فرنسا مورد الحملات الصليبية ومَعينها (أ)

فرنسا

مَوْرِد الحَمَلات الصليبية ومَعِيْنُها (أ)

الجُذُور التَّارِيْخِيَّة لمَوْقِف الحُكُوْمَة الفَرَنْسِيَّة من الأُمَّة الإسْلامِيَّة (9)

يُدْرك الناظر في تاريخ الحروب الصليبية أن إرنست باركر لم يُبالغ حين وصف فرنسا بأنها الموطن الطبيعي للحروب الصليبية[1]، ويتضح ذلك بجلاء بالنظر فيما نُقِل سابقًا من الدور الفرنسي في الحَمْلة الصليبية الأولى، وفيما سيأتي نَقْلُه في هذه الحلقة وما يَتْلوها من سلسلة الجذور التاريخية بإذن الله تعالى.

الدَّوْرُ الفَرَنْسِي في الحَمْلة الصَّلِيْبِيَّة الثانية:

كان للرَّاهب الفرنسي سان برنار دَوْرٌ فَعَّالٌ في تَأجيج الحَمْلة الصَّلِيْبِيَّة الثانية على الشام، والتي عَقَد بابا روما يوجين الثالث من أجلها مَجْمَعًا كَنَسِيًّا في مدينة فيزولاي بمقاطعة آفالون الفرنسية، أَرْسَل له مَبْعُوْثَه الخاص برنردوس؛ حيث تَحَمَّس المَلِك الفَرَنْسِيُّ لويس السَّابع للحَمْلة، وطَرَح نَفْسَه على قَدَمَي المَبْعُوث البابَوِي، راجِيًا منه تَشْرِيْفَه بتَسَلُّم صَلِيْب الحَرْب منه، وتَبِعَه على ذلك زوجتُه، وكبارُ الأمراء، والقَساوسة الفَرَنْسِيِّين.

وقد شارك كونراد الثالث ملك ألمانيا في الحَمْلة بجيش ضخم، لكن أُبِيْد تسعة أَعْشاره بفضل الله تعالى على يَد السَّلاجقة الأتراك المسلمين في المناطق الجَبَلِيَّة الوَعِرة القريبة من العاصمة السُّلْجُوْقِيَّة قونية، فصار عِبْء الحَمْلة مُلْقىً على عاتِق الملك الفرنسي وحده، والذي عاد ولله الحمد يَجُرُّ أَذْيال خَيْبَته بعد فَشَله في اقْتحام مدينة دمشق، وفَقْده لعدد كبير من الرجال والعَتاد أثناء الانسحاب[2].

الدَّوْرُ الفَرَنْسِي في معركة حِطِّيْن:

كان كِبار القادة الصَّلِيْبِيِّين في معركة حِطِّيْن التاريخية من الفَرَنْسِيِّين؛ حيث كان مَلِك مَمْلكة بيت المَقْدس غي دي لوزينيان فَرَنْسِيًّا، وكذلك كان رينالد دي شاتيون صاحب حِصْن الكَرَك المعروف في المصادر الإسلامية بأرناط فرنسيًا، وغير خاف ما قام به أرناط المذكور من جرائم قذرة سَجَّلها التاريخ، كنَهْبه لقافلة الحَجِيْج المسلمين غَدْرًا، وتَعَرُّضه لمَقام النبي عليه الصلاة والسلام، وسَعْيِه للإغارة على مَكَّة المكرمة والمدينة الشريفة، وإرْساله للسُّفُن الصَّلِيْبِيَّة التي أَغارَت على العديد من المَوانئ الإسلامية في البحر الأحمر، واستولت على العديد من بَضائعها التجارية، وأُحْرِقَت بعضُ السُّفُن الإسلامية التُّجارِيَّة، وأُغْرِق بعضها، وصار خَطَرُها يُهَدِّد البِقاع الطَّاهِرة بالجزيرة العربية، وغير ذلك من جَرائم جَعَلت صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى يَنْذِر أن يقتله بنفسه، وهو ما حدث بالفعل عقب معركة حِطِّيْن بالفعل[3].

