الأبخرة الإيمانية (قصة قصيرة)

الشيخ رجب خطيب الأوقاف بمسجد الصحابة، هو كالليل الحالك يَغشى المسجد إذا دخَله، أضاع أعمار كثيرٍ من الشباب الذين نشؤوا في عبادة الله، فقد كان عميلاً لأمن الدولة، ومن ثمَّ يفعل ويقول ما يشاء، ومن يعترضْ يهوِ في لُجَّة السجن التي لا قَرار لها من ليلة اعتراضه؛ ليضيع حاضِره ومستقبله، وأهله ومعارفه.

غُرفته بالمسجد لا يستطيع أيُّ امرئ مهما كان دخولها؛ فهي لكبار الزوَّار من مُخبري أمن الدولة وأصدقاء الشيخ.

فيها مكتبة مَلأَى بالمصاحف والكتب، ومفروشة بالسَّجاد الفخم، وفي كلِّ رُكن من أركان الغرفة "شيشة"، يَسهرون كلَّ ليلة - هو وأصدقاؤه - يقيمون الليل مع الدُّخَان بأنواعه حتى الفجر، ثم يصلي الفجر إمامًا بالناس بصوْته الأَجَش، وقراءته التي تدلُّ على أنه لا يعرف شيئًا عن أحكام التلاوة، حتى كَرِه الناس الصلاة وراءَه، وتمنَّوا يومًا يأتيه الأجل؛ لأنهم يَئِسوا من نقله إلى مكان آخرَ بسبب علاقته بأمن الدولة.

أتى المصلِّين الفرجُ، وأتاه الأجل بقيام الثورة، فكان أوَّل شيءٍ فعَله الناس أن طَرَدوه من المسجد، وقدَّموا الدكتور "محمود" للإمامة.

هو دكتور في الشريعة بجامعة الأزهر، يشعُّ من وجهه نور الإيمان، محبوب للناس بسبب سَعيه في الخيرات، هيئته تدلُّ على حبِّه للسنَّة، إذا قرَأ القرآن تشعر أنَّ قلبَك يَسبح في السماء، بين أجرام النجوم.

لَم يستسلم الشيخ رجب، فأتى ليَخطب الجمعة، ثارَ الناس وسبُّوه:

من أيِّ طينة أنت؟! من أي أديمٍ شُقَّ وجْهُك؟! أبعد كلِّ هذا؟!

منَعه الناس ليَصعد الدكتور محمود يحدِّث الناس عن الدين والشريعة، كلامُه يلامس الرُّوح، ويأسِر القلب، ويَسبح بالعقل في بحار الفكر وبين صفحات الكون.

وكأنه فكَّ أسْرَهم، وأطْلَق أرواحَهم من سجن الشيخ رجب وكلماته التي لا يُدرَى ماذا يقصِد منها، لتجول في رحاب الإسلام وشريعته.

كان الناس يتَّخذون من خُطَب الشيخ رجب نوادرَ يتضاحكون بها، منها أنه لا يرتجل شيئًا، حتى الدعاء حَفِظه من أحد الكتب القديمة، ومرَّة كان يدعو والناس يؤمِّنون وراءه، فإذا به يدعو من ضمن دعائه: اللهم انصُر السلطان قنصوة الغوري، فكاد الناس يعلو صوتهم بالضحك وتضيع جُمْعتهم! كان لا يعقل ما يقول.

شكا الشيخ رجب لأحد أصدقائه من أمن الدولة المنحلِّ ما وصَل إليه حاله.

المخبر: هناك ولد ساعدته ليعمل مذيعًا في إحدى القنوات الفضائيَّة، سأحدِّثه ليَستضيفك في القناة وتَعرض مشكلتك.

يتصل به ويَعرض عليه الأمر.

المذيع: ممتاز، نحن نبحث عن هذه الأمور، سننتظره الليلةَ، وليأتِ بأحد أصدقائه على أنه شاهد لاعتداء المتطرِّفين عليه، ونحن نُكمل الباقي.

يبدأ البرنامج، المذيعة جالسة بكامل زينتها ومكياجها، والشيخ رجب عينه لَم تَنزل عن المذيعة، أول مرَّة يجلس مع امرأة بهذه الزينة.

أُحرجت المذيعة من سهام الشيخ التي ما زَالت تتلقَّاها من أعلاها إلى أَخْمُص قَدَميها.

أتى معه بأحد أصدقاء الغُرفة وسهرات الليل الطويل؛ عشري السمين.

وسيشاركهم في البرنامج الدكتور حمزة العليل، الليبرالي الشهير، له غرفة في مدينة الإنتاج الإعلامي يَبيت فيها؛ فهو يمرُّ على القنوات الليبرالية من غروب الشمس حتى وقت السَّحَر يوميًّا.

