غاية العلا في شرح تحفة الملا في مواضع «كلا»

الحمد لله المتوحد بالقدرة، المتفرد بالكبرياء والعظمة، الذي استوجب الحمد على خلقه، وجعله فرضاً لتأدية حقه، أحمده شاكراً لما سلف من آلائه، وملتمساً المزيد من نعمائه، وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه، وسيد أوليائه، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد...

فقد أمر الله - عز وجل - المؤمنين، بتدبر كتابه، واستخراج أسراره وكنوزه، فقال جل شأنه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص: 29)، وقال سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24).

ومن ثم كان البحث في القرآن وعلومه، واستخراج دُرَره  وكنوزه، والبحث عن أسرار تنزيله، والكشف عن حقائق تأويله، أجلّ ما فنيت فيه الأعمار، وكلَّت فيه سواعد الأبرار، وأولى ما أُعملت فيه القرائح، وعَلِقَت به الأفكار اللواقح.

فأفنى العلماء أعمارهم في ذلك، ولم يتركوا لفظة هنا أو هنالك، من غير شرح أو تعليق، أو بحث أو تحقيق.

فاستخرجوا من القرآن علوماً تفنى دونها الأعمار، ولا يكاد يحصيها ويبلغ منتهاها إلا العلماء الأطهار، الذين وهبوا أنفسهم وأوقفوها؛ خدمة لهذا الكتاب العظيم.

وكل هذا غيض من فيض، والعلم مقسوم بين عباد الله يفتح للمتأخر منه ما أغلقه على المتقدم.

ومن هذه العلوم العظيمة، علم الوقف والابتداء، وهو علم جليل القدر عظيم الشأن، به يفهم كلام الله - عز وجل - على الوجه الصحيح.

وقد اهتم به العلماء غاية الاهتمام فألَّفوا فيه ­ نظماً ونثراً­ مؤلفات كثيرة تُنبئ عن عظمة هذا الكتاب الكريم.

فمنهم من جمع شتاتَ مسائِله في كتاب مختصر أو مطول، ومنهم من فرق بعض مسائله وأفردها بتأليف، ومنهم من ألقى بعض المعالم والأضواء عليه، في مفردات أو في ثنايا كتب القراءات والتجويد والأداء.

ومن جملة مباحث هذا العلم مبحث يتعلق بالوقف على «كلا» و«بلى» و«نعم» وبعض الكلمات الأخرى.

وقد حظي حرف «كلا» باهتمام بالغ نظراً لتعدد معانيه، وكثرة وروده في القرآن خاصة، وفي كلام البلغاء والفصحاء عامة.

فتكلم فيه علماء الوقف والابتداء في كتبهم، وعلماء التفسير، وعلوم القرآن في كتبهم، وعلماء اللغة في كتبهم.

وأفرد له بعض الأئمة مؤلفاً خاصاً كابن فارس في رسالته «مقالة كلا وما جاء منها فى كتاب الله» وابن رُسْتُم الطبري في رسالته «رسالة كلا في الكلام والقرآن»، ومكي بن أبي طالب في رسالته: «الوقف على «كلا» و«بلى» في القرآن، ونظم فيه العلماء منظومات مختصرة جداً لا تروي ظمأ طالب العلم.

غير أن هذه الأرجوزة التي معنا، جاءت شافية كافية وافية، فقد فصل فيها ناظمها رحمه الله مواضع «كلا» وحكم الوقف على كل موضع، والبدء به تفصيلاً لم يُسبق إلى مثله ولم يُنسج على منواله.

وهي منظومة «تحفة الملا في مواضع كلا».

فجاءت تحفةً وهديةً للملا أي الملأ وهم عِلْيةُ القوم وأشرافُهم.

لمؤلفها الإمام محمد بن علي النحوي المعروف بابن المحلِّي ­ وستأتي ترجمته ­ فشرحتها والحمد لله شرحاً لعله يكون وافياً، وفصلت القول في مواضع «كلا» تفصيلاً سهلاً ميسراً مبسطاً، سالكاً المنهج الوسط بين المفسرين واللغويين وأهل الأداء، نائياً عن هوى المحاكاة والتقليد.

ولا أدعى أننى أتيت بجديد، بل أنا مجرد ناقل لكلام الأئمة مرجح لما يرجحه الدليل ­ وهو السياق والسباق واللحاق ­ بعقلٍ وفقهٍ ­ وما من ترجيح رجحته إلا ولي فيه سلف من علمائنا، وإن كنت زدت بعض الفوائد فهذا فضل من الله تفضل به على العبد المذنب، وسبحان من يستر ويعطى ويتفضل.

ثم رأيت من تمام الفائدة أن أذيِّل بعد شرح المنظومة بحكم الوقف على «بلى» و«نعم» و«ذلك» و«كذلك» و«هذا» بنفس المنهج المسلوك في «كلا».