• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    سلمان الفارسي
    الشيخ صلاح نجيب الدق
  •  
    شرح السنة للإمام المزني تحقيق جمال عزون
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    شرح التصريف العزي للشريف الجرجاني تحقيق محمد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    نكبات أصابت الأمة الإسلامية وبشائر العودة: عين ...
    علاء الدين صلاح الدين عبدالقادر الديب
  •  
    في ساحة المعركة
    د. محمد منير الجنباز
  •  
    لوط عليه السلام
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    الصحيفة الجامعة فيما وقع من الزلازل (WORD)
    بكر البعداني
  •  
    شرح البيقونية للشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المؤثرون المسلمون والمنابر الإلكترونية معترك
    عبدالمنعم أديب
  •  
    مناهج التصنيف في علم الدعوة في العصر الحاضر ...
    رانيه محمد علي الكينعي
  •  
    الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي سيوطي العصر
    د. ماجد محمد الوبيران
  •  
    سفرة الزاد لسفرة الجهاد لشهاب الدين الألوسي
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    غزوة بدر
    د. محمد منير الجنباز
  •  
    محيي الدين القضماني المربِّي الصالح، والعابد ...
    أ. أيمن بن أحمد ذو الغنى
  •  
    إبراهيم عليه السلام (5)
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    سفراء النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد بن عبد ...
    محمود ثروت أبو الفضل
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

أعظم سجين في التاريخ

أعظم سجين في التاريخ
عامر الخميسي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 31/1/2022 ميلادي - 27/6/1443 هجري

الزيارات: 3529

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات

النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أعظم سجين في التاريخ


منذ سُنيَّات قليلة مضت كنت في رحلة بين السماء والأرض، وهبطنا بعد منتصف الليل في مطار أديس أبابا، وهو مطار يكتظ بآلاف البشر، الليل والنهار فيه سواء، وفي صالة الانتظار - حيث الزحام الأشد - يوجد بهوٌ في الزاوية؛ حيث الأضواء الخافتة لمن يريد أن يغفو أو يرتاح بعيدًا عن النور والصخب والزحام، ومن عادتي في الأسفار أن أبحث عن الأماكن الأكثر هدوءًا؛ حتى أجمع عليَّ فكري، فما إن اقتربت حتى سمعت صوت كهلٍ ينبعث طريًّا شجيًّا بقوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، ويرددها بصوت خافت خاشع، فتبين لي أنه يصلي، وأنه ماضٍ في وِرده، يقطع ظلمة الليل البهيم بتلك التلاوة الندية، التي تسلب القلوب، وتأخذ بالأرواح.

 

جعلت أفكر كيف أحبَّ هذا الكهل أن يخلو بربه، ويترك الناس ومعاملاتهم وهيشاتهم وضوضاءهم وزحمتهم، ويُهرع إلى تلك الصلاة الخاشعة، مستغلًّا تلك الدقائق أو الساعات قبل إقلاع طائرته.

 

وكيف أن هناك مَن هو متعلق بالله لا ينصرف عنه ألبتة، حتى في الأسفار التي تُقصر فيها الصلاة؛ لِما يجده المسافر من العناء والمشقة، والإجهاد والتعب واللأواء.

 

وبقيتِ الآية في ذهني، كلما مررت عليها، أذكر صوته وهو يرن في أذني.

 

لقد توارد عليَّ هذا المشهد وأنا أكتب عن دعاء يوسف، وبعث هذا الحدث من مرقده، وأنا أذكر هذه الخواطر عن الأنبياء ودعائهم.

 

إنه يوسف النبي ابن النبي ابن النبي ابن النبي، الطاهر المطهر العفيف، النقي التقي الصادق، يُقاد إلى السجن في تهمة أخلاقية، هو بريء منها كبراءة الذئب من دمه، يُسجَن وما كان مجرمًا أو مفسدًا، بل كان أكرم وأطهر وأشرف عباد الله على الأرض يومئذٍ، لكن لولا قوله: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ ﴾ [يوسف: 33] ما تُوِّج بتاج ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ﴾ [يوسف: 101].

 

تعالَ لتتأمله وهو يقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].

 

تعالَ لتشاهده يجأر إلى الله بهذا النداء؛ لترى أن الصالحين يفضلون نعيم الأنس بربهم في السجون على لذائذ المتعة في القصور، فسجنٌ فيه القرب من الله أعظم من قصر فيه البعد عنه.