وأما لوزينيان؛ فقد أَطْلَق صلاحُ الدين سَراحَه بعد أن قَضى مُدَّة في الأَسْر، شَرِيْطة أن يعود إلى بلاده، ولكنه نَكَث عَهْدَه، وجَمَع قُوات صَلِيْبِيَّة، وهاجم بها مدينة عَكَّا، وحاصَرها، إلى أن وَصَلَت الحَمْلة الصَّلِيْبِيَّة الثالثة، والتي نَجَحت في الاستيلاء على عَكَّا، وتَمَّ تَنْصِيْبُه مَلِكًا عليها كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى.

الدَّوْرُ الصَّلِيْبِي الخَطِيْر لأُسْرة لوزينيان الفَرَنْسِيَّة الحاكمة لجزيرة قُبْرُص:

انتقل لوزينيان إلى جزيرة قُبْرُص فيما بعد، وأَنْشَأ بها أُسْرَة حاكمة، ظَلَّت بها فترة من الزَّمَن، وحَكَم فَرْعُ منها مَمْلَكة أَرْمِيْنِيَة الصُّغرى بعض الوقت، وكانت جزيرة قُبْرُص بمَثابة مَحَطَّة استراحة وتَجَمُّع لقوات الحَمَلات الصَّلِيْبِيَّة القادمة إلى الشام، ومصر، ومَرْكَز تَموين، وإمْداد لها، ومُنْطَلَقًا للعديد من الإغارات الصَّلِيْبِيَّة على سَواحِل المسلمين وسُفُنهم.

ومن ذلك: إغارة ولتر الفَرَنْجِي وَصِي عَرْش مَمْلَكة قُبْرُص على ثَغْر دِمْياط المصري سنة 608هـ، ونَهْبُه لذَخائِر بعض قُراها، وسَبْيُه لأهلها، ثم فِراره، على غِرار ذلك النوع من الهجمات الخاطِفة التي كانت تَصْدُر عن جزيرة قُبْرُص على مَدار قُرُون، مما جَعَل الاستيلاء عليها مَطْمَحًا للعديد من سَلاطِيْن المَمالِيْك، وكان أولهم في ذلك الظَّاهِر بيبرس البُنْدُقْداري، والذي حاول غَزْوَها وفَتْحَها؛ حيث كان مَلِكها في عصره هيو الثالث من أشد أعداء الإسلام، مَشْحونًا بالأَطْماع الصَّلِيْبِيَّة، ولكن عاصفة بَحْرِيَّة حَطَّمَت أُسْطول بيبرس عند شواطئ الجزيرة.

كما قام المَلِكُ القُبْرُصِي بُطْرُس الأول لوزينيان بحَمْلة صَلِيْبِيَّة كبيرة على مدينة الإسكندرية سنة 747هـ، تُعَدُّ من كُبْرى الحَمَلات الصَّلِيْبِيَّة المُتَأخرة التي تَعَرَّض لها العالم الإسلامي؛ حيث رَحَل من أجل الإعْداد لها إلى مَقَرِّ البابَوِيَّة في رُوْما طَلَبًا لمُبارَكتها، كما زار العديد من الممالك الأوروبية التي كانت مُنْشَغِلة عن إعانته في تلك الفترة إلا باليسير، وكان غَرَضُه المُعْلَن من الحَمْلة هو استرجاع بيت المَقْدس، ولكن الدَّلائل تُشِير إلى سَعْي بُطرس لغَرَض آخر منها؛ ألا وهو تَحْطِيم ميناء الإسكندرية، وتَعْطِيل تجارته؛ ليُلْحِق بالاقتصاد المملوكي ضَرَرًا كبيرًا؛ بُغْيَة أن يَعود ذلك بالانْتِعاش التُّجاري على مَوانئ جزيرة قُبْرُص التي يَمْلِكُها ـ وعلى رَأْسها ميناء فاماجوستا ـ ولكن حَمْلَته فَشِلَت فَشَلًا شَنِيْعًا، ولم تُحَقِّق أي ثَمَرة كان يرجوها، ولله الحمد.

