكما، وخيلي تحلُّ بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما))، وختم الكتاب، وبعث به مع عمرو بن العاص.

 

كذلك كتب النبي إلى كسرى ملك فارس، وإلى هوذة بن علي الحنفي صاحِبِ اليمامة، وإلى الحارث بن أبي شمر وغيرهم، يدعوهم إلى الإسلام، وكتب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى كِسرى بن هرمز ملك الفرس:

((بسم الله الرحمن الرحيم: من محمَّد رسول الله إلى كِسرى عظيم فارس، سلام على مَن اتَّبع الهدى، آمن بالله ورسوله، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، فإني أدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله إلى الناس كافَّة؛ لأنذر مَن كان حيًّا ويحقَّ القول على الكافرين، فأسلِم تَسْلَمْ، وإن أبيت فإنَّ إثْم المجوسية عليك)).

 

ولعلَّ من المفيد أن نذكر بحثًا للإمام المحقِّق شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو بحثٌ نفيس في موضوع خطير، أضحى مع غربة الإسلام يجهله الكثيرون، حتى إنَّ بعض المنتسبين للعِلم والمدافعين عن الدِّين قد يخفى عليهم الأمر في هذه المسألة العظيمة، وربَّما ظن البعض أنَّ النصارى واليهود لا يلزمهم اتباع الشريعة الإسلامية، والإيمان بالرسول، متذرعًا بإقرارهم بالجزية وأشباهها، وهذا خطأ واضح، فليس إقرارُهم على الجزية موافقةً لهم على معتقداتهم، أو أنهم على حقّ.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (1/129- 133).

"والمقصود هنا أنَّ الذي يَدين به المسلمون من أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعث رسولاً إلى الثقلَين: الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأنَّ مَن لم يؤمن به فهو كافِر مستحقٌّ لعذاب الله، مستحق للجهاد، وهو ممَّا أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه؛ لأنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو الذي جاء بذلك، وذكَرَه الله في كتابه، وبيَّنه الرسول أيضًا في الحِكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنَّه تعالى أنزل عليه الكتاب والحِكمة، ولم يبتدع المسلمون شيئًا من ذلك مِن تلقاء أنفسهم، كما ابتدعت النصارى كثيرًا من دِينهم - بل أكثر دينهم - وبدَّلوا دين المسيح وغيروه.

 

ولهذا كان كُفْر النصارى لَمَّا بُعِث محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثل كفْر اليهود لَمَّا بُعِث المسيح عليه السلام، فإنَّ اليهود كانوا قد بدَّلوا شرْع التوراة قبل مَجيء المسيح، فكفروا بذلك، ولما بعث المسيح كذَّبوه، فصاروا كفَّارًا بتبديل الكتاب الأول وأحكامه، وتكذيب الكتاب الثاني، وكذلك النصارى كانوا قد بدَّلوا دين المسيح قبل أن يُبعث محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فابتدعوا من التثليث والاتِّحاد وتغيير شرائع الإنجيل أشياءَ لم يبعث بها المسيح عليه السلام، بل تُخالِف ما بعث به، وافترقوا في ذلك فرقًا متعدِّدة، وكَفَّر فيها بعضُهم بعضًا.

 

فلمَّا بُعِث محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كذبوه، فصاروا كفَّارًا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وتكذيب الكتاب الثاني، كما يقول علماء المسلمين: إنَّ دينهم منسوخ، وإن كان قليلٌ من النصارى كانوا عندَ مبعث محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - متمسِّكين بدين المسيح، كما كان الذين لم يبدلوا دِينَ المسيح كله على الحقِّ، فهذا كما أنَّ من كان متبعًا شرْع التوراة عند مبعث المسيح كان متمسكًا بالحقِّ كسائر مَن اتبع موسى، فلمَّا بُعِث المسيح صار كلُّ مَن لم يؤمن به كافرًا.

 

والمقصودُ في هذا المقام بيان ما بُعث به محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - من عموم رسالته، وأنَّه هو نفسه الذي أخبر أنَّ الله - تعالى - أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم، وأنَّه نفسه - صلَّى الله عليه وسلَّم - دعا أهلَ الكتاب، وجاهدهم وأَمَر بجهادهم، فمَن قال بعد هذا من أهل الكتاب - اليهود والنصارى -: إنَّه لم يبعث إلينا بمعنى أنَّه لم يقل: إنَّه مبعوث إلينا كان مكابرًا جاحدًا للضرورة، مفتريًا على الرسول فِرية ظاهرة تعرِفها الخاصَّة والعامة، وكان جحدُه لها كما لو جحد أنَّه جاء بالقرآن، أو شرع الصلوات الخمس وصوم رمضان وحج البيت الحرام.