 

إن المؤمن أمام الشهوات كجبل أشم، وطود عالٍ لا تحركه الرياح العاتية، فهو صامد قويٌّ بإيمانه، تتلاشى أمامه الرغبات الجارفة واللذائذ الزائلة.

 

﴿ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾؛ لأنني فيه سأكون مع ربي، محافظًا على عفتي حتى لا تُمسَّ بسوء، والمؤمن قد يفاضل بين السيئ والأسوأ عندما تُغلَق في وجهه الأبواب، وتنعدم المخارج، وتضيق السبل، وتوصد الطرقات.

 

﴿ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾، لغة الحب لا تخفى حتى في السجون، إنه أحب من الراحة والدعة في القصور، ولأنه محب لله، فإن الله لن يخذله، وسيجعل مع وحشة السجن بردًا وسلامًا وأنسًا ورضًا، وإن خيرت يومًا بين لذة العيش والبعد عن الله في هُوَّةِ المفاتن، وبين السجن وظلمته وقيوده، فليكنِ السجن أحب، وما أقبل على الله عبدٌ إلا فتح عليه من الفتوح ما لا يحتسب، وأكرمه بعِوضٍ فوق ما يتخيل، وإذا ما كانت المساومة على فعل المعصية أو غياهب السجون، فلتكن غياهب السجون؛ فثَمَّ هناك الخير والغوث، والفلاح والعوض، ومن ترك شيئًا لله، عوضه الله خيرًا منه.

 

وما بين بلاء الدين (الفاحشة) وبلاء الدنيا (السجن)، كن قويًّا بالتضحية بدنياك من أجل دينك، ومن ضحى بدنياه من أجل دينه، سلم دينه، وأتتْهُ الدنيا وهي راغمة، ومن ضحى بدينه من أجل دنياه خسرهما، وكما يضحي الصالحون بدنياهم من أجل دينهم، فإنهم لَيضحون أيضًا بحريتهم من أجله.

 

تعالَ لتنظر إليه وهو يدعو ربه بخيار السجن، يدعو لأن الدعاء خير صارف للبلاء، يدعو لأن الدعاء حماية من مكر الأعداء، وعصمة من شر أصحاب الزيغ والفتن، والشرور والأهواء.

 

يا ألله! حين تخشى على قلبك من أن ينسلَّ إيمانه أمام المغريات، فتلجأ إلى الله داعيًا أن يلهمك رباطة الجأش، وأن يثبته، فبدون حفظ الله أنت ورقة في مهب الريح، لا تملك لنفسك حولًا ولا قوة، فيوسف مع أنه نبي، وأبوه نبي، وجدُّه نبي، وهو من سلالة الأنبياء، فإنه يدعو الله بإشفاق ووَجَلٍ أن يصرف عنه الفتنة، فما أجمل قلبه وقد خبت في محراب الافتقار، داعيًا راهبًا راغبًا متبرأً من الحول والقوة، يخشى أن يقع في الهوى بعد الهدى، والجهل بعد العلم، وتأمل أدبه أيضًا في دعائه وعفة لسانه بعد أن عف بدنه؛ إذ لم يقل: "أحب إليَّ من الزنا"، وإنما قال: ﴿ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، عفَّ فَرْجُه، وعف لسانه، وهذا مختصر الطريق إلى الجنة، ((من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة))، وهذه العفة لا تحصل إلا بكمال الافتقار إلى الله.

 

ثم إن يوسف عندما اختار السجن كان متيقنًا أنه لن تغلق دونه الأبواب بل ستفتح، ولن تظلم في وجهه المسالك بل ستشرق، ولن تتصحر الدروب بل ستخضر، ولن تضيق بل ستتوسع، وهذا هو اليقين اليوسفي الذي نحن بحاجة ماسة لتعلمه.

 

وفي دعاء يوسف واختياره السجن ملمح مؤثر بليغ، يُشعِرك بمدى هروب المؤمن من المعصية، وتخلصه منها بأي حيلة، حتى ولو كان خلاصه منها إلى طريق السجن؛ لأنه يؤثِرُ عقوبة العاجل على الآجل؛ إذ تتراءى أمامه مشاهد القيامة، فيتصور العرض والمساءلة والحساب، ومشاهد القيامة والنار؛ فيعتبر كل أذًى في الدنيا وفضيحة وتهمة هينة بجانب بدو الفضائح، وظهور المُخبَّآت غدًا في مشهد القيامة.