وقد يَسَّر اللهُ عَزَّ وجَلَّ فتح جزيرة قُبْرُص في عَهْد السُّلْطان المَمْلُوكِي الجَرْكَسِي الأَشْرَف برسباي، وأَدْخَل حُكَّامها في طاعة سَلْطَنة المماليك، وكانت فِرْقة فُرْسانُ يوحنا الصَّلِيْبِيَّة تتخذها مُنْطَلَقًا لإيذاء المسلمين، فانتقلوا بعد فَتْحها إلى جزيرة رُوْدِس، وظَلَّت جزيرةُ قُبْرُص تابِعَةً للسَّلْطَنة المَمْلُوْكِيَّة، تَدْفَع لها الجِزْيَة، حتى دُخُول العُثْمانِيِّين لمصر والشام، وانْتِهاء دولة المَمالِيْك، فصارت تَدْفَع الجِزْيَة للعُثْمانِيِّين، ثم ضَمَّها العُثْمانِيون إلى أَمْلاكهم بصورة نهائية بعد ذلك، وصارت وِلايَة عُثْمانِيَّة[4].

الدَّوْرُ الفَرَنْسِيُّ في الحَمْلة الصليبية الثالثة:

كان المَلِكُ الفَرَنْسِيُّ فيليب أغسطس أَحَدَ أَرْكان الحَمْلة الصَّلِيْبِيَّة الثالثة على بلاد الشام، والتي جاءت لاستعادة بيت المَقْدس بعد سُقُوطه في أَيْدي المسلمين.

ومن الجَدِيْر بالذِّكْر: أن مَلِك إنجلترا ريتشارد الأول ـ المُلَقَّب بقَلْب الأَسَد ـ المُشارِكُ في الحَمْلة الثالثة، والقائد العام لها عقب رُجوع فيليب لفرنسا كان قد نَشَأ في جنوب فرنسا، وتَشَرَّب بالثَّقافة الفَرَنْسِيَّة الجنوبية، وكان له مُمْتَلَكات في شمال فرنسا، وكانت أُمُّه زَوْجَةً للويس مَلِك فرنسا السَّابِق الذِّكْر قبل أن تَتَزَوَّج من أبيه هنري الثاني، والذي كان قد وُلِدَ في فرنسا، وكان هنري يحكم نحو نِصْف مساحة فرنسا قبل أن تُمَزِّقها الحُرُوب الأَهْلِيَّة، والأَطْماع الإقْطاعِيَّة، وهو الذي شَرَع في الإعْداد للحَمْلة، وفَرْض ضَرِيْبة على مَنْ لم يَرْغب في السَّفر مع الحَمْلة من شَعْبه، أو تَعَذَّر عليه الذِّهاب، أَسْماها بضَرِيْبة صَلاح الدِّين؛ إجْبارًا لهم على المُشارَكة في الإعْداد المالِي للحَمْلة، وقام بجَمْعها بصَرامة شديدة، وأَصْدَر رؤساءُ الكَنائِس قرارًا بالحِرْمان على كل مَنْ لم يُشارِك في دَفْعها ممن لم يذهب للحَمْلة من الشَّعْب.

ثم تُوُفَّيَ هنري قبل الخُروج للحَمْلة[5]، فأَتَمَّ وَلَدُه ريتشارد اسْتِعدادت الخُرُوج للحَمْلة، وأَكْمَل جَمْع الأَمْوال اللازمة لها بكل وَسِيْلة مُمْكنة[6].

وقام فيليب أوغسطس مَلِكُ فرنسا بإجراءات فَرْض الضَّرِيْبة ذاتها على الشَّعْب الفَرَنْسِي، بل أَجْبَر يهودَ فرنسا على دَفْع مبلغ خمسة آلاف زِنَة من الفِضَّة، والواحدة منها تُساوي مائة دِرْهم، أي ما يُقارِبُ النِّصف مليون دِرْهم[7].