حكم صرف الفلوس النافقة بالذهب والفضة نسيئة

حكم صرف الفلوس النافقة بالذهب والفضة نسيئة

الفلوس النافقة هي عملة نقدية تضرب من نحاس ونحوه يتعامل بها في المحقرات [1]، والنافقة الرائجة التي يكثر طلبها، فهل يجوز صرف هذه الفلوس بالذهب أو الفضة نسيئة أو لا يجوز ويشترط لذلك الحلول والتقابض؟ محل خلاف بين العلماء.

اختيار ابن تيمية:

اختار شيخ الإسلام ابن تيمية على الراجح عنه المنع من ذلك، وأنه يشترط الحلول والتقابض خلافًا لما قرره صاحب الإقناع والكشاف وغيرهما من المتأخرين أنه المذهب [2].

وعن ابن تيمية قول ثانٍ: لا يشترط ذلك خلافًا لما حكى صاحب الإنصاف والمقنع والمبدع أنه المذهب [3].

والقول الثاني لم أره منصوصًا في كتبه، وإنما نقله ابن مفلح والبعلي والمرداوي والبهوتي، والأول صريح كلامه [4].

أقوال العلماء في المسألة:

القول الأول:

أنه لا يشترط الحلول والتقابض.

وهذا مذهب الشافعي [5] وأحد القولين في مذهب الحنفية [6]، وقول عند المالكية [7]، وهو رواية عن الإمام أحمد اختاره ابن عقيل ونسبها بعض الحنابلة لابن تيمية [8].

القول الثاني:

أنه يشترط الحلول والتقابض ولا يجوز النسأ فيه، وهذا مذهب الحنفية [9]، والمالكية [10]، والحنابلة وهو منصوص أحمد [11]، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية على الراجح عنه.

القول الثالث:

أنه يكره ولا يحرم، وهو مروي عن الإمام مالك [12].

أدلة الأقوال:

أدلة القول الأول:

أن الفلوس عرض من العروض، ولا يجري فيها الربا ولو كانت نافقة، لخروجها عن الكيل والوزن، وعلة الربا في النقدين الثمنية الغالبة أو ما يعبر عنه بجوهرية الأثمان، وهي منتفية من الفلوس وإن راجت، والعلة في النقدين قاصرة غير متعدية [13].

ونوقش:

أ- لا نسلم أن الفلوس عرض بل هي ثمن قائم بذاته تجري فيه علة ربا الفضل بعلة الثمنية.

ب- لا نسلم أن العلة في النقدين الثمنية الغالبة بل مطلق الثمنية.

ج- لا نسلم أن العلة في النقدين قاصرة بل هي متعدية لكل ما وجدت فيه العلة.

أدلة القول الثاني:

1- قياس الفلوس على النقدين في جريان الربا بجامع علة الثمنية في كلٍ، ذلك أن المقصود من الأثمان أن تكون معيارًا للأموال يتوصل بها إلى معرفة مقادير السلع، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشترط فيها الحلول والتقابض لتكميل مقصودها [14].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية … والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب؛ فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارًا للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال بقصد الانتفاع بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب؛ فإن ذلك إنما يحصل بقبضها؛ لا بثبوتها في الذمة؛ مع أنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن مؤجل؛ فإذا صارت الفلوس أثمانًا صار فيها المعنى، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل… لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنية ومقصود العقد ا. هـ. [15].

2- أن المتاجرة بها تخرجها عن مقصودها بكونها معيارًا ثابتًا؛ لأنها تكون بذلك سلعة تباع وتشترى ويرتفع سعرها بحسب العرض والطلب، وهذا يضر بأموال الناس وسلعهم ويعرضها للتغير المستمر الكثير، وهذا أشار له ابن تيمية في كلامه السابق، وزاده وضوحًا بما ذكر من أن الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان، وتجعل معيار أموال الناس، ولهذا ينبغي للسطان أن يضرب لهم فلوسًا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم؛ من غير ظلم لهم. ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلًا؛ بأن يشتري نحاسًا فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها؛ بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه؛ للمصلحة العامة، ويعطى أجرة الصناع من بيت المال؛ فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل؛ فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضًا وضرب لهم فلوسًا أخرى: أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها، فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها. وأيضًا فإذا اختلفت مقادير الفلوس: صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارًا فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس [16].

أدلة القول الثالث:

وغاية دليلهم الجمع بين أدلة القولين، وحمل أدلة المنع على الكراهة.

ونوقش:

بأن الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بقرينة صارفة، ولا قرينة هنا.

الترجيح:

والراجح - والله أعلم - هو القول الثاني القاضي بتحريم النسأ في بيع الفلوس بالدراهم واشتراط الحلول والتقابض لأمور:

1- أن الراجح في علة النقدين أنها الثمنية، والقول بذلك يقتضي ترجيح هذا القول هنا.

2- أن أدلة المخالفين نوقشت بما يقتضي ضعف دلالتها وعدم وجاهتها.

3- سلامة أدلة هذا القول من الاعتراضات.

وسبب الخلاف في المسألة:

الخلاف في علة الربا في النقدين؛ فمن قال الثمنية أجرى الربا في الفلوس، ومن قال الثمنية الغالبة لم يجره في الفلوس، وكذلك من قال العلة الوزن لم يجره في الفلوس وعدّه سلعة من السلع.

وثمرة الخلاف تظهر في قياس العملات الأخرى المعاصرة على الفلوس في هذا الحكم، كل على مذهبه وترجيحه.