 

والصالحون لا يفتُرون عن دعاء الله تعالى في كل وقت وحين؛ فها هو يوسف عليه السلام في وقت المحنة يقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾ [يوسف: 33]، وفي وقت النعمة يقول: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ﴾ [يوسف: 101]، انظر جمال الدعاء وأثره على حياته، فهو مع الله في كل حال، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن، وقد أفلح - والله - من كان الدعاء دِثاره وشعاره.

 

وفي الأرض صالحون يدفعون ثمن بُعْدهم عن الحرام، كما يدفع العصاة ثمن اقترافهم له سواء بسواء، إنه الاستعلاء بالمبدأ والعقيدة.

 

وفي قول يوسف‏:‏ ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].‏

 

ثلاث عِبر:‏

إحداها‏:‏ اختيار السجن والبلايا على الشهوات والخطايا، وإيثار الاضطهاد والقضبان، على التوغل في الإثم والعصيان.

 

والثانية‏:‏ الإلحاح على الله أن يثبت هذا القلب، فلا يزول ولا يحول؛ فإن القلب إذا لم يُوفَّق للثبات، صبا إلى الشهوات، وأصبح من عداد الجاهلين، وهذا مهم جدًّا أن يكثر العبد من اللجأ إلى ربه.

 

الثالثة: إن الإنسان - مهما بلغ تدينه والتزامه - مهدد في لحظة من اللحظات بتقلب قلبه، وانزلاق رجله؛ ألم يقل الله: ﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾ [النحل: 94]؟ فلا يغتر إنسان ألبتة بما يحمل من إيمان وتقوى وصلاح.

 

لقد حقق يوسف عليه السلام التقوى بفعل المأمور والصبر على المقدور؛‏ حيث اتقى الله بالعفة عن الحرام، وصبر على إلجام شهوته، ووقف طَودًا شامخًا أثناء مراودته، ودخل السجن شامخًا غير هيَّاب مكرهم، وصبر على أذاهم له بالمراودة، وصبر على حبسهم له، واستعان بالله ودعاه، في صرف كيدهن عنه، ومن صبر واتقى، هل يضره كيد أحد؟

 

لقد قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 120]‏، ومن صبر واتقى، فهو من أصحاب العزائم الذين طاولوا السماء بهِمَمِهم، وحاموا حول العرش بقلوبهم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186]‏،‏ والصبر والتقى أمران بهما يُستجلَب المدد، مدد القوة الذي لا يقف أمامه الأعداء، وتتلاشى أمامه قوتهم وجبروتهم وكيدهم، ومن استجلب هذا المدد بهذين السببين، فلن يُخذَل وستكون العاقبة له؛ ألم يقل الله مبينًا استجلاب المدد بهذين السببين:‏ ﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 125]؟

 

وفعلًا كانت العاقبة له، ألم يحصحَصِ الحق وتُعلن براءته؟ وليس هذا فقط، فقد جُوزيَ أحسن الجزاء، وانهمر عليه غيث العطاء، ألم يدخل السجن هاربًا من الوقوع في فخ المعصية، ويخرج منه مباشرة لتسلم خزائن مصر، مستشارًا خاصًّا للملك؟

 

تلك - والله - هي العاقبة الجميلة التي لا يمكن أن تخطر على بال، هطل عليه مدد ربه تعالى، ثم ما زالت العطايا تحفُّه حتى أصبح عزيزًا لمصر.

 

إنك عندما تتأمل في حياة الأنبياء وسيرهم من خلال نظرك في القرآن، تجد أنهم ابتُلوا بجميع أنواع البلاء من الاضطهاد والعذاب والتنكيل، والحصار والمطاردة، والسجن والفراق، ولقد ابتُلي يوسف بالسجن، فاتخذَهُ مدرسةً للتعليم والدعوة، ومكانًا للخلوة والعبادة، وفي النهاية وبعد سنين خلف القضبان رفض أن يخرج من السجن حتى يظهر الحق، وتسقط الدعاوى الباطلة، وكان يكثر من الدعاء بأن يصرف الله عنه كيد الكائدين: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 33 - 35].

 

لقد أزهرت أشجار يوسف في السنين العجاف، ومضى في المحيط مبحرًا وحيدًا حتى وصل في أمان وسلام إلى الضفاف؛ فرفع الله ذكره ومكانته.

 

كان حاله:

يا جابـر الكسر، اجبر كسري وارفع ضري، يـا رب، بيـن يديك خزائن الغيوب؛ فهَبني كـل مطـلوب، القصر على أنواره مظلم، فافتح لي نافذة نور من أنوارك، وضيقٌ على سعته، فوسع عليَّ من سعتك، وموحش على أنسه، فآنسني بالقرب منك، والبعد من كل شيء يبعدني عنك.

 

في قصة يوسف تغير مفهوم السجن، لم يعد للمجرمين، بل للكرماء النبلاء، الأطهار الشرفاء، مهما كان ذلك الشرف، سواء شرف الموقف أو الكلمة.

 

قد يتسبب السجن في ضعف الجسد، لكن التخلي عن المبدأ يضعف الروح، فلا تكن متخليًا عن مبدئك عند محنة الرغبة أو الرهبة.

 

يُسجن يوسف سبع سنوات كاملة بسبب مكيدة، لكن لأن سجنه كان لله، ومن أجل الله، وفي الله، خرج من السجن مرفوع الرأس، عاليَ الهامة، عظيمًا ممكَّنًا في مصر.

 

السجين في ذات الله تأخذك الدهشة من كرامات الله له؛ فقد حُبس الصحابي الجليل خبيب بن عدي رضي الله عنه في مكة، فرزقه الله رزقًا حسنًا في محبسه كرامة له؛ تقول مارية مولاة حجير بن أبي إهاب: "حُبس خبيب في بيتي، ولقد اطلعت عليه، وإن في يده لقطفًا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه"، فلما خرجوا به من الحرم إلى التنعيم ليقتلوه، جعلوا يفاوضونه على إيمانه وثباته ليتنازل عنه، فكان إيمانه قويًّا كالجبال الرواسي.

 

وسُجن الإمام ابن تيمية رحمه الله قريبًا من ست سنوات، وقد فتح الله عليه في العلم وتدبر القرآن والدعاء، ولذة المناجاة والعبادة، فكان هذا زاده في الخلوة وقوته، وقد نعت أخباره، وحكى أسراره: "فقال: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحْتُ فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".

 

وكان يقول في محبسه في القلعة: "لو بدلت لهم ملء هذه القلعة ذهبًا، ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما سببوا لي فيه من الخير".

 

وقال مرة: "المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه".

 

ولما دخل القلعة وصار داخل سورها نظر إليه؛ وقال: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]، ما أجمل روحه وهي تتقلب بين جدران السجن الضيق في سعة رحمة الله! يقول تلميذه ابن القيم: "وعلم الله، ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة، ويقينًا وطمأنينة، وكان يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها".

 

وقد مات في محبسه، فأعلى الله شأنه، وبارك في أثَرِه، وسارت الركبان بأحاديثه، وتناقل الأجيال علمه، وذلك من كرامات الله له، وما ضره - والله – سجنه، بل رُفع بسببه مكانًا عليًّا.

 

خرج يوسف من السجن أقوى مما كان؛ لأن قوته كانت بالله، ومن استقوى بالله، فلن يضعف، وخرج أعز مما دخل؛ لأن من اعتز بالله لا يذل.

 

كان يرى تدبير الله وحكمته في كل شيء؛ لأنه مشمول برزق الحكمة، وذاك رزق من يؤتاه، فقد أوتيَ خيرًا كثيرًا.

 

إن من اتكأ على حسن تدبير الله لم يتحسر على فائت، ولم يجزع من واقع، ولم يتهيب من قادم، ومن اكتفى بالله نصيرًا، سِيقت له العزة والرفعة سَوقًا، شاء أم أبى.

 

كان إسقاطه في البئر بداية لسُكنى القصر، وكان اتهامه في عرضه طريقًا موصلًا لمعرفة معدِنه وكرامته، ونجابته وشرفه، وكان إدخاله السجن ولُقيا المتاعب بداية لتولي الملك وأعلى المناصب.

 

ربما يتآمر عليك الكل، لكن ثِقْ أن الله سيبعث منهم من يقول: ﴿ لَا تَقْتُلُوهُ ﴾ [القصص: 9].

 

لن يأكلك الذئب الكاذب، ولن تتلطخ ثيابك بدمك، بل وأنت في قاعة جب الهم ستجد أنسًا وطمأنينة، وراحة وبشرى.

 

ستجد حبل الله ممدودًا لك، وتصافحك البشريات، وتهبط عليك السكينة، ويربط على قلبك لتكون قويًّا ضد الشدائد.

 

في سجن الحياة لن يقع ما كنت تحذره، بل سيفتح عليك بفتح من عنده، ما نخافه كثيرًا لا يقع.

 

الغيب الذي نتوجس خيفة منه سيمر مرور السحاب.

 

يقول المؤمن عن كل فتن آخر الزمان: "هذه مهلكتي، ولكن يرقق بعضها بعضًا".

 

لا تحمل الهم، ولا تحزن على أحلامك التي كانت وردة ففركوها، بل دَعها تجري على قدر الله، فلو فتح لك ستار الغيب، لمُتَّ فرحًا من اختيار الله لك.

 

هل يمكن أن ترى حياة يوسف فيك؟

هل لك أن تعيشها كل يوم وساعة؟

 

كم قُدَّ لك من قميص بسبب مراودة الحياة! وكم تزخرفت أمامك الدنيا! وكم عُرضت عليك من عروض، فأنِفتَها ومضيتَ نحو بابك لا تلتفت للوراء.

 

كم وجدت من يلصق بك ما ليس فيك! لقد عابوا الذهب بأنه يلمع، والبدر بأنَّ فيه كلفًا، فهوِّن على نفسك، فإنك لن تُرضِيَ أحدًا.

 

ستجد في مسيرة حياتك من يتجنَّى عليك، لا لشيء من تقصيرك، بل لأنك جاد في مسيرك.

 

إياك أن تلتفت بسبب أن قميصك قُدَّ، لا تعاتب من نسيَك عند الملك، أو لم يُعرِّف بك عند العزيز، أو أهمل ملف قضيتك، ولم يُعِرْكَ أدنى اهتمام، أو لم يوصل سيرتك إلى أصحاب الشأن، فالوقت أقصر من أن تقضيه في لومه وعتابه، وكفاك أن تنشغل بمشروعك وهدفك والتخطيط لمستقبلك.

 

لا تستعجل في الخروج حتى يصدر حكم البراءة، وكن مطمئنًا ما دامت صفحتك بيضاء.

 

كانت هذه اللحظات قصيرة، لكنها فارقة في حياة يوسف.

 

استعصم بالله في كل منعطف، وتشبَّث بعُرى الصبر في كل شدة، ومن الشدائد ما هي رغائب لذائذ، والموفَّق من ألهمه الله وُعورتها وعاقبتها.

 

وما أجمل أن تعيش محسنًا، فإن مَن وَأدَ اليوم حلمَك، فسيمد يده لك غدًا، حاله: ﴿ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ [يوسف: 88].

 

من كان يظن أن البئر بداية القصر، والمراودة تعويد على الإرادة، وسجن البدن تهذيب لقوة الروح.

 

يئِنُّ يوسف من سبع عجاف، وفي الحقيقة ربه يخصه بلطف منه، ويحفه برعايته، ويمده بأفضاله، ويغيثه بنواله.

 

يا من بيده الملك والعزة، آوِنا إليك.

 

يا رب، نعوذ بك من البعد عنك، ومن خطًا لا تبلغنا إليك، ما خُذل مَن توكل عليك، وما خاب من يمَّم روحه إليك.

 

إنْ مـسَّ قلبك النصب، وأرهقتك القيود، وبلغ الضر مبلغه، فادخـل إليه بالتـبري من حولِك، وكن محسنًا؛ فالله يحب المحسنين.

 

إنْ عبدتـه بالذل والخضوع والافتقار، آتاك ما عنده من فضله كالغيث المدرار.

 

فإنْ تفوهت بـ﴿ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]، وتفاخرت بـ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا ﴾ [فصلت: 15]، أوكلك إليك، لكن إن انطرحت بـ ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي ﴾ [يوسف: 33]، أوصلك إلى ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا ﴾ [يوسف: 21].

 

فاخلع حولك، وتبرأ من أسبابـك، وقـل: أنـا... مـن ذا أنـا؟

 

ضعيف مسَّتني الحاجة، وجئت ببضاعة مزجاة؛ فاجعل من اليبس حقولًا، ومن الآلام آمالًا.

 

كم منحة ظاهرها محنة! وكرب يكمن فيه الخير! وكم أثر في الحياة ظهر بسجن صاحبه!

 

كل بلاء في الدنيا وقع عليك استشعر الأجر وحلاوة المثوبة، وستعلم غدًا كيف يصب عليك الأجر صبًّا.

 

قد تُؤذَى في الدنيا، لكن ثق أنها ستمر سريعًا، وما ثَمَّ إلا لحظات حتى يُزَفَّ لك الخير، ويرتفع قدرك، ويعلو شأنك؛ وقد ورد في الحديث أن نبي الله إبراهيم أول من سيُكسَى يوم القيامة، قيل: لأنه عُري على الملأ حين ألقَوه في النار.

