علة تحريم لحم الخنزير

قرأتُ ما كتبه الأخُ الأستاذ/ عطية محمَّد سالم في صحيفةِ "القصيم" العدد (8) بعنوانِ (الإسلام والطِّب الحديث)، وهو بحثٌ قيم وفكرةٌ جميلة، قد أحببتُ المشاركةَ في البحث؛ وذلك أنَّ العبارةَ التالية التي كتبها الأستاذُ تحتاجُ إلى إيضاحٍ وإتمام، وإليك العبارةُ المشار إليها؛ يقول الأستاذ: "وقد حُرِّمَ لحمُ الخنزير لعللٍ أخرى قد شاهدنا آثارَ بعضِها في كلِّ من استحلَّه وتعاطاه آكلاً؛ أمَّا العللُ الأخرى فمنها أنَّه قد وقعَ العقابُ على قومٍ فمُسِخوا قردةً وخنازيرَ، وعلى هذا كيف تطيبُ نفسُ الإنسانِ تأكل من كان معهُ في حسه؟! أمَّا العلَّةُ الكبرى التي ظهرتْ آثارُها فهي أنَّه قد ثبتَ عند علماءِ الحيوان أنَّ جميعَ أنواعِه مشبَّعٌ بالغيرةِ الحسية، وقوة الرَّابطةِ بين أزواجِه إذا تآلفا، وهذا مشاهدٌ فيما بين أيدينا من الحيواناتِ والطُّيور المستأنسةِ، وما هو معلومٌ عند الكثيرِ عن الحيوانات المتوحشة باختصاصِ كلِّ ذَكَرٍ بأنثاه، وربَّما وقعتْ (مهارشات) بينهم إذا حاولَ بعضُ أفرادِها الاعتداءَ على أثنى غيره، ما عدا هذا الحيوان الخسيس فإنَّه لا يبالي بهذه الغريزةِ ولا يمانعُ أو يدافعُ دون أنثاه، ولهذا قال بعضُ العلماءِ: إنَّ تناولَ لحمِه يؤثِّرُ على هذا الإحساسِ النَّبيل، ويضعفُ ذلك الشُّعورَ السَّامي، فيصبح صاحبُه إزاءَ محارمِه كهذا الحيوانِ إزاء أُنثاه".

ولا غرابةَ في ذلك، فربَّما أثبت علمُ التَّغذيةِ شيئًا من ذلك، ويريدُ الأستاذ الفاضلُ أن يثبتَ هاتَيْن العلَّتَيْن لتحريمِ أكل الخنزير، وهذا عرضٌ رفيع، إلا أنَّ التَّعليلَ الأولَ يحتاجُ إلى إيضاحٍ، فقد يخطرُ ببالِ بعض النَّاس أنَّ القردةَ والخنازيرَ الموجودةَ الآن من نسلِ تلك الحيوانات الممسوخة، وهذا الظَّنُّ كثيرًا ما توهَّمه العامَّةُ، وهو غلطٌ، قال أبو حيان في "البحر المحيط": "وجمهورُ المفسِّرين على أنَّ الذين مسخهم اللهُ لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا، بل ماتوا جميعًا وأنَّهم لم يعيشوا أكثرَ من ثلاثةِ أيام".

وفي صحيحِ مسلمٍ عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمن سأله عن القردةِ والخنازير؛ أهي من نسل اليهود؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله لم يهلك قومًا أو يعذب قومًا فيجعل لهم نسلاً، وإنَّ القردةَ والخنازير كانوا قبل ذلك)).

وروى أبو داود والطيالسي في مسندِه وأحمدُ عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: سألنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردةِ والخنازير أهي من نسل اليهود؟ فقال: ((لا، إنَّ الله لم يلعن قومًا قط فمسخهم فكان لهم نسلٌ، ولكن هذا خلقٌ كان، فلمَّا غضبَ اللهُ على اليهودِ مسخهم فجعلهم مثلهم)).

وقال الضَّحاكُ، عن ابن عباس: "فمسخهم الله قردة بمعصيتِهم، يقول: إذ لا يحيون في الأرضِ إلا ثلاثة أيامٍ، قال: ولم يعشْ مسخٌ قط فوقَ ثلاثةِ أيام، ولم يأكلْ ولم يشرب ولم ينسل، وقد خلقَ اللهُ القردةَ والخنازير وسائرَ الخلقِ في الستَّة الأيامٍ التي ذكرها اللهُ في كتابه، فمسخ اللهُ هؤلاءِ القومِ في صورةِ القردة، وكذلك يفعلُ بمن يشاءُ كما يشاء، ويحوِّله كما يشاء"؛انظر "تفسير ابن كثير".

وقال المناوي في كتابِه "فيض القدير شرح الجامع الصغير" (ج2، ص 254) في شرحِ حديثِ: ((إنَّ اللهَ لم يجعل لمسخٍ نسلاً ولا عقبًا)): "وقد كانتِ القردةُ والخنازير قبل ذلك" يعني فليست هذه القردةُ والخنازير من أعقابِ من مُسِخَ من بني إسرائيل، كما توهَّمهُ بعضُ النَّاس، ثُمَّ استظهرَ على دفعِه بقولِه: "وقد كانت القردةُ والخنازير قبلَ ذلك؛ أي: قبل مسخِ من مُسِخَ من الإسرائيليين، فأنَّى لكم في أنَّ هذه القردةَ والخنازير الموجودة الآن من نسلِ الممسوخ؟ هذا رجمٌ بالغيب، قال السهيلي: وفي الحديثِ ردٌّ على مزعمِ ابنِ قتيبةَ أنَّ (أل) في قولِه - تعالى - ﴿ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ﴾ [المائدة : 60] تدلُّ على أنَّ القردةَ والخنازير من نسلِ أولئك الذين مُسخوا" ثم قال - المناوي - "قال ابنُ العربي - رضي الله عنه -: قولُه الممسوخ لا ينسل دعوى وهذا أمرٌ لا يعلم بالعقلِ، وإنَّما طريقُ معرفتِه الشَّرع، وليس في ذلك أثرٌ يعولُ عليه. انتهى... ثُمَّ رأيتُ الحافظَ الزين العراقي قال: قال ابنُ العربي: قولُهم الممسوخ لا ينسلُ دعوى غلط منهُ مع ثبوتِه في مسلمٍ".

فظهَر أنَّ ما ذهبَ إليه القاضي أبو بكرِ بنِ العربي من أنَّ الممسوخين قد عاشوا، وأنَّ القردةَ والخنازير الموجُودة الآن من نسلِهم - غيرُ صحيحٍ للأدلة الثَّابتةِ في ذلك، وهذه النَّاحيةُ أحببنا التنبيهَ عليها لوقوعِ كثيرين في الخطأ؛ حيثُ يظنُّون أنَّ القردةَ والخنازير الموجودة هي من نسلِ الممسوخين، وفيها إتمامٌ للبحث الذي ذكره الأستاذ عطية.

أمَّا التَّعليلُ الثَّاني الذي ذكره الأستاذ؛ وهو أنَّ الخنزيرَ من بين سائرِ الحيوانات والطُّيور، لا غيرةَ عنده على أنثاه، فهو تعليلٌ جيد، إلا أنَّه يحتاجُ إلى التيقنِ من صحةِ وقوعه، فإنَّ هذا إخبارٌ، وحبَّذا أنْ يتفضَّلَ الأستاذُ فيفيدُنا عمن قال ذلك، أو من الذي شهده؛ ليكونَ الأمرُ يقينًا، وقد ذُكر في حياةِ الحيوان خلافُ ما قال الأستاذ، أو هكذا يتبادرُ منه، فقد ذكر الدميري في حياةِ الحيوان (ج1، ص 303) في الخنزيرِ البري ما يلي: "وهو يشتركُ بين البهيميةِ والسبعية؛ فالذي فيه من السَّبعِ النَّابُ وأكلُ الجيفِ، والذي فيه من البهيميةِ الظلفُ وأكلُ العشبِ والعلف، وهذا النوعُ يوصَفُ بالشَّبق... والذَّكرُ من هذا النَّوعِ يطردُ الذُّكورَ عن الإناثِ وربَّما قتلَ أحدُهما صاحبَه، وربما هلكا جميعًا".

فكيف يطردُ الذُّكورَ عن الإناث وهو لا غيرةَ لديه، وبماذا يعلِّلُ ذلك الأستاذ، كما أنَّ صاحبَ حياةِ الحيوان يذكرُ أيضًا عن الخنزير أنَّه يأكلُ الحيَّات أكلاً ذريعًا، ولا تؤثِّر فيه سمومُها، فمن الممكنِ إذًا أنْ يُضافَ إلى التَّعليلاتِ التي ذكرَها الدكتور سعيد رباح والأستاذ عطية هاتان العلَّتانِ وهما: أنَّه موصوفٌ بالشَّبقِ، وأنَّه يأكلُ الحياتِ، فقد يتأثَّرُ آكلُه بالسُّموم، أو يصاب بالشَّبَق، فما رأي الأستاذ عطية؟ وما رأي الأطباءِ المحترمين؟