بدأت المذيعة بتقديم الشيخ رجب ليعرض المشكلة.

الشيخ رجب: أنا خطيب هذا المسجد منذ عقدين من الزمان، وصَعِدتُ إلى المنبر كعادتي لأدعو إلى الله، فوجَدت مجموعة من المتطرِّفين يمنعونني بالسنج والمطاوي، والسيوف والمُسدَّسات، ويبدو أنه كان هناك من يحمل أسلحة ثقيلة في جَنَبات المسجد؛ حتى يدمِّروا المنبر إذا صَعِدت عليه - يبكي وتتهاوى الدموع على خدَّيه - منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

الدكتور حمزة: أين هيبة الدولة التي ترَكَت مساجدها للمتطرفين؛ ليغيِّروا الإسلام الوَسَطي السَّمح الذي ينشره الشيخ رجب وأمثاله؟!

الشيخ رجب: وبعدما مَنَعوني بالقوة والتهديد بالقتل، صَعِد رجلٌ اسمه الدكتور محمود؟

د. حمزة: انظروا يا سادة؛ يمنعون بالقوة الشيخ المختص بالشريعة؛ ليَصعد طبيب لا يفهم شيئًا في الشريعة، ويَبثُّ الأفكار المتطرِّفة في عقول الشعب الجاهل!

عشري: هو ليس عنده عيادة.

د. حمزة: وفاشل في مهنته أيضًا؛ حتى لَم يستطع أن يُنشئ عيادة!

المذيعة: وحتى لا نُتَّهم بالتحيُّز إلى أحد الأطراف؛ أتينا بأحد الشهود، الحاج عشري السمين؛ ليحكي شهادته بكل أمانة.

عشري: أنا كنت ملازمًا للشيخ رجب منذ سنوات، وكنا نقضي الليل في غرفته بالمسجد حتى الفجر.

المذيعة: ما شاء الله!

عشري: بصراحة أنا كنت أذهب إليهم منتصفَ الليل.

المذيعة: وما هو شعورك وأنت داخل إلى الغرفة؟ أو ماذا كنت ترى من الأجواء الإيمانية وأنت داخل إلى الغرفة؟

عشري: كنت أرى الأدخنة تَنبعِث من الغرفة.

المذيعة - باستغراب -: نعم!

د. حمزة: الله، الله! إنهم يُذَكِّرونني بالحب الصوفي المتجرِّد، والذي يجعل المرءَ يرى ما لا يراه الآخرون، فيرون بنور الله، وأُفضِّل أن نسمِّيها الأبخرة الإيمانيَّة، وهي تَنبعث من هذه القلوب التي تظلُّ طوال الليل تذكر الله في حلقة ذِكر صوفيَّة، وتجعل الخيال كالحقيقة في فانتازيا صوفيَّة رائعة!

المذيعة: ما شاء الله، وماذا كنتَ تشعر بعد انتهاء الليل؟

عشري: كنت أشعر أنني كالمسطول.

د. حمزة: الله، الله! هذه هي حقيقة الحب الإلهي في القلب الصوفي المتجرِّد، الذي لا يَفهمه أولئك المتطرفون، الذين يهتمون بالظاهر والملابس فقط، ولا تعنيهم القلوب؛ ولذلك كان في التراث الشعبي كلما زاد المرء من "السطل"، زاد في المحبَّة حتى يَصِل إلى مرحلة يظنُّ الناس أنه مجنون، ولكنه هائمٌ في حبِّ الله، وكانوا يسمونهم "المجاذيب"، الذين كان الناس يتبرَّكون بهم، ويَبنون لهم الأضرحة.

المذيعة: الأضرحة التي يَهدمها السلفيون.

د. حمزة: نعم، ويقطعون الأُذن، يهدمون الأضرحة؛ فهم لا يعرفون قيمتها، والروحانيَّات التي تبعثها في نفوس الناس؛ بل إنَّ هذه الأضرحة بركة لمصر وأهلها، وأنا أدعو الشيخ رجب أن يستمرَّ في دفاعه عن هيبة الدولة وعن الأضرحة.

الشيخ رجب: أنا سأوصي ببناء ضريح لي في غرفتي بالمسجد.

د. حمزة: وأنا أطالب الحكومة بسنِّ قانون لتنفيذ وصايا الأئمة الذين يريدون بناء أضرحة؛ لمواجهة الأفكار المتطرِّفة.

لا بد أن يعود الشيخ رجب، وأن تَفرض الدولة هيبتها، لا بد أن تظلَّ الأبخرة الإيمانية تنبعث من غرفته!