 

لقد كان يوسف عليه السلام وهو في السجن يقاوم ويُظهِر صلابته وثباته بكل ما أُوتي من قوة، غير هيَّابٍ مواصلًا مشروعه في الدعوة إلى الله: ﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ ﴾ [يوسف: 39]، يريد أن يعبِّد الناس لله، وذاك هو أسمى هدف في حياة الأنبياء والمرسلين، وعُقبى لمن اتخذه هدفًا له، وسار عليه لا تُثنيه عن ذلك الظروف، ولا تقف أمامه العوائق.

 

لقد كان يوسف معلقًا بالله، مبتهلًا إليه، رافعًا شكواه إليه، مستأنسًا في خلوته به.

بمنْ يستغيث العبد إلا بربه
ومَن للفتى عند الشدائد والكرب؟
ومن مالك الدنيا ومالك أهلها
ومَنْ كاشف البلوى على البعد والقرب؟
ومنْ يرفع الضراء وقت نزولها
وهل ذاك إلا منْ فعالك يا ربي؟

 

كانت تمر على مخيلته ذكريات فراق الأب الحنون، وتتجلى مراتع الطفولة، وتبدو أمام ناظريه غيابة الجب ووحشته، ويلمح لطف الله وكرمه وبره وإحسانه، ويعتقد واثقًا أن غيابة السجن ليست بأشد من غيابة الجب، ومع كل محنة بشيرٌ ووارد، فكن واثقًا من موعود الله كثقة يوسف بربه وطمأنينته به وسكونه إليه؛ وردد:

ألقوا فؤادي في غيابة جبهم
يا رب يوسف مُدَّني بالقافلهْ
في السجن ألقوني ففرجْ كربتي
بجميل رؤيا يا كريمًا نائلهْ

 

يخرج يوسف من السجن، فتنكسر له المغاليق من الأمنيات ويسهل نوالها، وتذل له الصعاب فتنصهر أقفالها، وتتقطع حبالها.

 

يسير على بساط الوعد بالموعود، وتهرول نحوه العطايا، ما أقصر المسافات اليوم ليوسف، وكأنه ما أضاع ليلة قط خلف القضبان!

 

ما حُرِم عمره في السجن، بل كانت كل ليلة هي درجة سُلَّمٍ يصعد عليها إلى القمة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات

مقالات ذات صلة

  • قصة يوسف عليه السلام (1)
  • قصة يوسف عليه السلام (2)
  • قصة يوسف عليه السلام (3)
  • قصة يوسف عليه السلام (4)
  • قصة يوسف عليه السلام
  • يوسف عليه السلام عزيز مصر
  • يوسف عليه السلام.. النبي القائد
  • دعوة يوسف عليه السلام
  • قلب يوسف عليه السلام
  • أجمل ابتسامة في التاريخ

مختارات من الشبكة

  • أعظم الأعمال بأعظم الأيام(مادة مرئية - موقع الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل العقيل)
  • الشيخ سليمان بن جاسر الجاسر في محاضرة بعنوان ( أعظم الأعمال بأعظم الأيام )(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل العقيل)
  • أعظم حادث في التاريخ (2)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أعظم حادث في التاريخ (1)(مقالة - ملفات خاصة)
  • اللسان من أعظم أسباب دخول الجنة أو النار(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من آفات اللسان: القول على الله بغير علم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أعظم سورة في القرآن(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الزلازل من أعظم المواعظ(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ترجمة الفاضل العلامة أبي نصر محمد أعظم البرناآبادي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان أعظم الناس أداءً للأمانة(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسلمو بروكلين يطعمون المحتاجين خلال شهر رمضان
  • أول إفطار جماعي في رمضان في هونغ كونغ منذ 2019
  • مسلمو مدينة سينسيناتي يوزعون 30 ألف وجبة إفطار خلال رمضان
  • افتتاح أكبر مسجد بجنوب داغستان
  • مؤتمر عن "أثر الصيام في حياة الإنسان" في ألبانيا
  • ورشة عمل ترفيهية للأطفال استقبالا لرمضان في أونتاريو
  • التحضير لإطعام المئات خلال شهر رمضان بمدينة فيلادلفيا
  • أعداد المسلمين تتجاوز 100 ألف بمقاطعة جيرونا الإسبانية

  • بنر
  • بنر
  • بنر
  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1444هـ / 2023م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 10/9/1444هـ - الساعة: 16:2
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب