نكهة سفر

نكهة سفر

ليس من السهل أن أكتب أسطرًا من صميم الفؤاد على النحو الذي يملأ الأسطر وفقط؛ لأني أبغي ملء القلوب بهجة وسرورًا قبل ملء فراغ الصفحات من أوراقي المبعثرة هنا وهناك.

لم ينفع معي فنجان القهوة في محاكاتي لهذا النوع من الفوضى فوق مكتبي، صحيح هي فوضى أدبية راقية؛ لشغل الوقت والمكان بجهد مضنٍ، ولكني في غير هدوئي المعتاد، ألأن لب قضيتي اليوم هو أن آلامًا لا تلبث تعاود كتفي في سيطرتي على رونق الحرف؟

هكذا صممت له في مخيلتي، وهكذا أطلقت سراحه ليسافر عني حتى يجد مستقره من السطر، بانتظام الشكل، والنصب، والجزم، والضم، وبالمرة سكون له ولي، فلعمري جزمت أن يكون حرفي طليقًا بعيدًا عني حتى أفصح له عن رغبتي في فصام حقيقي لأرتاح ويرتاح كاهلي من ترديد الفواصل؛ علَّني أخطئ، أو علني لا أرضي خاطري من شجار الرغبة، مع موقوف المنع في عدم سفري.

إلى أين السفر؟ لكن!

إلى حيث يبدو لي الهناء مستقرًّا أكثر من هنا، وإلى حيث يبدو لي الإبداع أجمل بكثير من هنا.

هنا حيث أنا يستقر بي المجلس في وسط كتبي وشواهدي من الصور التي رددت معها محطات ماضية من أسفاري؛ حيث كنت أرتحل وأنزل ضيفة على مَن لم يكن بالحسبان في برنامجي.

إنها إرادة الله أن أسافر لأرى وجوهًا جديدة، وأقرأ كتبًا رائعة، وأسمع كلامًا منسقًا، وعادات رائعة.

كنت وقتها أهتمُّ بمشاهد الطبيعة والعمران ومجالس العلم، أكثر من أي شيء آخر لا يستهويني، كنت جادة في أن أسافر بروحانية مني، لأستمتع وأمتع نظري وفكري بما جادت به فرصة التجوال.

أسمع في كل مرة أن السفر متعب، ومنهك لراحة البال، من مشاق المسافة، لكني لم أعترض ولم أصرح أني في تعب، بالعكس في سفري فوائد أنه يوافق دومًا ضيق صدري في لحظة ألحّ في سؤالي لخالقي أن يجعل لي مخرجًا، فيكون المخرج، ويبرمج سفري ليكون عوضًا لمن فارقني، وأزداد بسببه علمًا وفائدة، وإني أرى أن الطامح يزداد مكسبًا أو رزقًا، فكيف لك أن تصف ترحالاً من قاطرة الروتين الكاسر لكل طموح إلى قاطرة التأهب الجديد بمنطلق التجديد والصفح الجميل، ففي ذاك التنقل صفح وعفو، بل نسيان لماضٍ مؤرق لكل من له حكاية مؤلمة، مستغلًّا مسافة الرحيل في التأمل في ملكوت الله، فهي عبادة وتراتيب جديدة للوحات الإبداع.

فكلما أحسست أن زادي من الأفكار والأحرف الطيبة قد بدأ ينفد فإني أضع قلمي جانبًا وأرسم أبعادًا للسفر لأغذي عقلي بنفس جديد، وأنشط رغبتي في الكتابة، حتى أشعر بذاك الرضا عن وزن حرفي بالنسبة لذوقي، وما سيقع على أذواق الآخرين، ليس الأمر سهلاً في كتابة الجمال والإتقان بتصريح كهذا أو ترخيص، وبما أنه قيل: إن:

الأرض مضجعنا وكانت أمَّنا فيها معايشُنا وفيها نُقبَر

فالروعة في السفر أنه لا يمانع قرارًا أصدرته بغية التغيير؛ لأني أريد سكنًا لصمتي؛ حيث سأوظف نظري ليجوب به مناظر وشوارع وروائع، ولو أني لست أنتقي لنفسي سوى رمز بسيط معبّر لي عن اسم ذاك البلد الذي سافرت إليه، لأنتقي منه قلمًا بالموازاة مع اختياري الأول؛ لأمنحه صحبة جديدة إلى حين عودتي إلى وطني.

هي قناعتي أني أنتفض من سكوني وألفتي بمكان حتمًا أنا عائدة إليه؛ لما ينتابني الشوق إلى مكتبي وأوراقي وقلمي بالأخص؛ لأنها مجرد رحلة تجديد ليس إلا، فلا داعي لظنون التعب والمشاق فيما لم يخطر ببالي؛ لأنه ما طرق مخيلتي الآن هو مناظر جديدة وأبعاد موسومة بالأمل والخير والجمال.