 

وجَحْد محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما تواتر عنه أعظمُ من جحد أتباع الحواريِّين للمسيح - عليه السلام - وإرساله لهم إلى الأمم ومجيئه بالإنجيل، وجحد مجيء موسى - عليه السلام - بالتوراة، وجحد أنَّه كان يسب، فإنَّ النقل عن محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مدتُه قريبة، والناقلون عنه أضعافُ أضعاف مَن نَقَل دينَ المسيح عنه، أضعاف أضعاف أضعاف مَن بِه نُقِل دِين موسى - عليه السلام.

 

فإنَّ أمَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما زالوا كثيرين، منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وما زال فيهم مَن هو ظاهر بالدِّين، منصورٌ على الأعداء، بخلاف بني إسرائيل، فإنَّهم زال مُلْكهم في أثناء المدة لَمَّا خُرِّب بيت المقدس الخراب الأول، بعد داود عليه السلام، ونقص عدد مَن نَقَل دينهم، حتى قيل: إنَّه لم يبقَ مَن يحفظ التوراة إلاَّ واحد.

 

والمسيح - عليه السلام - لم يَنقل دينَه عنه إلا عددٌ قليل، ولكن النصارى يزعمون أنَّهم رسل الله، معصومون مثل إبراهيم وموسى، وسيأتي الكلام على هذا - إن شاء الله تعالى - إذا وصلنا إليه؛ إذِ المقصود هنا بيانُ مَن زعم أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول: إنَّه لم يُبعث إلاَّ إلى مشركي العَرَب، فإنه في غاية الجهل والضلال، أو غاية المكابرة والمعاندة، فإنَّ هذا أعظم جهلاً وعنادًا ممَّن ينكر أنه كان يأمر بالطهارة والغسل من الجنابة، ويُحرِّم الخمر والخنزير، وأعظم جهلاً وعنادًا ممَّن ينكر ما تواتر مِن أمر المسيح وموسى - عليهما السلام.

 

وقد ظهر بهذا بُطلان قولهم: علمنا أنَّه لم يأتِ إلينا، بل إلى جاهلية العرب.

 

فإذا عُرِف هذا، فاحتجاجُ هؤلاء بالآيات التي ظنوا دلالتها على أنَّ نبوته خاصة بالعرب، تدلُّ على أنهم ليسوا ممَّن يجوز لهم الاستدلالُ بكلام أحد على مقصوده ومراده، وأنهم ممَّن قيل فيهم ﴿ فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78]، فليسوا أهلاً أن يحتجُّوا بالتوراة والإنجيل والزبور على مراد الأنبياء، وسائر الكلام المنقول عن الأنبياء على مراد الأنبياء عليهم السلام، بل ولا يحتجُّون بكلام الأطباء والفلاسفة والنحاة وعلم أهل الحساب والهيئة على مقاصدهم.

 

فإنَّ الناس كلَّهم متفقون على أنَّ لغة العرب من أنصعِ لغات الآدميِّين وأوضحها، ومتفقون على أنَّ القرآن في أعلى درجات البيان والبلاغة والفصاحة، وفي القرآن مِن الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي يذكر فيها أنَّ الله - تعالى - أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم ما لا يُحصى إلاَّ بكلفة، ثم مع ذلك فإنَّ النقول المتواترة عن سيرته - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودعائه لأهل الكتاب، وأمْرِه لهم بالإيمان به، وجهاده لهم إذ كفروا به ما لا يَخفى على مَن له أدنى خِبرة بسيرته - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذا أمرٌ قد امتلأ العالَم به، وسمعه القاصي والداني.

 

فإذا كان الناس - المؤمن به، وغير المؤمن به - يعلمون أنَّه كان يقول: إنَّه رسولُ الله إلى أهل الكتاب وغيرهم، وأنَّ ظهور مقصودِه بذلك ممَّا يعلمه بالاضطرار الخاصَّةُ والعامة، ثم شرعوا يظنُّون أنه كان يقول: إني لم أُبعث إلاَّ إلى العرب، واستمر على ذلك حتى مات، دلَّ على فساد نظرهم وعقلهم، أو على عِنادهم ومكابرتهم.

 

والمقصود هنا: الكلام مع هؤلاء بأنَّ العِلم بعموم دعوته لجميع الخَلْق - أهل الكتاب وغيرهم - وهو متواترٌ معلوم بالاضطرار، كالعلم بنفس مبعثه ودعوة الخَلْق إلى الإيمان به وطاعته، وكالعِلم بهجرته من مكَّة إلى المدينة، ومجيئه بهذا القرآن والصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان وحج البيت العتيق، وإيجاب الصِّدْق والعدل، وتحريم الظلم والفواحش، وغير ذلك ممَّا جاء به محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

هذا ما أردنا إيضاحه، ونأمل أن يكون فيه كفاية، والله الهادي سواء السبيل.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك

تواصل مع الشيخ عبر تويتر
  • السيرة الذاتية
  • مقالات
  • بحوث ودراسات
  • كتب
  • برنامج نور على
  • قالوا عن الشيخ زيد ...
  • عروض الكتب
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة