الدين مجمع الأخلاق وجوهرها
"إن للأخلاق حداً متى جاوزته صارت عدواناً، ومتى قصرت عنه صارت نقصاً ومهانة"، عبارة لابن القيم رحمه الله في (فوائده)، استوقفني حسن معناها قبل متانة سبكها. فالعدل ضابط الأخلاق جميعها، وهو الآخذ بوسطها، فالعدل في الجود أن يكون وسطاً بين الإسراف والتقتير، والعدل في التواضع أن يكون وسطاً بين الذلِّ والفخر، ولك أن تقيس على ما سلف أمثالَه. لكنْ ما الذي يحدد هذه الوسطية ويضبطها؟ إنه – بكل ثقة واعتزاز - الدين.
إن المرء يشبّ على قيم مسلَّمة في مجتمعه الأسري، فتصبغ أفعاله برمّتها ردحاً من الزمن، فإذا ما تقدم به العمر صارت تلك القيم مبادئ لا يمكنه تجاوز حدودها، أو تبديلها، فإذا ما تقلّد بعدها مكانة في المجتمع الوظيفي، فإن سلوكه المكتسب يرافقه إلى منظمته ليجد بعدها أن لهذه المنشأة أخلاقياتها المهنية المختصة بها، ولوائحها المحققة لأهدافها ومصالحها، فما كل المنشآت تتوافق ومسلّمات بيئته الأولى، جملة أو تفصيلاً، فيحار عندها وقد يكون نقطة تجاذب بين طرفي مصلحة المنظمة ومبادئ الأسرة، فما المخرج عندئذ؟ هل يترك مسلَّماته أم يدع وظيفته؟! هنا يكمن الدور الأهم في تحديد التوسُّط في مسلّمات الأخلاق، فلا يجاوزها لمصلحة المنشأة، كما لا ينصاع لمسلَّمات بيئته الأولى، إن الإسلام باعتباره الرسالة الخاتمة، والدين الكامل، والنعمة التامّة، قد أولى أمّهات الأخلاق كل عناية، فما من منظمة عمل تأبى حسن التعامل مثلاً، أو الأمانة في أداء حق العمل ، أو العدل في أحكام الإدارة، أو الوفاء بالتزامات الشركة، كما أنه ما من منشأة تدعو إلى خلاف ذلك، وعليه فإن ثمّة تكاملاً بين جوهر الأخلاق وحسن سير العمل، فمتى كانت العبادة أمانة - يرعى حقها الفرد - كان العمل كذلك ، فلا تعارض ولا تضاد بين حسن الخلق وحسن أداء العمل، بشرط أن يكون ضابط الأخلاق ومرجعها العدل فيها بين الإفراط والتفريط، وعلى ذلك بناء مصالح الدنيا والآخرة، لا مصلحة الفرد والمنظمة فحسب. لكن لو أن كل امرئ قدّر الأخلاق بتقديره لتفاوت الناس في ذلك أيما تفاوت، ولصار كل إنسان إلى طبعه يوماً فأفسد الطبعُ الخُلُقَ، وأفسد معه كل عمل منتج بنّاء، وقد أدرك مثل ذلك بحكمته شاعرٌ فقال:
كل امرئ صائر يوماً لشيمته وإن تخلَّق أخلاقاً إلى حينِ
|
المادة باللغة الإنجليزية